اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

محمّد بهاء الدين الاصبهاني

اللآلي العبقريّة في شرح العينيّة الحميريّة

المؤلف:

محمّد بهاء الدين الاصبهاني


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-96-7
الصفحات: ٦٠٠

عليهم أعمار الخلائق لأنّهم أسباب لأعمارهم إمّا لحياتهم الدنيوية والأُخروية ، أو لأديانهم ، إذ لولاهم لخربت الدنيا ، ولولاهم لم يكن دين.

وأيضاً فإنّها صلوات عليها أُمّ السبطين اللَّذين هما قرطا عرش الرحمن وشنفاه على ما نطقت به الأخبار ، فقد روى ابن لَهيعةَ عن أبي عوانة (١) رفعه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الحسن والحسين شنَفا (٢) العرش ، وإنّ الجنّة قالت : يا ربّ أسْكَنْتَني الضعفاء والمساكين ، قال لها اللّهُ تعالى : ألا تَرضَين أنّي زيّنت أركانكِ بالحسن والحسين ؛ قال : فماست (٣) كما تَمِيسُ العروس فرحاً. (٤)

وروي أيضاً عن سليمان الأنصاري (٥) قال : كنّا جلوساً في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل عليّ عليه‌السلام فتحفّى (٦) له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضمّه إلى صدره وقبّل ما بين عينيه ، وكان

__________________

١ ـ من الإرشاد ، وفي الأصل « غسانه » ، وفي تاريخ بغداد وكنز العمال : « عُشانة ».

٢ ـ « الشَّنف » : قرط يلبس في أعلى الأُذن. انظر ( الصحاح : « شنف » ). والقرط : الذي يعلّق في شحمة الأُذن ، والجمع قرطة وقراط ( الصحاح « قرط » ).

٣ ـ ماس يميس ميساً ، إذا تبختر في مشيه. قاله الجزري.

٤ ـ المفيد : الإرشاد : ٢ / ١٢٧ باب طرف من فضائل الحسين عليه‌السلام ... ، عنه البحار ٤٣ / ٢٧٥ ح ٤٤.

وروى مثله في كتاب الآل ( لابن خالويه اللغوي ) مرفوعاً إلى عقبة بن عامر قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قالت الجنة : يا ربّ أليس قد وعدتني أن تسكنني ركناً من أركانك؟ قال : فأوحى إليها أما ترضين أنّي زيّنتك بالحسن والحسين ، فأقبلت تميس كما تميس العروس. نقلاً عن البحار : ٤٣ / ٣٠٤.

٥ ـ سليمان بن عمرو بن حديدة الأنصاري الخزرجي. قُتل هو ومولاه عنترة يوم أُحد شهيدين. والأكثر يقولون هذا سُليم الخزرجي ، وكذلك قال ابن هشام ( الاستيعاب : ٢ / ٦٥١ رقم ١٠٥٧ ).

وقد قال ابن هشام في ذكر من استشهد بأُحد : ومن بني سَواد بن غَنَم : سُليم بن عمرو بن حَديدة ؛ ومولاه عنترة ... ( السيرة النبوية : ٣ / ١٣٣ ).

٦ ـ هذه دلالة على منزلة الإمام عليه‌السلام الرفيعة أظهرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الشكل من الإكرام والتعظيم له.

وما نشاهده اليوم من الإعظام والتبجيل إنّما تغلب عليه روح المصلحة والمنافع الخاصة ، وأين هي من السيرة النبوية وسيرة الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام.

١٢١

له عشرة أيّام منذ دخل بفاطمة عليها‌السلام فقال له : ألا أُخبرك في عرسك شيئاً؟ قال : إن شئت فافعل صلى اللّه عليك.

قال : هذا أخي جبرئيل عليه‌السلام قال : تشاجر آدم وحواء عليهما‌السلام في الجنّة ، فقال آدم : يا حواء ما هذه المشاجرة؟ فقالت : يقع لي أنّ ما خلق اللّه خلقاً أحسن منّي ومنك ، فأوحى اللّه تعالى إليه أن يا آدم طف الجنة فانظر ماذا ترى.

قال : فبينا آدم عليه‌السلام يطوف في الجنّة إذ نظر إلى قبّة بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها ، داخل القبة شخص على رأسه تاج; في عنقه خناق (١) ؛ وفي أُذنيه قرطان ، فخرّ آدم ساجداً للّه تعالى. فأوحى اللّه إليه يا آدم ما هذا السجود وليس موضعك موضع سجود.

فقال آدم : يا جبرئيل ما هذه القبّة التي ما رأيت أحسن منها؟!

فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ قال لها كوني فكانت.

قال : فمن هذا الشخص الذي داخلها؟

قال : الشخص جارية حوراء إنسيّة تخرج من ظهر نبيّ يقال له : محمّد.

قال : فما هذا التاج الذي على رأسها؟

قال : هو أبوها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال : فما هذا الخناق الذي في عنقها؟

قال : بعلها علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

قال : فما هذان القرطان اللّذان في أُذنيها؟

قال : هما قرطا العرش وريحانتا الجنة ولداها الحسن والحسين عليهما‌السلام.

قال : فكيف ترد يوم القيامة هذه الجارية؟

__________________

١ ـ الخِناق والمِخْنقة : القِلادة الواقعة على المُخَنَّق. ( لسان العرب : « خنق » ).

١٢٢

قال : إنّ اللّه تعالى يقول : ترد على ناقة ليست من نوق دار الدنيا ؛ رأسها من بهاء اللّه ، ومؤخرها من عظمة اللّه ، وعظامها (١) من رحمة اللّه وقوائمها من خشية اللّه ، ولحمها وجلدها معجونان بماء الحيوان ؛ قال اللّه تعالى له كن فكان ، يقود زمام الناقة سبعون ألف صفّ من الملائكة كلّهم ينادون غضّوا أبصاركم يا أهل الموقف حتى تجوز الصديقة سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها‌السلام. (٢)

وفي مناقب ابن شهر آشوب رحمه‌الله : سليمان بن أحمد الطبراني (٣) ، والقاضي أبوالحسن الجراحي ، وأبوالفتح الحفار (٤) ، والكياشيرويه ، والقاضي النطنزي بأسانيدهم عن عقبة ، عن عمار الجهني ، وأبي دجانة (٥) ، وزيد بن علي ، عن

__________________

١ ـ « خطامها » : حلية الأبرار. والخطام : زمام البعير لأنّه يقع على الخطم وهو الأنف وما يليه. ( الطريحي : مجمع البحرين : « خطم » ).

٢ ـ انظر حلية الأبرار لهاشم البحراني : ٢ / ١٠ ح ٢ نقلاً عن « الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم » للشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي : ١٤٩ مخطوط مكتوب سنة ( ٧٣٤ ) في مكتبة السيد عبد العزيز الطباطبائي رحمه‌الله.

٣ ـ هو سليمان بن أحمد بن مطير اللخمي الطبراني ( أبو القاسم ) ، محدّث ، حافظ ، ولد بطبرية الشام ( سنة ٢٦٠ ) توفي بإصبهان ( سنة ٣٦٠ ). وله مؤلفات كثيرة أشهرها : المعاجم الثلاثة. ( عمر رضا كحاله : معجم المؤلفين : ٤ / ٢٥٣ ).

وذكره القمي في « الكنى والألقاب » : ٢ / ٤٠٩ بكنية ( أبو القسم ) وقال : اللخمي ـ بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة ـ نسبة إلى لخم أبي جذام.

٤ ـ هو هلال بن محمد بن جعفر ، أبو الفتح الحفار ( ٣٢٢ ـ ٤١٤ هـ ) : من رجال الحديث ، فارسي الأصل من أهل بغداد ، ( خيرالدين الزركلي : الاعلام : ٨ / ٩٢ ).

٥ ـ أبو دجانة ـ بالضم والتخفيف ـ : هو سماك بالكسر والتخفيف ، ابن خرشة بالفتحات ابن لوزان صحابي أنصاري بطل شجاع عدّ من الذابين عن الإسلام ، وقد ظهر منه في جهاده وحروبه ما يدلّ على ذلك ، وفي وقعة اليمامة سنة ١١ أشترك في قتل مسيلمة الكذاب ، ـ ويقال ـ قُتل أيضاً أبو دجانة ، وقيل بل عاش بعد ذلك وشهد صفين مع أمير المؤمنين. وثباته في نصرة الدين مشهورة. ( القمي : الكنى والألقاب : ١ / ٦٣ ـ ٦٤ ).

١٢٣

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الحسن والحسين شنفا العرش. وفي رواية : وليسا بمعلقين ؛ وأنّ الجنّة قالت : يا ربّ أسكنتني الضعفاء والمساكين ، فقال اللّه تعالى : ألا ترضين أنّي زيّنت أركانك بالحسن والحسين ، فماست كما تميس العروس فرحاً. وفي خبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة زيّن عرش الرحمن بكلّ زينة ثمّ يؤتى بمنبرين من نور ، طولهما مائة ميل ، فيوضع أحدهما عن يمين العرش والآخر عن يسار العرش ، ثمّ يأتي الحسن والحسين يزيّن الربّ تبارك وتعالى بهما عرشه كما تزيّن المرأة قرطاها. (١)

وقال الصاحب كافي الكفاة إسماعيل بن عباد ( رحمه اللّه تعالى ) في ذلك :

وَلَداهُ شَنْفا العرشِ فَقُلْ

حَبَّذا العرش وَحَبّا اشنفا (٢)

وقال ابن علويه :

وابْناهُ عقدُ قوى الجِنانِ عَليهِما

فَهُما لِدارِ مقامهِ رُكْنانِ

وهُما مَعاً لَو يَعْلَمُونَ لعرشِهِ

دُونَ المَلائكِ كُلّها (٣) شَنْفانِ

__________________

١ ـ محمد بن علي بن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٢ ـ ذكره الشيخ عباس علي الأديب في كتابه : هدية العباد في شرح حال صاحب بن عباد : ص ٦٤ ( بالفارسية ). وفيه « شنفا » بدل « اشنفا ». وفي المناقب « شنفاه ».

٣ ـ « كلهم » : المناقب.

١٢٤

وقال ابن حماد :

تُفّاحَتا الهادي وقِرطا الـ

ـعرشِ (١) الواحدِ المُتمجَّدِ (٢)

وفي إفراد عمرو على هذا إشارة إلى أنّها بمنزلة شخص واحد ، والأمر كذلك ، بل الأئمّة والنبيّ وفاطمة صلوات اللّه عليهم بمنزلة شخص واحد فإنّهم من نور واحد وإنّ طاعة واحد منهم طاعة الجميع ، ومعصية واحد منهم معصية الجميع ، وقول واحد منهم قول الجميع.

والمراد ب‍ « المربع » أمّا على تقدير أن يريد ب‍ « أُمّ عمرو » حبيبته ؛ فمعناه ظاهر ، ويحتمل أن يريد مطلق المنزل إمّا على التجريد ، أو على تخييل أنّ منزل تنزله المحبوبة فهو مربع ، أو أنّ أيّامها جملة أيّام الربيع ، أو يريد منزلها أوان شبابها.

وأمّا على سائر المعاني : فالمراد به مطلق المنزل إمّا بالتجريد أو بتخييل أحد الأمرين الأوّلين.

ويجري الثالث أيضاً فيما إذا أُريد الدِّين أو القرآن أو النبوّة أو الإمامة أو الخلافة ، أو المراد به مرتبة الرئاسة والسياسة.

والمراد بطموس أعلامه : أنّ أهله طُردوا عنه بحيث لم يبق فيه من أعلامهم شيء ، أو لم يبق من العلامات التي بها يهتدي إلى منزل الدين أو القرآن أو الإمامة أو الخلافة شيء فضلَّ الناسُ الطريق ، فلم ينالوا الدين ولم يعلموا القرآن ولم يهتدوا إلى الإمام.

__________________

١ ـ « العرش عرش الواحد المتمجّد » : المناقب.

٢ ـ ابن شهر آشوب : مناقب آل أبي طالب : ٣ / ٣٩٦.

١٢٥

أو المراد به إمحاء سادات هذا المنزل عنه ، أو إمحاء أبنية الدِّين وقواعده.

وعلى كلّ من هذه التقادير يكون تخييراً وتأسفاً من غصب غاصبي الخلافة وظلمهم أهل البيت صلوات اللّه عليهم ، فيكون مثل قول دعبل الخزاعي (١) رضوان اللّه عليه.

بَكَيتُ لِربع الدّارِ مِنْ عَرَفاتِ

وَأَذْرَيتُ دَمعَ العَينِ من وجناتي

وبانت عُرى صَبْري وهاجَتْ صَبابَتي

رُسُومُ دِيار قدْ عَفَتْ وَعِراتِ

مَدارِسُ آيات خَلَتْ مِنْ تِلاوَةٍ

ومَهبط وَحي مُقفرُ العَرَصاتِ

لآلِ رَسُولِ اللّهِ بِالخيفِ مِنْ مِنى

وِبالبَيْتِ وَالتَّعريفِ وَالجَمَراتِ

__________________

١ ـ هو دعبل ( الشاعر ) بن رزين بن سليمان الخزاعي ولد سنة ١٤٨ وقيل ١٤٢ ، أصله من الكوفة ويقال قرقيسا وأقام ببغداد. من مؤلفاته كتاب طبقات الشعراء ، كتاب الواحد في مثالب العرب ومناقبها ، وديوان شعر.

وأشهر قصائده ـ والتي منها هذه الأبيات ـ التي مدح فيها أهل البيت عليهم‌السلام وتعرف بالتائية.

توفي سنة ٢٤٦ هـ على الأرجح. ( ديوان دعبل ـ شرح وضبط ضياء حسين اللأعلمي ـ ).

وانظر في مصادره : الأغاني : ٢٠ / ١٣١ ، لسان الميزان : ٢ / ٤٣٠ ، تاريخ بغداد : ٨ / ٣٨٣ ، أعيان الشيعة : ٦ / ٤٠٥ ، الكامل للمبرد : ١ / ٨٤٣ ، .

١٢٦

مَنازِلُ وَحْي اللّهِ يَنْزلُ بَينَها

عَلى أَحْمدَ المذكورِ في السُّوراتِ

مَنازِلُ قَوم يُهْتَدى بِِهُداهُمُْ

ويؤمنُ مِنْهُمْ زَلَّةُ العَثَراتِ

مَنازِلُ كانَتْ لِلصَّلاةِ وَلِلتُّقى

ولِلصَّومِ والتطهير والحَسَناتِ

منازل لاتَيم يَحِلُّ بربعها (١)

ْولا ابنُ صهاك هاتِكُ الحُرُماتِ

ديارُ عليّ والحُسَينِ وجَعْفَر

وحَمزةَ والسجّادِ ذِي الثَّفناتِ

ودار لِعَبدِ اللّهِ وَالفَضلِ صِنوه

نَجِيّ رَسُوله اللّهِ في الخَلَواتِ

وَسِبْطَي رَسُول اللّهِ وَابْنَي وصِيِّهِ

ووارِثِ علمِ اللّهِ والتَّرِكاتِ

ديارٌ عَفاها جَورُ كُلِّ مُعانِدٍ

ولم تَعْفُ للأيّامِ وَالسَّنَواتِ

__________________

١ ـ من شرح المجلسي ، وفي الأصل « عراصها ».

١٢٧

وأمّا المراد ب‍ « اللوى » على هذه التقادير :

فإمّا منقطع الرمل كما على التقدير الأوّل ؛ ويكون المعنى به المدينة أو كلّ منها ومن مكّة ، فإنّ كلاًّ منهما مهبط القرآن ومنزل الأحكام وموطن النبيّ وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإمّا آخر الزمان ؛ فيكون قد شبّه الدنيا بالرمل إمّا لعدم ثبات أمرها ، أو لتشتت أُمورها واختلافها كما أنّ الرمل متشتّت لا يُضمّ بعضه إلى بعض ، أو لسرعة انغمار الناس واندفانهم فيها كما ينغمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرمل ، أو لعسر العدول والتجاوز عنها إلى آخره كما يعسر السير في الرمل.

وإمّا الإمامة أو النبوّة أو الخلافة ؛ على أن يكون شبَّهَ حال النبيّ والخليفة قبل تحمّل أعباء النبوّة أو الخلافة بالرمل في اللِّين والملاءمة ، لأنّه قبل ذلك يداهن الناس وليس عليه أن يضادّهم ويقابلهم ويحملهم على ما لا يرضونه فيكون حال لِين له وللناس ، وأمّا إذا تحمّل النبّوة أو الخلافة فقد انقطع عنه وعن الناس ما كان من اللِّين والرفق والمداهنة.

البيان : قد تبيّن لك إن أحطت بما سمعته من المعاني ، أنّ الكلام :

يحتمل أن يكون على حقيقته من غير تجوّز ولا كناية فيه ولا في شيء من إجراءاته.

ويحتمل أن يكون مشتملاً على الكناية ب‍ « أُمّ عمرو » عن إحدى المعاني التي عرفت وأن يكون الاعلام مجازاً عن الأبنية الرفيعة ، أو السادات ، أو المشاهير.

ولمّا كانت العلاقة هي المشابهة كان استعارة.

ولمّا كان اسم المشبه به مذكوراً كانت استعارة مصرّحاً بها.

١٢٨

ولمّا كان الجامع أمراً متحققاً كانت تحقيقية.

ولمّا كان أمراً مبتذلاً كانت عامية.

ولمّا كان مقروناً بالطموس الذي لا يناسب المشبه به كانت مرشحة.

ويحتمل أن يكون المربع مجازاً عن المنزل إمّا مرسلاً من قبيل تسمية المطلق باسم المقيّد وهو من تسمية الجزء باسم الكلّ إمّا مجرد ذلك ، أو مضمّناً تشبيه أوان الشباب بأيّام الربيع ، أو أيّام الحبيب بأيّامه ، أو ادّعاء أنّ أيّامها أيّامه حقيقة ، وإمّا استعارة لتشبيه منزلها بالمربع ، وأن يكون مستعاراً للمرتبة تشبيهاً للمراتب الشرفية بالمكانيّة ، والاستعارة على الأخير مرشحة لأنّ الأعلام وطموسها والبلقع كل منها يلائم المشبه به وعلى الذي قبله مطلقة ، إذ لم يقرن بما يلائم شيئاً من المشبه والمشبه به ، أعني ما يلائم شيئاً منهما بخصوصه وإلاّ فهذه الأُمور ملائمة لكلّ منهما ، وكلّ من هاتين الاستعارتين أيضاً مصرَّح بها تحقيقية عاميّة.

ويحتمل أن يكون « أُمّ عمرو » استعارة مصرحاً بها لما عرفت ، بناءً على تشبيه تلك الأُمور بأصل الحياة أو الدِّين ؛ لكونها من أسبابهما القويّة ، فإن كان استعارة للقرآن أو النبوّة أو الخلافة أو الإمامة كانت مرشّحة ؛ لأنّ المربع ممّا يلائم المشبه به ، وإن كان للباقي كانت مطلقة.

ويحتمل أن يكون « أُمّ عمرو » علَماً لمعشوقه ويكون قد استعار اسمها للإمامة أو الخلافة أو النبوّة أو الرئاسة ، لأنّ كلاً منها معشوق لأكثر الخلق كما أنّه كثيراً ما يستعار « ليلى » ونحوها لما يزداد حبه والميل إليه ، أو استعارة للدّين أو القرآن ؛ لأنّهما معشوقا المؤمنين ، أو استعارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أمير المؤمنين عليه‌السلام أو هما وسائر الأئمّة صلوات اللّه عليهم ؛ لأنّهم معشوقو المؤمنين ، ولا بُعد في ذلك إذ لا يراد

١٢٩

باسم المعشوقة حينئذ إلاّ ما اشتهرت به من المعشوقية ، كما يقال فلان حاتم ولا يراد إلاّ ما اشتهر به من معنى الجود ، وعلى الأوّلين مثبت الترشيح دون الأخير.

ويحتمل أن يكون من المجاز المركّب تمثيلاً لخلو الدِّين عن أئمّته ، والإمامة عن أهلها بخلو مربع أُمّ عمرو عن أهله.

ويحتمل أن يكون « اللِّوى » مستعاراً لما عرفت من استعارة مصرّحاً بها مرشّحة.

١٣٠

[ ٢ ]

تروح عنه الطير وَحْشيَّةً

والأُسدُ مِنْ خِيفَتِهِ تَفْزَعُ

اللغة :

الرواح : الوقت من زوال الشمس إلى اللّيل وهو العشي ، وإنّما سمّي بذلك لراحة الناس فيه غالباً عن الأعمال. وقد يكون مصدر « راح يَرُوحُ » في مُقابِله « غدا يغدو ». ويقال : رحت القوم وإليهم وعندهم روحاً ورواحاً : ذَهَبت إليهم في الرواح.

ويقال : سَرَحَتِ الماشِيَةُ بِالغَداةِ. وراحَتْ بِالعَشِيّ ، أي رجعت. وأرحنا إبلنا رددناها في الرّواح.

ثمّ اتّسع فقيل : راحَ القَومُ وتَرَوَّحوا ، إذا ساروا إلى وقت كان. ومنه الحديث : من راح إلى الجمعة في السّاعة الأُولى كأنّما قرب بدنه.

وقال الأزهري إمام اللغويّين في عصره : يقال : راح إلى المسجد ، أي مضى. قال : ويتوهّم كثير من الناس أنّ الرواح لا يكون إلاّ في آخر النهار ، وليس ذلك بشيء لأنّ الرواح والغدوّ عند العرب يستعملان في المسير أيّ وقت كان : من ليل أو نهار ؛ يقال : راح في أوّل النهار وآخره ، وتروّح وغدا بمعناه (١). انتهى بألفاظه.

« عن » : حرف جرّ وضع للدلالة على المجاورة ، أي مجاورة شيء عن المجرور

__________________

١ ـ أشار إليه الرضي الاسترابادي في « شرح شافية ابن الحاجب » : ٤ / ٣٣٧.

١٣١

بها بسبب إحداث مصدر المعدى بها فمعنى : رميت عن القوس : أنّ السهم بعُدَ عن القوس بسبب الرمي. ومعنى : أطعمه عن الجوع : بعَّده عن الجوع بسبب الإطعام. و : أدّيت الدَّيْن عنه ، بمعنى بعَّدتُ الدَّيْن عنه بسبب الأداء.

وأمّا نحو : رَوَيتُ عنهُ العِلمَ ، و : حكيتُ عنه ، و : أخذتُ عنه ، فمجاز ، كأنّك نقلت عنه ما عنده.

وقولك : جلستُ عن يمينه ، أي تراخيت عن موضع يمينه بالجلوس.

والبصريّون على أنّها ليست إلاّ للمجاوزة. وذكر الكوفيون لها معاني أُخرى.

ثمّ إنّها تدخل عليها « من » الجارة ، فالأكثر على أنّها حينئذ اسم.

وزعم الفرّاء أنّها حرف وأن « من » من الجوار تدخل على حروف الجر كلّها إلاّ « من » و « اللام » و « الباء » و « في » و « أمّا » ، مثال ذلك نحو قوله :

وَلَقَدْ أَراني للرماحِ دريئة

من عن يميني مرّة وشمالي (١)

وقد يدخلها « على » كما قال :

عَلَى عَنْ يَمِيني مَرَّتِ الطيرُ سُنَّحاً

وكَيْفَ سُنُوحٌ واليـَميـنُ قَطيـعُ (٢)

وفيه الخلاف السابق.

وذهب بعض إلى أنّها اسم ، في قوله :

وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ

ولَكنْ حَدِيثاً ما حَديثُ الرَّواحِلِِ (٣)

__________________

١ ـ ذكره الرضي في شرح شافية ابن الحاجب : ٣ / ٥٨ والبيت ل‍ « قطري بن الفجاءة ».

٢ ـ ذكره في مغني اللبيب : ١٥٠ رقم ٢٤١ ولم يذكر قائله.

٣ ـ البيت هو مطلع أبيات لامرئ القيس بن حجرالكندي ، قالها حين أغارت عليه بنوجَدِيلة ، فذهبت بإبله ورواحله فلحق بهم جار لهم ، يقال له خالد ، فردّها ( انظر ديوان امرئ القيس : ص ١٤٦ ). وجاء البيت في نهج البلاغة ضمن الخطبة : ١٦٢.

١٣٢

وفي عنعنة تميم « عن » بمعنى « ان » كقوله :

أَعَنْ تَرَسَّمْتَ من خَرْقاءَ مَنْزِلَـةً

ماءُ الصَّبابَةِ مِنْ عَيْنَيْكَ مَسْجُومُ (١)

« الطير » جمع طائر ، كراكب وركب وصاحب وصحب.

وقال قطرب وأبو عبيدة : إنّه يقع على الواحد.

وقرئ : ( فيكون طيراً بإذن اللّه ) (٢).

« الوحش » : خلاف الإنس ، ويسمّى الحيوان الذي لا أُنس له بالإنس وَحشاً. وجمعه : وحوش.

والوحش : المكان القفر ، يقال : لَقِيه بِوَحْشِ إصْمِتَ ، أي ببلد قَفْر.

وبلد وحش ، وأرض وحشة وموحشة.

وتوحّشت الأرض : صارت وحشة ، وآوحشت الأرض : وجدتها وحشة.

وأوحش المنزل : صار وحشاً. وذهب عنه الناس وبات وحشاً : إذا لم يكن في جوفه طعام.

وأوحش وتوحش : خلا بطنه من الجوع. ويقال : توحَّش للدواء أي أخلِ جَوفَكَ من الطعام.

والوحشة : الهم والخلوة والخوف ، وقد أوحشت الرَّجل فاستوحش.

والجانب الوحشي من كلّ شيء : جانبه الأيمن ، على قول أبي زيد وأبي عمرو.

__________________

١ ـ البيت ل‍ « ذي الرُّمّة » كما ذكره ابن هشام في مغني اللبيب : ١ / ١٤٩. وذكره في شرح شواهد المغني : ١ / ٤٣٧ الشاهد ٢٣١ ، ولسان العرب : « عن ».

٢ ـ آل عمران : ٤٩.

١٣٣

قال (١) :

فمالَتْ على شِقِّ وحْشِيِّها

وقد رِيعَ جانِبُها الأيسَرُ

يقال : ليس من شيء يفزع إلاّ مال إلى جانبه الأيمن ، ( لأنّ الدابّة لا تؤتى من جانبها الأيمن ) (٢) وإنّما تؤتى في الاحتلاب والركوبِ من جانبها الأيسر ، فإنّما خوفها (٣) منه ، والخائف إنّما يفرّ من موضع المخافة إلى موضع الأمن ، وعن الأصمعي أنّه الجانب الأيسر.

أقول : ولكلّ جهة مناسبة لأصل المعنى.

أمّا الأوّل فلأنّه لمّا كان أكثر الأعمال والتصرّفات بالجانب الأيمن فهو أكثر حركة وخروجاً عن ملازمة الجسد من الأيسر ، والأيسر أكثر سكوناً إلى الحيوان وأقلّ خروجاً عن ملازمة الجسد فصحّ أن يقال للأوّل : وحشيّ ، وللثاني : إنسيّ.

ويحتمل أن يكون أصله من الدابة التي تركب فإنّ جانبها المأنوس للركوب إنّما هو اليسار فيمينها وحشي المراكب.

وأمّا الثاني : فلأنّ الحيوان إنس بجانبه الأيمن منه بالأيسر فإنّ أعماله في الغالب بالأوّل.

ووحشيّ القوس : ظَهرُها ، وإنسيُّها : ما أقبل عليك منها ، وكذلك وحشيُّ اليد والرجل وإنسيُّهما.

« الياء » حرف واسم ، والحرف حرف تهجّي ، وحرف معنى.

أمّا الكلام على حرف التهجي منها : فاعلم أنّ مخرجها ممّا بين وسط اللسان

__________________

١ ـ والقائل هنا : الراعي.انظر لسان العرب : « وحش » ، وتاج العروس : ٤ / ٣٦٢ مكتبة الحياة ، بيروت.

٢ ـ ما بين المعقوفين أضفناها من لسان العرب.

٣ ـ في اللسان : « خوفه ».

١٣٤

ووسط الحنك ، خلافاً للخليل لزعمه أنّها هوائية كالألف والحق أنّها كذلك إذا كانت مدّة ، وإلاّ فالحقّ الأوّل وهو الذي خرج به جماعة : منهم ابن الحريري في مقدمته والجعبري في « شرح حرز الأماني » وهي مجهورة منفتحة منخفضة مصمتة بين الشديدة والرخوة ، ليّنة وغير ليّنة.

وأمّا إذا كانت حرف معنى : فهي على نوعين : مخفّفة ، ومشدّدة.

والكلام هنا في المشدّدة : وهي موضوعة للدلالة على انتساب شيء إلى ما لحقته ، ضرباً من الانتساب.

وإنّما كانت علامة النسبة حرف لين ؛ لخفتّه وكثرة زيادته.

وإنّما لحقت بالآخر لأنّها بمنزلة الإعراب في العروض ، وإنّما لم تكن « ألفاً » لئلاّ يلزم تقدير الإعراب ، ولا « واواً » لأنّها أثقل.

وإنّما كانت مشدّدة لئلاّ تلتبس بياء المتكلم ، ولا تعلّ إعلال ياء قاض.

ومن شأنها أن تحدث بما لحقته ثلاثة تغيّرات :

أحدها : لفظي : وهو كسر ما قبلها وانتقال الإعراب إليها.

ثانيها : معنوي : وهو صيرورته اسماً لغير مسمّاه.

وثالثها : حكمي : وهو رفعه لما بعده بالفاعلية ظاهراً نحو : مَرَرتُ برَجُل قرشيّ أبوهُ ، أو مضمراً نحو : مَرَرتُ برَجُل قرشي.

وربّما يراد للمبالغة كالأوحدي والأحمري والألمعي وكأنّه بمعنى أنّ له اختصاصاً تامّاً بهذه الماهية.

أو مبنيّ على تخييل أنّه قد بلغ في الكمال في ذلك المعنى إلى حيث خرج عن جنسه فهو ليس فرداً من أفراده بل أمر له نسبة ما إليه.

أو مبنيّ على نحو التجريد نحو : لَقيتُ بزيد ، أو : من زيد أسداً ، فكما يدلّ

١٣٥

التجريد هناك على أنّه بلغ في الأسدية إلى حيث يصحّ أن يجرّد منه أسد فكذا هناك تدل « الياء » على أنّه بلغ في الأوحدية مثلاً إلى حيث تنزع منه « أوحد » آخر.

أو مبنيّ على القلب ، بمعنى أنّه المنسوب إليه الأوحد ، مثلاً بمعنى أنّه بلغ في الأوحدية إلى حيث ينبغي أن يجعل أصلاً تنسب إليه ماهية الأوحد ، أو كلّ أوحد ، وربّما كانت علامة للمصدر نحو الفاعلية والمفعولية.

وهذا المعنى أيضاً متشعّب عن النسبة فإنّ للحدث نسبة إلى متصرّفاته :

وربّما جاء للنسبة « فعّال » نحو : حَمّال ونَبّال وحمّار وقزّار.

و « فاعل » نحو : لابن ولاحم ورامح.

وغيرهما ك‍ « مفعال » نحو : امرأة مِعْطار ، أي ذات عطر.

و « مفعيل » ك‍ : ناقة محصير.

و « فعل » ك‍ « رجل طعم ».

وكلّ هذه لتنزيل المنسوب إليه لكمال اختصاص المنسوب به منزلة اعماله التي يفعلها ويوجدها.

« الواو » : حرف تهجّي ، وحرف معنى.

أمّا الكلام عليها من الجهة الأُولى : فاعلم أنّ المشهور أنّ مخرجها ما بين الشفتين كالباء والميم إلاّ أنّهما ينطبقان فيهما دونها.

وذهب الخليل إلى أنّها هوائية لا مخرج لها.

وعن المهدوي أنّه فصلها عن الباء والميم فجعل لها مخرجاً على حدتها.

والصواب أنّ الليّنة منها هوائية كما قال الخليل ، وغير الليّنة ساكنة كانت أو متحركة مخرجها مخرج الفاء ، أعني باطن الشفة السّفلى وأطراف الثنايا العليا ولكن

١٣٦

الفاء أُدخل في الباطن منها. وإنّي لشديد التعجّب جدّاً من عدم يقظتهم لما ذكرت مع شدّة وضوحه ، نعم تفطّن للفرق بين النسبة وغيرها جماعة ، منهم ابن الحريري والجعبري.

ثمّ « الواو » مجهورة منفتحة منخفضة مصمتة ، ليّنة وغير ليّنة ، بين الشديدة والرخوة.

وأمّا من الجهة الثانية : فاعلم أنّها حرف مبنيّ على ما هو الأصل في بناء الحروف المفردة من الفتح ، وهي ضربان : عاملة وغير عاملة.

والعاملة : هي الجارّة حسب ، خلافاً للكسائي والجرمي وأصحابهما ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ نصب الفعل بعدها بها.

وغير العاملة : عاطفة ، وغير عاطفة.

والعاطفة : موضوعة لمجرّد التشريك بين الأمرين في الحكم ، فإن عطفت مفرداً على مفرد شركت بينهما في الحكم الملفوظ ، وإن عطفت جملة على جملة أُخرى شركت بينهما في الوجود. وقولنا : لمجرّد التشريك : معناه أنّه لا إشعار فيها بتقدّم أحد المتعاطفين على الآخر بل الكلام محتمل للاجتماع والترتّب ، وقيل : بل يدلّ على تأخّر عن المعطوف عليه.

وقال ابن مالك : وتنفرد الواو ـ يعني من حروف العطف ـ بكون متبعها في الحكم محتملاً للمعية برجحان وللتأخّر بكثرة وللتقدّم بقلّة.

وقال ابن كيسان : لمّا احتملت هذه الوجوه ولم يكن فيها أكثر من جمع الأشياء كان أغلب أحوالها أن يكون الكلام على الجمع في كلّ حال حتى يكون في الكلام ما يدلّ على التفرّق.

١٣٧

وذهب هشام وأبو جعفر الدينوري إلى أنّ الواو لها معنيان :

معنى اجتماع : فلا تبالي بأيّها بدأت ، نحو : اختصم زيدٌ وعمرو ؛ رأيتُ زيداً وعمراً ، إذا اتّحد زمان رؤيتهما.

ومعنى افتراق : وذلك بأن يختلف الزمان ، فلابدّ من تقديم المتقدّم زماناً ، ولا يجوز تأخيره ، ومثله نُقل عن قطرب وثعلب وعلاّمة.

الأُسد : جمع أسد ، ك‍ « وَثَن » و « وُثْن » وقال الجوهري : إنّه مخفّف « أُسُد » وهو مقصور « أُسُود ».

« من » : على ثلاثة أحرف : اسم وفعل وحرف.

فالاسم مخفّف « أيمن » للقسم ، وقيل : بل هو حرف موضوع للقسم.

والفعل : أمر من « مانَ يَمينُ » إذا كذب.

والحرف : حرف جرّ ثنائي الوضع ، خلافاً للكسائي والفرّاء فإنّهما ادّعيا أنّ أصلها « منا » ولها معان كثيرة منها : ابتداءُ الغاية ، وهو أصل معانيها الذي يمكن إرجاع سائرها إليه.

قال نجم الأئمّة ـ رضي اللّه عنه ـ : كثيراً ما يجري في كلامهم أنّ « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية ، ولفظ الغاية يستعمل بمعنى النهاية وبمعنى المدى ، كما أنّ الأمد والأجل أيضاً يستعملان بالمعنيين ، والغاية تستعمل في الزمان والمكان بخلاف الأمد والأجل فإنّهما يستعملان في الزّمان فقط ، والمراد بالغاية في قولهم : ابتداء الغاية وانتهاء الغاية : جميع المسافة ، إذ لا معنى لابتداء النهاية وانتهاء النهاية (١).

__________________

١ ـ شرح الرضي على الكافية : ٤ / ٢٦٣. مؤسّسة الصادق ـ طهران.

١٣٨

ثمّ إنّ الابتداء يستدعي أن يكون هناك أمر ذو امتداد يبتدئ من شيء ، نحو : سِرتُ مِنَ البَصرةِ ، فإنّ السير ذو امتداد ، وأمّا نحو : خَرَجْتُ مِنَ الدّارِ ، مع أنّ الخروج ليس له امتداد فلأنّه أصل السير الممتد ، وربّما يراد به السّير.

ثمّ إنّ مجيئها لابتداء الغاية في المكان ممّا لا خلاف فيه.

وأمّا في الزّمان ، فجوّزه الكوفيّون تمسّكاً بقوله تعالى : ( نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَة ) (١) وقوله تعالى : ( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْم ) (٢).

وبقوله :

لمن الديارُ بِقُنَّةِ الحَجْـرِ

أقوَيْنَ مِن حِجَج ومِنْ شَهْرِ (٣)

ومنعه البصريّون وأجابوا عن الشواهد بأنّ من الظاهر أنّ « من » فيها ليست للابتداء ، إذ ليس النداء والتأسيس حدثين ممتدّين ولا أصلين لممتدّ والأقواء لم يبتدئ من الحجج ، بل الظاهر أنّها في الكلّ بمعنى « في » أو في الآيتين بمعنى « في » وفي الأخير بمعنى التعليل ولكن الظاهر مذهب الكوفيين ، إذ لا امتناع في نحو : نمتُ من أوّل اللَّيلِ ، ومثله كثير في الكلام.

وليعلم أنّه قد لا يكون المجرور ب‍ « من » مكاناً ولا زماناً ولكن ينزل منزلة أحدهما.

ومن معانيها : التعليل نحو : ( مِمّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ) (٤) ، ( يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ ) (٥) وهو المناسب هيهنا.

__________________

١ ـ الجمعة : ٩.

٢ ـ التوبة : ١٠٨.

٣ ـ البيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان ، ديوان زهير : ٢٧.

٤ ـ نوح : ٢٥.

٥ ـ البقرة : ١٩.

١٣٩

« الخيفة » : الحالة التي عليها الإنسان من الخوف. والخوف : توقّع مكروه عن أمارة قطعيّة أو ظنيّة.

وربّما استعملت الخيفة بمعنى الخوف ، قال تعالى : ( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (١) وقال : ( تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ). (٢)

قال الراغب : وتخصيص لفظ « الخيفة » تنبيه على أنّ الخوف فيهم حالة لازمة لا تفارقهم.

وجعلها الجوهري مرادفة للخوف مصدراً ل‍ « خاف ».

« الفزع » : الذُّعْر ، وهو انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف.

ويقال : فَزِعَ إليه ، إذا التجأ إليه عند الفَزَع ، وفلان مَفْزَع ، أي مَلْجَأ عند الفزع. ومنه في حديث الكسوف : فافْزَعُوا إلى الصلاة ، أي الجأوا إليها واستعينوا بها على دفع الأمر الحادث.

الإعراب :

تروح : فعل مضارع فاعله « الطير » يجوز تذكيره وتأنيثه لأنّ « الطير » تأنيثه غير حقيقي على أنّه مفصول بالظرف.

ثمّ إن كان بمعنى « يرجع » ف‍ « عن » للتعدية ، كما يقال : « رجع عنه ». وإن كان بمعنى « يذهب » أو « يسير » فقد ضمن معنى التجاوز فعدّي ب‍ « عن ».

أو يكون « عن » ظرفاً لمقدّر حالاً عن الفاعل أي : « متجاورة راجعة عنه ».

و : الطير : يحتمل الاستغراق على ما قيل من أنّ الجمع المعرّف باللاّم ظاهره

__________________

١ ـ الرعد : ١٣.

٢ ـ الروم : ٢٨.

١٤٠