السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: الشيخ جاسم الأديب
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: انتشارات مكتب الحسين عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-91933-8-3
الصفحات: ٢٩٥

أيا جدّ هل تنظر حسيناً مرمّلاً

لأضلعه خيل العدة تحطّم

وهل تنظر السجّاد بالقيد مؤثّقاً

يضربه التكبيل سحباً ويشتم

أيا جدّنا هذي بناتك حسرا

أُسارى قرط ابن بنتك تقسم

أيا جدّنا ساقوا علياً مكبّلاً

لينظره الطاغي يزيد المزنم

فياعترة الهادي خذوها بمدحكم

مدبّجة كالدّر حين ينظم

على كلّ بيت للمديح يتيمة

بأسماع من يهواكم تتقسّم

تزفّ إليكم كلّ عشر محرّم

يتوق إليها الشاعر المترنّم

مديحاً لمحمود العزيزي عبدكم

له بأعاديكم من اللعن أسهم

موالي مواليكم معادي عدوّكم

مودّته في حبّكم لا تكتم

ويرجى بها يوم القيامة شربة

من الحوض يا أهل الشفاعة منكم

خذوا لي وآبائي وأُمّي ووالدي

أماناً من أذى النار وأرحم

ورهطي واخواني وقارئن مدحتي

ومستمعيها واعطفوا وترحّم

وفي الخلد نرجو تدخلونا بجاهكم

فليس لنا إلّا النبي وأنتم

صلاة وتسليم مساءً وبكرةً

من الله عدّ الذرّ تترى عليكم

١٦١

الفصل العاشر

شهادة السيّدة رقيّة

نقل المحدّث الخبير سماحة الشيخ عبّاس القمّي قدس سره عن كتاب «الكامل» للبهائي : أنّ نساء أهل البيت عليهم السلام أخفين على الأطفال شهادة آبائهم وقلن لهم : أنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد أن يدخلن داره وكان للإمام الحسين عليه السلام بنت صغيرة لها أربع سنين قامت ليلة من منامها وقالت : أين أبي الحسين عليه السلام فإنّي رأيته الساعة في المنام مضطرباً اضطراباً شديداً.

ولمّا سمعت النسوة ذلك بكين وبكى معهنّ سائر الأطفال وارتفع العويل ، فانتبه يزيد من نومه وقال : ما الخبر؟ ففحصوا عن الواقعة وقصّوا عليه ، فأمر أن يذهبوا برأس أبيها إليها ، فأتوا بالرأس الشريف وجعلوه في حجرها ، فقالت : ما هذا؟ قالوا : رأس أبيك ، ففزعت الصبية وصاحت فمرضت وتوفّيت في أيّامها بالشام (١).

وقال البعض : لعلّ القضيّة التالية كانت ليلة دفن هذه الطفلة المظلومة وهي : أنّ أهل البيت عليهم السلام رأوا السيّدة أُمّ كلثوم عليها السلام مضطربة فزعة لا قرار لها ، تبكي بكاءً مرّاً وتنوح بحرقة شديدة ، وكلّما حاولوا إسكاتها وتهدأتها كانت لا تهدأ ، فتساءلوا عن السبب في ذلك ، فقالت : في الليلة الماضية كانت في حجري ، وكانت تبكي بشدّة ولا يهدأ لها بال ، فتساءلت منها : ممّ بكاءك؟ قالت : عمّتي ألا يوجد في هذه المدينة يتيم أو أسير غيري؟ عمّتي ألا يعلم هؤلاء أنّنا مسلمون؟!

وإذا كانوا يعملون فلماذا يضيّقون علينا في الطعام والشراب ويحرمون الأيتام

__________________

(١) راجع كامل البهائي ج ٢ ص ١٧٩ ، معالي السبطين ج ٢ ص ١٧٠.

١٦٢

منهما؟

تقول السيّدة أُمّ كلثوم عليها السلام : منذ أن سمعت مصيبتها المشجية ودموعي تجري بلا انقطاع وقد فارغ النوم عيناي.

السيّدة رقيّة عليها السلام ترى والدها في المنام

نقل صاحب كتاب «مصباح الحرمين» (١) القضية التالية فقال : رأت طفلة للإمام الحسين عليه السلام في إحدى الليالي والدها في عالم الرؤيا فاسترّت برؤياه وتنعّمت بلقاءه خلال تلك اللحظات القصيرة التي وفّقت فيها لرؤيا سيّد الشهداء عليه السلام بعد شهادته.

وعندما استيقظت الطفلة من منامها ـ وللأسف الشديد ـ أحسّت أنّ كلّ ما رأته كان مجرّد رؤيا ولذلك فإنّها لم تتحمّل الواقع ، فقد غاب عنها والدها العزيز التي تنعّمت برؤياه قبل لحظات. فبقيت الطفلة تبكي بشدّة ، وكلّما حاول أهل البيت عليهم السلام تهدأتها لم يتمكّنوا ، ولمّا تساءلوا منها عن سبب بكاءها قالت : أين أبي ايتوني بوالدي وقرّة عيني.

آنذاك عرف الجميع أنّها رأت والدها في المنام فضجّ الجميع بالبكاء والعويل ونشرن العلويات شعورهنّ وأخذن يلطمن على وجوههنّ ويحثن التراب على رؤوسهنّ حزناً على سيّد الشهداء عليه السلام حتّى وصل صوت النائحة إلى أسماع يزيد الطاغية.

وفي رواية أُخرى أنّ طاهر بن عبدالله الدمشقي نديم يزيد الطاغية قال : كنت في أكثر الليالي أجلس مع يزيد وأُحدّثه واشغله بأحاديثي ، وفي إحدى الليالي بينما كنت أُحدّثه وقد مضى قسطاً من الليل التفت إليّ وقال : طاهر! أشعر بالوحشة والاضطراب والحزن وليس لي مزاج للحديث ، فادنوا منّي وخذ برأسي ولا تحدّثني عن أفعالي وجرائمي القبيحة. يقول طاهر : أخذت رأسه النحس وجعلته في حجري فنام اللعين وكان رأس سيّد الشهداء عليه السلام موضوعاً أمامه في طشت من ذهب.

ولم تمض ساعة إذا بصياح وبكاء أبناء الحسين عليه السلام يتعالى من خرابة الشام ، إلّا أنّ

__________________

(١) مؤلّف مصباح الحرمين هو عبدالجبّار بن زين العابدين الشكوئي.

١٦٣

اللعين لم يحسّ بشيء وبقيت مشدوهاً حائراً أُقلّب فكري وأتأمّل في عظمة الظلم الذي صبّه هذا الطاغية على ذرّية أميرالمؤمنين عليه السلام ، التفت إلى الرأس الشريف فوجدت الدموع تنهمر من عينيه ، تعجّبت كثيراً ، ثمّ أنّ الرأس الشريف نطق بصوت عالي يسمعه من كلّ على بعد أربعة أذرع وقال : اللهمّ هؤلاء أولادنا وأكبادنا وهؤلاء أصحابنا.

يقول طاهر : حينما شاهدت هذا المنظر غلبتني الوحشة والدهشة وأخذت أبكي ، ثمّ إنّني أشرفت من قصر يزيد ـ وقد كانت الخرابة خلفه ـ لأرى ما الحدث ، فلعلّ أحد أهل البيت عليهم السلام توفّي فأخذ البقية يبكون عليه.

حقّقت النظر فوجدت الأسارى محدقين بطفلة صغيرة كانت تحثو التراب على رأسها وتقول ، يا عمّتي ويا أُخت أبي أين أبي؟ أين أبي؟

تساءلت منهم ما الخبر؟ قالوا : طفلة للإمام الحسين عليه السلام رأت والدها في المنام والآن تبكي وتنوح وتقول : أُريد والدي. وهي لا تهدأ أبداً.

يقول طاهر : بعد أن شاهدت هذا المنظر المشجي رجعت إلى يزيد فوجدته قد استيقظ وهو ينظر إلى رأس سيّد الشهداء عليه السلام وهو يرجف كالورقة في الريح الشديدة من شدّة الخوف.

وفي ذلك الأثناء التفت الرأس الشريف إلى يزيد وقال : يابن معاوية ، ماذا صنعت لك حتّى تظلمني هكذا وتودع أهل بيتي في خرابة الشام.

ثمّ إنّ الرأس الشريف توجّه إلى الله الخبير اللطيف وقال : اللهمّ انتقم منه بما عمل بي وظلمني وأهلي (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (١).

كان الرأس يتحدّث بهذه الكلمات ويزيد اللعين يرتعد ويرجف حتّى كادت أضلاعه تلتصق ببعضها من شدّة الخوف.

ثمّ إنّ الطاغية تساءل عن بكاء أهل البيت عليهم السلام فأخبرته بالحدث ، فأشار على

__________________

(١) سورة الشعراء : ٢٢٧.

١٦٤

جلاوزته أن يأخذوا رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى الطفلة الصغيرة لتتسلّى به.

فأخذ جلاوزته الرأس المبارك إلى الخرابة وإذا بجميع النساء والأطفال يقبلون نحوهم ويأخذون الرأس منهم ثمّ جلسوا يبكون عليه خاصّة عقيلة الهاشميين زينب عليها السلام التي كانت تحول حول الرأس الشريف كما تحوم الفراشات حول الشمعة.

وبينما هم كذلك إذا بالسيّدة رقيّة تشاهد رأس أبيها وتقول : ما هذا الرأس؟ قالوا : هذا رأس أبيك فحملت الطفلة الرأس من الطشت وجعلته في حجرها وهي تبكي وتقول : أبتاه ، ليتني مت دونك ، أبتاه ليتني عميت قبل أن أراك على هذه الحالة ، أبتاه ليتني مت وكنت تحت التراب ولا أرى محاسنك مخضوبة بدمك ، فبقيت الطفلة تبكي وتقبّل الرأس وتنوح حتّى أُعمي عليها.

ولمّا حرّكوها وجدوها قد فارقت الدنيا وارتحلت إلى الملأ الأعلى مع جدّتها الطاهرة الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام.

وبوفاة الطفلة ضجّ كلّ من كان في الخرابة وتجدّد مصابهم من جديد.

أقول : ربما كانت هذه الطفلة التي ماتت في خرابة الشام هي السيّدة رقيّة عليها السلام بنت الإمام الحسين عليه السلام إذ أنّ المزار الشريف الموجود اليوم في خرابات الشام ينسب إليها هو معروف بمزار السيّدة رقيّة عليها السلام.

ولا يخفى أنّ وفاة هذه الطفلة وجميع القضايا المتعلّقة بها مثل أحاديثها مع السيّدة زينب عليها السلام وكيفية شهادتها ، وطريقة غسل السيّدة زينب وأُمّ كلثوم لها وغير ذلك قد دوّنت وحفظت للأجيال على مرّ الزمان لتبقى هذه المصيبة التي تهدّ الجبال وتصدع الصخور الصمّاء خالدة إلى يوم القيامة (١).

وقد ذكر البعض أنّ اسم هذه الطفلة كان زينب وقال البعض الآخر أنّ اسمها رقيّة وذهب جماعة أنّ اسمها سكينة. وذكر البعض أنّ يزيد اللعين أمر عمّاله أن يشيدوا عمارة

__________________

(١) منتخب التواريخ الباب الخامس ص ٢٩٩.

١٦٥

وينقشوا على جدرانها أحداث يوم عاشوراء وما جرى على الشهداء في ذلك اليوم العصيب فضلاً عن حال الأسارى والأطفال بعد استشهاد رجالهم وقد أسكنوا الأسارى فيها. فإن صحّ هذا القول فالله وحده أعلم ما هو حال أهل البيت عليهم السلام عندما شاهدوا هذه العمارة (١).

حرّ قلبي لزينب فكم مصابٍ

حملته بقلبها المستظام

طلب الطفلة التي أثكلتها

حسن نادت بلهفة المستهام

أخبريني أبي بأيّ مكان

ولماذا هنا يكون مقامي

فزعت من منامها وهي تدعو

والدي قد رأيته بالمنام

فبكت زينب وضجّ اليتاما

والأيامي من شدّة الآلام

وقال الرجس ياقوم ماذا

حلّ إنّ البكاء نغّص جامي

قالوا للسبط طفلة طلبته

إذ رأته بعالم الأحلام

قال سيروا لها برأس أبيها

كي تراه وذا عظيم اجترام

ولها أقبلوا برأس ابن بنت الـ

ـمصطغى سيّد الأُباة الكرام

حديث الرأس الشريف

يقول أية الله ميرزا حبيب الله شريف الكاشاني المتوفّى سنة ١٢٤٠ ه : أنّ امرأة من أهل الشام حملت حجراً ورمت رأس سيّد الشهداء عليه السلام وهو على الرمح وأذا بالرأس الشريف ينطق بلسان فيصيح ويقول : أنا المظلوم.

وقال الميرزا حبيب الله أيضاً : بينما كانت السيّدة زينب تنظر إلى رأس أخيها الحسين عليه السلام وإذا به يناديها قائلاً : أُختاه ، اصبري فإن الله معنا.

وفي كتاب سرّ الأسرار للشيخ عبدالكريم ص ٣٠٦ ، ومنهاج الدموع ص ٣٨٥ ، وكتاب العوالم ص ١٦٩ أنّ المنهال قال : أُقسم بالله تعالى أنّني رأيت رأس الإمام

__________________

(١) ناسخ التواريخ ـ حياة السيّدة زينب الكبرى عليها السلام ج ٢ ص ٤٥٦.

١٦٦

الحسين عليه السلام وهو مرفوع على القنا في الشام يقول أكثر من مرّة : لا حول ولا قوّة إلّا بالله.

محادثة بين الرأس والسيّدة رقيّة

ورد في كتاب «بحر الغرائب» قريب من المضامين التالية : أنّ الحارث وهو أحد قادة جيش يزيد نقل فقال : أمر يزيد أن نوقف أهل البيت عليهم السلام أمام دروازة الشام ثلاثة أيّام حتّى ينتهي الناس من تزيين المدينة ، وفي الليلة الأُولى وبعد أن خيّم الظلام ونام الجميع تظاهرت أنّني قد نمت فشاهدت طفلة صغيرة قد وقفت وهي تنظر العسكر فوجدتهم متعبين من الطريق وبعد المسافة فجلست على الأرض لحظات وهي خائفة ثمّ وقفت ثانية وتقدّمت خطوات نحو رأس الإمام الحسين عليه السلام الذي كان منصوباً على شجرة بالقرب من خرابة الشام ثمّ عادت خائفة وقد استمرّت على ذلك الحال تقوم وتقعد ، تتقدّم خطوات ثمّ ترجع إلى أن وقفت في الأخير تحت الشجرة وهي تنظر إلى الرأس وتخاطبه ودموعها تجري.

وما هي إلّا لحظات قليلة إذا بالرأس ينزل من على الشجرة حتّى وصل إلى مقابل الطفلة فخاطبته قائلة : السلام عليك يا أبتاه ، وا مصيبتاه بعد فراقك ، وا غربتاه بعد شهادتك.

وإذا بالرأس المقدّس يجيبها بالسان فصيح قائلاً : بنيّتي ، إنّ مصيبتك وشدّة المحن وضرب السياط وعذاب الأسر تنقضي بعد أيّام قليلة ، فإنّك صائرة إلينا عن قريب فاصبري لتنالي مقام الشفاعة : يقول الحارث : إنّ منزلي قريب من خرابة الشام لذلك كنت أنتظر متى ترحل هذه الطفلة من الدنيا إلى أن سمعت في إحدى الليالي صراخ وعويل وبكاء من خرابة الشام ، فتساءلت ما الخبر؟ قالوا : إنّ السيّدة رقية عليها السلام قد ماتت (١).

كما نقل حجّة الإسلام والمسلمين صدر الدين القزويني في الجلد الثاني من كتابه القيّم «ثمرات الحياة» فقال : إنّ السيّدة رقيّة عليها السلام جعلت فمها على فم سيّد الشهداء عليه السلام

__________________

(١) نقلاً عن كتاب حضرة رقيّة ص ٢٦.

١٦٧

وكان الرأس يقول لها : إليّ ، إليّ ، هلمّي ، فأنا لك بالانتظار ، ففارقت السيّدة رقيّة عليها السلام الدنيا على هذه الحالة.

سأبكي لبنت السبط فاطم قد غدت

قريحة جفن وهي تبكيه معولا

تحنّ فيشجي كلّ قلب حنينها

وتصدع من صمّ الصياخيد جندلا

تقول أبي أبكيك يا خير من مشى

ومن ركب الطرف الجواد المحجّلا

أبي كنت للدين الحنيفي موضّحاً

ومذ ثكلتك البيض أصبح مثكلا

أبي يا ثمال الأرملات وكهفها

إذا عاينت خطباً من الدهر معضلا

أبي يا ربيع المجد بين ومن به

يغاث من السقيا إذا الناس أمحلا

أبي يا غياث المستغيثين والذي

غداً لهم كنزاً وذخراً وموئلا

أبي إن سلا المشتاق أو وجد العزى

فإنّ فؤادي بعدك ما سلا

سأبيك تبكيك المحارب شجوها

وقد فقدت مفروضها والتنفّلا

سأبكيك تبكيك العقائد والنهى

سأبكيك تبكيك المحارم والعلا

سأبكيك تبكيك المناجاة في الدجى

سأبكيك يبكيك الكتاب مرتّلا

سأبكيك إذ تبكي عليه سكينة

ومدمعها كالغيث جاد وأسبلا

ونادت رباب أُمّتاه فأقبلت

وقد كضّها فقد الحسين وأثكلا

وقالت لها يا أُمّنا ما لوالدي

مضى مزمعاً عنّا الرحيل إلى البلا

أُنادي به يا والدي وهو لم يجب

وقد كان طلقاً ضاحكاً متهلّلا

أظنّ أبي قد حال عمّا عهدته

وإلّا فقد أمسى بنا متبدّلا

ألا أبتا قد شقّت البين شملنا

وجرعنا في الكأس صبراً وحنظلا

ونادى المنادي بالرحيل فقرّبوا

من الهاشميات الفواطم نزلا

وصار بها الحادي يغنّي مغرّداً

سل الدار عمّن قد نأى وترحّلا

تسير ورأس السبط يسري أمامها

كبدر الدجى وافى السعود فأكملا

فلهفي لها عن كربلا قد ترحّلت

مخلّفة أزكى الأنام وأنبلا

١٦٨

ولهفي لها بين العراق وجلق

إذ هو جلا خلفن قابلن هوجلا

ولهفي لها في أعنف السير والسرى

تأمّ زينب بالشآم مضلّلا

فلمّا رآها في حبائل سرّه

تهلّل مسروراً وأبدى التغزّلا

ونادى برأس السبط ينكث ثغره

وينشد أشعاراً بها قد تمثّلا

نفلّق هاماً من رجال أعزّه

علينا وهم كانوا أحقّ وأجملا

ألا فاعجبوا من ناكث ثغر سيداً

له أحمد يمسي ويضحى مقبلا

له عذّب الرحمن ماسح وابل

وعذّب أصحاب السقيفة أوّلا

أُولئك في يوم السقيفة أفسدوا

جميع الورى جيلاً فجيلاً لهم تلا

سجن أهل البيت عليهم السلام

في الخبر عن الشيخ الصدوق قدس سره أنّه عبّر عن خرابة الشام بالحبس والسجن إذ أنّ أهل البيت عليهم السلام حصروا فيها ومنعوا من ملاقاة الناس.

ونقل الشيخ الصدوق قدس سره في موضع آخر فقال : إنّ يزيد أمر بنساء الحسين عليه السلام ، فحبسن مع علي بن الحسين عليهما السلام في محبس لا يكنّهم من حرّ ولا قرّ ، حتّى تقشّرت وجوههنّ (١).

والمشهور أنّ السيّدة رقيّة عليها السلام استشهدت في هذه الخرابة ، أمّا كم عاشت فيها إلى يوم شهادتها فهذا ممّا لم يحرزه المؤرخون.

نعم ، إنّ ورود أهل البيت عليهم السلام الشام كما صرّح الكثير من المؤرخين كان في غرّة شهر صفر وشهادة السيّدة رقيّة عليها السلام في الخامس من صفر ممّا يدلّ على أنّها بقيت في الخرابة أربعة أيّام إلّا أنّ هناك أقوالاً أُخرى.

وقال الإمام السجّاد عليه السلام : عندما أودعونا خرابة الشام صبّوا علينا أنواع العذاب ، ففي أحد الأيّام رأيت عمّتي زينب عليها السلام قد جعلت «القدر» على النار فتساءلت منها

__________________

(١) أمالي الصدوق ص ١٠١.

١٦٩

وقلت : عمّة ما هذا القدر؟ قالت : إنّ الأطفال جياع فتظاهرت لهم بأنّني أصنع الغذاء لأُصبّرهم وأُخفّف عليهم آلامهم.

ونقل أيضاً أنّ الأطفال كانوا يطلبون من السيّدة زينب الماء والخبز حتّى رقّت لهم بعض النساء الشام وأتين لهم بالطعام (١).

وبالاضافة إلى كلّ هذه المصائب المؤلمة التي نزلت بالعقيلة زينب عليها السلام في خرابة الشام تأتي مصيبة السيّدة رقيّة عليها السلام التي أحرقت قلوب العلويات وأمضّت أفئدة أهل البيت عليهم السلام خاصّة السيّدة زينب عليها السلام التي تكفّلت بالعائلة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام.

حديث المغسّلة مع العقيلة زينب عليها السلام

ورد في بعض الأخبار أنّ المغسّلة عندما كانت تغسّل جسد السيّدة رقيّة عليها السلام ، تركت التغسيل فجأة وتساءلت قائلة : من هو كبير هؤلاء الأسرى؟

فأجابتها السيّدة زينب وقالت : ماذا تريدين؟

قالت المغسّلة : ماذا كان مرض هذه الطفلة حتّى أصبح جسدها هكذا؟

فأجابتها العقيلة عليها السلام : إنّ الطفلة لم تكن مريضة أنّها آثار السياط ، وطعنات كعب الرماح (٢).

وفي بعض الروايات أنّ يزيد اللعين أمر أن يأخذوا مصباحاً وصاجة من الخشب ليغسلوا السيّدة رقيّة عليها السلام عليها ويكفّنوها في ثوبها القديم الذي كان عليها (٣).

وفي نفس الوقت خرجت نساء الشام وهنّ لابسات السواد وقد ازدحمن من كلّ حدب وصوب يردن مشايعة أهل البيت عليهم السلام بعد أن علت أصواتهنّ بالنجيب والبكاء والصياح.

__________________

(١) زينب فروغ تابان كوثر ص ٢٦٦ نقلاً عن رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٨٦ ـ ١٩١.

(٢) زينب فروغ تابان كوثر ص ٣٦٦ نقلاً عن الوقائع والحوادث ج ٥ ص ٨١.

(٣) زينب فروغ تابان كوثر ص ٣٧٠ نقلاً عن خصائص الزينبية ص ٢٩٦.

١٧٠

آنذاك استفادت العقيلة زينب عليها السلام من هذه الفرصة الذهبية فأخرجت رأسها من المحمل وخاطبت أهل الشام قائلة :

يا أهل الشام ، لقد أودعناكم في هذه الخرابة أمانة ، فالله الله فيها ، يا أهل الشام تعاهدوا قبرها بالزيارة ، فهي غريبة لا أحد لها في هذه الديار ـ ولا تنسوا أن تريقوا الماء وتشعلوا المصابيح عند مرقدها الشريف (١).

سيّدتي جئتك بالكفن

نقل مدّاح أهل البيت عليهم السلام الحاج أسد الله سليماني فقال : إنّ كلّ من شاعر أهل البيت عليهم السلام الحاج غلام رضا سازگار ومداح أهل البيت عليهم السلام الحاج حسن ذوالفقاري نقلاً فقالا : سمعت القضية التالية من البعض فقال : خلال سفري إلى زيارة السيّدة رقيّة عليها السلام في الشام شاهدت طفلة صغيرة تقرأ الزيارة بحالة روحانية بحيث إنّني توجّهت إليها وبقيت أستمع إلى زيارتها.

وبعد أن فرغت الطفلة من الزيارة جاءت بقماش أبيض وأخذت تلفّه حول الضريح الشريف ثمّ إنّها أخذت ترمي البقية فوق الضريح لتغطّيه بالقماش ولكنّها لم تكن قادرة على ذلك فدنوت نحوها وتساءلت منها وقلت : ماذا تصنعين؟

وإذا بها تتكلّم باللغة الآذرية ، وبعد قليل جاءت الطفلة مع والديها فتساءلت منها وقلت : إنّ الجميع يأتون بالألعاب للسيّدة رقيّة عليها السلام ، فلماذا جئت أنت بالقماش؟

فقالت الطفلة : لقد سمعت من والديَّ أنّ السيّدة رقيّة عليها السلام ليس لها كفن فأتيت لها بالكفن.

سيّدتي طابت جروحك أم لا؟

نقل سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد عسكر الحيدري وهو من طلّاب

__________________

(١) زينب فروغ تابان كوثر ص ٣٧٠ نقلاً عن رياض القدس ج ٢ ص ٢٣٧.

١٧١

الحوزة الزينبية (١) في سوريا فقال : في عام ١٣٥٦ شمسي كنت أُصلّي في حرم السيّدة رقيّة عليها السلام وبعد الصلاة راعني الموقف التالي :

فقد شاهدت رجلاً طاعناً في السنّ من الأتراك التبريزيين وقد ألقى بنفسه على الضريح المبارك وهو يبكي وينوح حتّى ضجّ الناس لبكائه واعتلى صياحهم وبكائهم بشدّة.

كان الرجل يبكي بحرقة ويخاطب السيّدة رقيّة عليها السلام بلهجة الآذرية ، وحيث إنّني لا أعرف اللغة الآذرية تساءلت من البعض : ماذا يقول هذا الرجل؟

فقال : إنّه يقول : سيّدتي يا رقية ، إنّ أملي الوحيد منذ أمد بعيد أن آتي لزيارتك لا لكي يشفي ولدي أو يتحسّن وضعي المعيشي أو لتأخذي بيدي في يوم القيامة وإنّما جئت لأرى كيف حالك؟

سيّدتي أخبريني هل شُوفِيَ بدنك من الآلام؟ وهل طابت جروح قدميك؟ سيّدتي

__________________

(١) تأسّست الحوزة العلمية الزينبية في الشام على يد الشهيد السعيد سماحة السيّد المجاهد عن العقيد والدين آية الله السيّد حسن الشيرازي قدس سره.

وقد دعاني سماحته سنة ١٣٥٧ ه. ش في مكّة المكرّة وقد تشرّفت بخدمته كراراً وكان دائماً يوصيني بالخدمة الدينية علماً أنّه دعاني للقيام ببعض النشاطات الدينية في الشام إلّا أنّه ومع الأسف الشديد لم يتح أجله للقيام بذلك حيث إنّه قدس سره استشهد على يد البعثيين الذين اغتالوه في ١٦ جمادي الآخر ١٤٠٠ ه في بيروت ثمّ نقل جسده الشريف إلى طهران ومنها إلى قم فدفن في الحرم الشريف للسيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام.

أقول : في أيّام الفاطمية سنة ١٤١٨ ه وفي يوم ميلاد العقيلة زينب عليها السلام بالذات نقل أحد المقيمين في الشام المجاورين للسيّدة زينب عليها السلام لأحد مراجع قم فقال : رأيت في عالم الرؤيا أنّ السيّدة زينب عليها السلام جالسة في مكان ما بينما كان الشهيد السيّد حسن الشيرازي قدس سره يمرّ من جانبها ، فأشارت إليه العقيلة زينب عليها السلام وقالت : هذا الذي أخرجني من غربتي.

ويمكن أن يكون مرادها عليها السلام أنّ هذا السيّد بتأسيسه للحوزة العلمية وتشويقه على إحياء الشعائر في سوريا أخرجني من غربتي. (علي ربّاني الخلخالي).

١٧٢

فداك روحي ونفسي أخبرني هل طابت جروحك ، فأنا ذاهب إلى ايران ومن ثمّ إلى تبريز ، فإذا طابت جروحك أُخبر الناس ليجمعوا الذهب ويأتوا به إلى حرمك فرحاً بذلك.

وبقي ذلك الرجل يصيح ويبكي ويخاطب السيّدة رقيّة عليها السلام بمثل هذه الكلمات فقلت في نفسي : ياليت لي مثل هذه العقيدة والإخلاص.

أهل البيت عليهم السلام يقيمون العزاء في الشام

نقل أبو مخنف وغيره من المؤرخين : أنّ يزيد الطاغية بعد أن افتضح بجرائمه غيّر نهجه في تعامله مع أهل البيت عليهم السلام وخيّر الإمام زين العابدين عليه السلام بين البقاء في الشام والرحيل إلى مدينة جدّه رسول الله صلى الله عليه واله فقال الإمام عليه السلام : لابدّ أن أُشاور في ذلك عمّتي زينب فهي كفيلة الأيتام والأرامل ، وبعد أن خيّر الإمام السجّاد عمّته زينب بين الرحيل والبقاء قالت عليها السلام : والله لا أختار شيئاً على البقاء في مدينة جدّي رسول الله صلى الله عليه واله ، ولكن قل ليزيد أن يفرغ لنا الدار وأن لا يمنعوا أحداً من الدخول معنا لنقيم العزاء على قتلانا ، فلمّا خرجنا من كربلاء منعونا من البكاء وقادونا عنوة إلى الكوفة والشام ولم يتركونا كي نقيم العزاء على قتلانا.

وحيث إنّ يزيد خيّر الإمام السجّاد عليه السلام وتظاهر أنّه يريد لأهل البيت عليهم السلام لم يكن له بدّ من الاستجابة لطلب العقيلة عليها السلام ، وإلّا فهو يعرف أنّ هذا المجلس لن يخلو من ذكر فضائل أميرالمؤمنين وإحياء مناقب أهل البيت عليهم السلام والتسقيط من بني أُميّة قاطبة وبالتالي فإنّ الزحمات الكثيرة التي بذلها هو ووالده معاوية من أجل محو ذكر أهل البيت عليهم السلام في الشام ستذهب هدراً.

وبالفعل فقد أمر الطاغية أن تفرغ لأهل البيت عليهم السلام داراً وسيعة وأمر المنادي ينادي من أراد أن يشارك في عزاء أهل البيت عليهم السلام ويعزّي السيّدة زينب بمصابها فليأت.

وما أن انتشر الخبر ـ كما في كتاب العوالم ـ لم تبق هاشمية في الشام إلّا وشاركت في المجلس بل حتّى نساء بين أُميّة وبني مروان جئن إلى المجلس وكنّ مزيّنات بزينتهنّ

١٧٣

إلّا أنّهنّ لمّا رأين حال المجلس انكسرت قلوبهنّ فنزعنّ زينتهنّ ولبسن السواد وجلسن مع النساء الشاميات يبكين ويطلمنّ على وجوههنّ بل ونشرن شعورهنّ وأخذن يحثن التراب على الرؤوسهنّ حتّى ضجّ المجلس بالبكاء.

آنذاك ـ وكما في البحار ـ وقفت العقيلة زينب وجعلت ترثي أخاها الحسين عليه السلام فأنشدت بعض الأبيات أحرقت بها القولب العالمين من الأوّلين والآخرين إلى يوم القيامة.

ومن المصائب الموجعة التي ذكرتها السيّدة زينب عليها السلام في ذلك المجلس هي مخاطبتها نساء الشام فقالت : انظروا ماذا صنع الأشقياء بذرّية أمير المؤمنين عليه السلام وأي بلاء صبّوه على عترة الرسول صلى الله عليه واله.

يا نساء الشام! إنّكم لا تدرون ماذا صنعوا بنا يوم عاشوراء؟ فقد قتلوا أخي وأهل بيته وأصحابه والرضّع عطاشى.

وأنّكم لاتدورن كيف ماذا جرى على أهل البيت عليهم السلام من ظلمة الكوفة وأعوان ابن زياد الذين ساقوا الأطفال والمخدّرات يقدمهم الإمام السجّاد عليه السلام حجّة الله على الخلق طيلة هذا الطريق؟

فبقيت لا تدرون كيف ماذا جرى على أهل البيت عليهم السلام من ظلمة الكوفة وأعوان ابن زياد الذين ساقوا الأطفال والمخدّرات يقدمهم الإمام السجّاد عليه السلام حجّة الله على الخلق طيلة هذا الطريق؟

فبقيت العقيلة تعدّد المصائب والنساء يبكين ويندبن الشهداء وقد استمرّ المجلس مدّة اسبوع على هذا المنوال في كلّ يوم تذكر العقيلة مصائب أهل البيت عليهم السلام وتنال من يزيد وأعوانه الظلمة الذين لم يتورّعوا عن سفك دم سيّد الشهداء عليه السلام (١) وفي كتاب «بحر المصائب» : أنّ العقيلة زينب عندما عادت إلى مدينة جدّها رسول الله صلى الله عليه واله ذهبت إلى قبر والدتها في البقيع وأنشدتها بعض الأبيات أبكت بها أهل السماء والأرض.

وفي نظري أنّ الأشعار التالية تنسب إلى العقيلة زينب وهي :

أيا أُمّ قد قتل الحسين بكربلا

أيا أُمّ ركني قد هوى وتزلزلا

أيا أُمّ قد ألقى حبيبك بالعرا

طريحاً ذبيحاً بالدماء مغسّلا

__________________

(١) رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٩٣.

١٧٤

أيا أُمّ نوحي فالكريم على القنا

يلوح كالبدر المنير إذ انجلا

ونوحي على النحر الخضيب واسكبي

دموعاً على الخدّ التريب مرمّلا

وحينما سمعت نساء الشام هذه الأبيات أقبلن من كلّ جانب وأخذن يسلّين العقيلة زينب عليها السلام (١).

__________________

(١) رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٩٥.

١٧٥

الفصل الحادي عشر

حرم السيّدة رقيّة عليها السلام

أشرنا في بداية الكتاب أنّ عبدالوهاب بن أحمد الشافعي المصري المشهور بالشعراني والمتوفّى سنة «٩٧٣ ه ق» ذكر في كتابه «المنن» الباب العاشر فقال : وبالجنب من المسجد الجامع في دمشق يوجد مرقد بمرقد السيّدة رقية بنت الإمام الحسين عليه السلام وقد كتب على باب هذا المرقد العبارة التالية هذا البيت بقعة شرّفت بآل النبي صلى الله عليه واله وبنت الحسين الشهيد رقية عليها السلام (١).

وقد عمّر مرقد السيّدة رقيّة في القرون الأخيرة أكثر من مرّة ، ففي سنة ١٢٨٠ ه عمّر الحرم الشريف على يد أحد السادة الأجلّاء باسم السيّد مرتضى وقد ذكرنا قصّته في الفصل الأوّل من الكتاب.

وقبل التعمير الأخير الذي حصل في السنين الأخيرة عمّر المرقد الشريف على يد الميرزا على أصغر خان أتابك أمين السلطان الأعظم الصدر الأعظم لايران سنة ١٣٢٣ ه وقد نظم السيّد محسن الأمين العاملي المتوفّى عام ١٣٧١ ه أشعاراً ذكرهما في كتابه القيّم «أعيان الشيعة» منها هذين البيتين واللذين ذكر فيهما تاريخ تعمير المرقد الشريف علماً أنّ البيتين مكتوبين على باب الحرم الشريف وهما :

له ذو الرتبة العليا عليّ

وزير الصدر في ايران جدّد

وقد أرّختها تزهو بناءً

بقبر رقيّة من آل أحمد

وفي السنين الأخيرة نظراً لتوافد محبّي أهل البيت عليهم السلام إلى قبر السيّدة رقيّة عليها السلام

__________________

(١) معالي السبطين ج ٢ ص ١٦٢.

١٧٦

وضيق المحل تصدّى المرحوم المغفور له الشيخ نصر الله الخلخالي لتوسعة الحرم الشريف وبمساعدة العديد من الخيّرين والموالين وفّق لشراء البيوت المجاورة للحرم الشريف علماً أنّ البعض من أصحاب البيوت لتعصّبهم الشديد وكثرة أطماعهم الدنيوية رفضوا بيع بيوتهم.

وحيث إنّ تشييد هذا المرقد المبارك هو لإقامة العبادات وإحياء الشعائر وطاعة الله عزّوجلّ لم يلجأ المتصدّون في تعاملهم مع الذين رفضوا بيع بيوتهم إلى القوّة بل اشتروا البيوت منهم بأضعاف مضاعفة من قيمتها الواقعية.

الجدير بالذكر أنّ مساومة المتصدّين لتوسعة الحرم مع أصحاب هذه البيوت استمرّت مدّة طويلة وهم يماطلون ويعارضون بحيث إنّ جميع المنال المحيطة بالحرم كانت قد هدّمت ما عدا هذه البيوت القليلة التي رفض أصحابها بيعها وتخريبها.

على كلّ ففي سنة ١٣٦٤ ه المصادف لسنة ١٩٨٤ ميلادي شرع في تشييد الحرم الجديد للسيّدة رقيّة عليها السلام وذلك بمحضر بعض المسؤولين والوجهاء في الحكومة السورية فضلاً عن بعض العلماء ورجال الذين شاركوا في افتتاح تشييد الحرم الشريف.

وحتّى يكون البناء محكماً فقد غيّر مسير النهر الذي كان يمرّ داخل الحرم الشريف وجه إلى خارج المرقد وقد استغرق ذلك خمسة أشهر وبعدها شرعوا بتثبيت القواعد الأساسية للبناء.

وبانتهاء التعمير الأخير للحرم أصبحت مساحة البناء ٤٥٠٠ متر مربّع تقريباً منها ما يقارب ٦٠٠ متر مربع بناء باحة الحرم ، والباقي البناء الداخلي ، ففي الجهة الجنوبية للبناء بني مسجداً تقارب مساحته ٨٠٠ متر مربع (٢٠×٤٠) ، وأمّا سعة الحرم بالاضافة إلى الأورقة في البناء الجديد فهي ٢٦٠٠ متر مربّع تقريباً جزى الله تعالى كلّ من سعى في تميره وزاد الله في توفيقاتهم إله الحقّ آمين.

١٧٧

زيارة السيّدة رقيّة

بِسْمِ اللهِ الْرَحْمَنِ الرَّحِيمِ

السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا سَيِّدَتَنَا رُقَيَّةَ عَلَيْكِ تَحِيَّةً وَالسَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا بِنْتَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنِ اَبِي طَالِبٍ السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا بِنْتَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا بِنْتَ خَدِيجَةَ الْكُبْرىٰ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمؤْمِنَاتِ السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا بِنْتَ وَلِيِّ اللهِ السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا أُخْتَ وَلِيِّ اللهِ السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا بِنْتَ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الصِّدِّيقَةُ الشَّهِيدَةُ السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الرَّضِيَّةُ الْمَرْضِيَّةُ السَّلَامُ عَلَيْكِ أيَّتُهَا التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الزَّكِيَّةُ الفَاضِلَةُ السَّلَامُ عَلَيْكِ أَيَّتُهَا الُمَظْلُومَةُ الْبَهِيَّةُ صَلّىٰ اللهُ عَلَيْكِ وَعَلىٰ رُوحِكِ وَبَدَنَكِ فَجَعَلَ اللهُ مَنْزِلَكِ وَمأْوَاكِ فِي الجَنَّةِ مَعَ آبَائِكِ وأَجْدَادِكِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ الْمَعْصُومِينَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ الْحَافِّينَ حَوْلَ حَرَمُكِ الشَّرِيفِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَصَلّىٰ اللهُ عَلىٰ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا اَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

عودة السبايا إلى المدينة

اختلف المؤرخون والكتّاب في مدّة بقاء أهل البيت عليهم السلام في الشام ، فذهب كلّ واحد منهم إلى رأى وقول واستقرب كلّ منهم مدّة معيّنة حسب بعض القرائن التي يرتضيها.

ففي «طراز المذهب» نقل عن السيّد الطباطبائي أعلى الله مقامه أنّه قال في حاشية رياض المصائب : أنّ مدّة بقاء أهل البيت عليهم السلام في الشام أربعين يوماً ، وذهب الميلاني نقلاً عن الكاشفي أنّهم عليهم السلام بقوا ستّة أشهر ونسب ذلك إلى ابن بابويه قدس سره.

وقال المؤلّف «مفتاح البكاء ومهيّج الأحزان» أنّهم بقوا ثمانية عشر يوماً ، وقال البعض : إنّهم لم يبقوا إلّا عشرة أيّام والله العالم.

وعل أيّة حال ، فإنّ يزيد اللعين حينما أحسّ بالخطر وتوقّع الفتنة حيث أخذ أهل الشام يلعنونه عمد إلى تخيّر أهل البيت عليهم السلام بين البقاء في الشام والرحيل إلى مدينة

١٧٨

جدّهم رسول الله صلى الله عليه العقيلة زينب عليها السلام وقالت : ردّنا إلى المدينة فإنّها محلّ هجرة جدّنا رسول الله صلى الله عليه واله.

فأشار يزيد اللعين على صحابي رسول الله صلى الله عليه واله النعمان بن بشير ومعه ثلاثة رجال أن يرافقوا قافلة أهل البيت عليهم السلام في مسيرها إلى المدينة ، وفي بعض الأخبار أنّه بعث مع النعمان خمسمائة فارس من جنوده وأمرهم أن يوصلوا أهل البيت عليهم السلام إلى المدينة.

كما هيّأ يزيد وسائل السفر واحتياجاته وأشار على جماعته أن يسمعوا لأهل البيت عليهم السلام في سفرهم ويكونوا تحت اختيارهم ، فمتى أرادوا النزول ينزلوا معهم ، ومتى أرادوا المسيرة يسيروا ، وقد أمر رجاله أن يبتعدوا في مسيرهم عن القافلة كي لا يزاحموا العلويات المخدّرات (١).

من جانب آخر فإنّ يزيد اللعين أمر أن يعطى أهل البيت عليهم السلام الكثير من الأموال والإبل ثمّ خاطب العقيلة زينب عليها السلام وأُمّ كلثوم وقال : هذه الأموال عوض دماء الإمام الحسين عليه السلام فأجابته العقيلة في نفس الوقت وقالت : ويلك يايزيد : ما أقلّ حياءك وأقسى قلبك وأصلب وجهك تقتل أخي وتقول : خذوا عوضه مالاً ، لا والله لا يكون ذلك ، فخجل يزيد.

وقال أبو مخنف وغيره من المؤرخين : أنّ يزيد طيّب رأس سيّد الشهداء عليه السلام بالمسك والكافور وأعطاه للإمام زين العابدين عليه السلام فأخذه معه إلى كربلاء المقدّسة ودفنه إلى جانب الجسد الشريف.

وفي الأمالي للشيخ الصدوق قدس سره قال : بعد أن قتل الإمام الحسين عليه السلام بقيت الآثار السماوية ولم تذهب هذه الآثار إلى أن خرج أهل البيت عليهم السلام من الشام وأعادوا الرأس الشريف وألحقوه بالجسد الشريف.

وقال أبو إسحاق الاسفرايني في كتاب «نور العين» وغيره من أمثاله من الموالين

__________________

(١) ناسخ التواريخ للمؤرخ الشهير عبّاس علي خان سپهر ج ٢ ص ٤٧٣.

١٧٩

الخلّص : أنّ الرأس الشريف أُعيد إلى كربلاء وأُلحق بالجسد الطاهر.

وبالجملة : فقد أمر يزيد أن تزيّن محامل أهل البيت عليهم السلام بالديباج بعد أن أوقفهم ثلاثة أيّام على بوّابة قصره تحت حرّ الهجير الحارقة حتّى تساقطت جلودهم ولحومهم من الحرّ والبقاء على المحامل الهزيلة وهم مقيّدين بالقيود والحبال.

فلمّا أحسّ يزيد اللعين بالخطر وشدّة الموقف تظاهر على أنّه يريد تلافي ما صنعه في البداية بأهل البيت عليهم السلام من التعذيب والإيذاء وذلك بعد أن أبرد غليله وأطفأ نار أحقاده الدفينة ضدّ الرسول صلى الله عليه واله وعترته الطاهرة عليهم السلام.

وفي واقع الأمر أنّ سخط الناس على يزيد بما فيهم المقرّبين من أهل بيته وعياله وغلمانه هو الذي جعل يتظاهر بالمحبّة والعطف لأهل البيت عليهم السلام ويقدّم لهم الأموال الطائلة ويوصي قادة القافلة أن يوصلوهم إلى المدينة معزّزين مكرّمين.

ولذلك فإنّ يزيد أرسل مع أهل البيت عليهم السلام من يرافقهم بعد أن أوصاه أن لا يقصّر لحظة عن خدمتهم واحترامهم في مسيرهم حتّى يوصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه واله.

ناهيك أنّه هيّأ لهم مستلزمات السفر على أحسن وجه وسمح لنساء الشام أن يرتدين السواد ويخرجن مع الرجال لمشايعة القافلة.

وبعد أن خرج الإمام زين العابدين عليه السلام من مجلس يزيد أمر القافلة أن تخرج فخرجت العلويات المخدّرات وخرجت نساء آل أبي سفيان وبنات وزوجاته صارخات باكيات بأعلى أصواتهنّ.

يقول البعض : عندما رأت العقيلة زينب عليها السلام المحامل المزيّنة تأوّهت وجذبت في قلبها حسرة وقالت : ماذا نصنع بالمحامل المزيّنة؟!

فأمروا بالمحامل وضربوا عليها السواد وضجّ الناس لهذا المنظر واعتلى بكاءهم وعويلهم حزناً لمصاب أهل البيت عليهم السلام.

وقيل : إنّ أهل البيت عليهم السلام عندما أرادوا أن يركبوا المحامل تذكّروا يوم خروجهم من المدينة ، وبكوا بشدّة وكان الإمام السجّاد عليه السلام يصبّرهم ويسلّيهم.

١٨٠