السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: الشيخ جاسم الأديب
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: انتشارات مكتب الحسين عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-91933-8-3
الصفحات: ٢٩٥

لننتقل منها إلى السعودية وكنت قد أعددت للأطفال الإحرام ... وعندما وصلنا إلى سوريا استأجرنا غرفة وكان يسكن في جوارنا شخص عربي وقد تصادق مع والدك ....

وفي أحد الأيّام طلب ذلك الرجل من والدك أن يرى جواز سفره ، ولمّا أخذ الجواز من والدك وقلّب صفحاته قال : لقد منحوك وحدك تأشيرة السفر إلى مكّة أمّا أبناءك وزوجتك فلم يعطوهم شيئاً.

وحقيقة أنّ الدنيا ضاقت بأعيننا عندما قال هذا الكلام خاصّة الأطفال فقد بلغ من شدّة حزنهم أنّهم أخذوا يبكون بشدّة وكان زوجي يطمأنهم ويقول : لا بأس عليكم ، لماذا تبكون ، إنّني لن اترككم وحدكم ، فلابدّ أن نذهب معاً إلى الحجّ.

آنذاك أشار ذلك الرجل العربي على والدك أن يراجع السفارة السعودية في سوريا أو السفارة الايرانية علّهم يحلّون المشكلة إلّا أنّ والدك رفض ذلك وقال : إنّ السيّدة رقيّة عليها السلام هي التي جاءت بنا إلى هنا وهي التي تهيّأ لنا تأشيرة السفر إلى الحجّ.

وفي اليوم الثاني صباحاً ـ وكان يوم الأربعاء وعند الساعة السابعة صباحاً ـ ذهبنا إلى حرم السيّدة رقيّة عليها السلام وكان الباب مغلقاً فوقنا خلف الباب وأخذنا نتوسّل بالسيّدة رقيّة عليها السلام ودموعنا تجري على خديّنا.

لحظات قليلة إذا بأحد السادة العلماء وكان شاباً ـ ولعل عمره ٢٥ عاماً ـ جاء ووقف خلف الباب بكلّ وقار وأخذ ينتظر أن يفتحوا باب الحرم الشريف وكانت إلى جانبه امرأة محجّبة لم أر وجهها لأنّها كانت ترتدي البوشية ، فذهب والدك إليه وتساءل منه بالعربية وقال : من أين أتيت؟ فقال السيّد : من النجف الأشرف.

وبعد مدّة من الزمن كان والدك يتحدّث مع ذلك السيّد الوقور وينقل له القضيّة ، ولأنّ والدك والسيّد كان يقفا بعيداً عنّا لم أسمع تفاصيل الحديث إلّا أنّني سمعت السيّد يقول : اعطني جوازك ، فأعطاه والدك الجواز ثمّ جاء الخدم وفتحوا الحرم فدخل السيّد وزوجته أوّلاً ثمّ دخلنا نحن وكان هناك مسجد على اليمين يسمّى بـ «خرابة الشام» ويقال أنّ السيّدة رقيّة عليها السلام استشهدت فيه ، فذهبنا نحن إلى ضريح السيّدة رقيّة عليها السلام بينما

٢٠١

دخل السيّد وزوجته ذلك المسجد.

ولم تمض سوى لحظات قليلة إذا به بالسيّد يرجع الجواز إلى والدك ويقول : لقد أخذنا لك تأشيرة من أهل البيت عليهم السلام لتذهب أنت وعيالك إلى الحجّ ، ثمّ ودّعه وذهب سريعاً.

مباشرة التفت والدك إليّ وقال : بعد أن حصلنا على تأشيره الحجّ فلنذهب سريعاً إلى مكّة المكرّمة ، فاستأجرنا مع بعض الركّاب سيارة كبيرة للسفر وتحرّكنا يوم الخميس نحو المدينة المنوّرة.

وأتذكّر أنّ والدك قال : ينبغي أن نرافق أحد العرب الذين يعرفون الطريق جيّداً ليصحبنا معه في الطريق ، ثمّ تحرّكنا نحو السعودية عبر الحدود الأردنية إذ أنّ العلاقات بين العراق وسوريا كانت مقطوعة.

ومن نعم الله تعالى وعناية السيّدة رقيّة عليها السلام أنّنا تعرّفنا على شخص عربي كان خبيراً بالطريق وقد قبل أن نرافقه طيلة الطريق.

وما أن تحرّكنا من سوريا وقبل أن نخرج من الحدود إذا بالسيارة تعطّل ، فذخب السائق ليأتي بسيارة أُخرى وبقينا نحن من الساعة السابعة صباحاً إلى الساعة الرابعة بعد الظهر ننتظره دون أن يأتي ، فاتّصل أحد المسافرين معنا بالمرور السوري وأخبرهم بالقضية وطلب منهم أن يبعثوا لنا سيارة لننتقل عبرها إلى مكّة. وما هي إلّا نصف ساعة إذا بالسيارة تأتي وكانت أفضل من السابقة بكثير فركبنا فيها وتحرّكنا بسرعة نحو الحدود السعودية ، وقبل أن نصل إلى الحدود وقفنا عند أحدى المقاهي حيث إنّ والدك طلب من السائق أن ينزل عندها لنستريح قليلاً ، فنزلنا هناك ساعة ثمّ تحرّكنا من جديد حتّى وصلنا إلى الحدود في الساعة الواحدة أو الثانية ليلاً الموافق ٢٩ شوال ١٣٩٩ ه.

وعند الحدود أخذ المسؤلون الحدود يحقّقون في التأشيرات ويجرون الاجراءات اللازمة فقلقنا جدّاً لأنّ تأشيرتنا كانت صادرة من حرم السيّدة رقيّة إلّا أنّ عناية عزيزة الحسين عليه السلام بقيت ترعانا حتّى في تلك اللحظات حيث جاء المفتّش ونظر إلى التأشيرة

٢٠٢

ولم يقل شيئاً أبداً.

ويا سبحان الله ، فقد دخلنا السعودية وفي الساعة الحادية عشرة صباحاً من اليوم الثاني كنّا عند قبور أهل البيت عليهم السلام في البقيع بعد أن أجّرنا منزلاً لاستراحتنا في المدينة.

وبالرغم أنّنا دخلنا السعودية إلّا أنّ القلق كان يراودنا كثيراً ، فبعد أن زرنا المدينة وأدّينا بعض الأعمال هناك قال والدك : ربما لا يسمحوا لنا أن نذهب إلى مكّة فمن الأفضل أن نذهب إلى مكّة ونؤدّي أعمال العمرة المفردة قبل أن يذهب الحجّاج ويزدحم الطريق.

ولذلك فقد تحرّكنا في الخامس أو السادس من ذي القعدة نحو مكّة مع أحد الشيعة الذي أخذنا معه في سيارته ـ وقد قام الرجل بجميع مستلزمات السفر ـ وكلّما مررنا على نقطة مرور كان يأخذ الجوازات ويريهم إيّاها ثمّ يعود إلى أن وصلنا إلى مكّة المكرّمة في حدود الساعة الثانية عشرة ليلاً.

بالطبع أنّنا قبل أن ندخل مكّة أحرمنا في «مسجد الشجرة» وأدّينا الأعمال اللازمة في نفس الليلة التي وصلنا فيها إلى أذّن الصبح فصلّينا صلاة الصبح واسترحنا قليلاً ثمّ ذهبنا إلى مقرّ السيارات التي تذهب إلى المدينة. إلّا أنّنا لم نجد أحداً أصلاً فقلت في نفسي : إلهي ، أنت الذي جئت بنا إلى ضيافتك هنا فلا تتركنا في هذه المخمصة لوحدنا. وما هي إلّا لحظات إذا بسيارة حديثة جدّاً تقف أمامنا ، وبعد أن تكلّم السائق مع والدك ببعض الكلمات قال : اركبوا ، وأخذنا معه إلى المدينة وقد رفض أن يأخذ الأُجرة بتاتاً.

وبعد مدّة من إقامتنا في المدينة المنوّرة وكان الحجّاج يتوافدون من كلّ حدب وصوب أخذ رؤساء الحملات والكثير من الحجّاج الذين يعرفون والدك يتوسّلون به ويطلبون منه أن يلتحق بهم كمرشد لحملاتهم فقبل والدك الالتحاق بحملة الحاج سيّد محسن آل أحمد لأنّه كان يصرّ كثيراً على والدك.

واستمرّ الحال على ذلك إلى أن أدّينا أعمال الحجّ كافّة دون أن يتعرّض لنا أحد أصلاً ثمّ ركبنا بالقرب من جسر أبو طالب أحد السيارات في مكّة وعدنا إلى مدينة قم المقدّسة ومنها انتقلنا إلى مدينة طهران.

٢٠٣

هذه كرامة للسيّدة رقيّة عليها السلام رأيتها بعيني وعايشتها بنفسي.

١٥ ـ التوفيق لزيارة الإمام الحسين عليه السلام

يقول الشيخ علي أبو الحسين سألت من الوالدة أيضاً أتعرفين كرامة أُخرى للسيّدة رقيّة؟ فقالت : نعم ، أتذكّر إحدى الكرامات التي حصلت قبل كم سنة وهي :

قبل عشرين عاماً تقريباً عندما كانت حكومة الشاه في قمّة طغيانها ذهبت مع المرحوم والدك إلى سوريا لنأخذ منها تأشيرة لزيارة العتبات المقدّسة في العراق. وفي سوريا بقينا ما يقارب خمسة عشر يوماً تردّدنا أثنائها أكثر من مرّة على لبنان علّنا نحصل على تأشيرة زيارة عتبات العراق من السفارة العراقية ولكن دون جدوى.

وفي الخامس عشر من شهر شعبان المبارك كنت جالسة وحدي في الفندق وقد أغمّني عدم اعتناء أهل لبنان بهذه المناسبة المهمّة فضلاً عن اشتياقي للزيارة فتوجّهت إلى إمام العصر والزمان عليه السلام بقلب منكسر وقلت : يا إمام الزمان ماذا يجري اليوم في ايران بمناسبة ميلادك الميمون؟

حتماً أنّ الجميع هناك محتفلين بهذه المناسبة أمّا هنا فلا خبر ولا أثر لهذا المولود المبارك ثمّ أخذتني غفوة فرأيت في عالم الرؤيا شاباً حسن المحاسن جميل المنظر طويل القامة يتمشّى يميناً وشمالاً وهو يقول : لقد تهيّأت أسباب سفركم إلى كربلاء.

وبعد أن استيقظت من النوم عاد والدك من السفارة العراقية وقال : لقد كتب أسمائنا ورجعت إلى سوريا إلّا أنّني عرفت ـ بعد أيّام ـ أنّهم رفضوا أن يمنحونا تأشيرة الزيارة.

ولمّا رأيت أن لا فائدة من هذه الطريقة ذهبت إلى أحد الملّاك اسمه «السيّد أنور» وكان خبيراً في المعاملات وله علاقة بالسوّاق الايرانيين وكان يأخذ الجوازات من الزوّار ويبعثها إلى ايران ليأخذوا له معارفه تأشيرة الحجّ للزوّار ثمّ يبعثوا بالجوازات إلى سوريا ثانية.

ومن ضمن الجوازات التي أخذها السيّد أنور هي جوازاتنا وقد بعثها مع جوازات أُخرى إلى ايران ليأخذوا لنا تأشيرة الحجّ وعلماً أنّ الذي أخذ الجوازات رجل أفغاني.

٢٠٤

وبعد مدّة قليلة أخبرونا أنّ الرجل قد وقع في يد الأمن الايراني وقد حكموا عليه بالسجن الأمر الذي أدّى إلى قلق الزوّار وحزنهم الشديد إذ أنّهم فضلاً عن حرمان من حجّ بيت الله الحرام سيواجهون مشكلة سياسية في ايران ولذلك اقترح بعضهم أن يبعثوا رسالة إلى زوجة الشاه يطلبون منها أن تحلّ المشكلة إلّا أنّ والدك نهاهم عن ذلك ودعاهم إلى التوسّل بعزيزة سيّد الشهداء السيّدة رقيّة عليها السلام.

ومن هنا فإنّ العديد من الزوّار كانوا يجتمعون كلّ يوم في الحرم الشريف وكان والدك يقرأ لهم مجلس التعزية ويختم مجلسه بالتوسّل بالسيّدة رقيّة عليها السلام.

وبعد عشرين يوماً من التوسّل أخبرنا أنّهم بعثوا بعض الجوازات وتبيّن فيما بعد أنّ الفرد الأفغاني بعد أخذه لتأشيرة الزيارة من طهران شكّ الأمن الايراني به في المطار وأرادوا القبض عليه إلّا أنّه فرّ منهم وفي ذلك الأثناء وقعت بعض الجوازات من جيبه وبقيت البقيّة الباقية ومنها جوازي وجواز والدك.

والملفت للانتباه أنّ الأمن بعد قبضهم على الأفغاني لم يتوجّهوا إلى الجوازات التي في جيبه ... على كلّ بعد أخذنا للجوازات وكانت فيها تأشيرة عرفنا أنّه لم يبق من مدّة التأشيرة إلّا يوم واحد ولذا فقد استأجرة سيارة وتحرّكنا بسرعة فوصلنا في الليل إلى المدينة ، وبعد أداءنا لأعمال الحجّ عدنا إلى ايران دون أن نواجه أيّة مشكلة.

الجدير بالذكر أنّنا عندما أخذنا تأشيرة الحجّ كنت قد توسّلت بالسيّدة رقيّة عليها السلام وقلت : سيّدتي إذا تيّسر أمرنا للسفر إلى كربلاء المقدّسة فسأعود ثانية إلى زيارتك من جديد ... وهذا ما حصل تماماً ، فلمّا رجعنا من الحجّ راجعنا السفارة العراقية في طهران وسجّلنا أسمائنا كما أعطى والدك جوازاتنا لأحد الأشخاص كي يتوسّط لنا في أحد التأشيرة.

مضت ثلاث أسابيع ولم نحصل على أي خبر فانتابنا اليأس وكدنا نأخذ الجوازات من الرجل إلّا أنّه رفض ذلك وقال : لنحاول مرّة أُخرى علّنا نصل إلى نتيجة ، وما هي إلّا أيّام قليلة إذا بهم يعلنون أسمائنا في إحدى الصحف وفي نفس الوقت استطاع ذلك الرجل

٢٠٥

أن يأخذ تأشيرة ولكن تختلف عن الأُولى إذ أنّ مدّة المسموحة للسفر في الأُولى سبعة أيّام أمّا الثانية فمدّتها أكثر.

ولذلك قال والدك : أُريد البقاء في كربلاء أكثر ولن أُسافر بالتأشيرة الأُولى. وحيث إنّني تعاهدت مع السيّدة رقيّة عليها السلام أن أزورها إذا وفّقت للذهاب إلى كربلاء فقد ذهبنا إلى سوريا لنتحرّك منها نحو العراق إلّا أنّني خفت من الذهاب عبر السيارات ورفضت بشدّة. ولحسن الحظّ أنّ والدك سأل أحدهم في سوريا ويدعى الحاج محمود الشيرازي ـ كان يؤجّر المنازل للزوّار ـ فقال : ألا يوجد هنا طائرة إلى بغداد فإنّ زوجتي تخشى الذهاب عبر السيارة؟ فقال الحاج محمود : اليوم ستصل طائرة من فرنسا إلى دمشق سينزل منها شخصان ثمّ تحلّق إلى بغداد فإذا تحبّ أحجز لك مكانهما ، فوافق والدك وأخذ الحاج محمود لنا تذكرتين وحرّكنا في نفس اليوم من مطار دمشق نحو بغداد في الساعة التاسعة ليلاً.

وفي الساعة العاشرة دخلنا بغداد فأشار بعض المسافرين علينا أن نذهب إلى الكاظمين إلّا أنّ والدك رفض وقال : الليلة ليلة الجمعة وهي ليلة زيارة سيّد الشهدا عليه السلام ولذلك سأذهب إلى كربلاء فأخذنا متاعنا وذهبنا إلى كربلاء وكان الوقت بعد منتصف الليل فبقينا نتردّد بين الحرمين إلى الصباح وقد استمرّ سفرنا في العراق أربعين يوماً ثمّ رجعنا إلى ايران سالمين غانمين رزقنا الله تعالى في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم.

١٦ ـ طفلة صغيرة .. ولكنّها باب للحوائج

في أواخر شهر رمضان المبارك سنة ١٤١٧ ه عرضت إحدى القنوات التفازية في ايران بمناسبة يوم القدس فيلماً بعنوان «الباقي» وقد عرض نفس الفيلم قبلاً في السينما في شتّى انحاء ايران.

أمّا محور الفيلم فهو يدور حول حياة رجل وامرأة فلسطينيين واسمهما «سعيد ولطيفة» وكان قد قتلا أيّام الانتهاكات الوحشية والقتل العشوائي الذي كانت تقوم به

٢٠٦

اسرائيل ضدّ المسلمين الفلسطينيين عام ١٩٤٨ م في مدينة حيفا.

وتشاء إرادة الله تعالى أن يترك هذان الزوجان طفل رضيع اسمه «فرحان» كان قد بقي ثلاثة أيّام بلا طعام أو شراب إلى ان احتلّت أُسرة من اليهود كانت قد هاجرت من أوربا الشرقية إلى فلسطين منزلهما وعثرت على الطفل هناك ففرحا به خاصّة أنّ الأُسرة اليهودية كانت محرومة من الأولاد فأخذوه وغيّروا اسمه من «فرحان» إلى «موشه» وهو موسى بالعبرانية.

وفي طيلة الفيلم سلّطت الأضواء على حياة «فرحان» والمسمّاة بـ «صفيّة» إلى الأُسرة اليهودية وتدّعي أنّها مربيّة للأطفال ومحافظة لهم علّها تجد فرصة جيّدة لتخلّص حفيدها «فرحان» من يد الصهاينة وما هي إلّا أيّام قليلة إذا بالأُسرة اليهودية تعزم السفر إلى «يافا» وقد صمّموا أن يصحبوا فرحان وجدّته معهم عبر القطار الذي كان ينقل العديد من الجنود والمعدّات العسكرية التي جاءوا بهم لقتل الفلسطينيين ، وفي الطريق وبينما كان القطار يسير في السهول والمرتفعات تنتهي الحلقة الأُولى من الفليم.

في الحلقة الثانية استعرضوا وبشكل جذّاب كيف أنّ جدّة «فرحان» وبإشارة من زوجها المقاوم «رشيد» أخذت حقيبة المتفجرات إلى القطار ، وكيف أنّها دخلت إحدى الغرف الخالية بحجّة تغيير الطفل فوضعت حقيبة المتفجرات وبقيت تنتظر حتّى انفجرت فحملت الطفل فرحان ورمت بنفسها خارج القطار.

أمّا الجدّة صفيّة فقد ماتت في نفس المكان ، وبقي الطفل فرحان يضجّ بالبكاء إلّا أنّ عناية الله عزّوجلّ كانت ترعاه وتحفظه.

على كلّ فقد مثّل الفيلم في سوريا وكان أبطاله من السوريين والمصريين إلّا أنّ مخرج الفيلم كان ايرانياً واسمه «سيف الله داد».

أمّا حول نجاح الفيلم فقد عقد في سوريا مهرجان حول الأفلام فنال هذا الفيلم

٢٠٧

إعجاب الكثير من الناس ومن شتّى الطبقات خاصّة المقطع الأخير منه وحسب ما قال ممثّلوا الفيلم في إحدى اللقاءات التي أجرتها معهم مجلّة «نيستان سنة ١٣٧٥ شمسي ص ٦٠ : إنّ الفيلم عرض خمس مرّات في قاعة المهرجانات التي تستوعب لما يقارب ٣٠٠ شخص إلّا أنّ كثافة الإقبال على الفيلم جعل المسؤولين يبدّلوا القاعدة بأُخرى تستوعب ١٥٠٠ فرد فضلاً عن تكرار عرض الفيلم في أكثر من مكان كالجامعات وغيرها.

من جانب آخر فإنّ وسائل الإعلام كالصحف وغيرها تداولت أحداث هذا الفيلم واستعرضت وقائعة وأشادت به وأثنت عليه بشدّة ممّا جعل اشتياق الناس يزداد لرؤيته أكثر.

وقد رأيت شخصياً أكثر من مرّة كيف أن النساء كنّ يبكين عندما يصل الفيلم إلى الأحداث الأخيرة المؤلمة فضلاً عن الرجال الذين كانت آثار البغض بادية عليهم بوضوح خاصّة أُولئك الذين تجرّعوا آلام الظلم الصهيوني وعانوا من طغيانهم المستمر.

الملفت للانتباه أنّ المخرج «سيف الله» قال : أنّ موفّقية الممثّلين للتمثيل بهذه الجذّابية هو ببركة التوسّل بالسيّدة رقيّة عليها السلام في دمشق ، وقد أشار إلى تفاصيل ذلك في نفس اللقاء ص ٦٧ فقال : إنّ موضوع الفيلم بعد مطالعة التاريخ ومراجعة بعض الأحداث الأُخرى تغيّر كلّياً وأصبح أشبه ما يكون بقصّة نبي الله موسى عليه السلام علماً أنّ كلّ فصل منه أُعيدت كتابته من أوّله إلى آخره ما يقارب أربع أو خمس مرّات ولذا صار الفيلم أكثر تأثيراً وجذّابية.

ففي البداية كنت قد كتبت إلى أحداث الانفجار في القطار وفيما بعد أحسست بالإشكالات ، فمثلاً بالنسبة إلى رشيد جدّ الطفل «فرحان» في البدء كان دوره ينتهي بقتله عند انفجار القطار إلّا أنّنا بعد التعديلات غيّرنا ذلك وجعلناه يمثّل أدواراً أُخرى بعد حادثة انفجار القطار.

ومع ذلك كلّه فقد بقيت حائراً ماذا أصنع في أواخر الفيلم؟ لقد كان لدي

٢٠٨

«سيناريو» ولكنّه غير كافٍ ولذا كنت قلقاً حتّى انقطعنا عن التمثيل للحلقات التي بعد الانفجار مدّة اسبوعين ....

بل إنّني كنت أكتب كلّ ليلة تفاصيل الأدوار المفترض تصويرها في اليوم الآتي ولكن وبعد أن أجرينا التغييرات وجدت نفسي عاجزاً عن ذلك تماماً فبقيت متحيّراً كتحيّر «صفيّة» إلّا أنّني أخفيت ذلك على البقية إلى أن توجّهت إلى عزيزة سيّد الشهداء السيّدة رقيّة عليها السلام ونذرت لها ممّا جعل الفيلم يوفّق مثل هذا التوفيق العظيم.

وفي دمشق عندما ذهبت للمرّة الأخيرة إلى المهرجان شاهدت كيف أنّ أواخر الفيلم كانت مؤثّرة على الجميع وكان واضحاً جدّاً أنّ هناك عناية خارجية قد تدخّلت في القضية ، ولذا فإنّني بعد المهرجان مباشرة ذهبت إلى حرم السيّدة رقيّة عليها السلام لأتشكّر منها وأفي بنذري.

بالطبع أنّ أهل السينما والفنّانين لا يعتقدون بمثل هذه الأُمور إلّا أنّه في بعض الأحيان ولكرم أهل البيت عليهم السلام يشمل لطفهم وعناياتهم الجميع وإن كانوا غير لائقين لذلك.

وحقيقة لامست قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (١) ورأينا جميعاً تأثير الفيلم على حتّى غير المتديّنين الذين كانت تنقلب أوضاعهم يتأثّرون بشدّة وكلّ ذلك ببركات وعناية السيّدة رقيّة عليها السلام ومن الكفر والجهالة أن نقول : إنّ هذا التأثير من غيرها.

تعليق لابدّ منه

بعد كلّ هذه الكرامات هل فكّرنا قليلاً في عظمة البركات الجليلة التي أنزلها الله تعالى ببركة السيّدة رقيّة وعمّتها عقيلة الهاشميين السيّدة زينب عليها السلام ومنها حفظ المنطقة

__________________

(١) سورة الطلاق : ٣.

٢٠٩

من اعتداءات الصهاينة في القرون الوسطى والإحالة دون وصول اليهود لمخطّطهم الشيطاني ـ من النيل إلى الفرات ـ في العصر الحاضر؟ وهل توسّل أحد بقلب محروق بهاتين السيّدتين المقدّستين لنجاة القدس الأسير وخلاصه من يد اليهود الطغاة؟

فهذا المخرج «سيّد الله داد» الذي توسّل بعزيزة الإمام الحسين عليه السلام شاهد بأُمّ عينيه بركات هذه السيّدة رقيّة عليها السلام يقول : والآن توجّهت كيف يمكن حاجتك من البعض والحال أنّك غير مستحقّ لذلك أصلاً ، ولذا فمن المفترض على جميع المسلمين أن يدركوا أنّ السيّدة رقيّة عليها السلام طفلة صغيرة إلّا أنّها باب عظيم من أبواب الحوائج.

٢١٠

الفصل الثالث عشر

الشام في القرآن والروايات

إنّ من يراجع الآيات والروايات الواردة في مدح الشام خاصّة دمشق يجد لهذه الأرض قداسة عظيمة في الإسلام ، فمن الآيات الواردة في مدح أرض الشام هي قوله تعالى : (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) (١).

وقد نصّت روايات العامّة والخاصّة على أنّ المراد من الأرض المقدّسة هي بلاد الشام ، فقد نقل المحدّث الجليل الفيض الكاشاني في تفسيره «الصافي» اثر تفسير للآية الكريمة نقلاً عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : الأرض المقدّسة يعني الشام (٢).

أمّا شيخ المفسّرين الطبرسي قدس سره فقد قال في تفسير الآية : وهي ـ الأرض المقدّسة ـ دمشق ، وفلسطين ، وبعض الأردن ....

والمقدّسة : المطهّرة ، طهرت من الشرك ، وجعلت مكاناً وقراراً للأنبياء والمؤمنين (٣).

وجاء في بعض الكتب أنّ نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبيّنا وآله السلام عندما كان مقيماً في بعض جبال لبنان اشتاق إلى رؤية الأرض المقدّسة ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه فقال : اصعد على رأس الجبل وانظر ، فما أدرك نظرك فهو مقدّس ، فنظر فانتهى نظره إلى دمشق وفلسطين والأردن.

__________________

(١) سورة المائدة : ٢١.

(٢) راجع مستدرك الوسائل ج ١٣ ص ٢٩١ ح ١٥٣٨٥.

(٣) مجمع البيان ج ٦ مج ٣ ص ٣٠٨.

٢١١

ومن الآيات الكريمة الواردة في مدح الشام أيضاً قوله تعالى : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (١) فقد قيل أنّ المراد بقوله : باركنا حوله هي دمشق وفلسطين.

أربعة قصور من الآخرة

أمّا الروايات الشريفة الواردة عن طريق أهل البيت عليهم السلام في مدح الشام منها ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال : أربعة من قصور الجنّة في الدنيا : المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى الله عليه واله ، ومسجد بيت المقدّس ومسجد الكوفة (٢).

وقد وردت العديد من الروايات الشريفة المؤكّدة على كثرة الثواب لكلّ من يصلّي في المسجد الأقصى منها ما عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : صلاة في بيت المقدس تعدل ألف صلاة وصلاة في المسجد الأعظم تعدل مائة ألف صلاة ، وصلاة في مسجد القبلة تعدل خمساً وعشرين صلاة ، وصلاة في مسجد السوق تعدل اثنتي عشرة صلاة ، وصلاة الرجل في بيته تعدل صلاة واحدة (٣).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال : صلاة في بيت المقدس ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة وصلاة في مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة وصلاة في مسجد السوق إثنا عشر صلاة ، وصلاة الرجل في بيته وحده صلاة واحدة (٤).

وعن رسول الله صلى الله عليه واله قال : الصلاة في المسجد الحرام مائة الف صلاة ، والصلاة في المسجد الأعظم مائة صلاة ، والصلاة في مسجد القبيلة خمس وعشرون صلاة ، والصلاة في مسجد السوق اثنا عشرة صلاة ، وصلاة الرجل وحده في بيته صلاة واحدة (٥).

__________________

(١) سورة الإسراء : ١.

(٢) وسائل الشيعة ج ٥ ص ٢٨٢ ح ٦٥٥٦.

(٣) من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٢٣٣ ح ٧٠٢.

(٤) تهذيب الأحكام ج ٣ ص ٢٥٣ ح ١٨.

(٥) مستدرك الوسائل ج ٣ ص ٤٣٠ ح ٣٩٣٣.

٢١٢

وعن ابن عبّاس أنّه قال : فانطلقوا ـ بنو اسرائيل ـ يؤمّون الأرض المقدّسة وهي فلسطين وإنّما قدسها لأنّ يعقوب عليه السلام ولد بها وكانت مسكن أبيه إسحاق ويوسف ونقلوا كلّهم بعد الموت إلى أرض فلسطين (١).

تقديس الامبراطوريتين للبيت المقدس

عندما انتصر الروم على الفرس استرجح الامبراطور «هراكليوس» البيت المقدس من الملك خسرو خرج الامبراطور «هراكليوس» من الحدود الايرانية حافي القدمين إلى البيت المقدس شكراً لله تعالى لهذا النصر بينما كان الناس ينشرون في طريقه الورود والرياحين (٢).

وفي «منتخبات التواريخ» للحصني نقل عن السهيلي أنّه قال : أنّ المراد بـ «باركنا حوله» هي الشام ، وأنّ المراد بالشام في اللغة السريانية بمعني النظيفة ، ومن هنا قالوا : أنّ أرض الشام نظيفة مليئة بالخيرات والنعم.

وقيل أيضاً أنّ المراد من قوله تعالى «باركنا فيه» في الآية الكريمة : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدَاً وسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدَاً فَجَعَلْنَاهُمْ الْأَخْسَرِينَ) (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (٣) وقوله تعالى : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) (٤) هي الشام.

وذكر أبو بكر الخوارزمي فقال : جنّات الدنيا أربع : غوطة دمشق وصفد سمرقند وشعب بوان وايلة البصرة. وأفضلها غوطة دمشق.

وفي روايات العامّة ورد الكثير من المدح لأرض الشام خاصّة دمشق وإن كان

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٣ ص ١٧٨ ح ٧.

(٢) بيت المقدس وتحويل القبلة تأليف آية الله ميرزا خليل كمره اى ص ٥٢.

(٣) سورة الأنبياء : ٦٩ ـ ٧١.

(٤) سورة الأنبياء : ٨١.

٢١٣

يقوى الظنّ أنّ معظمها قد جعلت من وعّاظ السلاطين ليرضوا رؤوساءهم ويغطّوا جرائمهم أمثال أبي هريرة وضّاع السنّة الشهير الذي روى العديد من الروايات في مدح أرض الشام ، ومنها قوله : أربع مدن من مدن الجنّة : مكّة والمدينة وبيت المقدس والشام.

وروى أيضاً أنّ رسول الله صلى الله عليه واله قال : ستكون فتن ، قيل : يا رسول الله فماذا تأمرنا؟ قال : عليكم بالشام.

ونحن نتساءل منه قائلين كيف يكون ذلك والحال أنّ الشام منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه واله إلى اليوم محلّ للقردة الأمويين بحيث إنّ الإمام الباقر عليه السلام لا يذكر أهل هذه البلادة إلّا واستاء؟ ففي الحديث أنّه عليه السلام قال : نعم الأرض الشام ، وبئس القوم أهلها ، وبئس البلاد مصر؛ أما إنّها سجن من سخط الله عليه ، ولم يكن دخول بني اسرائيل إلّا معصية منهم لله. لأنّ الله قال : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) (١) ، يعني الشام ، فأبوا أن يدخلوها بعد أربعين سنة. قال : وما خروجهم من مصر ودخلوهم الشام إلّا بعد توبتهم ورضا الله عنهم (٢).

وفي تفسير الإمام العسكري عليه السلام أنّه لمّا بلغ أمير المؤمنين عليه السلام أمر معاوية ، وأنّه في مائة ألف قال : من أي القوم؟ قالوا : من أهل الشام. قال : لا تقولوا من أهل الشام ، ولكن قولوا من أهل الشؤم ، هم من أبناء مصر ، لعنوا على لسان داود ، فجعل منهم القردة والخنازير (٣).

__________________

(١) سورة المائدة : ٢١.

(٢) سفينة البحار ج ٤ ص ٣٦١.

(٣) سفينة البحار ج ٤ ص ٣٦١.

٢١٤

الفصل الرابع عشر

الآثار التاريخية في الشام

هنك عدّة أُمور جعلت منطقة الشام خاصّة تنال اهتمام الطواغيت الذين أخذوا يتنافسون لبسط قدراتهم عليها منها نقاء هواءها ولطافت الجو وكثرة نعمها وموقعها السياسي الحسّاس فضلاً عن الآثار التاريخية والمشاهد العظيمة والمزارات المباركة ، فمن أهم تلك الآثار التاريخية هو :

آثار الشام في عهد الأنبياء عليهم السلام

نقل محمّد أديب الحصني في كتابه «منتخبات التواريخ» عن رحلة ابن بطوطة فقال : قاسيون هم اسم لجبل يقع في شمال دمشق ، والصالحية تقع في ساحل هذا الجبل ، وهو جبل معروف بالبركة إذ أنّ الأنبياء كانوا يتسلّقون عليه. ومن المشاهد المقدّسة في هذا الجبل هو غار نبي الله إبراهيم عليه السلام الذي ولد فيه وغار ضيّق ، كما يوجد على الجبل مسجد كبير وصومعة ، وقيل إنّ نبي الله إبراهيم عندما كان يشكّك في الآلهة المزيّفة ـ كما هو مذكور في القرآن الكريم ـ إنّما شكّك فيها في هذا الغار.

وفي خلف الغار يقع مقام نبي الله إبراهيم عليه السلام حيث كان يجلس فيه عندما يخرج من الغار ، ناهيك عن «مغارة الدم» التي تقع بالقرب من الغار وعليها صخرة حمراء يقال إنّ قابيل عندما قتل أخيه هابيل أخذ يجرّ جسده إلى هذا الغار فحفظ الله تبارك وتعالى دم هابيل وأبقاه كعبرة على هذه الصخرة.

ويقال إنّ في هذا الغار صلّى نبي الله إبراهيم وموسى وعيسى وأيّوب ولوط عليهم السلام ، وفي نفس الغار وعندما يصعد الإنسان بعض الدرجات يوجد مسجد وبعض البيوت والحجر التي كانوا يسكنون فيها.

٢١٥

بالاضافة إلى ذلك هناك كهف فوق الجبل ينسب لنبي الله آدم عليه السلام وله بناء لا بأس به ، وبالأسفل منه يقع «غار الجوع».

ونقل القزويني وابن الوردي بشكل مختصر عن هذه الآثار فقالا : جبل قاسيون يطلّ على دمشق وفيه آثار الأنبياء فضلاً عن الغارات والكهوف ومنها غار «الدم» الذي نقل أنّ قابيل قتل هابيل فيه ، وهناك صخرة يقال إنّ قابيل هشّم رأس أخيه هابيل بها ، ويوجد أيضاً غار يسمّى بغار الجوع.

ونقل شهاب المينني فقال : يطلّ جبل قاسيون على مدينة دمشق ، وعلى ساحل الجبل هناك مدينة الصالحية وكانت تسمّى قديماً بـ «قرية النخل» أو «قرية الجبل». وعلى ساحل الجبل هناك قبور لا تحصى للأنبياء والصلحاء وقد اندرس أكثرها ولم يبق منها سوى قبر ذي الكفل عليه السلام.

ومن الآثار التاريخية أيضاً هو الكهف الذي أُشير إليه في القرآن الكريم كما نقل البعض ، إلّا أنّ الأصحّ أنّ هذا الكهف هو كهف طرطوس ، وفي هذا الجبل مقام بعض الصالحين كانوا يتعبّدون ويدعون الله تعالى هناك ، وبالجنب من هذا المقام يوجد «غار الدم» وبالأعلى من هذا المقام هناك مكان يستجاب فيه الدعاء يقال له «المستغاث» يقصده أصحاب الحوائج ويدعون فيه ويتوسّلون.

الآثار التاريخية في عهد الإسلام

١ ـ المسجد الجامع : من الأبنية التاريخية في الشام هو مسجد الجامع في دمشق الذي يعدّ من عجائب هذه البلاد.

شيّد هذا المسجد الوليد بن عبد الملك سنة ٨٦ أو ٨٧ أو ٨٨ بعد أن صرف عليه خراج البلاد لمدّة سبع سنين وقد بالغ المؤرخون في الحديث عنه ، فمن كلام لابن بطوطة قال فيه : أنّ مسجد دمشق هو من أكبر مساجد الدنيا من حيث السعة ومن أقواها بناءً وأبدعها جمالاً فهو مسجد عديم النظير ولا شبيه له ، ثمّ أخذ يشرح خصوصيات بناءه

٢١٦

وحال أعمدته ومحرابه وقبّته المسمّاة بالنسر.

وعلى أيّة حال فالإنصاف أنّ المسجد هو في غاية الجمال والدقّة خاصّة أحجار المحراب والمنبر التي تجذب الأنظار وتنال اعجاب كلّ من ينظر إليها.

ففي وسط المسجد هناك قبّة تسمّى بـ «قبّة النسر» فضلاً عن الأعمدة الحجرية الجميلة والتي يصل عددها إلى أربعين عموداً.

وفي القسم الغربي من المسجد يوجد بئر فوقه حوض حجري قد غطّى فم البئر فمن كلام للحموي في معجم البلدان قال فيه : مسجد دمشق ... وكان قد بناه الوليد بن عبدالملك بن مروان ... وكان الابتداء بعمارته في سنة ٨٧ ، وقيل ٨٨.

وقال أيضاً : وعمل له أربعة أبواب : في شرقية باب جيرون ، وفي غربيّة باب البريد ، وفي القبلة الزيادة وباب الناطفانيين مقابله وباب الفراديس في دبر القبلة (١).

احتراق في المسجد الجامع في دمشق

أشار أحمد غسّان سباكو في كتابه «دمشق في دوائر المعارف العربية والعالمية» ص ١١٩ إلى المسجد الجامع في دمشق فقال : لقد صرف من خراج الشام لمدّة سنتين أو أكثر ـ كما في بعض الأقوال ـ في تشييد المسجد الجامع حتّى صار من أجمل المساجد في العالم الإسلامي. وبقي المسجد على ذلك الحال إلى عام ٤٦ ، وفي ذلك العام ـ وكان في عهد الفاطميين ـ اندلع حريق عظيم في المسجد ... وقد احترق المسجد بعد ذلك ما يقارب ست مرّات آخرها كانت سنة ١٣١٠ ه ، وكما يشير الكاتب ، أنّ المسجد كان في البداية عبارة عن كنيسة بناها الامبراطور «كليودسيوس» (٢).

أمّا ابن عساكر الذي ألّف ثمانين كتاباً في تاريخ دمشق قال : إنّ أصل المسجد الجامع كان كنيسة للنصارى ، وبعد أن فتح المسلمون الشام أخذوا يصلّون في زواية منه

__________________

(١) معجم البلدان ج ٢ ص ٤٦٥ ـ ٤٦٦.

(٢) مراقد أهل البيت عليهم السلام ص ١٤.

٢١٧

بينما كان النصارى يصلّون في القسم البقيّة إلى أن استولى الوليد بن عبدالملك بن مروان على البقية وصار المسجد كلّه للمسلمين (١).

وقد وصف صاحب كتاب «زيارات الشام» مسجد الجامع في دمشق ، ومن ضمن الأُمور التي أشار إليها في كتابه هي «صخرة القربان» فقال : بالقرب من «باب الساعات» صخرة كبيرة كانوا يجعلون القرابين عليها.

ومن كلام لابن عساكر في تاريخه قال فيه : كانوا يجعلون القربان على الصخرة فإذا كان مقبولاً فإنّ النار تنزل من السماء وتحرقه ، أمّا إذا لم يكن مقبولاً فيبقى على حاله (٢) ، وقد ذكر ياقوت الحموي صاحب كتاب «معجم البلدان» هذا الكلام أيضاً.

ومن كلام لابن عساكر أيضاً في هذا المقام قال فيه : أنّ مسجد علي بن الحسين عليهما السلام معروف في مسجد الجامع وكان عليه السلام يصلّي في القسم الشمالي الشرقي من المسجد في كلّ يوم وليلة ألف ركعة (٣).

باحة المسجد

إنّ مساحة باحة المسجد في العصر الراهن تسع ١٥٣٢ متر مربع ، وفي هذه الباحة يوجد ٤٤ عموداً وبناء مكوّن من طبقتين ، وتنقسم هذه الباحة إلى ثلاثة أقسام في القسم المتوسّط منها هناك قبّة كبيرة تسمّى بـ «العقاب».

وهناك منبر داخل المسجد مشهور بأنّ الإمام السجّاد عليه السلام ارتقاه وخطب الناس خطبته المعروفة عندما أُدخلوا على الطاغية يزيد بن معاوية ، وفي الناحية الأُخرى من المسجد توجد قبّة صغيرة تعتمد على أربعة أعمدة ويعرف هذا المكان بمقام الإمام زين العابدين عليه السلام حيث نقل إنّه عليه السلام كان يستريح في هذا المكان.

__________________

(١) مهذّب تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١.

(٢) مهذّب تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١ ص ١٩٧.

(٣) مراقد أهل البيت في الشام ص ٧ ـ ١٥.

٢١٨

وإلى جنب المسجد المذكور ـ في الجهة الشرقية منه ـ يقع مقام رأس الإمام الحسين عليه السلام ـ وهو موضع زيارة يقصده الشيعة الموالون والمحبّون من شتّى أطراف العالم (١).

مقامات الأنبياء

١ ـ مقام رأس نبي الله يحيى عليه السلام : وفي هذا المسجد يوجد مقام رأس نبي الله يحيى عليه السلام ، أمّا موضع جسده الشريف كما في «منتخبات التواريخ» فهو في مسجد القلب في الزبداني وهي إحدى مدن سوريا.

ونقل صاحب «منتخبات التواريخ» أيضاً عن زيد بن واقد أنّه قال : عندما أرادوا بناء المسجد شاهدت رأس نبي الله يحيى عليه السلام أخرجوه من تحت أحد أركان القبّة وكانت محاسن الرأس الشريف بما فيها الشعر لم تتغيّر أصلاً.

وقال زيد بن واقد أيضاً : كنت مشرفاً على العمّال من قبل الوليد أيّام تشيّد المسجد ، وفجأة عثرنا على غار فنقلنا الخبر إلى الوليد وكان الوقت ليلاً فأخذوا الشموع أمامه ودخل الغار فوجدنا آثار إحدى الكنائس ومعها مصلّى صغيرين لعلّ مساحتهما ثلاث أذرع في ثلاثة أذرع ، وفي هذه الكنيسة يوجد صندوق صغير فتحه الوليد فوجد رأس نبي الله يحيى عليه السلام وقد وضع في سلّة وجعلت داخل الصندوق وكتب على السلّة : «هذا رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام» فأمر الوليد أن يرجع الرأس الشريف مكانه ويبنو فوق عموداً يتميّز عن بقيّة الأعمدة (٢).

ولا يخفى أنّ القرآن أشار إلى هذا العبد الصالح في بداية سورة مريم حيث قال

__________________

(١) شام سرزمين خاطره ها ص ٦٣.

(٢) من أراد الاطّلاع أكثر فليراجع كتاب مراقد البيت عليهم السلام في الشام تأليف آية الله السيّد أحمد الفهري الزنجاني.

٢١٩

تعالى : (كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا ...) (١) الخ ، وقد أُوتي هذا العظيم النبوّة في طفولته فقال عزّ من قائل : (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) (٢) ، وكان لنبي الله يحيى عند الله عزّوجلّ مقام عظيم ، وكما يشير الإمام الباقر عليه السلام في «الكافي» أنّه كلّما ذكر الله تعالى أجابه بـ «لبّيك يا يحيى» (٣).

وقد بكى هذا النبيّ عليه السلام من خشية الله تعالى إلى أن تساقط لحم وجهه فكان يضع القماش على وجهه حتّى لا تؤذيه الدموع إذا بكى (٤).

وبالاضافة إلى مرقد رأس نبي الله يحيى هناك الكثير من قبور الأنبياء في مسجد الشام ، وكما نقل صاحب «منتخب التواريخ» عن مؤلّف «روضة الأنام» أنّه قال : إنّ قبر نبي الله هود عليه السلام في الحائط الجنوبي من المسجد الجامع في مقابل مقام رأس نبي الله يحيى عليه السلام إلّا أنّه ليس له علامة ظاهرة تدلّ عليه وقد ذكر الكثير من مؤرخين الشام ذلك.

٢ ـ قبر نبي الله هود عليه السلام : نقل الهروي أيضاً في «الاشارات» أنّ قبر نبي الله هود عليه السلام في حائط في جهة قبلة المسجد ، وحسب قول البعض أنّ هناك حجراً بالقرب من قبره مكتوب عيه : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (٥) أنا هود بن الجلود ابن عاد بن عوص بن سام بن نوح ، جئتهم بالرسالة وبقيت فيهم مدّة عمر فكذّبوني فأخذهم الله بالريح العظيم (٦).

٣ ـ مقام الخضر عليه السلام :

كان نبي الله الخضر عليه السلام يصلّي دائماً في هذا المسجد ، وهو يقع من الجهة الشرقية

__________________

(١) سورة مريم : ١.

(٢) سورة مريم : ١٢.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٥٣٤ ح ٣٨.

(٤) للاطّلاع على المطلب أكثر راجع مراقد أهل البيت عليهم السلام في الشام.

(٥) سورة الإسراء : ٢٣.

(٦) مراقد أهل البيت عليهم السلام في الشام ص ٢٤.

٢٢٠