السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: الشيخ جاسم الأديب
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: انتشارات مكتب الحسين عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-91933-8-3
الصفحات: ٢٩٥

ستّة آلاف عام يقصدها المسلمون والنصارى واليهود للزيارة.

وفي عام ١٣٧٠ ه اقتضت سياسة المستعمر ومن أجل كسب الأصوات أن تقسّم فلسطين إلى قسمين ، فأُعطي القسم الشمالي لليهود والقسم الجنوبي وهو القسم الأكبر من فلسطين للعرب وهي الأردن اليوم وعاصمتها عمّان من أجمل المدن الحديثة في المنطقة ، وتضمّ فلسطين اليهود أُورشليم وهو المعبد الخاصّ لليهود ، بينما تضمّ فلسطين العرب بيت المقدس وبيت لحم ومدينة الخليل وآثار أُخرى.

٢ ـ حِمص : تُنسب هذه المدينة العظيمة إلى حمص بن سام الذي بناها وتقع بين دمشق وحلب ، وفيها إحدى المناطق المقدّسة والمهمّة التي وقف فيها أمير المؤمنين علي عليه السلام وزار قبور الصالحين وأمر أصحابه بزيارتهم وقال لهم إنّ عدداً من الصالحين قد دفن فيها ويُعدّ هذا المكان مزاراً عامّاً في هذه المدينة ، وقال بعضهم : إنّ قبر قنبر مولى الإمام علي عليه السلام فيها ، ولكن الأصحّ أنّ قبره في بغداد (١) وذكر في معجم البلدان أنّ حمص مدينة مشهورة في طرفي دمشق وحلب وسُميّت بإسم حمص بن سام بن نوح عليه السلام ، وفيها قبر خالد بن الوليد وابنه عبد الرحمن ، والعاص بن أعثم ، وبالقرب منها قصر خالد بن الوليد وقبور بعض الصحابة.

وحمص هذه غير حمص الواقعة في اشبيلية وغير حمص الواقعة في مصر وخلخال ، وقدورد في كتاب رحلات ناصر خسرو : إنّ من الشام إلى حمص خمسين فرسخاً.

٣ ـ الأردن : وهو اسم أحد أولاد سام بن نوح عليه السلام فسمّيت المنطقة باسمه ، وكانت الطائف تابعة للأردن وقد عرفت بمائها وهوائها ومناظرها الخلّابة ، وقد كان النبي إبراهيم الخليل عليه السلام قد سكن هذه المنطقة حتّى نزل عليه وحي الرسالة فتركها وسكن في الخليل.

وأمّا الناصرة فهي القرية التي سكنها النبي عيسى عليه السلام وأتباعه الذين أُطلق عليهم

__________________

(١) بستان السياحة وبقاع الأمكنة.

٢١

النصارى نسبة للمنطقة ، وقد كانت الناصرة تابعة لدمشق وهي القرية التي دخلها الخضر والنبي موسى عليه السلام في سفرهما ، وقد أشار القرآن الكريم إليها (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (١).

وهذه الآية تحكي قصّة دخول النبي موسى عليه السلام والخضر عليه السلام إلى قرية ثمّ طلبوا من أهلها الطعام فأبوا أن يطعموها فانطلقا إلى جدار ليتيمين في المدينة مشرف على السقوط ، فعمل الخضر على بنائه وإقامته لحفظ الكنز الذي كان تحته وقد ورثاه من أبيهما .. الخ.

وهكذا فالأردن تحفل بعدّة قبور مقدّسة للعظماء ، مثل قبر لقمان الحكيم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم وقد سميّت سورة كاملة باسمه ، ويقع قبره في مدينة طبرية ، ناهيك عن قبور كلّ من حجر بن عدي وأُويس القرني وبلال الحبشي التي تقع في هذه المنطقة بين الأردن والشام.

٤ ـ بيت المقدس : مدينة تعرف اليوم بالقدس بنيت على يد إيليا بن سام بن نوح ، وقد ورد ذكرها في الروايات على أنّها أرض المحشر ، كما ورد أنّ فيها قبور العديد من الأنبياء والأولياء والعلماء والأوتاد وعباد الله الصلحاء ، وتُعدّ منطقة الخليل من أشهر مناطقها لوجود قبر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام وابنه إسحاق ، وكذا قبر النبي زكريا عليه السلام والنبي يحيى عليه السلام.

وقد تمّ بناء بيت المقدس الكبير من الحجر قبل أكثر من ستّة آلاف عام ، وبني بطراز خاصّ وكان فيه قبّة وضريح لقبور الأنبياء ، مضافاً إلى الآثار القديمة فيه ثمّ بنيت أطراف المسجد الأُخرى ممّا أضفى جمالاً آخراً لجمال المدينة المحاطة بالطيور والخضراء ، هذا وقد تولّى بناء بيت المقدس نبي الله سليمان عليه السلام.

__________________

(١) سورة الكهف : ٧٧.

٢٢

كما ويُعدّ المسجد الأقصى من المساجد المحترمة والمعظمّة في العالم فهو ـ كما سلف ـ قبلة المسلمين الأُولى ومسجد ليلة المعراج ومن أكبر المعابد التي يقصدها اليهود والنصارى والمسلمين الذي لم يسمع ولم ير مثله قطّ ، فإنّ الصلاة فيه تعدل ألف صلاة في غيره.

وأمّا قصّة بناء المسجد الأقصى فقد روي أنّ ذرّية إبراهيم الخليل كثرت ببركة الموقف العظيم لولده إسماعيل عليه السلام الذي استمرّ نسله وتكاثروا في فلسطين حتّى انزلق بعضهم عن طريق الهداية ومال إلى الضلال وعصى الربّ سبحانه وتعالى ، فأوحى الله للنبي داود عليه السلام الذي كان آنذاك حجّة الله في الأرض أن يقول للعصاة : إنّ الله تعالى سيبتليهم بثلاثة أنواع من البلاء ، إمّا ثلاث سنين من القحط ، أو ثلاثة أشهر من الحرب ، أو ثلاثة أيّام من الطاعون ، فلمّا أبلغهم بذلك قالوا : لا طاقة لنا بالقحط والحرب ، وأمّا الموت بالطاعون فنحن مستعدّون ، فذهب جماعة من العصاة واغتسلوا غسل التوبة ولبسوا الأكفان وخرجوا مع نسائهم وأطفالهم إلى الصحراء ينتظرون الموت ، بينما بقي القسم الآخر من العصاة في المدينة وهم يستهزؤون بهم فجاءهم الطاعون وقتلهم جميعاً ، بينما كان داود عليه السلام واقفاً على التلّ مع العصاة وقد توجّه إلى الله تعالى بالدعاء والتضرّع أن يغفر لهم حتّى استجاب الله دعائه وصلاته ورفع البلاء عنهم ببركته ثمّ خاطبه أن يبني على هذا التلّ مسجداً بمناسبة هذه الدعوة المستجابة ، «وهو مكان بيت المقدس اليوم ومكان خيمة النبي موسى عليه السلام والصلحاء من بني اسرائيل» فقبل الناس جميعاً بالتعاون لبناء هذا المسجد المقدّس ، إلّا أنّ أحد الصلحاء من بني اسرائيل قال : إنّ المكان ملكي ولا أسمح أن تبنوا عليه مسجداً دون رضاي ، فقالوا له : نعطيك ما تطلب حتّى ترضى ، فأوصلوا الخبر للنبي داود عليه السلام فقال لهم : لابدّ من رضاه ، فقال الرجل : أُريد مئة شاة ومئة بقرة ومئة جمل ، فلمّا كادوا أن يدفعوا له ذلك أبدى عدم رضاه أيضاً وقال : أُريد أن تحوطوا التل بحائط وتقيموا بما يعادله من الفضّة لكي أرضى. ومع ذلك أبدى الناس استعدادهم لارضائه ، فلمّا رأى همّتهم ونيّاتهم صادقة قال : قد رضيت بلا أن تدفعوا لي شيئاً وقد

٢٣

وهبتكم حقّي والأرض لكم وأنا معكم من العاملين ، وبهذا الشكل بدأوا ببناء المسجد الأقصى ، حتّى حمل النبي داود عليه السلام مع الناس الحجارة الكبيرة بنفسه وفي أثناء البناء جاء الخطاب الإلهي لداود عليه السلام : قد انتهى دورك من البناء وما تبقّى يكمله إبنك سليمان فأت بما أُمرت به ، وكان عمر داود عليه السلام آنذاك ـ أي حينما بدأ ببناء المسجد ـ ١٢٧ عاماً ، وتوفّي وعمره ١٤٠ عاماً.

ثمّ جاء سليمان عليه السلام وله من العمر ١٣ عاماً وجلس في مجلس أبيه وبدأ العمل في إكمال المسجد المقدّس إلّا أنّه إمتاز بكادر عمّالي عجيب وغريب وفريد من نوعه فقد عمل معه الجنّ والإنس سواء ، فكانوا يجلبون له الحجر الأبيض والأخضر والمعادن والأحجار الكبيرة والعريضة حتّى أكمل بناء المسجد وأكمل مدينة القدس التي قسّمها إلى اثنتي عشر قسماً على عدد أسباط بني اسرائيل.

وقد استغرق إنجاز هذا المشروع العملاق أربعين عاماً متواصلة من العمل الدؤوب ، فكان عرمه عليه السلام آنذاك ٥٣ عاماً ، وفي مكان ما كانوا قد صنعوا لسليمان عليه السلام غرفة من الزجاج وكان عليه السلام قد أمر بعدم الدخول عليه إلّا مع أخذ الرخصة والإذن منه ، فوقف يوماً وهو ملكاً على عصاه في هذه الغرفة وفجأة دخل عليه أحدهم فتعجّب سليمان عليه السلام من ذلك وقال له : من أنت؟

فقال : أنا الذي لا أقبل الرشاء ولا أهاب من الملوك ، أنا ملك الموت فقبض روحه وعلى هيئته التي كان عليها.

وتُعدّ اليوم منطقة بيت المقدس والمسجد الأقصى من المناطق الجذّابة في العالم بآثارها وطبيعتها الخلّابة وأشجار الفواكه الشهيرة فيها.

٥ ـ دمشق : وهي اليوم دولة سوريا ومركزها الشام يطلق عليها ـ أي على العاصمة ـ دمشق ، لقد بنيت هذه المنطقة العامرة على يد أحد أولاد سام بن نوح عليه السلام على رأي بعض المؤرخين ، بينما ذهب البعض الآخر أنّ نسبتها إلى غلام إبراهيم الخليل عليه السلام ، وذهب آخرون أنّها لغلام النمرود بن كنعان ، وعلى أي حال فإنّ دمشق تمتاز بهوائها

٢٤

الطيّب ومائها وفواكهها اللذيذة كالزيتون بأنواعه والموز ، إلّا أنّ أهلها عرفوا بالجفاء لآل الله عليهم السلام آل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه واله عندما جاءوا بهم أُسارى من كربلاء. وقد بكى لمصيبة الإمام الحسين عليه السلام كلّ شيء إلّا هؤلاء الجفاة ومن كان على شاكلتهم في الكوفة والبصرة.

فقد روي أنّه ما رفع حجر إلّا وخرج من تحته دم عبيط دلالة على البكاء الكوني والحزن العام في العالم. إلّا هذه المدن الثلاث فقد كانت الكوفة والبصرة تحت سلطة ابن زياد والشام تحت سلطة السكّير يزيد ولهذا فلم تظهر علامات الحزن في هذه المدن بل أُتّخذ يوم عاشوراء يوم فرح وسرور وبركة في بعضها (١).

ج ـ الشام في العهد القديم :

الشام في عصرنا الحاضر يشمل دولة سوريا ولبنان وأقسام من الأردن وفلسطين ، فكانت هذه الدول تشمل منطقة الشام قديماً وأمّا هذا التجزّأ بين هذه الدول فهو نتيجة السياسة الاستعمارية الفرنسية والبريطانية بعد الحرب العالمية الأُولى.

ففي عام ٦٣ م احتلّ امبراطور الروم سوريا ومنذ ذلك التأريخ دخلت تحت السلطة الرومانية إلى عام ٣٩٥ م التي انقسمت فيها الامبراطورية الرومية إلى قسمين الروم الشرقية والروم الغربية ، فكانت سوريا ضمن الروم الشرقية التي حكمها الملك (بيزانس) الذي ضعفت سلطته بالتدريج على سوريا حتّى تحرّرت من قبضته في القرن السابع على يد المسلمين (٢).

د ـ الشام في التاريخ الإسلامي :

١ ـ سفر النبي صلى الله عليه واله إلى الشام :

تُعدّ الشام من المناطق التي يرتبط بها العرب ارتباطاً وثيقاً وقديماً وذلك قبل

__________________

(١) راجع كتاب حضرة زينب كبرى عليها السلام فارسي ص ٢٥٧ للكاتب عماد زاده.

(٢) گيتا شناسي كشورها (فارسي) ص ١٨٥ طبع عام ١٣٦٥ ش.

٢٥

تحريرها من الاستعمار الروماني ، فقد كان العرب يقصدونها للتجارة ، وقد سافر إليها النبي صلى الله عليه واله قبل بعثته برفقة عمّه في قصّة مفصّلة مفادها كالتالي :

فقد جرت العادة أن يسافر تجّار قريش إلى الشام كلّ سنة مرّة واحدة ، فعزم أبو طالب أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرّة وقرّر أن يترك ابن أخيه محمّداً صلى الله عليه واله في مكّة في حراسة جماعة من الرجال ولكنّه وجد في ساعة الرحيل من ابن أخيه العزيز ما جعله يغيّر قراره المذكور واصطحب محمّداً صلى الله عليه واله معه وكان عمره الشريف آنذاك (١٢ ـ ١٣) عاماً ، ولمّا وصلت القافلة إلى منطقة (بُصرى) وهي إحدى نواحي الشام توقّفت عند راهب مسيحي وكانت القوافل التجارية إذا مرّت على صومعته توقّفت عنده بعض الوقت.

وعندما انتهوا عنده من الطعام كان الراهب ينظر إلى محمّد صلى الله عليه واله ويتأمّله جيّداً بنظرات فاحصة ثمّ قال : أيّكم وليّه؟ فقالوا : هذا وليّه وقد أشاروا إلى أبي طالب فقال الراهب لأبي طالب : إنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا هذا سيّد العالمين ، هذا رسول ربّ العالمين يبعثه رحمة للعالمين ، إحذر عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنّ قتله ....

ومنذ ذلك الحين صمّم أبو طالب على الرجوع مصطحباً معه ابن أخيه العزيز على قلبه فكرّا راجعين إلى مكّة بعدما رتّب أُمور التجارية مع بقيّة أصحابه في القافلة (١).

٢ ـ السفرة الثانية :

وقد سافر النبي الأكرم إلى الشام مرّة أُخرى وذلك حينما كان عمره الشريف (٢٥) عاماً إلّا أنّه كان لا يزال في كنف عمّه أبي طالب الذي كان يفكّر في عمل لابن أخيه وكان سبب سفره إلى الشام أنّ السيّدة الجليلة خديجة بنت خويلد التي كانت امرأة تاجرة ذات

__________________

(١) تاريخ الإسلام تأليف المحقّق الكبير آية الله الحاج الشيخ جعفر السبحاني ص ٢٧ (فارسي) ، وانظر السيرة النبوية ج ١ ص ١٨٢.

٢٦

شرف عظيم ومال كثير تبحث عن رجل أمين تستأجره في مالها أو تضاربها إيّاه بشيء تجعله له منه فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه واله ، بعدما امتنع صلى الله عليه واله من أن يتقدّم هو بطلب العمل معها بسبب إبائه وعلو طبعه ، وحينما حضر عندها النبي صلى الله عليه واله قالت له : إنّي دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أُعطي رجلاً من قومك .. فوافق النبي صلى الله عليه واله على هذا العرض وانطلق بالقافلة متوجّهاً إلى الشام للتجارة وقد رافقه غلامين لخديجة أحدهما ميسرة فوصلوا إلى الشام وباعوا ما عندهم وربحوا ربحاً كثيراً ثمّ عادوا إلى مكّة وقد اشترى النبي صلى الله عليه واله من سوق «تهامة» متاعاً أتى به إلى مكّة أيضاً (١).

٣ ـ رسالة الإسلام في الشام :

لقد طرح النبي الأكرم صلى الله عليه واله نفسه منذ اليوم الأوّل لبعثته على أنّه رسول للعالمين كما أشار القرآن الكريم لذلك إذ جاء فيه : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٢) وقد عمل بجهده لاقتناص الفرص بل لصناعة الفرص ليعرّف الناس رسالته ونبوّته وأنّه مبعوث للعالم كلّه إلّا أنّ أعداء الإسلام كانوا دائماً في طريق انطلاقته وإعاقته ، ولكن وبعد أن دخل النبي صلى الله عليه واله في معاهدة الصلح التي جرت في الحديبية مع المشركين اطمأنّ من جانبهم قليلاً وأخذ يفكّر في الاتّصال بكبار ملوك الأرض ويعرّفهم نفسه ويلقي عليهم الحجّة وعلى أُممهم عبر الرسائل التي يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وبذلك يكون قد خرج من الدائرة الصغيرة التي كان يتحرّك فيها إلى مساحة عالمية كبيرة فانتخب صلى الله عليه واله ستّة أشخاص من أبرز ما يكونوا ودفع لكلّ واحد منهم رسالة دوّن فيها نبوّته التي ألزم الله سبحانه بها العباد ، ودعاهم إلى دين الله الجديد فانطلق أُلئك الأبطال لكلٍ وجهة هو

__________________

(١) فروغ ابديت للسبحاني ج ١ ص ١٥٦ ومعناه «شمس الأبدية أو الشعاع والنور الأبدي» وانظر البحار ج ١٦ ص ٢٢.

(٢) سورة الأعراف : ١٥٨.

٢٧

منطلق إليها : ايران ، الروم ، الحبشة ، مصر ، اليمامة ، البحرين ، والحيرة (١).

ووقتها كان قيصر ملك الروم الشرقية قد عاهد الله تعالى أنّه إذا نصره في صراعه المرير مع ايران فإنّه يقصد زيارة بيت المقدس مشياً على الأقدام من مقرّ حكومته في القسطنطينية إلى فلسطين ، وفعلاً قام بتحقيق عهده عندما نال الظفر والانتصار ، فقصد بيت المقدس. وكان الشخص المؤهّل لحمل رسالة رسول الله صلى الله عليه واله إلى قيصر الروم هو دحية الكلبي وذلك لعدّة اعتبارات توفّرت فيه منها :

أ ـ لأنّه كان قد سافر إلى عدّة مناطق من الشام سابقاً فهو عارف بها.

ب ـ كونه صاحب طلعة بهيّة ووجه جميل وسيرة حسنة تؤهّله للقاء قيصر الروم. وقبل أن ينطق دحية الكلبي إلى القسطنطينية عرف أنّ قيصر الروم عزم إلى بيت المقدس وكان ـ دحية ـ حينها في بُصرى (٢) وهي إحدى نواحي الشام ، فالتقى دحية مع والي بُصرى الحارث بن أبي شمر وأخبره بمهمّته ثمّ دفع إليه رسالة النبي صلى الله عليه واله ، لأنّ الواقدي (٣) روى أنّ النبي صلى الله عليه واله كان قد أمر دحية بدفع الرسالة إلى والي بُصرى والأخير يرفعها إلى قيصر الروم.

ويحتمل أنّ النبي صلى الله عليه واله أمره بذلك لأنّه كان يعلم أنّ قيصراً قد غادر قسطنطينية ، أو لأنّ الدحية لا يمكنه الوصول إليها وعلى كلّ حال فقد أمر الحارث أحد الرجال وهو عدي بن حاتم أن ينطلق مع دحية إلى بيت المقدس ليقدّمه إلى قيصر.

وفعلاً فقد وصل دحية بركب الامبراطور في مدينة حمص ولكن قبل اللقاء به أو عز إليه حاشية السلطان بأن يسجد أمامه معبّراً عن التعظيم والاحترام وإلّا فإنّ

__________________

(١) راجع البحار ج ٢٠ ص ٣٨٢ ح ٨ / المترجم.

(٢) بُصرى : مركز حوران وهي إحدى المستعمرات الرومانية وكان الحارث بن أبي شمر وغيره من ملوك الغساسنة يُنصبون من قبل قيصر وهم يمثّلونه في هذه المناطق.

(٣) الطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٥٩.

٢٨

الامبراطور لا يعتني بك ولا يستقبل رسالتك ، فقال دحية بما معناه : إنّي ما قطعت كلّ هذه المسافات إلّا لأقضى على هذه التقاليد المنحرفة ، ثمّ إنّي لم أُمر بهذا بل أُمرت أن أوصل رسالة النبي محمّد صلى الله عليه واله إلى قيصر يدعوه فيها إلى ترك عبادة البشر ، وأنّه لا معبود إلّا الله تعالى ولا يُسأل الناس إلّا عن عبادته ، بهذا أعتقد وبه أُمرت فكيف تطلبون منّي أن أسجد لغير الله تعالى؟

فأخذ هذا القول الرصين موقعه من قلوب حاشية الملك ونظروا إليه بنظرة الإعجاب والإكبار ، لأنّه يدلّ على استقامته وصلابته في الاعتقاد ثمّ تقدّم إليه أحد الصلحاء من حاشية الملك قائلاً : تستطيع أن تضع كتابك على طاولة الملك هذه لأنّ رسائل الملك لا يطلّع عليها إلّا هو ، وعندما يقرأها سوف يبعث خلفك فامتثل دحية لذلك وشكره على نصيحته وتركه. وعندما جاء قيصر تناول الرسالة وقرأها وكان فيها :

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمّد بن عبدالله إلى هرقيل عظيم الروم ، سلام على من اتّبع الهدى.

أمّا بعد : فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم (الاريسين) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإنّ تولّوا فقولوا بأنّا مسلمون. محمّد رسول الله (١).

٤ ـ نفوذ الإسلام في الشام :

في العام ١٤ ه الموافق للنصف الأوّل من القرن السابع الميلادي التحقت الشام بالبلاد الإسلامية وذلك حينما زحفت الجيوش الإسلامية ـ إبان خلافة أبي بكر ـ نحو الشام لتخوض حرباً مع هرقل «هراكليوس» امبراطور الروم الشرقية ، في الأردن وفلسطين وقد انتصر المسلمون في حروبهم هذه وهزم هرقل ورجع القهقرى إلى دمشق ،

__________________

(١) انظر البحار ج ٢٠ ص ٣٨٦ / المترجم.

٢٩

ولكن مع ذلك فقد حاصره المسلمون الذين جاءهم خبر موت أبي بكر في (٢٢ جمادى الثانية عام ١٣ ه) ذلك الوقت ، فعيّن عمر بن الخطّاب مكانه واستمرّت المواجهة حتّى سقطت دمشق في رجب من عام ١٤ ه على يد المسلمين الذين قادهم خالد بن الوليد حينها وأبو عبيدة فقد طال على صاحب دمشق الأمر ـ أي الحصار ـ فأرسل إلى أبي عبيدة فصالحه وفتح له باب الجابية وألحّ خالد على باب الشرقي لمّا بلغه أنّ أبا عبيدة عزم على أن يصالح القوم ففتحه عنوة وروي أنّ خالد بن الوليد صالحهم أيضاً فأجاز أبو عبيدة ذلك (١).

يقول المؤرخ اليعقوبي في هذا الصدد : تُعدّ مدينة دمشق من المدن الجميلة والقديمة وكانت مركزاً لجميع مدن الشام في الجاهلية والإسلام وفيها عمران وأنهار وأعظمها نهر «بردا» الذي يمكن القول عنه أنّه لا نظير له ، وقد فتحت هذه المدينة في خلافة عمر بن الخطّاب عام ١٤ ه بعد أن حاصرها أبو عبيدة بن الجرّاح عاماً كاملاً ، ثمّ صالح أهلها من طرف باب الجابية ودخلها فاتحاً بينما قاتلهم خالد بن الوليد من الباب الشرقي ودخلها بدون صلح ، وكتب أبو عبيدة بذلك إلى عمر وأنقذه (٢).

ومن عوامل انتصار الإسلام هو أنّ أهالي تلك المناطق رغبوا في الإٍسلام قبل كلّ شيء لأنّهم كانوا على علم بتقاليد العرب والمسلمين وآدابهم وأطباعهم وتواضع جيش الإسلام ، وانعدام الضرائب الثقيلة في الاسلام التي أرهقتهم بها الحكومات السابقة ، ومللهم من الآراء المختلفة بين المسيحيين حول الدين المسيحي وتعدّد المدارس الفكرية التي لا طائل منها سوى الاختلاف والضجر والملل من الحكومة الرومانية والدين

__________________

(١) فتوح البلدان ، لأبي الحسن البلاذري ص ١٢٨ ـ ١٣٠ لقد كان خالد بن الوليد في العراق والكن لمّا وصلت الأخبار لأبي بكر بكثرة جيوش الروم بعث خلف خالد وألزمه مهمّة فتح دمشق انظر المصدر أعلاه ص ١١٧.

(٢) البلدان لأحمد بن أبي اليعقوبي (فارسي) ص ١٠٥.

٣٠

المسيحي (١).

وعلى أي حال فقد عرفت منطقة الشام على أنّها جزءاً من البلاد الإسلامية ، ومنذ عام ٤٠ ه إلى عام ١٣٢ ه ، أي ما بعد استشهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام كانت دمشق عاصمة الدولة الأموية التي بدأ حكمها معاوية ، والتي تعرّضت طيلة هذه الفترة لثورات العبّاسيين الذين وجدوا مناصرة حقيقيّة من قبل الشيعة والايرانيين حتّى سقطت تلك الدولة الظالمة وحلّت محلّها الدولة العبّاسية التي اتّخذت من بغداد عاصمة لها ، ومنذ ذلك اليوم فقدت الشام أهميتها (٢).

وبعد سقوط دولة بين أُميّة مرّت الشام بأدوار مختلفة يحتاج شرحها إلى كتاب مستقلّ.

__________________

(١) التأريخ التحليلي للإسلام د. سيد جعفر شهيدي ص ١٠٨ / فارسي.

(٢) الشام أرض الذكريات ص ١٩ / فارسي.

٣١

الفصل الثالث

الشجرة الملعونة

قال الله تعالى : (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً) (١).

ذكر المفسّرون في سبب نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلى الله عليه واله رأى في منامه قروداً تصعد منبره وتنزل فساءه ذلك واغتمّ به ، وروي أنّ جبرئيل أخبره أنّ هؤلاء هم بنو أُميّة أخبره الله سبحانه بتغلّبهم على بني هاشم وقتلهم ذريته ، فلم يستجمع النبي صلى الله عليه واله بعد ذلك ضاحكاً حتّى مات (٢) فبنوا أُميّة هم الشجرة الملعونة.

ومن جملة الآيات النازلة في ذمّ بني أُميّة ، هي آيات سورة القدر المباركة فإنّ المقصود من قوله تعالى «ألف شهر» هي مدّة حكم بني أُميّة لانّهم حكموا البلاد ألف شهر بعدما حُرموا من البركات الأُخروية لهذه الليلة طيلة سنين حكمهم ، فقد روى الفخر الرازي في تفسيره وابن الأثير في أُسد الغابة عن الإمام المجتبى عليه السلام أنّ رسول الله رأى بني أُميّة في منامه وهم قرود ينزون على منبره فساءه ذلك فأنزل الله تعالى قوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ...) حيث أخبره أنا مدّة ملكهم ألف شهر ، يقول القاسم ـ الراوي ـ : عددنا

__________________

(١) سورة بني اسرائيل : ٦٠ وقد صرّح القمّي في تفسير ج ٢ ص ٢١ طبع النجف ١٣٨٧ ه والعياشي في تفسيره ج ٢ ص ٢٩٨ طبع علمية إسلامية وغيرهما إنّ الشجرة الملعونة هم بنو أُميّة.

(٢) مجمع البيان ج ٣ ص ٤٢٤.

٣٢

السنين فوجدنا أنّ أيّام بني أُميّة كانت ألف شهر (١).

وقال المسعودي في مروج الذهب : كانت مدّة حكم بني أُميّة إلى زمان انقراضهم ومجيء بنو العبّاس الف شهر بلا زيادة ولا نقيصة.

هل كان بنو أُميّة من قريش؟

هناك كلام كثير في صحّة نسبة بني أُميّة إلى قريش لا سيّما البارزين منهم ، بل صرّح بعدم اتّصالهم بقريش وذلك لأن أُميّة وهو جدّهم الأعلى كان عبداً رومياً لعبد شمس اشتراه في إحدى سفراته وكان العرب أيّام الجاهلية يلحقون الولد بالتبنّي بسيّده فعُرف في الأوساط أنّه ابن عبد شمس وفقاً لتقاليدهم الجاهلية وقد صرّح أمير المؤمنين علي عليه السلام في إحدى رسائله إلى معاوية حيث خاطبه : ليس أُميّة كهاشم ولا حرب كعبد المطّلب ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ولا الصريح كاللصيق» (٢) وصرّح العالم المصري محمّد عبده في شرحه لنهج البلاغة عن كلمة «صريح» وهو كلّ من كان نسبه صحيحاً و «اللصيق» كلّ مَن لم يكن نسبه صحيحاً بل لُصق بغير أصله من القبائل.

وقد عُرف أُميّة بالانحراف فقد كان يتعرّض للنساء ويعمل الفواحش والزنا ، وحينما حُكم عليه بترك مكّة عشرة سنين غادرها إلى الشام وهناك مارس الزنا مع امرأة يهودية متبّعلة من يهودي فحملت منه ـ من أُميّة ـ ثمّ أنجبت ولداً اعتبره أُميّة ولده وأطلق عليه كنية أبو عمرو وسمّاه ذكوان وهو والد أبي معيط وجدّ العقبة ، وعقبة هذا هو والد الوليد بن عقبة أخو عثمان بن عفّان من أُمّه (٣).

__________________

(١) تتمّة منتهى الآمال للمحدّث القمّي ص ١٠٨ / فارسي.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٦ ص ١١٨.

(٣) قبس من عظمة الإمام الحسين عليه السلام لآية الله العظمى الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني ص ٢٣٠ / فارسي ، نقلاً عن شرح نهج البلاغة ج ٣ ص ٢٥٤ وص ٤٦٧.

٣٣

أُسرة أبي سفيان :

من بين الذين صدّوا دعوة الإسلام ووقفوا منها موقفاً سلبيّاً تمثّل في العناد واللجاج والمقاومة والحرب هو أبو سفيان الذي كان أكثرهم عناداً ، فقد عمل على إطفاء نور الإسلام في معركة بدر وأُحد والخندق التي قاد فيها المشركين ، بل كان زعيمهم وقائدهم في أُحد والخندق.

فكان أبو سفيان وزوجته وأولاده في طليعة الذين عملوا على إيذاء رسول الله صلى الله عليه واله وصدّه ومنعه ، والعمل على حماية المشركين والدفاع عنهم ، فقد اشترك فيم عركة بدر مع أولاده معاوية وحنظلة وعمرو فقتل الإمام علي عليه السلام حنظلة منهم وأسر عمرو ولاذ معاوية بالفرار من الحرب الضروس وانطلق إلى مكّة هارباً ولمّا وصلها كانت قدماء قد ورمتا (١).

هند آكلة الكبد :

عرفت هند أُمّ معاوية بهذا الاسم «آكلة الأكباد» لأنّها مثّلت بحمزة سيّد الشهداء عمّ النبي صلى الله عليه واله بعد حرب أُحد بسبب حقدها وكرهها له ثمّ استخرجت كبده وقطعته ولاكته في فيها ثمّ استخرجته وعملت منه ثلادة حول عنقها وهذا دليل كفرها وشدّة بغضها للإسلام فهي كأبي سفيان لا تختلف عنه في عدائها للرسول صلى الله عليه واله وللإسلام بل كانت أكثرهم عداوة.

عداء أبي سفيان :

لقد كان أبو سفيان في كفره وعدائه للإسلام أوضح بكثير من كفر إبليس منذ بدايات البعثة وإلى ىخر يوم توفّي فيه النبي صلى الله عليه واله ، فقد كان من قادة المشركين في عداوة النبي صلى الله عليه واله ، وتولّى بنفسه التصدّي لرفع راية الكفر والشرك وصدّ الشباب الذين يعتنقون الإسلام ، فقد كانت له في مكّة شباك وخداع ومكر يتصيّد بها هؤلاء ويمنعهم من الدين الجديد ، وحتّى لمّا هاجر النبي صلى الله عليه واله إلى المدينة عمل أبو سفيان على صدّه ومنعه من نشر

__________________

(١) المصدر السابق ص ٢٣٧ / فارسي.

٣٤

الدين فأوجد له الحرب تلو الأُخرى كلّ ذلك دفاعاً منه عن الشرك وعبادة الأصنام والاطاحة بالرسالة الإلهية وبثّ التحلّل الأخلاقي مقابل الدعوات الأخلاقية التي كان النبي صلى الله عليه واله يعمل النشرها بين الناس (١).

فقد ذكر الزمخشري وهو أحد أعلام أهل السنّة قائلاً :

كان أبو سفيان رجلاً قصير القامة قبيح المنظر وزوجته هند ، وكانت له أجيرة وعاملة تعمل له اسمها صباح (ذات جمال وطراوة في قمّة أُنوثتها) فكانت هند تنظر لها على أنّها أجيرة وأمة إلّا أنّ الأُمور لم تدم هكذا بل اندفع أبو سفيان إلى صباح ليشكّل معها علاقة غير مشروعة في الخفاء ، حتّى اعتقد بعض المؤرخين أنّ عتبة ـ فضلاً عن معاوية ـ ابن أبي سفيان من صباح وليسا من هند ، ولهذا كانت هند غيرسعيدة بهذا الولد الجديد بعدما فضلت صباح أن تضعه بعيداً عن بيت أبي سفيان بل اختارت أن تضعه في الصحراء وهكذا كانت ولادة عتبة (٢).

أُسرة بني أُميّة :

قال رسول الله صلى الله عليه واله : «بنو أُميّة عائلة مطرودة ومكروهة ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار ، حصلوا على ثروات المسلمين بالغارات والمكر والتظاهر بالدين واستعبدوهم» (٣).

وخلال فترة حكم بني أُميّة لم يكن منهم شيء يذكر سوى الرجوع إلى عصر الجاهلية والكفر والإلحاد (٤).

وكان أبو سفيان يقول : اللهمّ أرجع إلينا أيّام الجاهلية لنحمي فيها حكمنا ،

__________________

(١) فلسفة ثورة الحسين عليه السلام ص ٨٠ / فارسي.

(٢) ربيع الأبرار.

(٣) الف شهر أسود ص ٨٤ / فارسي.

(٤) المصدر السابق ص ٧٦ / وقد ترجمت النصوص بالمعنى.

٣٥

واستقلالنا (١).

وقال أيضاً : أقسم بالله إنّي إن بقيت حيّاً لانتزعت الحكم من بني هاشم (٢).

وقال معاوية ابنه بعد ما صالح الإمام الحسن عليه السلام : إنّي لم أُحاربكم لتصوموا وتصلّوا بل قاتلتكم لأتأمّر عليكم (٣).

وحينما وصلت الخلافة لعثمان ودخل عليه أبو سفيان قال لمن كان عند عثمان من بني أُميّة : تلقّفوها تلقّف الكرة فوالذي يقسم به أبو سفيان لا جنّة ولا نار (٤).

لقد حكم معاوية بلاد الشام طيلة اثنين وأربعين عاماً من بعد رحيل النبي صلى الله عليه واله ، (أي من بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام عشرين عاماً وعشرة سنين من بعد استشهاد الإمام الحسن عليه السلام) إلى أن توفّي عام ستين للهجرة في النصف من رجب.

فقد حكم الشام خمس سنوات من قبل عمر بن الخطّاب ، وبقي حاكماً فيها أيّام عثمان بن عفّان ، وخمس سنوات (أو أقل) في زمان خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام وستّة أشهر في خلافة الإمام الحسن عليه السلام وخلال هذه السنين كان في صراع مرير مع أمير المؤمنين علي والحسن صلوات الله عليهما وخاض ضدّهما الحروب ، ثمّ حكم الشام بعدهما عشرون عاماً ، وامتازت فترة حكمه هذه بالحروب الظالمة وفي نهاية عمره أخذ البيعة لابنه يزيد الطاغية من المسلمين.

وبُعّد عثمان بن عفّان ومعاوية في طليعة الحكّام الأربعة عشر المنحدرين من السلالة السفيانية والمروانية الأموية الذين حكموا المسلمين من عام ٤١ ه وإلى عام ١٣٢ ه بما يعادل الف شهر (٥).

__________________

(١) المصدر السابق ص ٦٣ / وقد ترجمت النصوص بالمعنى.

(٢) الإمام علي عليه السلام ص ٢١٢.

(٣) عائشة في عهد معاوية للعلّامة السيّد مرتضى العسكري ص ١٢٥.

(٤) فلسفة ثورة الحسين ص ٢٨.

(٥) بررسي تاريخ عاشوراء ص ٤٧ (دراسة تاريخ عاشوراء) للدكتور أيتي بيرجندي / فارسي.

٣٦

وأمّا عن جرائم معاوية فهي كثيرة جدّاً منها أنّه نقض عهده مع الإمام الحسن عليه السلام حينما صالحه على شروط ، ووضعه لعهوده وتعهّداته تحت قدميه بالنسبة لشيعة علي عليه السلام ولذلك فإنّه أسرف في قتلهم وشدّد عليهم ولاحقهم في كلّ مكان ، وكان من جملة الذين قتلهم الزاهد المعروف حجر بن عدي وستّة أشخاص من أصحابه وبلغ الأمر بمعاوية أنّه كان يفعل ما يشاء!!

الشجرة المدعو عليها :

قال رسول الله صلى الله عليه واله : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» (١).

وذات مرّة أرسل النبي صلى الله عليه واله ابن عبّاس خلف معاوية ، فلمّا ذهب إليه وجده مشغولاً بالأكل فلمّا عاد أخبر النبي بذلك فقال صلى الله عليه واله : «لا أشبع الله بطنه» (٢) ، وبالنتيجة فقد استجاب الله دعاء النبي صلى الله عليه واله في حقّ معاوية ، فكان كلّما جلس على طعام لا يقوم منه وكان يقول عن نفسه : ما تركت الطعام عن شبع وإنّما تركته عن ملالة!! وكان يشرب الخمر ويحكم الناس باسم الإسلام (٣)!

بين جارية ومعاوية :

في عهد معاوية كان أحد رؤوساء عشائر العرب اسمه جارية وهو بمعنى : الحيّة من جنس الأفعى كما قال به صاحب كتاب أقرب الموارد في اللغة ، وكان جارية رجلاً قويّاً صريحاً ذو شخصية مهيبة ، وكان قد أعرب من عدم رضاه من حكم معاوية ومن كان معه بل كان يكرهه ويعاديه ، فقرّر معاوية ذات يوم أن يهينه أمام الناس من خلال اسمه ولمّا حانت الفرصة الجيّدة والتقى به قال له : ما أقلّ قدرك وحقارتك عند قومك

__________________

(١) الغدير ج ١٠ ص ١٤٢ لآية الله الشيخ عبد الحسين الأميني طبع بيروت ، وفضائل الخمسة ج ٣ ص ٢٤٣ لآية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي ، وميزان الاعتدال للذهبي ج ٢ ص ٧ و ١٢٩.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٦٨٣ للمحدّث المرحوم عبّاس القمّي.

(٣) الغدير ج ١٠ ص ٨٣.

٣٧

حين سمّوك أفعى ، فأجابه جارية على البداهة : وما أقلّ قدرتك وحقارتك في قومك حين سمّوك معاوية (وهي أُنثى الكلب) فغضب معاوية لمّا سمع ذلك منه وقال له : اسكت لا أُمّ لك ، فقال جارية : إنّ لي أُمّاً أنجبتني ، أُقسم بالله أنّ القلوب التي أبغضناك بها ما تزال في صدورنا ، والسيوف التي قاتلناك بها ما تزال بأيدينا ، وإنّك لعاجز عن حكمنا واهلاكنا بالقوّة ، فإنّك قد عاهدتنا في ملكك ونحن موفون بعهدنا معك على الطاعة وعدم الخروج عليك ، فإن وفيت بعهدك معنا وفينا لك بالطاعة ، وإن نقضت عهدك فاعلم أنّ خلفنا رجال أشدّاء ورماح قاطعة ، فلمّا سمع معاوية ذلك منه ورأى انكساره أمامه قال : لاكثّر الله من أمثالك.

شريك بن الأعور ومعاوية :

كان شريك بن الأعور رئيس قومه المطاع في زمان معاوية ، وكان ذو شكل قبيح ، علاوة على اسمه واسم أبيه ، وكان شريك من جملة الذين حاول معاوية الاستهزاء بهم وإذلالهم أمام الناس كعادته الحقيرة ، فقال له معاوية يوماً حينما دخل عليه وهو ـ معاوية ـ في أوج قدرته : اسمك شريك وليس لله شريك ، وأنت بن الأعور والصحيح أحسن منه ، ولك وجه قبيح والجميل أفضل منه ، كيف مع كلّ ذلك ولّاك قومك أمرهم؟!

فقال شريك : أقسم الله إنّك معاوية وهي الكلبة العوّاء فكأنّي بك تعوي حتّى سمّاك أهلك معاوية ، وأنت ابن حرب وصخر ، والأرض الصافية خير من الأرض الصخرية ، ومع كلّ هذا كيف ولّاك المسلمون زمام أمرهم؟!

فغضب معاوية وانكسر امام اتباعه فأقسم على شريك أن لا يخرج من مجلسه (١).

سياستان متضادّتان :

من كلام للإمام علي عليه السلام وجّهه إلى جيشه : لا تريقوا دماً بغير حقّ على الأرض وإن قلّ.

__________________

(١) الطفل بين الوراثة والتربية ج ٢ ص ٢٣٢ فلسفي / فارسي.

٣٨

بينما قال معاوية لجيشه : لا تتركوا النساء والأطفال من دون قتلٍ (١).

وبالمقابل فإنّ معاوية لمّا استتبّت له الأُمور أوصى جلاوزته أن يبحثوا عن أتباع الإمام علي عليه السلام ويقتلوهم تحت كلّ حجر ومدر.

أين قبر معاوية اليوم؟

ينقل أنّ السيّد محمّد صادق الطباطبائي وهو رجل معروف في ايران كان في عصر المشروطة في عهد الپهلوي نائباً لرئيس مجلس الشورى الوطنوي ، وقد سافر في عام ١٩٥٧ م إلى سوريا ، وهناك فكّر في نفسه في أن يرى قبر معاوية ، فأخذ يسأل الناس عن ذلك ولكن كلّ مَن سأله رأى عليه آثار النفور والفرار من الجواب ، فبقي يواصل البحث والسؤال إلى أن انتهى به الأمر إلى محلّ خارج المدينة فالتقى بصاحبه وعرض عليه السؤال مع مبلغ من المال ، فوافق الأخير إلّا أنّه اشترط عليه أن يدلّه من خارج المدينة وعن بعد ثمّ يتركه ويعود ماشياً ليبقى الأمر على السيّد الطباطبائي ، فوافق السيّد ومضيا معاً إلى قبر معاوية. والآن لنترك السيّد نفسه يصف الموقف حيث قال : لم تكن المسافة بعيدة كثيراً إلى أن وصلت إلى منزل خرب فدخلتُ فيه وكان وسطه باحة حقيرة وخربة وكان فيه غرفتان صغيرتان في حدود ٢٠ متراً فتقدّمت إلى أن وصلت إلى سلّم صغير من ثلاث درجات نزلت منها إلى باحة الدار الذي كان يتوسّطه حوض فيه ماء غضّ راكد تسبيح فيه بطّتين ، وفي جانب من الدار هناك امرأة عجوز طاعنة في السنّ بيدها مغزل وأمامها قليل من الصوف فلمّا رأتني قالت : ماذا تعمل هنا؟ فقلت لها : جئت لأرى قبر معاوية ، فقالت : أنت من العراق أليس كذلك؟ وذلك لأنّ أهل الشام لا يأتون هذا المكان أبداً ، فأشارت بيدها إلى إحدى الغرفتين العتيقتين فذهبت إليها وكانت بابها من الخشب ففتحتها ودخلت وكانت غرفة تبلغ مساحتها ١٢ متراً تقريباً في وسطها قبرين على أحدهما خرقة خضراء مندرسة وشمعدان فضّي قديم فوقفت عليه لحظات متظاهراً

__________________

(١) عائشة في عصر معاوية ص ١٢٠ / فارسي.

٣٩

بقراءة سورة فاتحة إلّا أنّني لعنته وبني أُميّة معه ثمّ خرجت (١).

جواز لعن معاوية :

روي عن كتاب «عين الأئمّة» عشرة أدلّة لجواز لعن معاوية وهي :

١ ـ خروجه عن طاعة أمير المؤمنين علي عليه السلام.

٢ ـ محاربته بالسيف لخليفة المسلمين وأمير المؤمنين علي عليه السلام.

٣ ـ غصبه لخلافته عليه السلام.

٤ ـ التنكّر لأهل البيت عليهم السلام وإنكار منزلتهم.

٥ ـ اعتقاده بأحقّيته للإمامة.

٦ ـ كتمان فضائل أمير المؤمنين عليه السلام.

٧ ـ لعنه لأمير المؤمنين علي عليه السلام على المنبر.

٨ ـ تحميله قتل عثمان للإمام علي عليه السلام بهتاناً.

٩ ـ اعطاءه الولاية بعده ليزيد الكافر.

١٠ ـ قتله للإمام الحسن عليه السلام ووصيّته لمن بعده بقتل الحسين عليه السلام ولذلك فهو يستحقّ اللعن من دون أي شرط أو محذور (٢).

المحامي الأوحد عن الإسلام :

لقد عمل معاوية لعنه الله طيلة أيّام حكمه ـ عشرون عاماً ـ على تقوية أساس الحكم لمن سيأتي بعده وهو ابنه الحقير يزيد ، رأس الفساد والثمرة المشؤومة من الشجرة الأموية الملعونة ، فبعد أن هلك معاوية جاء الطاغية يزيد إلى السلطة وهو يحمل كرهاً وحقداً شديدين للنبي صلى الله عليه واله وكان ينظر إلى حروبه ـ بدر وأُحد والأحزاب وغيرها ـ بنظره المخالف الكاره ، وهكذا صارت زمام الإسلام وهو الدين الذي يُراد منه انقاذ الإنسان من

__________________

(١) الف شهر أسود ص ١٦٧ نقلاً عن مجلّة المطالعة العدد ١٣١ / فارسي.

(٢) كامل البهائي ج ٢ ص ٢١٠ / فارسي.

٤٠