السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام

الشيخ علي ربّاني الخلخالي

السيّدة رقيّة بنت الإمام الحسين عليه السلام

المؤلف:

الشيخ علي ربّاني الخلخالي


المترجم: الشيخ جاسم الأديب
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: انتشارات مكتب الحسين عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٢
ISBN: 964-91933-8-3
الصفحات: ٢٩٥

وكيف لا تقول ذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرّية آل محمّد ونجوم الأرض من آل عبدالمطّلب؟!

أتهتف بأشياخك؟ زعمت تناديهم ، فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّنّ أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت.

اللهمّ خذ بحقّنا ، وانتقم ممّن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا وقتل حماتنا. فوالله ما فريت إلّا جلدك ولا جززت إلّا لحمك ، ولتردنّ على رسول الله صلى الله عليه واله بما تحمّلت من سفك دماء ذرّيته وانتهاك حرمته في لحمته وعترته ، وليخاصمنّك حيث يجمع الله تعالى شملهم ، ويلمّ شعثهم ، ويأخذ لهم بحقّهم (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١). فحسبك بالله حاكماً ، وبمحمّد خصماً وبجبرائيل ظهيراً ، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين ، أن بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً.

ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك ، فإنّي لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكبر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدر حرّى.

ألا فالعجب كلّ العجب بقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء ، فتلك الأيدي تنظف من دمائنا ، وتلك الأفواه تتحلّب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تتنابها العواسل وتعفوها الذئاب ، وتؤمّها الفراعل ، ولئن اتّخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك ، وأنّ الله ليس بظلّام للعبيد ، فإلى الله المشتكى ، وعليه المعوّل.

فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لاتمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها ، ولا تغيب شنارها ، فهل رأيك إلّا فند وأيّامك إلّا عدد ، وشملك إلّا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين.

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩.

١٢١

فالحمدلله الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والرحمة ، ولآخرنا بالشهادة والمغفرة.

وأسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، وحسن المآب ، ويختم بنا الشرافة ، إنّه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، نعم المولى ونم النصير» (١).

الإمام الباقر يعظ يزيد

حينما أُدخل أهل البيت عليهم السلام مجلس يزيد أخذ اللعين يتجاسر عليهم ويقول لجماعته : لقد أمرت بقتل كافّة رجالهم ، فلم يبق سوى هؤلاء النسوة والأطفال المقيّدين ، فماذا تشيرون أن أفعل بهم؟ فقال الجميع وبلا تردّد : مر بقتلهم كي لا يبقى من نسل علي أحد فوق الأرض.

آنذاك قام الإمام الباقر وكان إمّا عمره سنتين وشهور أو خمس سنوات وكان مع الأسارى مقيّداً فحمد الله وأثنى عليه وقال : يزيد لي أن أتكلم.

فتعجّب اللعين من جرأته وجسارته وقال : قل ماذا تريد؟

فقال الإمام عليه السلام : لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه حيث شاورهم في موسى وهارون ، فإنّهم قالوا له : أرجه وأخاه ، وقد أشار هؤلاء بقتلنا ، ولهذا سبب. فقال يزيد : وما السبب؟ فقال عليه السلام : إنّ هؤلاء كانوا الرشدة وهؤلاء لغير رشدة ، ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلّا أولاد الأدعياء فأمسك يزيد مطرقاً (٢).

وأفظع الكلّ دخول الطاهرة

حاسرة على ابن هند العاهرة

وما لها ومجلس الشراب

وهي ابنة السنّة والكتاب

__________________

(١) مقتل الخوارزمي ٢ / ٦٣ ، وانظر : مثير الأحزان : ١٠١ ، الملهوف : ٢١٥ ، الاحتجاج ٢ / ١٢٣ ، الحدائق الوردية لحميد بن زيد اليماني ، بحار الأنوار ٤٥ / ١٣٣ ، أعلام النساء ٢ / ٩٥ لعمر رضا كحالة ، وغيرهم. المترجم.

(٢) إثبات الوصيّة ص ١٤٥.

١٢٢

أتوقف الحرّة من آل العبا

بين يدي طليقها وا عجبا

يشتمها طاغية الإلحاد

وهي سلالة النبي الهادي

بل سمعت من ذلك اللعين

سبّ أبيها وهو أصل الدين

أتنسب الطاهرة الصدّيقة

للكذب وهي أصدق الخليقة

أصفوة الولي نخبة النبي

عدوّة الله فيا للعجب

وا حرّ قلباه لقلب الحرّة

فما رأته لا أطيق ذكره

شلّت يد مدّت بقرع العود

إلى ثنايا العدل والتوحيد

تلك الثنايا مرشف الرسول

ومثلم الطاهرة البتول

وما جناه باللسان أعظم

وكفره المكنون منه يعلم

وقد أبانت كفر ذاك الطاغي

بأحسن البيان والبلاغ

حنّت بقلب موجع محترق

على أخيها فأجابها الشقي

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون النوح على النوائح

خطبة الإمام السجّاد عليه السلام

لا يخفى أنّ لدخول أهل البيت عليهم السلام الشام أثراً كبيراً في افتضاح يزيد وكشف ألا عيبه الخفية التي كانت منطلية على البسطاء من الناس.

ففي أحد الأيّام طلب الإمام السجّاد عليه السلام من يزيد أن يأذن له كي يخطب في الناس في إحدى الجمع فأذن له.

وفي يوم الجمعة أمر الطاغية أحد الوعّاظ ـ الذين اشتروا سخط الله برضا المخلوق ـ أن يصعد المنبر وينال من الإمام علي عليه السلام وأولاده ويمدح آل أبي سفيان ويثني عليهم.

وفي ذلك الحال طلب الإمام عليه السلام من يزيد أن يفي بوعده إلّا أنّه أخذ يتهرّب ويراوغ وكان ابنه معاوية حاضراً فقال له : دعه يصعد المنبر ، فما يحسن هذا الغلام؟!

١٢٣

فقال يزيد : إنّك لا تعرف من هذا إنّه من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً ، وهو لا ينزل إلّا بفيضحتي وفيضحة آل أبي سفيان وأخاف أن يحصل من خطبته فتنة علينا (١) ، فأصرّ الناس عليه أن يأذن له فأذن ، فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وقال :

«أيّها الناس ، أُعطينا ستّاً وفضّلنا بسبع ، أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبّة في قلوب المؤمنين ، وفضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّداً صلى الله عليه واله ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيّار ، ومنّا أسد الله وأسد الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة.

فمن عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي.

أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن زمزم والصفا ، أنا ابن مَن حمل الزكاة بأطراف الرداء ، أنا ابن خير من ائترز وارتدى ، ، أنا ابن خير من انتعل واحتفى ، أنا ابن خير من طاف وسعى ، أنا ابن خير من حجّ ولبّى ، أنا ابن من حُمل على البراق في الهواء ، أنا ابن من أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى ، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى ، أنا ابن من دنا فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى ، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى ، أنا ابن محمّد المصطفى.

أنا ابن علي المرتضى ، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتّى قالوا لا إله إلّا الله ، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلّى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين. أنا ابن صالح المؤمنين ، ووارث النببيّين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، ونور المجاهدين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ورسول ربّ العالمين ، أنا ابن المؤيّد بجبرائيل ، والمنصور

__________________

(١) راجع نفس المهموم ص ٤٥٠.

١٢٤

بميكائيل ، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبير المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين ، ناصر دين الله ووليّ أمر الله ، وبستان حكمة الله ، وعيبة علم الله ، سمح سخيّ ، بهلول زكيّ أبطحيّ ، رضيّ مرضيّ ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرّق الأحزاب ، أربطهم جناناً ، وأطبقهم عناناً ، وأجرأهم لساناً ، وأمضاهم عزيمة ، وأشدّهم شكيمة ، أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة ، طحن الرحى ، ويذروهم ذرو الريح الهشيم ، ليث الحجاز ، وصاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنصّ والاستحقاق ، مكّيّ مدنيّ ، أبطحيّ تهاميّ ، خيفيّ عقبيّ ، بدري أُحدي ، شجري مهاجري ، من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها ، وارث المشعرين ، وأبو السبطين الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرّق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ، غالب كلّ غالب ، ذاك جدّي علي بن أبي طالب.

أنا ابن فاطمة الزهراء ، أنا ابن سيّدة النساء ، أنا ابن الطهر البتول أنا ابن بضعة الرسول.

قال : ولم يزل يقول «أنا أنا» حتّى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب ، وخشي يزيد أن تكون فتنة ، فأمر المؤذّن أن يؤذّن فقطع عليه الكلام وسكت.

فلمّا قال المؤذّن : «الله أكبر» قال علي بن الحسين :

كبّرت كبيراً لا يقاس ولا يدرك بالحواس ، لا شيء أكبر من الله.

فلمّا قال : «أشهد أن لا إله إلّا الله» قال الإمام السجّاد عليه السلام :

شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعظمي.

فلمّا قال : «أشهد أنّ محمّداً رسول الله صلى الله عليه واله» التفت الإمام السجّاد من أعلى المنبر

١٢٥

إلى يزيد وقال :

يا يزيد ، محمّد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت ، وإن قتل إنّه جدّي فلِمَ قتلت عترته؟

ولمّا فرغ المؤذّن من الأذان والإقامة ، تقدّم يزيد وصلّى صلاة الظهر.

روى الخطبة أرباب السير والتاريخ ، فمنهم من ذكرها تفصيلاً كابن أعثم (١) والخوارزمي (٢) ومحمّد بن أبي طالب (٣) ومنهم من ذكر معظمها كابن شهر آشوب (٤) والمجلسي (٥) ومنهم من ذكر بعضها مثل أبي الفرج الأصفهاني (٦) ومنهم من أشار إليها واكتفى بذكر مقدّمتها مثل ابن نما والسيّد ابن طاووس (٧).

يزيد يتبرّأ من جناياته

عندما افتضح يزيد الطاغية أمام الملأ العام واطّلع الناس على سوء جناياته وأفعاله القبيحة لجأ إلى العوبة جديدة أراد أن يغطّي بها مساوئه ألا وهي التبرّي من قتل الإمام الحسين عليه السلام والقاء العبأ واللوم على العسكر.

ولذلك فقد أحضر أُمراء العسكر أمثال شبث بن ربعي ، ومصائب بن وهيبة ، وشمر ابن ذي الجوشن ، وسنان بن أنس ، وخولي بن يزيد ، وقيس بن ربيع وغيرهم وبدأ يحاسبهم واحداً بعد الآخر.

__________________

(١) الفتوح ٢ / ١٨٥.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ٦٩.

(٣) تسلية المجالس ٢ / ٣٩١ ، عن صاحب المناقب (بحار الأنوار ٤٥ / ١٣٧) وغيرهم.

(٤) المناقب ٤ / ١٦٨ ، الاحتجاج ٢ / ١٣٢ ، عنه بحار الأنوار ٤٥ / ١٦١ ح ٦.

(٥) بحار الأنوار ٤٥ / ١٦١ ح ٦.

(٦) مقاتل الطالبيين : ١٢١.

(٧) مثير الأحزان : ١٠٢ ، الملهوف : ١٩.

١٢٦

ففي البدء التفت إلى قيس بن ربيع وقال : أنت قتلت الحسين بن علي عليه السلام فأجابه قائلاً : أنا لم أقتله أبداً ، ولعنة الله على قاتله.

فقال يزيد : من قتله؟ قال : مصائب.

وإذا بيزيد يلتفت إلى مصائب ويقول : أنت قتلت الحسين بن علي؟ فأجابه مثل جواب صاحبه ، ثمّ تداول الأمر كلّ يلقي باللوم على صاحبه إلى أن وصل الأمر إلى خولي الذي حار ماذا يجيب يزيد ، فالكلّ ينظر إليه شرزاً ، وفجأة اتّفق الجميع على جواب واحد وقالوا : إنّ قاتل الحسين بن علي عليه السلام هو قيس بن ربيع.

فالتفت إليه يزيد وخاطبه بكلّ خشونة وقال : أأنت قتلت الحسين؟! فقال قيس : إنّني أعرف قاتله جيّداً ولن أقول من هو إلّا بعد أن يتفضّل عليَّ الأمير بالأمان.

وبعد أن أعطاه يزيد الأمان قال : إنّ قاتل الحسين بن علي هو من جيّش الجيوش ورفع راية الحرب ضدّه ، فتساءل يزيد قائلاً : ومن هو؟ فقال قيس : أنت يايزيد فانتفض يزيد من كلامه وترك المجلس قاصداً منزله ، ولمّا دخل الدار أخذ رأس سيّد الشهداء عليه السلام وجعله في طشت من ذهب ولفّه في قطعة من القماش واحتفظ به في غرفته الخاصّة.

ثمّ إنّه أخذ يلطم على رأسه ويقول : «ما لي ولقتل الحسين» (١).

يقول الملّا حسين الكاشفي في كتابه «روضة الشهداء» إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام لمّا طلب من يزيد أن يسلّمه قاتل أبيه ليقتصّ منه أخذ قتلة الإمام الحسين عليه السلام يتبرّؤون من قتله ويلقي كلّ منهم باللوم على صاحب إلى أن وصل الأمر إلى شمر اللعين فاتّهم يزيداً بقتل سيّد الشهداء عليه السلام (٢).

تجدّد المآسي في الشام

نقل عن كتاب «بحر المصائب» أنّه لمّا أُودع أهل البيت عليه السلام في خرابة الشام كان

__________________

(١) اكسير العبادات في أسرار الشهادات ج ٣ ص ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

(٢) راجع مقتل أبي مخنف ص ٢١٨ ـ ٢٢٠.

١٢٧

هناك ثمانية عشر طفلاً وطفلة تضوّرون من شدّة الجوع والعطش وكلّهم يطلب الغوث والمساعدة من العقيلة زينب عليها السلام.

وفي أحد الأيّام طلب أحد الأطفال ماءً ، فأحضرت إليه إحدى الشاميات قدحاً وخاطبة العقيلة قائلة : بالله عليك إلّا ما أذنت لي أن أسقيه بيدي ، فإنّ رعاية الأيتام توجب قضاء الحوائج وحصول المرام.

فتساءلت منها العقيلة وقالت : ما هي حاجتك؟

قالت : إنّني من خدمة الصدّيقة الزهراء عليها السلام ، وقد سكنت هذه البلاد ، ومنذ أمد بعيد ليس لي خبر من أهل البيت عليهم السلام ، فكم إنّني مشتاقة لرؤيا سادتي وموالي : زينب بنت علي والحسين بن علي ، فلعلّ الله ببركة دعاء هذا الطفل يقضي حاجتي ويمنّ عليّ بخدمتهم في بقيّة أيّام حياتي؟!

ولمّا سمعت العقيلة منها هذا الكلام ضجّت بالبكاء وتأوّهت واجتذبت حسرة وقالت : يا أمة الله ، لقد قضى الله حاجتك ، ها أنا زينب بنت أميرالمؤمنين عليه السلام ، وهذا رأس الحسين عليه السلام على باب دار يزيد.

يقول البعض : عندما سمعت الشامية من العقيلة هذا الكلام أُسقط في يدها وصرخت صرخة ثمّ سقطت مغشيّاً عليها.

ولمّا أفاقت أخذت تنعى الإمام الحسين عليه السلام منادية : واحسيناه ، واسيّداه ، وا إماماه وا غريباه ، وا قتيلاً فأبكت ببكائها كلّ صديق وعدو (١).

نذر امرأة

ورد في كتاب «بحر المصائب» أيضاً أنّ امرأة جاءت عند العقيلة زينب عليها السلام وقدّمت إليها طبقاً فيه طعام إلّا أنّ عقيلة الهاشميين تصوّرت أنّه صدقة وقالت : ألا تعلمين أنّ الصدقة حرام علينا أهل البيت عليهم السلام؟! فأجابتها المرأة قائلة : والله ليس هذا بصدقة ،

__________________

(١) رياحين الشريعة للعلّامة الشيخ ذبيح الله محلاتي المتوفّى سنة ١٤٠٦ ه ج ٢ ص ١٨٧.

١٢٨

وإنّما هو نذر للأسارى والغرباء.

فتساءلت العقيلة عليها السلام الهاشمية منها وقالت : ولماذا الأسارى والغرباء بالذات؟!

فقالت المرأة : أيّام طفولتي كنت أعيش في مدينة الرسول صلى الله عليه واله وقد ابتليت بمرض صعب العلاج عجز الأطبّاء الحاذقون عن علاجه.

وحيث إنّ والدي من الموالين لأهل البيت عليهم السلام فقد أخذاني إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام وطلبا من الصدّيقة الزهراء أن تتوسّل إلى الله في شفائي. وبينما هم كذلك إذا بالإمام الحسين عليه السلام يقبل فأشار عليه والده أمير المؤمنين عليه السلام أن يمسح بيده المباركة على رأسي ثمّ يرفع يديه بالدعاء ويتوسّل إلى الله تعالى في شفائي.

وما أن مسح الإمام الحسين عليه السلام يده المباركة على رأسي ورفع يديه بالدعاء لشفائي وإذا بصحّتي تتحسّن وتذهب آلامي تماماً وإلى اليوم لم أر مرضاً قطّ.

واليوم وبعد أن جار علينا الزمان أصبحت غريبة في هذه الديار وقد فرّق الدهر بيني وبين سادتي وموالي أهل البيت عليهم السلام ولذا فقد نذرت وتعاهدت مع الله تعالى إنّني متى ما رأيت غريباً أو أسيراً أُحسن إليه وأطلب من الله تعالى مقابل ذلك سلامة سيّدي ومولاي أبي عبدالله الحسين عليه السلام الذي أسأل الله أن يمنّ عليّ بلقائه والتشرّف بزيارته.

ولمّا سمعت العقيلة زينب عليها السلام منها هذا الكلام تأوّهت وارتفع صوتها بالبكاء وقالت : يا أمة الله اعلمي أنّ ساعات انتظارك قد ولّت وأنّ نذرك قد تحقّق ، أليس كنت تتمنّين رؤيا أهل البيت عليهم السلام فهؤلاء الأسارى هم أهل البيت عليهم السلام ، وأنا زينب بنت أمير المؤمنين عليها السلام ، وذاك رأس الحسين بن علي عليه السلام منصوباً على دار يزيد.

وحيث إنّ المرأة لم تكن تتوقّع أنّ الزمان سيجور على أهل البيت عليهم السلام هكذا فقد أسقط في يدها وخرّت مغشيّاً عليها ـ وبعد أن أفاقت ـ رمت بنفسها على قدمي العقيلة زينب عليها السلام وأخذت تقبّلهما وهي تبكي وتقول : وا سيّداه ، وا إماماه ، وا غريباه (١).

__________________

(١) رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٨٨.

١٢٩

وأمست بنات الوحي بعد حماتها

وفتيانها بين المضلّين مغنما

إذا استنجدت في قومها الصيد لم تجد

برغم العلى غير العليل لها حما

وزينب تدعو والشجا ملؤ قلبها

أخاها ودمع العين ينهل عن دما

لقد كان دهري فيك بالأمس مشرقاً

فها هو أمسى بعدك اليوم مظلما

امرأة يزيد تزور الأسارى

اختلف المؤرخّون في نقل هذه القضيّة ، فالبعض منهم قال : إنّ زوجة يزيد بنت عبدالله بن كريز عندما سمعت صوت العقيلة زينب عليها السلام في مجلس يزيد ذهلت لعظم المصاب ودخلت المجلس حاسرة الرأس فألقى يزيد ردائه على رأسها. وقد وبّخت يزيد ونالت منه لفعله الشنيع بشدّة حتّى حار ماذا يجيبها فأشار عليها أن تدخل وتنعى الإمام الحسين عليه السلام وتبكي عليه.

ونقل بعض المؤرخين قصّة مجيئها إلى خرابة الشام بكيفية أُخرى لم أجد لهذا النقل مصدر معيّن ولذا فقد أعرضت عن نقل القضية وآثرت الاقتصار على القصّة المذكورة في الكتب المعتبرة.

على كلّ فقد يقال إنّ هناك قرينة تدلّ على أنّ هند المذكورة لم تكن ابنة عبدالله بن كريز وهذه القرينة هي :

ورد في كتاب «ناسخ التواريخ» اثربيانه للغزوات التي وقعت في عهد عمر وبالذات عند تطرّقه إلى وقائع فتح قلعة أبي القدس فقال : إنّ عيون أبو عبيدة بن الجرّاح ـ قائد العسكر ـ أخبروه أنّ هناك سوقاً مهمّاً للنصارى في مقابل قلعة أبي القدس وعمّا قريب ستعقد ابنة أبي القدس ، فإذا هجمنا عليهم واستولينا على السوق فسنظفر بغنائم كثيرة.

فبعث أبو عبيدة جعفر الطيّار بقيادة خمسمائة فارس إليهم ، ومن بعده أرسل خالد ابن الوليد ليؤازره حتّى فتحوا القلعة وأسروا ابنة أبي القدس.

فأرسل عبدالله بن جعفر إلى أبي عبيدة بأنّني لا أُريد من الغنائم شيئاً سوى هذه

١٣٠

المرأة ، وإذا بأبي عبيدة يجيبه : إنّ الأمر بيد عمر فأرسلوا إليه كي يأذن له فيها فبعث إليهم من يخبرهم عن موافقته.

وبالفعل فقد أخذ عبدالله المرأة كغنيمة إلى أن سمع معاوية السوء عن حسنها وجمالها فطلبها من عبدالله لابنه يزيد بعد أن أرسل مبلغاً طائلاً لعبدالله إلّا أنّه رفض أن يأخذ درهماً واحداً منها وأرسل الجارية إلى معاوية كهدية.

وهنا يمكن أن يقال : إنّ هذه الجارية هي التي أتت إلى خرابة الشام وزارت الأسارى ، وبالطبع فإنّ هذه الجارية عاشت سنين عديدة في بيت عبدالله بن جعفر والعقيلة زينب وتربّت على أيديهما حتّى دارت الأيّام وأُدخل أهل البيت عليهم السلام الشام كأسارى فقيل لها : إنّ بعض الأسارى الخارجيين أُودعا في الخرابة فأحبّت أن تتفرّج عليهم وتنظر من أي الأسارى هم ولذا فقد استأذنت يزيد في ذلك فأذن لها إلّا أنّه أمرها أن تذهب إليهم ليلاً.

ولمّا أرخى الليل سدوله أخذوا لها كرسيّاً وأدخلوها على الأسارى وما أن رأت حالهم رقّت لهم وتساءلت قائلة : مَن كبيركم؟ فأشاروا إلى العقيلة زينب عليها السلام.

قالت : من أي الأسارى أنتم؟ قالت العقيلة زينب عليها السلام : من أهل المدينة. قالت : كلّ المدن تسمّى بالمدينة ، فمن أي المدن أنتم؟ قالت : من مدينة رسول الله صلى الله عليه واله ، وإذا بها تجلس على الأرض ، فتساءلت منها عقيلة الهاشميين عليهم السلام قائلة : لماذا جلست على الأرض؟ قالت : احتراماً لمدينة رسول الله صلى الله عليه واله ، ثمّ أنّها قالت : بالله عليك أخبرني أتعرفين أحداً من محلّة بني هاشم؟

فقالت السيّدة زينب عليها السلام : لقد ترعرعت وكبرت في محلّة بني هاشم. فتأوّهت الجارية وقالت : لقد زديتني همّاً فوق همّي أُقسم عليك بالله العظيم ألم تمرّي بدار مولاي أمير المؤمنين عليه السلام أو زرتي سيّدي ومولاتي زينب بنت علي عليهما السلام؟ فلم تطق العقيلة تحمّل كلامها وأجهشت بالبكاء وقالت : حقّك ألّا تعرفيني أنا زينب بنت علي عليه السلام.

ثمّ إنّها قالت : أتسألين عن الحسين عليه السلام فذاك رأسه منصوباً على دار يزيد ، وإذا

١٣١

بالدنيا تضيق في عيني المرأة ويرتفع صوتها بالبكاء والعويل ، بل إنّها أخذت تصيح كما يصيح المجانين ثمّ خرجت إلى قصر يزيد حاسرة الرأس مذهولة وهي تصيح قائلة : يابن معاوية! رأس ابن بنت رسول الله صلى الله عليه واله منصوباً على باب داري ، واحسيناه ، وا مظلوماه ، وا قتيل أولاد الأدعياء ، والله يعزّ ذلك على رسول الله وعلى أميرالمؤمنين عليهما السلام.

فاضطرب الطاغية يزيد ولاحظ أنّ جميع قد سخطوا عليه حتّى أهله وعياله فأخذ يتظاهر بالندامة من أفعاله الضالّة ويقول : مالي ولحسين بن علي؟!

ولذا فإنّه لم يجد بدّاً من أن يغيّر طريقة تعامله مع أهل البيت عليهم السلام فقال لزوجته : اذهبي واسكنيهم في منزل أفضل من الخرابة التي هم فيها ، فأسرعت المرأة إلى العقيلة زينب عليها السلام وهي تقول : ليتني عميت ولم أراكم على هذه الحالة.

ثمّ إنّها أخذتهم إلى منزل آخر وأوصت النساء قائلة : يا نساء بني مروان ويا بنات بني سفيان لا أراكم بعد اليوم تضحكون فرحاً ، فوالله إنّ هؤلاء ليسوا بخوارج بل إنّهم ذرّية رسول الله صلى الله عليه واله وأولاد فاطمة وعلي المرتضى عليهم السلام (١).

رؤيا السيّدة سكينة عليها السلام

يقول الشيخ ابن نما ، رأت السيّدة سكينة في منامها وهي بدمشق وهي بدمشق كأنّ خمسة نجب من نور قد أقبلوا وعلى كلّ نجيب شيخ ، والملائكة محدقة بهم ومعهم وصيف يمشي فمضى النجب وأقبل الوصيف إليّ وقرب منّي وقال : يا سكينة إنّ جدّك يسلّم عليك ، فقلت : وعلى رسول الله السلام أيا رسول رسول الله من أنت؟ قال : وصيف من وصائف الجنّة. فقلت : من هؤلاء المشيخة الذين جاءوا على النجب؟ قال : الأوّل آدم صفوة الله عليه والسلام ، والثاني إبراهيم خليل الله عليه السلام والثالث موسى كليم الله عليه السلام ، والرابع عيسى روح الله عليه السلام ، والخامس جدّك رسول الله صلى الله عليه واله ، فقلت : وأين هم قاصدون؟ قال : إلى أبيك الحسين عليه السلام فأقبلت أسعى في طلبه لأُعرّفه ما صنع بنا الظالمون بعده ، فبينا أنا كذلك إذ

__________________

(١) رياحين الشريعة ج ٣ ص ١٩١.

١٣٢

أقبلت خمسة هواجد من نور في كلّ هودج امرأة ، فقلت : من هذه النسوة المقبلات؟ قال : الأوّل حواء أُمّ البشر ، والثانية آسية بنت مزاحم ، والثالثة مريم بنت عمران ، والرابعة خديجة بنت خويلد ، والخامسة الواضعة يدها على رأسها تسقط مرّة وتقوم أُخرى جدّتك فاطمة بنت محمّد أُمّ أبيك ، فقلت : والله لأخبرنّها ما صنع بنا ، فلحقتها فوقفت بين يديها أبكى ، وأقول : يا أُمّاه جحدوا الله حقّنا ، يا أُمّاه بدّدوا والله شملنا ، يا أُمّاه استباحوا والله حريمنا ، يا أُمّاه قتلوا والله الحسين أبانا. فقلت : كفّي صوتّك يا سكينة فقد أحرقت كبدي وقطعت نياط قلبي. هذا قميص أبيك الحسين معي لا يفارقني حتّى ألقى الله به. ثمّ انتبهت وأردت كتمان ذلك المنام وحدّثت به أهلي فشاع بين الناسش (١) ـ (٢).

وقد نظم النيلي هذه القضيّة في أبيات له فقال :

حتّى إذا أبرزت للسبي جارية

كأنّها البدر من حسن إذا اتّسقا

فقال من هذه قالوا سكينة بنت

الخارجي الذي عن حكمنا أبقا

فقال كيف رأيت الله مكّنني

رقابكم إذ لنا صرتم من العتقا

أخذت ثأري من ابن النبي ومن

غدا من أسلافنا من جدّكم سبقا

هناك قالت أُمّة إنّي ثكلتك يا

أردى الأنام ويا من ليس فيه تقا

اسمع مناماً رأت عيناني بارحتي

يزيد قلبك همّاً عندما طفقا

فقال قصّي لنا رؤياك فابتدرت

تقصّ والد مع منها يسبق النطقا

فبينما أنا إذ صلّيت نافلتي

أثنى عليَّ خالقي والليل قد غسقا

إذ الحسين أبي قد جاء ملتثماً

فرقى وقد مدّ لي كفّيه معتنقا

وعاينت مقلتي من بعد ذاك إلى

قصر من النور يزهو أبيضاً يققا

__________________

(١) راجع : مثير الأحزان ص ١٠٤ ، بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٤٠ ، الملهوف ص ٨٢.

(٢) إلى هذا الحدّ من البحث كان تنضيد الحروف على يد الأخ العزيز عاشق أهل البيت عليهم السلام الشهيد حبيب الله كيكاوسي المعروف بـ (محمّد ربّاني الخلخالي) وقد ذكرته هنا لتكون له حصّة في هذا الكتاب.

١٣٣

عال شرانفه الياقوت حمرتها

للناظرين إليها يدهش الامقا

فبينما أنا نحو القصر ناظرة

إذ شرع الباب لي من بعد ما غلقا

وعاينت مقلتي خمساً وقد برزوا

من المشايخ في ترتيبهم نسقا

ومن أيديهم شخص فقلت له

والقلب منّي لمّا عاينت قد خفقا

لمن ترى يافتى ذا القصر قالوا لمو

لاك الحسين ولولاه لما خلقا

وهذه الخمسة الأشباح آدم

ثمّ الطهر نوح الذي في حبّكم سقا

وذا الخليل وهناك الكليم وذا

عيسى النبي الذي يبرئ بغير رقا

وعاينت مقلتي شخصاً لطلعته

نور علا الشمس لمّا تبلغ الأُفقا

وكفّه قابض من فوق لمّته

باك بعبرته قد صار مختنقا

وقد قطعت زفرات الحزن مهجته

والقلب منه لما قد ناله حنقا

فقلت من ذا فقالوا يا سكينة ذا

النبي جدّك ينجو من به علقا

فقمت أسعى إليه ثمّ قلت له

يا جدّ لم يبق منّا من به وثقا

يا جدّنا لو ترى بالطف قد قتلت

رجالنا وابنك السبط الشهيد لقا

يا جدّنا لو ترانا نستغيث فلا

نغاث قد قطعوا من دوننا الطرقا

يا جدّنا لو ترانا إذ نحثّ على

الأقتاب نطلب من أعداننا الرفقا

فعندها ضمّني جدّي وقبّلني

وخرّ من عظم ما حدّثته صعقا

ومدّ كفّي وصيف القوم أدخلني

في القصر وهو بطيب المسك قد عبقا

وفيه خمس نساء لو برزن إلى

الشمس الظهيرة خلتا نورها شفقا

وبين تلك النساء الخمس باكية

قد أكثرت دونهنّ النوح والحرقا

أثوابها من سود قد صبغن وفي

أزياقها الدمع في الأردان قد خرقا

وشعرها فوق كتفيها تنشره

على الحسين ومنها الجيب قد مزّقا

فقلت أخبرني يا ذالوصف فمن

هذي النساء فقل لي لا لقيت شقا

فقال هاتيك يا سكينة و

الأُخرى خديجة أو في العالمين تقا

١٣٤

وهذه مريم أيضاً وسارتها

مع هاجر قد ملكن الخلق والخلقا

وذي القميص الذي قد ضمّخته دماً

بنت النبي الذي فوق البراق رقا

فقمت أسعى إليها ثمّ قلت لها

أُخبرك أنّ أبي بالبيض قد مزّقا

يا جدّنا لو ترى عيناك ابنك

بين الرأس منه وبين الجسم قد مزقا

يا جدّنا لو رأيتنا وليس لنا

عن أعين الناس من فوق المطى وقا

وأقبلت وهي تشكي تستغيث على

قتل الحسين وتذري الدمع مندفقا

وا لهفتاه لحزني فيك يا ولدي

وا حسرتا يا قتيل الصحب والرفقا

وا طول لهفي عليك اليوم يا ولدي

لأهجرنّ سهادي فيك والأرقا

وظلّ من حولها النسوان في ثكل

يندبن للسبط لا لهواً ولا ملقا

هنا قامت وضمّتني براحتها

لصدرها فسكبت الدمع مندفقا

وأقبلت وهي تذري الدمع تسألني

عن الحسين وعن طاغ به طرقا

ويلاه ويلاه من أضح يكفّنه

ومن رأى وجهه والنحر والحدقا

وياه ويلاه من عبّى الحنوط

ومن ترى سار حول النعش وانطلقا

ومن ترى يكفل الأيتام ويحك بعد

ابني الحسين ومن في حبّنا صدقا

وكيف خلف زين العابدين ومَن

أوصى إليه من الأصحاب والرفقا

رؤيا هند زوجة يزيد

نقل عن هند زوجة يزيد أنّها قالت : أخذت مضجعي فرأيت باباً من السماء وقد فتحت والملاكة ينزول كتائب كتائب إلى رأس الحسين عليه السلام وهم يقولون : السلام عليك يا أبا عبدالله السلام عليك يابن رسول الله ، فبينا أنا كذلك إذ نظرت إلى سحابة قد نزلت من السماء وفيها رجال كثيرون وفيهم رجل درّي اللون قمري الوجه ، فأقبل يسعى حتّى

١٣٥

انكبّ على ثنايا الحسين عليه السلام يقبّلها وهو يقول : يا ولدي قتلوك أتراهم ما عرفوك ومن شرب الماء منعوك ، يا ولدي أنا جدّك رسول الله وهذا أبوك علي المرتضى وهذا أخوك الحسن وهذا عمّك جعفر وهذا عقيل وهذان حمزة والعبّاس. ثمّ جعل يعدّد أهل بيته عليهم السلام واحداً بعد واحد. تقول هند : فانتبهت من نومي فزعة مرعوبة وإذا بنور قد انتشر على رأس الحسين عليه السلام ، فجعلت أطلب يزيد وهو قد دخل إلى بيت مظلم وقد دار وجهه إلى الحائط وهو يقول : ما لي وللحسين ، وقد وقعت عليه الهمومات فقصصت عليه المنام وهو منكّس الرأس.

ولمّا أصبح الصباح استدعى حرم رسول الله صلى الله عليه واله وقال لهنّ : أيّهما أحبّ إليكنّ ، المقام عندي أو الرجوع إلى المدينة ولكم الجائزة السنيّة. قالوا : نحبّ أوّلاً أن ننوح على الحسين عليه السلام قال : افعلوا ما بدا لكم. ثمّ أخليت لهنّ الحجر والبيوت في دمشق ولم تبق هاشمية ولا قرشية إلّا ولبست السواد على الحسين عليه السلام وندبوه على ما نقل سبعة أيّام (١).

يقول ابن نما : وكنّ النساء مدّة مقامهنّ بدمشق ينحن عليه بشجو وأنّة ويندبن بعويل ورنّة ومصاب الأسرى عظم خطبة والأسى لكم الثكلي عال طبه ، وأسكن في مساكن لا يقين من حرّ ولا برد حتّى تقشّرت الجلود وسال الصديد بعد أن كنّ في الخدور وظلّ الستور ، والصبر ظاعن والجزع مقيم والحزن لهنّ نديم (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٩٦.

(٢) راجع : بحار الأنوار ج ٤٥ ص ١٩٦ ، نور الأبصار ص ١٣٥.

١٣٦

الفصل السابع

من حياة الإمام زين العابدين عليه السلام

إنّ الإمام علي بن الحسين عليه السلام الملقّب بزين العابدين والسجّاد هو الابن الأرشد للإمام الحسين عليه السلام وأُمّه ابنة ملك الفرس يزدجر وتدعى بـ (شاه زنان) (١) ، وهو الولد الوحيد الذي بقي من أبناء الإمام الحسين عليه السلام ثلاثة. إذ أنّ بقيّة أُخوته ـ علي الأكبر وعلي الأصغر وعبدالله الرضيع ـ قد استشهدوا يوم عاشوراء.

ولا يخفى أنّ الإمام السجّاد عليه السلام قد رافق الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء إلّا أنّ المصلحة اقتضت أن يتمرّض بشدّة حتّى كلّ وعجز عن حمل السلاح والخروج إلى ميدان الشهادة فبقي بعد أبيه يكفل الأُسارى والعيال حيث أُخذ أسيراً إلى الشام وجرى عليه ما جرى من المصائب والويلات ثمّ عاد مع قافلة الأُسارى إلى مدينة جدّه رسول الله صلى الله عليه واله.

الجدير ذكره أنّ الإمام السّجاد عليه السلام قد أُخذ أسيراً مرّة أُخرى إلى الشام في عهد الطاغية عبدالملك حيث قادوه عليه السلام مغلولاً بالقيود والحبال ثمّ رجع إلى وطن جدّه المصطفى صلى الله عليه واله وحيث إنّ الأوضاع السياسية في عهده عليه السلام كانت مضطربة وشديدة فقد

__________________

(١) حسب المصادر الموجودة لدينا أنّ أسماء والدة الإمام السجّاد هي : شهربانو ، شهربانويه ، شاه زنان ، جهان شاه ، شهر ناز ، جهان بانويه ، خولة ، بزه ، سلافة ، غزالة ، سلامة ، حرار ، مريم ، فاطمة ، ومن بين هذه الأسماء فإنّ اسم شهر بانوا هو المشهور.

وقد بلغت هذه الشهرة حدّاً أن يوجد مزار لها بالقرب من مدينة «شهر ري» في أحد الجبال يعرف بمقام السيّدة «شهر بانو».

وقد ذكر الشيخ الصدوق فقال : إنّ والدة الإمام زين العابدين عليه السلام توفّيت أثناء الوضع وقد ربّته عليه السلام أمة من اماء سيّد الشهداء عليه السلام.

١٣٧

وجد في ذلك فرصة سانحة للانشغال بالعبادة وطاعة الله تعالى والاقتصار على لقاء بعض الخواص من الشيعة أمثال «أبو حمزة الثمالي» و «خالد الكابلي» (١).

بطبيعة الحال فإنّ أمثال هؤلاء الخواص كانوا يتصلون بالإمام عليه السلام وينزلون إلى الميدان وينشرون معارف أهل البيت عليهم السلام وأحكامهم التي كانوا يتلقّونها من الإمام عليه السلام الأمر الذي ساهم في نشر التشيّع آنذاك كثيراً.

ولادة الإمام السجّاد عليه السلام

اختلف العلماء والمحقّقون بشدّة في تعيين تاريخ ميلاد الإمام زين العابدين عليه السلام ، فقد ذهب كلّ من الشيخ المفيد والطوسي والسيّد ابن طاووس أنّ ميلاده كان في وسط شهر جمادي الأُولى سنة ٣٦ ه بينما ذهب ابن صبّاغ المالكي في الفصول المهمّة وصاحب الدروس أنّ ميلاده كان في الخامس من شعبان سنة ٣٨ ه (٢) ، وقال الطبرسي في أعلام الورى أنّ ولادته كانت من النصف من شهر جمادي الآخرة والأصحّ حسب ما أعلم هو القول الأوّل والله العالم.

وقد ولد سلام الله عليه في المدينة المنوّرة وسبق منّا أن تطرّقنا إلى اسم والدته سلام الله عليها.

آثار الإمام زين العابدين عليه السلام

من بركات الإمام زين العابدين عليه السلام التي وصلت إلى أيدينا هي رسالته المباركة المسمّاة بـ «رسالة الحقوق» وهي رسالة عظيمة عالية المضامين وحقيق بكلّ موالي ومحبّ للحقيقة أن يدقّق فيها ويتمعّن في حكمها الإلهية ومواعظها الرفيعة التي تتكفّل ببناء المجتمع الفاضل وتهذيب الأفراد كما أراد الشارع المقدّس.

كما أنّ من آثار هذا الإمام المظلوم الباقية هي الصحيفة السجّادية الحاوية لأهمّ

__________________

(١) راجع تذكرة الخواص ص ٣٢٤ ، إثبات الهداة ج ٥ ص ٢٤٢.

(٢) الفصول المهمّة ص ٢١٢.

١٣٨

كنوز المعارف الإلهية ولكن بأُسلوب الدعاء ومناجاة الله عزّوجلّ.

وقد اشتهرت هذه الصحيفة بين العلماء والعظماء بـ «انجيل أهل البيت عليهم السلام» و «زبور آل محمّد عليهم السلام» فكما أنّ انجيل نبي الله عيسى عليه السلام وزبور نبي الله داود عليه السلام يحتويان على الحكم وكنوز المعارف الإلهية كذلك هي الصحيفة السجّادية ، فهي تضمّ بين طيّاتها للعديد من المعارف الإسلامية الكفيلة بتحقيق التوفيق والسعادة للبشرية على مرّ التاريخ.

الملفت للانتباه أنّ الكثير من العلماء الأعلام في اجازاتهم كما أشار إلى ذلك المحدّث النوري قدس سره في مستدرك الوسائل ـ يعبّرون عن الصحيفة السجّادية ـ بـ «أخت القرآن» إذ أنّ هذين الكتابين بمكانة من القداسة.

ألقاب الإمام زين العابدين عليه السلام

إنّ أشهر كنى الإمام السجّاد عليه أفضل الصلاة والسلام هما : أبو الحسن وأبو الحسن ، أمّا ألقابه فهي كثيرة منها : زين العابدين ، سيد الساجدين والعابدين ، الزكي ، الأمين ، السجّاد ، وذوالثفنات.

وقد كان نقش خاتمه كما ورد في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام هو : «الحمد لله العلي» وفي رواية الإمام الباقر عليه السلام أنّ نقشه كان هو : «العزّة لله» و «شقي قاتل الحسين ابن علي عليهما السلام» وفي الخبر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : كان لأبي عليه السلام في موضع سجوده آثار ناتئة وكان يقطعها في السنة مرّتين في كلّ مرّة خمس ثفنات ، فسمّي ذوالثفنات لذلك (١).

النسب الشريف

جمع الإمام السجّاد عليه السلام نجابت العرب والعجم ، فهو ابن الخيرتين أباً وأُمّاً وإلى ذلك يشير رسول الله صلى الله عليه واله قائلاً : إنّ من عباده خيرتين ، فخيرته من العرب القريش ومن

__________________

(١) علل الشرائع ص ٢٣٢ ح ١ ، بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦ ح ١٠.

١٣٩

العجم فارس (١) ، ولذلك لقّب عليه أفضل الصلاة والسلام باب الخيرين.

ومن نسل هذا الإمام الطاهر كانت ذرّية رسول الله صلى الله عليه واله ، ولذا كانوا يطلقون عليه بـ «آدم بني الحسين عليه السلام».

وهو أول من اختار الخلوة والعزلة والتفرّغ لله عزّوجلّ ، وأوّل من اتّخذ المسبحة والسجّادة من تربة سيّدالشهداء عليه السلام وقد كان معروفاً ببكائه حتّى سمّي برئيس البكّائين الأربعة وهم : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وهو بأبي وأُمّي.

أين زين العابدين؟

ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال : إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ أين زين العابدين؟ فكأنّي أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يخطر بين الصفوف (٢).

وفي كشف الغمّة أنّه كان سبب لقبه بزين العابدين ، أنّه كان ليلة في محرابه قائماً في تهجّده فتمثّل له الشيطان في صورة ثعبان ليشغله عن عبادته فلم يلتفت إليه ، فجاء إلى ابهام رجله فالتقمها فلم يلتفت إليه فآلمه فلم يقطع صلاته ، فلمّا فرغ منها وقد كشف الله له فعلم أنّه الشيطان فسبّه ولطمه وقال له : اخسأ يا ملعون فذهب وقام إلى تمام ورده ، فسمع صوت قائل يقول : «أنت زين العابدين حقّاً» ثلاثاً ، فظهرت هذه الكلمة واشتهرت لقباً له (٣).

الشكر على النعم

روى ابن بابوية عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال : إنّ أبي علي بن الحسين عليه السلام ما ذكر نعمة الله عليه إلّا سجد ، ولا قرأ آية من كتاب الله عزّوجلّ فيها سجود إلّا سجد ، ولا دفع الله تعالى عنه سوء يخشاه أو كيد كايد إلّا سجد ، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلّا سجد ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٤.

(٢) علل الشرائع ص ٢٣٠ ، بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٢.

(٣) كشف الغمّة ج ٢ ص ٢٨٦.

١٤٠