اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

محمّد بهاء الدين الاصبهاني

اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

المؤلف:

محمّد بهاء الدين الاصبهاني


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-96-7
الصفحات: ٦٠٠

الاستغراق. والمعنى « كلّ طائر يرد ذلك المربع ».

ويحتمل العهد الذهني على ما قيل أنّه الظاهر من الجمع المعروف نحو : ركبتُ الجبل ، ونكحتُ النساءَ ، ولبستُ الثيابَ.

ويحتمل العهد الخارجي.

وحشية : إمّا حال عن الطير ، إمّا منتقلة إن أُريد به التوحّش عن ذلك المَربَع أو التوحّش الحاصل من رؤيته ، وإمّا ثابتة على نحو قوله تعالى : ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ ) (١) إن أُريد به ما يقابل الإنسيّ ، أي أنّها من طبعها التوحّش وعدم الإنس وحينئذ يكون في معنى الصفة ، أي : الطير الوحشية ، واحترز به عن الطير التي تأنس بالنّاس.

وإمّا صفة لمصدر مقدّر ، أي « روحه وحشيّة ».

وإمّا ظرف إن أُريد نسبتها إلى الجانب الوحشي. وهذه الاحتمالات على أن تكون الياء فيه للنسبة.

ويحتمل أن تكون مصدرية وحينئذ فهو مفعول له لتروح.

ويحتمل أن يكون مفعولاً مطلقاً له على تضمين كلّ من « تروح » و « وحشية » بمعنى النفرة والهرب.

وجملة هذا المصراع صفة أُخرى ل‍ « مربع » أو مستأنف.

وجملة المصراع الثاني عطف عليه ؛ فإن كان صفة كان من عطف صفة على أُخرى تنزيلاً لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات ، كما في قوله :

__________________

١ ـ آل عمران : ١٨.

١٤١

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم (١)

وكان بمنزلة عطف المفرد على المفرد ، فإنّ المصراع الأوّل حينئذ في محل الإعراب. وإن كان مستأنفاً كان من عطف الجملة على الجملة.

وقد وقع الخلاف في تعاطف الجملتين المتخالفتين بالفعلية والاسمية ؛ فجوّزه قوم مطلقاً وهو الأقوى وظاهر الأكثر ، وحكي عن ابن جنّي المنع منه مطلقاً وإليه الفخر الرازي في تفسيره وغيره ، وحكي عن الفارسي أنّه جوّزه في « الواو » دون غيرها ، والقائل الثاني يؤوّل مثل هذا بالفعليّة بأن يكون « الأسد » فاعلاً لتفزع مقدراً مفسراً بالمذكور ؛ فالحاصل أنّ « الأسد » إمّا مبتدأ خبره « تفزع » أو فاعل لفعل محذوف يفسّره « تفزع ».

و : من خيفته : ظرف لغو متعلّق بتفزع ، والإضافة فيه لامية لأدنى ملابسة إن كانت الخيفة بمعنى الحالة التي للخائف.

وإن كانت بمعنى الخوف كما قاله الجوهري كانت من إضافة المصدر إلى مفعوله.

المعاني :

فيه مسائل :

__________________

١ ـ ذكره ابن جرير الطبري في جامع البيان : ١٣ / ١٢١. والقرطبي في تفسيره ٩ / ٢٧٨ وغيرهما ولم يذكروا قائله. وذكره الرضي الاسترابادي في شرحه على الكافية : ١ / ٢٦٥ قائلاً وجاء في هامشه : والبيت غير منسوب في الخزانة ، ولكنه أورد البيت الذي بعده وسكت عن نسبه ، ولأعشى قيس قصيدة على هذا الوزن منها قوله :

إلى المرء قيس أطيل السري

وآخذ من كل حيّ عصم

١٤٢

الأُولى : في الوصف بالجملة ، وله وجوه :

منها : أنّها الأصل هنا في التعبير عن هذا المقصود ، وكلّ مفرد يقوم مقامها فإنما يصاغ منها.

ومنها : الدلالة على التجدّد ؛ فإنّ الفعل هو الذي يدلّ على التجدّد ، ولاشتماله على الدلالة على الزمان الملزوم للتجدّد ولا يمكن الوصف بالمفرد إلاّ بغير الفعل.

ومنها : التوجيه ؛ أي جعل الكلام ذا احتمالين ، فإنّ الجملة تحتمل الاستئناف أيضاً كما عرفت.

ومنها : أن لا يلزم إجراء الصفة على غير من هي له.

ومنها : أنّه أراد استيفاء جميع أقسام النعت لهذا المربع ، فإنّ النعت إمّا مفرد أو جملة ؛ والجملة إمّا بحال الموصوف أو بحال متعلقه ؛ والجملة إمّا فعلية أو اسمية وقد استوفى الجميع.

ومنها : أنّه لو أُتي بهذا الوصف مفرداً لكان إمّا أن يجعل الطير فاعلاً ل‍ « رايحة » أو مضافاً إليها ، فإنّه إمّا إن كان يقول : « رايحة عنه الطير » أو « رايح الطير » وعلى كلّ لم يكن له جهة صحة.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ شرط عمل اسم الفاعل أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وهو هنا بمعنى الاستمرار.

وأمّا الثاني : ؛ فلأنّه لمّا كان اسم الفاعل هنا بمعنى الاستمرار كانت إضافته معنوية فكانت مفيدة للتعريف فلا يصلح لأن يقع صفة لمربع ؛ لنكارته ، وأيضاً فإنّ الطير ليس بسبب للمربع فلا يكون في الصفة ضمير راجع إلى موصوفها فإنّ نحو : « جاءني رجل ضارب الغلام » إنّما يصحّ إذا كان أصله « ضارب غلامه » فلمّا

١٤٣

أُضيف « ضارب » انتقل إليه ضمير « غلامه » وليس الأصل هنا « رايح طيره ».

وقد تناقض في هذا المقام ظاهر كلامين لصاحب الكشّاف حيث قال في ( مالِكِ يَومِ الدِّين ).

فإن قلت : فإضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية فلا تكون معطية معنى التعريف فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة؟

قلت : إنّما يكون (١) غير حقيقية إذا أُريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال فكان في تقدير الانفصال كقولك : مالك الساعة ، أو : غداً. فأمّا إذا قصد معنى الماضي كقولك : هو مالك عبده أمس أو زمان مستمرّ كقولك : زيد مالك العبيد ، كانت الإضافة حقيقية كقولك : مولى العبيد. وهذا هو المعنى في ( مالِكِ يَومِ الدِّين ).

وقال في سورة الأنعام في قوله تعالى : ( فالِقُ الإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ) (٢) على قراءة نصب الشمس والقمر فالنصب على إضمار فعل دلّ عليه جاعل الليل أي « وجعل الشمس والقمر حسباناً » أو يعطفان على محل الليل.

فإن قلت : كيف يكون للّيل محلّ والإضافة حقيقية لأنّ اسم الفاعل مضاف إليه في معنى المضيّ ولا نقول زيد ضارب عمراً أمس؟

قلت : ما هو في معنى المضي وإنّما هو ذاك على جعل مستمرّ في الأزمنة المختلفة وكذلك ( فالقُ الحَبِّ ) (٣) و ( فالِقُ الإِصْباح ) كما تقول : اللّه عالم قادر ، فلا يقصد زماناً دون زمان.

__________________

١ ـ اي : إنّما يكون اضافة اسم الفاعل إضافة غير حقيقية.

٢ ـ الأنعام : ٩٦.

٣ ـ الأنعام : ٩٥.

١٤٤

وقد دفع التناقض بأنّ الاستمرار لمّا كان مشتملاً على كلّ من الماضي وأخويه جاز اعتبار الماضي واعتبار أخويه ، فلا يعمل بالاعتبار الأوّل ويجعل إضافة حقيقية ويعمل بالاعتبار الثاني ويجعل الاضافة لفظيّة.

وردّه صاحب الكشاف بأنّه حين يكون بمعنى أقرب إلى المشابهة بالفعل ممّا إذا كان للاستمرار فإنّ الفعل يكون بمعنى الماضي حقيقة ، بخلاف الاستمرار إذ لا فعل يكون حقيقة فيه ، فلو جاز الإعمال وهو بمعنى الاستمرار لجاز الإعمال وهو بمعنى المضي بطريق أولى ، قال : وكفاك أنّ اسم الفاعل بهذا المعنى يعني الاستمرار لا تدخله اللام الموصولة وتدخل بمعنى المضي ، ثمّ ادّعى أنّه غير ملائم لتقرير الزمخشري فإنّه يدلّ على أنّ الجعل المستمر مانع من كون الإضافة حقيقية ، إذ لو لم يكن مانعاً لا يكون جواباً عن السؤال ثمّ قال : إنّه غير موافق لنقل الثقات.

ولا يخفى فساد جميع ما ذكره ؛ أمّا ما قاله أوّلاً ، فيما ذكره فاضل تفتازان من أنّ المعتبر في عمل اسم الفاعل مشابهته للمضارع لا لمطلق الفعل ، ولا شكّ أنّ المضارع كثيراً ما يستعمل للاستمرار ، بخلاف الماضي فإذا كان للاستمرار كان أقرب إلى المشابهة من جهتين : من جهة الاشتمال على الحال والاستقبال ، ومن جهة أنّ المضارع كثيراً ما يستعمل للاستمرار.

وأمّا دخول اللاّم الموصولة على الّذي بمعنى المضي دون الذي للاستمرار ؛ فلأنّ المعتبر في الكون صلته صلة ، هو محض الحدوث الذي هو أصل الفعل حتى يقولون إنّه فعل في صورة الاسم ، كما أنّ اللاّم اسم في صورة الحرف محافظة على كون ما دخلته اللاّم التي في صورة حرف التعريف اسماً صورةً ، والاستمرار بعيد عن معنى الحدوث الفعلي فيكون محض مفرد ، بخلاف المضي. فالحاصل أنّ دخول اللام على الذي بمعنى المضي ، دليل على بعده عن مشابهة الفعل لا قربه.

١٤٥

وأمّا ما قاله ثانياً فظاهر الفساد ؛ لأنّ من البيّن أنّ جواب الزمخشري لا يبتني على كون الاستمرار مانعاً عن حقيقة الإضافة ، بل يكفي كونه غير مانع.

وأمّا ما قاله ثالثاً ، فلأنّ الزمخشري من أعظم الثقات ، غاية الأمر مخالفته لغيره من الثقات.

وقد حكى السيد الشريف الجرجاني لدفع التناقض أنّ الاستمرار لمّا كان مشتملاً على المضي ومقابلته ؛ روعيت الجهتان معاً ، فجُعلت الإضافة حقيقية نظراً إلى الأُولى ، واسم الفاعل عاملاً نظراً إلى الثانية ، ثمّ قال : وليس بشيء لأنّ مدار كون الإضافة حقيقية أو غيرها على كونه عاملاً أو غير عامل انتهى.

وفساد ما ذكره بيّن لا يخفى ، فإنّ هذا القائل لا يخلو إمّا أن يكون مراده عين ما نقلناه أو لا من أنّه يعتبر بإحدى الجهتين عاملاً ، فتكون الإضافة غير حقيقية ، وبالأُخرى غير عامل فتكون الإضافة حقيقية.

أو يكون مراده أنّ إضافة « جاعل إلى الليل » حقيقية بإحدى الجهتين وعمله في سكناً بالجهة الأُخرى.

وعلى كلّ من الاحتمالين لا يتوجّه عليه ما ذكره ، وكأنّه وهم أنّ مراده أن يعتبر الأمران العمل وكون الإضافة حقيقة بالنسبة إلى المضاف إليه وحينئذ فورود ما ذكره ظاهر.

ثمّ إنّه أجاب عن التناقض بما كنتُ ربّما يتراأى لي قبل التأمّل في العبارة وهو أنّ الاستمرار على نوعين : ثبوتي تجددي فإن كان للأوّل لم يعمل ، لبعده عن مفهوم الفعل. وإن كان للثاني عمل لأنّ التجدّد إنّما يفهم من الفعل ، و « مالك » في ( مالك يوم الدين ) بالمعنى الأوّل ، و ( جاعل ) بالمعنى الثاني ، فإن جعل ( اللّيل ) من تجدّد كلّ ليلة مستمرّاً ، وهو وجه وجيه إلاّ أنّه لا يصلح لإصلاح كلام الكشّاف ، فإنّه شبّه ( جاعل ) بنحو « اللّه عالم قادر » ولا شبهة في أنّهما

١٤٦

للاستمرار الثبوتي.

ويدفع التناقض وجه آخر ، وهو أنّ كلامه في الفاتحة صريح في أنّه المختار عنده ، وأمّا كلامه في الأنعام فلا يتعيّن لذلك كما لا يخفى فيجوز أن يكون مبنيّاً على رأي غير مختار له. هذا ما يتعلّق بكلام الكشاف.

وأمّا تحقيق أصل المسألة وهي عمل اسم الفاعل إذا كان للاستمرار ، فقد قال فيه نجم الأئمّة ـ رضي اللّه عنه ـ ما هذا لفظه : وأمّا اسما الفاعل والمفعول فعملهما في مرفوع هو سبب (١) جائز مطلقاً ، سواء كانا بمعنى الماضي أو بمعنى الحال أو الاستقبال ، أو لم يكونا لأحد الأزمنة الثلاثة بل كانا للإطلاق المستفاد منه الاستمرار ، نحو : زيد ضامر بطنه ومسودّ وجهه ومؤدّب خدّامه ، وذلك لأنّ أدنى مشابهة للفعل يكفي في عمل الرفع ، لشدّة اختصاص المرفوع بالفعل وخاصّة إذا كان سبباً ، ألا ترى إلى رفع الظرف ، والمنسوب ، في نحو : زيد في الدار أبوه ، على مذهب أبي علي (٢) ، ونحو : مررت برجل مصري حماره ؛ وكذا برجل خزّ صُفّةُ سرجه ، وإذا كانا كذا فإضافتهما إلى سبب هو فاعلهما معنى لفظية دائماً ، هذا من حيث اللفظ.

وأمّا من حيث المعنى : فلأنّ المضاف في الحقيقة نعت المضاف إليه ، ألا ترى إنّك إذا قلت : زيد قائم الغلام ، فالمعنى : له غلام قائم ، وكذا مؤدّب الخدام ، وحسن الوجه. والنعت هو المعيّن للموصوف والمخصص له لا المتعيّن منه والمتخصّص ، فلم يكن تعيّن هذه الثلاثة بما أُضيفت إليه ولا تخصصها منه ، بخلاف : خاتم فضّة ، و : غلام زيد ، فإنّ المضاف إليه في الحقيقة هيهنا صفة

__________________

١ ـ المراد به الاسم المرفوع المشتمل على ضمير يعود على الموصوف باسم الفاعل أو اسم المفعول ، ويطلق عليه : السببي.

٢ ـ أي « الفارسي » واشتهرت نسبة هذا الرأي إليه.

١٤٧

للمضاف ؛ لأنّ المعنى : خاتم من فضّة ، و : غلام لزيد.

ويعمل أيضاً اسما الفاعل والمفعول : الرفعَ في غير السبب بمعنى الإطلاق كانا ، أو بمعنى أحد الأزمنة الثلاثة ، نحو : مررت برجل نائم في داره عمرو ، ومضروب على بابه بكر ، لكن لا يضافان إلى مثل هذا المرفوع ، إذ لا ضمير فيه يصحّ انتقاله إلى الصفة وارتفاعه بها ، فيبقى بلا مرفوع في الظاهر ، ولا يجوز ذلك لقوّة شبههما بالفعل كما سيجيئ.

وكذا يعملان في الظرف والجار والمجرور مطلقاً ، لأنّ الظرف تكفيه رائحة الفعل ، نحو : مررت برجل ضارب أمس في الدار ومضروب أوّل من أمس السوط ، وكذا ينبغي أن يكون الحال ، لمشابهته للظرف ، وكذا المفعول المطلق ، لأنّه ليس بأجنبي.

وأمّا عمل اسمي الفاعل والمفعول ، في المفعول به وغيره من المعمولات الفعلية (١) ، فمحتاج إلى شرط لكونها أجنبية وهو مشابهتهما للفعل معنىً ووزناً ، ويحصل هذا الشرط لهما إذا كانا بمعنى الحال أو الاستقبال ، أو الإطلاق المفيد للاستمرار ، لأنّهما إذن يشابهان المضارع الصالح لهذه المعاني الثلاثة ، الموازن على الاطّراد ، لاسم الفاعل والمفعول ، بخلاف الماضي ، أمّا صلاحيّته للحال والاستقبال فظاهرة ، وأمّا صلاحيّته للإطلاق المفيد للاستمرار فلأنّ العادة جارية منهم إذا قصدوا معنى الاستمرار ، بأن يعبّروا عنه بلفظ المضارع لمشابهته للاسم الذي أصل وضعه للإطلاق كقولك : زيد يؤمن باللّه وعمرو يسخو بموجوده ، أي هذه عادته ، فإذا ثبت أنّ اسمي الفاعل والمفعول يعملان في الأجنبي إذا كانا بأحد هذه المعاني الثلاثة ، فإضافتهما إذن إلى ذلك الأجنبي لفظيّة ، لأنّ هذا مبنيّ

__________________

١ ـ أي متعلّقات الفعل المختلفة.

١٤٨

على العمل كما تقدم (١). انتهت عبارته بألفاظها.

وهو تفصيل حسن ، ووجه دقيق تقبله العقول إلاّ أنّه كان يجب أن يستشهد لكلّ ما ذكره ليصحّ الاعتماد عليه ، فإنّ أمثال ما ذكره نكت إنّما تقال بعد الوقوع فإذ لم يعلم الوقوع لم يكن لها فائدة ، وإنّما حكيناه نحن لأنّا أردنا أن لا يخلو كتابنا هذا عن ضابط في هذه المسألة ممّن يوثق بقوله ويعرج عليه. وللقوم فيها أقاويل شتّى وتفاصيل متباينة لو أردنا الاستقصاء لأُفضي إلى التطويل في غير مقامه.

ولابدّ من أن يعلم أنّه إذا كان اسم الفاعل أو المفعول للاستمرار في الحال والاستقبال حسب دون الماضي ، فالظاهر أنّه لا شبهة في عملهما عمل المضارع.

وقد علم من جملة ذلك أنّ الوجه الذي ذكرناه للعدول عن « رائحة عنه الطير » لا يتمّ إلاّ على رأي ، وأمّا على الرأي الآخر فيمكن أن يعتاص هذا (٢) الوجه بأنّ في إعمال اسم الفاعل الذي للاستمرار ولو كان تجد فيها ضعفاً ولو كان في الفاعل ، لضعف مشابهته المضارع بالنسبة إلى الذي بمعنى الحال والاستقبال.

المسألة الثانية : في فعلية هذه الجملة : ووجهها الدلالة على التجدّد ، فإنّ الرّواح لا يكون إلاّ متجدّداً ولأنّه أراد أنّ الرواح يحصل منها مرّة بعد أُخرى ، فقد أراد التجدّد المستمر ، وذلك لا يفهم إلاّ من المضارع لا سيما إذا أراد الاستمرار في الحال والاستقبال فقط ، ولأنّ الفعلية أقرب إلى أن يقع نعتاً لأنّ الاسمية أشدّ استقلالاً فهي إلى الاستئناف أقرب ، وهذا إنّما يتمّ على تقدير أن لا تكون الجملة مستأنفة.

الثالثة : في تأخير هذا الوصف وما يليه عن السابقين ، وله وجوه :

__________________

١ ـ شرح الرضي : ٢ / ٢٢٢.

٢ ـ اعتاصَ عليَّ هذالأمرُ يَعْتاصُ ، فهو مُعْتاصٌ : إذا التاثَ عليه امره فلم يهتَد لجهة الصواب فيه ( لسان العرب : « عوص » ).

١٤٩

منها : رعاية الرقي.

ومنها : أنّ الأوّلين مفردان والوصف المفرد أعرف في الوصف والتبعية وعدم الاستقلال وكلّ ذلك يقتضي التقديم.

ومنها : أنّهما مشتقّان عن الأوّلين أو عن ثانيهما.

ومنها : أنّ كلاً منهما لكونه جملة فيه طول لا ينبغي أن يفصل به بين التابع ومتبوعه.

ومنها : أنّ المقصود بالذات إنّما هو وصف « المربع » بالبلقعية وإمحاء الآثار ، وأمّا وصفه بهذين الأمرين فهو من التوابع وآلمبالغات في ذلك فالأوّلان أهمّ منهما.

الرابعة : في تقديم هذا الوصف على ما يليه وله وجهان : أحدهما رعاية الترقي ، وثانيهما أنّه جملة فعلية والأخير اسمية ، وقد عرفت أنّ الفعلية أقرب إلى الوصفية ، ولذا أتى بالاسميّة معطوفة خصوصاً والفعل مضارع فإنّ المضارع بمنزلة اسم الفاعل.

الخامسة : في تأخير الفاعل عن الظرف : ووجهه مع الضرورة تقريب الضمير من مرجعه والاهتمام ، فإنّ الكلام في أحوال « المربع » والاخبار عنها والتشويق إلى الفاعل ؛ لزيادة التمكين كما عرفت ، والدلالة على استعظام هذا الحكم حتى أنّه لا يمكن أن يُنسب هذا الأمر إلى هذا المحكوم عليه ويحكم عليه إلاّ بعد أن يتمّها ويتأمّل ويرضي نفسه بهذا الاسناد ويتحقّق المسند إليه حقّ التحقّق والدلالة على زيادة تمكّن « المربع » في ذهنه ، وأنّه يخطر بباله أقدم من كلّ شيء إمّا لأنّه مربع أُمّ عمرو ، وإمّا للاستغراب والاستعجاب ممّا طراه ، وإمّا لهما جميعاً ، ولأنّه لو أخّر الظرف سواء أخّره عن وحشية أم لا ، لكان في معرض أن يتوهّم تعلّقه بوحشية لا سيّما إذا كان وحشية ما لا يأتيه ، فإنّها بمنزلة الوصف ، فلو

١٥٠

أخّر الظرف لأخّره عنه أيضاً ، وإن كان معمولاً لمقدّر نحو راجعة أو متجاوزة ، فللتقديم وجه آخر هو القرب من الفعل الذي يفهم منه ذلك المقدّر.

السادسة : في التقييد بقوله « وحشية » : ووجهه ترتيبه الفائدة إن كان حالاً منتقلة أو مفعولاً لأجله أو صفة لمصدر مقدّر ، وإن كان مفعولاً مطلقاً فهو لبيان النوع ، وإن كان حالاً ثابتة فهو لتخصيص المسند إليه فإنّه يكون بمنزلة الوصف.

وعلى التقديرين مرتبة الفائدة أيضاً حاصلة ، وعلى الثاني فتخصيص هذا النوع من الطير البالغة في الاستيحاش حتى أنّ الطير الوحشية التي تألف القفار تهاب وتتوحّش عنه.

والعدول عن جعله صفة إلى جعله حالاً لأُمور : منها : الضرورة. ومنها : التوجيه. ومنها : التعجّب ، فإنّ الحال لابدّ لها من المقارنة للعامل فإيقاعه حالاً يدلّ على أنّ الوحشية مقارنة للرواح وهو الذي ينبغي أن يتعجّب منه.

وأمّا إن كان ظرفاً ، فإمّا بمعنى جانب اليمين ، أو اليسار ، فإن كان الأوّل فالمراد يمين « المربع » وهو الذي يحاذي يسار المتوجّه إليه ، وإن كان الثاني فالمراد يسار الطير ، فالمرجع واحد ووجه تخصيص هذا الجانب الإشارة إلى أنّها تروح عن ذلك المربع أي ترجع أو تنعطف من غير توقّف ولا اختيار لجهته لغاية استيحاشهنّ عنه ، فإنّ الجهة الطبيعية للانعطاف عن جهته جهة يسار المنعطف كما هو معلوم بالتجربة ، والسرّ فيه كما قيل : إنّ جانب اليمين لقوّته يدفع جانب اليسار ويعطفه.

السابعة : في جملية الوصف الرابع ، وله وجوه :

منها : الدلالة على التجدّد المستمرّ الذي لا يفهم إلاّ من المضارع ، وهذا مبنيّ على أنّ الاسمية التي جزؤها فعلية تفيد التجدّد دون الثبات كما هو الحقّ ، وقد قيل : إنّها تفيد التجدّد والثبات جميعاً.

١٥١

ومنها : أنّه لما كان مقتضى قاعدة الترقي تأخير هذا الوصف عن الثالث ، وقد أتى به جملة لما عرفت من الوجوه لزم أن يأتي به أيضاً جملة ، لقبح الفصل بالنعت بجملة بين المنعوت والنعت المفرد إلاّ لداعي لا سيّما وقد عطف عليه ، وعطفُ المفرد على ما له محلّ من الإعراب عن الجمل وإن كان صحيحاً إلاّ أنّ التوافق أولى.

ومنها : التوجيه : فإنّه لا يتمّ التوجيه الذي في الوصف الثالث إلاّ بجملية هذا الوصف ، لأنّ من المعلوم أنّه لو كان مفرداً لم يحتمل ذلك إلاّ الوصفية.

ومنها : أن لا يلزم إجراء الصّفة على غير من هي له.

ومنها : استيفاء جميع أقسام النّعت.

الثامنة : في اسمية هذه الجملة : ولها وجوه :

منها : رعاية القافية.

ومنها : الاهتمام بذكر الأسد للتعجّب ، والتعجّب كما يقال : زيد يقاوم الأسد ، إذا كان زيد ممّن ليس في شأنه ذلك.

ومنها : جعل الكلام ذا وجهين : اسمية ، وفعلية ، لأنّ خبرها فعل وإن كان لا يفيد إلاّ مفاد الفعلية على الأصح.

ومنها : الاستيفاء الذي مرّغير مرّة.

التاسعة : في جعلها مقرونة بحرف العطف ، وله وجوه :

منها : الدلالة على أنّ كلاً من المعطوف والمعطوف عليه كاف في تمييز الموصوف وتعيينه عند المخاطب حتّى كأنّه باعتبار كلّ منهما ذات على حدة.

ومنها : أنّ الجملة لمّا كانت مستقلّة بذاتها كان في ربطها بالموصوف عسر ،

١٥٢

وربط جملتين أعسر من ربط جملة ، فلمّا ربط الأُولى فكأنّه تعسّر عليه ربط الثانية إلاّ بمعين هو الواو الموضوع للربط.

ومنها : أنّ الجملة الاسمية أشدّ استقلالاً من الفعلية فافتقرت إلى زيادة رابط لها بغيرها ، ويؤكّد ما ذكرناه من أنّ الواو معينة في الربط أنّ جماعة أوّلهم الزمخشري ذهبوا إلى أنّ الواو ربّما يؤتى بها بين الموصوف وصفته لزيادة الربط وإنّ من ذلك قوله تعالى : ( وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (١) الآية. وقوله تعالى : ( سَبْعَةٌ وثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) (٢) وقوله تعالى : ( وما أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَة إِلاّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ). (٣)

هذا كلّه على تقدير أن تكون الجملة الأُولى نعتاً.

وأمّا إن كانت مستأنفة فوجه العطف يناسب الجملتين في المسندين وهو ظاهر ، وفي المسند إليهما في الوصف المقصود هنا وهو ائتلاف القفار واتّحاد العرض المسبوقتين له ، ولأنّ تتالي الجمل المستأنفة أو الجملتين المستأنفتين يُخرج الكلام عن السّلاسة.

العاشرة : في تقديم الظرف ، أعني « من خيفته » ووجهه مع رعاية القوافي للتعجّب والتعجيب ، وجميع ما ذكر في تقديم « عنه » على « الطّير » إلاّالأخيرين ، وتقديم منشئ الشيء عليه ، فإنّ الخيفة منشأ الفزع.

الحادية عشرة : في العدول عن الخوف إلى الخيفة ، أمّا إذا كانت مرادفة له فلأنّها وإن كانت مرادفة إلاّ أنّه لا شبهة في أنّها أبلغ منه ، لزيادة حروفها على

__________________

١ ـ البقرة : ٢١٦.

٢ ـ الكهف : ٢٢.

٣ ـ الحجر : ٤.

١٥٣

حروفه ، وأمّا إذا كانت بمعنى الحالة التي تعرض الخائف فلإيهام أنّ « المربع » نفسه خائف من نفسه ، فانّه يتوهّم من الإضافة أنّ الخيفة حالة المضاف إليه ، هذا مع الضرورة.

المعنى

إنّ هذا المربع قد بلغ في الإقفار وإمحاء الآثار إلى حيث تنفر عنه الطير الوحشيّة التي تألف القفار فتذهب عنه أي تميل عنه ولا تأتيه ، أو ترجع عنه إذا أتته ، أو يروح عنه كلّ طائر متوحّشة عنه ، أي متخلّية عنه أي متنفّرة أو خائفة أو مهمومة لما تعرف من حاله الأوّلي حين كان مربعاً لأُمّ عمرو ، أو تروح عنه لوحشته أي كونه قفراً ، أو لوحشيتها أي تنفرها أو خوفها أو همها ، أو تروح عنه روحه وحشية أي مستندة إلى التنفّر أو الخوف أو الهم ، أو تنفر عنه تنفّراً ، أو تنعطف عنه على جانبه الأيمن أو جانبها الأيسر.

واللام في الطّير إن كان للاستغراق فالمراد استغراق الكلّ إن كان المراد من تروح عنه أنّها لا تأتيه ، فإنّه حينئذ بمعنى السلب الكلّي ، فالمعنى أنّه لا يأتيه شيء من الطيور ، أو الوحشية منها.

وأمّا إن كان المراد الرجوع منه إذا أتته فالمراد استغراق التي ترده أو تقرب منه ، بمعنى أنّ كلّ طائر وحشيّ ، أو كلّ طائر فإنّه يرجع عنه إذا أتاه.

وإن كان للعهد الذهني ، فهو على تقدير إرادة الرجوع عنه إرادة بعض من الطير ، المطلقة وهو الطير التي ترده ، أي بعض الطير تروح عنه وهو : التي ترده.

وعلى بعض المعاني التي عرفتها في البيت الأوّل يحتمل أن يريد بالطير

١٥٤

الملائكة ، فإنّ الملائكة قد نفرت عن مهابط الوحي ومنازل الرسول وآله صلوات اللّه عليهم لما نزلها وتمكّن فيها أئمّة الجور وغاصبو الخلافة قبّحهم اللّه ، وحينئذ فاللام للعهد الخارجي.

ويحتمل على بعض تلك المعاني أن يكون تمثيلاً لخلوّ منازل الوحي ومواطن الرسول وآله صلوات اللّه عليهم ، أو مرتبة الخلافة عن أهلها وقفارها عنهم بمكان قد بلغ في الاقفار إلى حيث ينفر عنه الطير ، ثمّ بالغ في صيرورة المربع مخوفاً لإقفاره فقال إنّ الأُسد تفزع من خيفته مع كونها غاية في الجرأة.

ويحتمل أن يريد بالأُسد الأئمة ، أو إيّاهم وخيار المؤمنين وإنّهم يتّقون من أعدائهم الغاصبين للخلافة وأعوانهم ، لما خلت منازلهم عن أعوان يكفونهم.

ويحتمل أن يكون تمثيلاً على نحو ما مرّ في المصراع الأوّل.

البيان :

إنّ كان كلّ من المصراعين تمثيلاً ففي كلّ منهما مجاز تركيبي ، وإن كان المراد بالأُسد الأئمّة أو إيّاهم مع خيار المؤمنين ، ففيه استعارة تصريحيّة مطلقة إذ لم تقرن بشيء ممّا يلائم المشبّه أو المشبه به.

١٥٥

[ ٣ و ٤ ]

بِرَسم ِ دارِ ما بهـا مُونِـس

إلاّ صِلالٌ في الثَّـرى وُقَّعُ

رقش يخاف الموت نفثاتِها

والسمّ في أنيابها منقعُ

اللغة :

« الباء » ، إمّا للمصاحبة ، أو الظّرفية.

« الرّسم » : الأثر. ورسم الدار : ما كان من آثارها لاصقاً بالأرض. ومنه الرسيم : لنوع من السير سريع يؤثر في الأرض. وناقةٌ رَسُومٌ : للّتي تؤثّر في الأرض لشدّة وطئها. ورَسَم الغيثُ الدّار : عفاها وأبقى أثرها لاصقاً بالأرض.

وفي القاموس : إنّه الأثر أو بقيّته ، أو ما لا شخص له من الآثار.

« الدّار » : المنزل ، اعتباراً بدورانها الّذي لها بالحايط وقيل : دارة. وقد تسمّى البلدة داراً ، والصقع داراً ، والدنيا كما هي داراً.

وفي الصحاح أنّ الدارة أخصّ من الدار.

والدار أيضاً القبيلة ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما روي عنه : « ألا أُخبركم بخير دُور الأنصار؟ دور بني النجّار » ، ومن ذلك أيضاً ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لم تبق دار إلاّ

١٥٦

بني فيها مسجد » (١).

« ما » على نوعين : اسم ، وحرف.

والحرف : نافية ، وموصولة وغيرهما.

والنافية إمّا أن تدخل الجملة الفعلية ، أو الاسمية ، فإن دخلت الفعلية لم تعمل شيئاً.

وإن دخلت على الاسمية ، ففيها لغتان :

إحداهما : رفع الاسم ونصب الخبر ، وهو لغة الحجاز ، قال الكسائي : وأهل تهامة وقال الفرّاء : لا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلاّ بالباء. انتهى.

ولعلّه أراد إذا لم يكن الخبر ظرفاً أو جملة ، وجاء النصب في قوله تعالى : ( ما هذا بشراً ) (٢) وقوله تعالى : ( ما هُنَّ أُمّهاتِهِمْ ) (٣).

واللغة الأُخرى : رفع الاسمين ، حكاها سيبويه عن تميم ، والفرّاء والكسائي عن نجد.

والّذين أعملوها ذكروا لذلك شروطاً :

منها : أن لا يتقدّم الخبر على الاسم ، وعن الفرّاء تجويز النصب مع التقدّم. وعن الجرمي أنّه لغة ، وعليه ظاهر قول الفرزدق :

فَأصبَحوا قَدْ أعادَ اللّهُ نِعْمَتَهُمْ

إذْ هُمْ قُرَيشٌ وإذْ ما مِثْلَهُم بَشَرُ (٤)

__________________

١ ـ انظر لسان العرب : « دور ». وذكر فيه الحديثين وذكره ابن كثير في السيرة النبويّة : ٤ / ٢٢ ، ومثله في كتاب « عون المعبود في شرح سنن أبي داود لمحمد شمس الحق العظيم آبادي ».

٢ ـ يوسف : ٣١.

٣ ـ المجادلة : ٢.

٤ ـ ديوان الفرزدق : ١٣٩ ، في قصيدة يمدح بها عمر بن عبدالعزيز ، مطلعها :

زارَت سُكينةُ أطلاحاً أناخَ بِهمْ

شفاعةُ النومِ لِلعَينَينِ والسَهَرُ

١٥٧

على رواية نصب « مثلهم » ، فقد حكى ذلك سيبويه عن بعض الناس ثمّ قال : هذا لا يكاد يُعرف.

وقيل فيه : إنّ خبر « ما » محذوف ، أي ما في الدنيا. و « مثلهم » حال عن « بشر » تقدّمت عليه لنكارته ، وجوّز الكوفيون أن يكون « مثلهم » خبراً على أن يكون نصبه على الظرفية أي : في مثل حالهم ومكانهم من الرفعة. وفرّق ابن عصفور بين أن يكون الخبر ظرفاً أو غيره فلا يبطل العمل في الظرف لكثرة التوسّع فيه.

ومنها : أن لا تنتقض نفسها ، فإنّها إنّما تعمل لمشابهتها ليس في النفي فإذا انتقض لم يكن لعملها وجه ، وعن يونس إعمالها تمسّكاً بقوله :

ومَا الدهرُ إلاّ مَنْجَنُوناً بِأهلهِ

وما طالب الحاجاتِ إلاّ مُعذَّبا (١)

وخرج على أنّ كلاً من « منجنوناً » و « معذّبا » مفعول مطلق لمقدّر ؛ أمّا الأوّل : فبتقدير مضاف أي دوران منجنون. وأمّا الثاني : فبأن يكون مصدراً ميميّاً ك‍ « ممزق » ، فالتقدير : وما الدهر إلاّ يدور دوران منجنون بأهله وما طالب الحاجات إلاّ يُعذّب مُعذبا.

ومنها : أن تُزاد بعدها « ان » لوقوع الفصل بغير الظّرف بينها وبين معمولها ، ولأنّها تشبه « أن » النافية والنفي إذا دخل على النفي أفاد الإثبات فأشبهت « ما » حينئذ المنقوضة.

وأجاز المبرّد الإعمال معها. وأنشد أبو علي :

__________________

١ ـ قال ابن جني في « ذا القد » ـ وهو كتاب جمعه من كلام شيخه أبي علي : قائله بعض بني سعد والمنجنون ـ بفتح الميم ـ الدولاب الذي يستقى عليه ، وجمعه مناجين ، وهو مؤنّث. ( شرح شواهد المغني : ١ / ٢٢٠ ـ ٢٢١. الشاهد : ١٠٧ ).

١٥٨

بني غدانة ما ان أنتم ذهبا

ولا صريفاً ولكن أنتم الخزف (١)

ومنها : أن لا تؤكّد ب‍ « ما » فيجب الرفع عند الجمهور نحو : ما ما زيد ذاهب ، وأجاز له الكوفيّون النصب.

ومنها : أن لا يتقدّم على اسمه غير الظرف نحو : ما زيد أو عمرو ضاربان ، فإن تقدّمه ظرف لم يبطل عملها ، نحو : ( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حاجِزِينَ ) (٢) فهذا حال « ما » النافية إذا دخلت جملة فعلية أو اسمية.

وأمّا إذا دخلت اسماً رافعاً لظاهر ، نحو : قائم الزيدان ، فهي أيضاً لا عمل لها ، ونحو : ما قائم زيد ؛ يحتمل الأمرين :

أن يكون « قائم زيد » جملة اسميّة تقدّم خبرها على اسمها ولذا لم تعمل « ما » عملها إلاّ على رأي من لم يجوّز تقديم الخبر على المبتدأ.

وأن يكون « قائم » مدخول « ما » ، و « زيد » فاعلاً له ، ونحو : ما قائمان الزيدان ، لا يحتمل إلاّ الأوّل إلاّ إذا جعل « الزيدان » بدلاً من الضمير ، كما أنّ : ما قائم الزّيدان ، لا يحتمل إلاّ الثاني.

وأمّا إذا دخلت على ظرف بعده مرفوع كما في البيت فهناك الاحتمالان أيضاً.

« الباء » في « بها » بمعنى : في الأُنس ، بالضمّ وبفتحتين ، والأنَسَة بفتحين : ضدّ « الوحشة » وقد أنس به مثلثة النّون ، و « آنسه » : ضدّ « أوحشه ».

وآنسه : أبصرَهُ وَعَلِمَهُ ، وأحسّ به ، وآنس الصّوت : سمعه.

__________________

١ ـ « غدانة » ـ بضمّ الغين المعجّمة : حي من يربوع من تميم. والمراد بالصريف : الفضة ، قال البغدادي : ولم أجد من نسبه لأحد مع كثرة وروده في كتب النحو. ( أنظر شرح الرضي : ٢ / ١٨٦ رقم ٢٦٢ ).

٢ ـ الحاقة : ٤٧.

١٥٩

والمونس في البيت يجوز أن يكون على صيغة اسم الفاعل ، وأن يكون على صيغة اسم المفعول.

« إلاّ » حرف وضع للاستثناء ، أي لإخراج حصّة من جملة حكم عليها بحكم عن ذلك الحكم.

وربّما كانت بمعنى « لكن » وهو في الاستثناء الّذي يسمّى بالمنقطع ، نحو : جاءني القوم إلاّحماراً.

وربّما كانت بمعنى « غير » فيكون صفة لما قبلها وذلك في كلّ ما لا يمكن حملها فيه على الاستثناء.

قد تكون بمعنى « الواو » قاله الأخفش والفرّاء وجعل الأخفش من ذلك قوله تعالى : ( إِلاّ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) (١). وأجازه الفرّاء في قوله تعالى : ( خالِدِينَ فِيها ... إلاّ ما شاءَ رَبُّكَ ) (٢).

قيل : وتكون بمعنى « بل » نحو : ( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرآنَ لِتَشْقى * إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ). (٣)

وتكون زائدة نحو :

حَراجيجُ ما تنفََكُّ إلاّ مُناخَةً

على الخَسْْفِ أَو نَرمِي بها بَلَداً قَفْرا (٤)

« الصلال » : جمع صِل ـ بالكسر ـ وهو الحيّة أو الدقيقة الصفراء أو التي لا ينفع

__________________

١ ـ البقرة : ١٥٠.

٢ ـ هود : ١٠٧ والآية كاملة : ( خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاّ ما شاء ربُّك ).

٣ ـ طه : ٢ و ٣.

٤ ـ القائل « ذو الرمَّةَ » ، وآلحراجيج ، من الحرج والحرجوج ، أي الناقة الطويلة ( لسان العرب : « حرج » ). والمعنى هو : لا تفارق هذه الإبل السير إلاّ في حال إناختها.

١٦٠