أخلاق أهل البيت عليهم السلام

السيد علي الحسيني الصدر

أخلاق أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-654-5
الصفحات: ٢٤٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الإمام الحسين عليه‌السلام

كان قمّةً في حُسن الأخلاق ، وطيب المعاشرة ، والجود والكرم ، والسجايا العظيمة .

من ذلك علوّ همّته ، وعالي كرامته ، وشرافة طبعه في إحسانه وإشفاقه حتّى على أعدائه ، ومن استعدّ لقتاله .

كما تلاحظ أخلاقه الكريمة مع الحرّ بن يزيد الرياحي وأصحابه في طريق العراق .

حيث جاؤوا في حرّ الظهيرة ، ووصلوا إلى منطقة ذي حسم عطاشىٰ ، وهم زهاء ألف فارس .

وقد كان الإمام الحسين عليه‌السلام قد أمر فتيانه بالاستقاء من الماء ، والإكثار منه من سَحَر ذلك اليوم في منزل شراف .

فقال الإمام الحسين عليه‌السلام : اسقوا القوم ، وارووهم من الماء ، ورشفوا الخيل ترشيفاً(١) .

بالرغم من علمه صلوات الله عليه بأنّهم قتلته ، وأنّهم لا يسقونه قطرةً من الماء .

لكن مع ذلك حنَّ إليهم في ذلك الصحراء الذي كان وادياً غير ذي زرع ، فأنقذهم من الظمأ ، وأرواهم من العطش ، حتّى أروىٰ خيلهم .

__________________________________

(١) الترشيف : هو الاستقصاء في الشرب حتّى لا يبقى شيء من الماء ، وترشيف الخيل سقيها وإمهالها حتّى ترتوي كاملاً ، لأنّها تشرب الماء بدفعات لا دفعة واحدة .

٦١

فقد أقبل فتيةُ الإمام الحسين عليه‌السلام يملؤون القصاع والطساس من الماء ، ثمّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه ، حتّى سقوا خيلهم كلّها .

قال علي بن طعان المحاربي : كنت مع الحرّ يومئذٍ ، وجئته في آخر من جاء من أصحاب الحرّ ، فلمّا رأى الحسين عليه‌السلام ما بي وبفرسي من العطش قال : أنخ الراوية ، والراوية عندي السقاء ، وفي لغة الحجاز الجمل .

ثمّ قال عليه‌السلام : أنخ الجمل ، فأنخته .

فقال عليه‌السلام : ياابن أخي اشرب ، فجعلت كلّما أشرف سال الماء من السقاء . فقال الحسين عليه‌السلام : إخنث السقاء أي اعطفه .

فلم أدرِ كيف أفعل ، فقام هو عليه‌السلام فخنثه ، فشربت حتّى ارتويت وسقيت فرسي(١) .

ومن معالي سجاياه عطيّته الكريمة للأعرابي مع استحياءه منه ، فقد وَفَدَ أعرابيّ إلى المدينة ، فسأل عن أكرم الناس بها ، فدُلّ على الحسين عليه‌السلام ، فدخل المسجد فوجده مصلّيّاً فوقف بإزاء وأنشأ : ـ

لم يخب الآن من رجالك ومن

حرّكَ من دون بابك الحَلَقة

أنت جوادٌ وأنت معتمدٌ

أبوك قد كان قاتلَ الفسقة

لولا الذي كان من أوائلِكم

كانت علينا الجحيمُ منطبقة

فسلّم الحسين عليه‌السلام وقال : يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء ؟

قال : نعم أربعة آلاف دينار ، فقال : هاتِها ، قد جاء من هو أحقُّ بها منّا ، ثمّ نزع بُرده ولفّ الدنانير فيها ، وأخرج يده من شقِّ الباب حياءً من الأعرابيّ وأنشأ : ـ

__________________________________

(١) معالي السبطين / ص ١٦٦ .

٦٢

خُذها فإنّي إليك معتذرٌ

واعلم بأنّي ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغَداة عصاً

أمسَت سمانا عليك مندفقة

لكنّ ريبَ الزمان ذو غِيَرٍ

والكفّ منّي قليلةُ النفقة

فأخذها الأعرابي وبكىٰ ، فقال عليه‌السلام له : لعلّك استقللت ما أعطيناك ، قال : لا ولكن كيف يأكل التراب وجودَك(١) .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٤ / ص ١٩٠ .

٦٣

٦٤

الإمام السجّاد عليه‌السلام

كان النموذج الأعلى للصفات المحمّديّة ، والسجايا الطيّبة .

ومن حسن أخلاقه في حلمه وتواضعه كظم غيظه في قضيّة السفود التي يأتي ذكرها(١) .

ونالَ منه الحسن بن الحسن بكلامٍ خشن ، فلم يجبه ، ثمّ أتىٰ منزله فخرج الحسن متوثّباً للشرّ .

فقال عليه‌السلام له : يا أخي إن كنتَ قلتَ ما فيَّ فأستغفر الله منه ، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ يغفر الله لك .

فقبّل الحسن بين عينيه وقال : بل قلتُ ما ليس فيك وأنا أحقّ به .

وشتمه آخر ، فقال في الجواب :

يا فتى إنّ بين أيدينا عقبةً كؤوداً ، فإن جزتُ منها فلا اُبالي بما تقول ، وإن أتحيّر فيها فأنا شرٌّ ممّا تقول .

وسبّه رجلٌ آخر ، فسكت عنه .

__________________________________

(١) تذكر في فقرة « كظم الغيظ » في الفصل الخامس من الكتاب .

٦٥

فقال الرجل : إيّاك أعني .

فقال عليه‌السلام : وعنك أغضني .

وكسرت جارية له قصعة فيها طعام فاصفرّ وجهُها ، فقال لها : إذهبي فأنتِ حرّة لوجه الله(١) .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٦ / ص ٩٦ .

٦٦

الإمام الباقر عليه‌السلام

كان وريثاً لجدّه الرسول وآبائه الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين في الأخلاق والآداب .

عن عمرو بن دينار وعبيد الله بن عبيد أنّهما قالا :

ما لقينا أبا جعفر محمّد بن عليّ عليهما‌السلام إلّا وحمل إلينا النفقة ، والصلة ، والكسوة ، ويقول : هذا مَعدٌّ لكم قبل أن تلقوني .

وعن سليمان بن قرم قال :

كان أبو جعفر محمّد بن عليّ عليهما‌السلام يجيزنا بالخمسمائة إلى الستّمائة إلى الألف درهم .

وكان لا يملّ من صلة إخوانه ، وقاصديه ، ومؤمّليه وراجيه(١) .

وأدبه الرفيع في كلامه ، وعدم مقابلته الإساءة من خصومه ، ولين القول في مرامه معروفٌ في سيرته الكريمة .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٦ / ص ٢٨٨ .

٦٧

٦٨

الإمام الصادق عليه‌السلام

كان صلوات الله عليه سيّداً في حُسن الخُلق ، وعظيماً في تربية الخَلق ، ومفخرةً في تعاليمه ، وأحاديثه ، وتهذيب أصحابه ، وتنشأة الناس على الخُلق الحسن ، من ذلك :

حديث زكريّا بن إبراهيم قال : كنت نصرانيّاً فأسلمت وحججتُ فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت : إنّي كنتُ على النصرانيّة ، وأنّي أسلمت .

فقال : وأيّ شيء رأيت في الإسلام ؟

قلت : قول الله عزّ وجلّ : ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ )(١) .

فقال : لقد هداك الله ، ثمّ قال : اللَّهُمَّ أهده ثلاثاً ، سَلْ عمّا شئت يا بُنيّ .

فقلت : إنّ أبي واُمّي على النصرانيّة ، وأهل بيتي ، واُمّي مكفوفة البصر ، فأكون معهم ، وآكل في آنيتهم .

فقال : يأكلون لحم الخنزير ؟

__________________________________

(١) سورة الشورى : الآية ٥٢ .

٦٩

فقلت : لا ، ولا يمسّونه .

فقال : لا بأس ، فانظر اُمّك فبرّها ، فإذا ماتت ، فلا تكلها إلى غيرك ، كُن أنت الذي تقوم بشأنها ، ولا تخبرنَّ أحداً أنّك أتيتني ، حتّى تأتيني بمنى إن شاء الله .

قال : فأتيته بمنى والناس حوله ، كأنّه معلّم صبيان ، هذا يسأله ، وهذا يسأله ، فلمّا قدمت الكوفة ، ألطفتُ لاُمّي ، وكنت اُطعمها ، واُفلّي ثوبها ورأسها ، وأخدمها .

فقالت لي : يا بُنيّ ما كنتَ تصنع بي هذا ، وأنت على ديني ، فما الذي أرى منك منذ هاجرتَ ، فدخلتَ في الحنيفيّة ؟

فقلت : رجلٌ من ولد نبيّنا أمرني بهذا .

فقالت : هذا الرجل هو نبيٌّ ؟

فقلت : لا ، ولكنّه ابن نبيّ ، فقالت : يا بُنيّ هذا نبيّ إنّ هذه وصايا الأنبياء .

فقلت : يا اُمِّ إنّه ليس يكون بعد نبيّنا نبيّ ولكنّه ابنه .

فقالت : يا بنيّ دينك خير دين ، اعرضه عليَّ فعرضته عليها فدخَلَت في الإسلام ، وعلّمتها فصلّت الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء الآخرة ثمّ عرض بها عارض في اللّيل فقالت : يا بُنيّ أعد عليَّ ما علّمتني ، فأعدتُه عليها فأقرّت به وماتت .

فلمّا أصبَحَت كان المسلمون الذين غسّلوها ، وكنت أنا الذي صلّيت عليها ونزلت في قبرها(١) .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٧ / ص ٣٧٤ .

٧٠

الإمام الكاظم عليه‌السلام

كان سلام الله عليه مثالاً فذّاً للأخلاق الكريمة ، والشيم العظيمة ، وكظم الغيظ في اسمه ووصفه ، من ذلك ما روي :

أنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطّاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه‌السلام ويسبّه إذا رآه ، ويشتم عليّاً فقال له بعض حاشيته يوماً : دعنا نقتل هذا الفاجر ، فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي ، وزجرهم ، وسأل عن العُمَري فذكر أنّه يزرع بناحيةٍ من نواحي المدينة ، فركب إليه ، فوجده في مزرعة له ، فدخل المزرعة بحماره فصاح به العُمري : لا توطيء زرعنا ، فتوطّأه عليه‌السلام بالحمار ، حتّى وصل إليه ، ونزل وجلس عنده ، وباسطه وضاحكه ، وقال له : كم غرمت على زرعك هذا ؟

قال : مائة دينار .

قال : فكم ترجو أن تُصيب ؟ قال : لستُ أعلم الغيب .

قال له : إنّما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه ؟

قال : أرجوا أن يجيء مائتا دينار .

قال : فأخرج له أبو الحسن عليه‌السلام صرّة فيها ثلاثمائة دينار ، وقال : هذا زرعك على حاله ، والله يرزقك فيه ما ترجو .

٧١

قال : فقام العُمَريّ فقبّل رأسه وسأله أن يصفح عن فارطه ، فتبسّم إليه أبو الحسن وانصرف .

قال : وراح إلى المسجد فوجد العمريّ جالساً فلمّا نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالاته .

قال : فوثب أصحابه إليه فقالوا له : ما قضيّتك ؟ قد كنت تقول غير هذا ، قال : فقال لهم : قد سمعتم ما قلت الآن ، وجعل يدعو لأبي الحسن عليه‌السلام فخاصموه وخاصمهم .

فلمّا رجع أبو الحسن إلى داره قال لجلسائه الذين سألوه في قتل العمري : أيّما كان خيراً ما أردتم ؟ أم ما أردت ؟ إنّني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم ، وكُفِيتُ به شرّه .

وذكر جماعة من أهل العلم أنّ أبا الحسن عليه‌السلام كان يصل بالمأتي دينار إلى الثلاثمائة وكانت صرار موسى مثلاً(١) .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٨ / ص ١٠٢ .

٧٢

الإمام الرضا عليه‌السلام

كان صلوات الله عليه المَثَل الأعلى للصفات العُليا ، والمعاشرة الحُسنىٰ ، غوث اللّهفان ، ومعدن الرضوان .

من ذلك ما في حديث الحسن بن حمزة قال : كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرِّضا عليه‌السلام ـ في المدينة ـ اُحدِّثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام ، إذ دخل عليه رجل طوال أدِم فقال له : السلام عليك ياابن رسول الله رجلٌ من محبّيك ومحبّي آبائك وأجدادك عليهم‌السلام ، مصدري من الحجّ وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة ، فإن رأيت أن تُنهِضني إلى بلدي ولله عليَّ نعمة ، فإذا بلغتُ ببلدي تصدّقت بالذي تولّيني عنك ، فلستُ موضع صدقة ، فقال له : اجلس رحمك الله ، وأقبل على الناس يحدِّثهم حتّى تفرّقوا ، وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا ، فقال : أتأذنون لي في الدخول ؟

فقال له : يا سليمان قدّم الله أمرك .

فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة ثمّ خرج وردّ الباب وأخرج يده من أعلى الباب وقال : أين الخراسانيّ ؟

فقال : ها أنا ذا .

٧٣

فقال : خُذ هذه المأتي دينار واستعن بها في مؤونتك ونفقتك وتبرّك بها ، ولا تصدّق بها عنّي ، واخرج فلا أراك ولا تراني .

ثمّ خرج فقال سليمان : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت ، فلماذا سترت وجهك عنه ؟

فقال : مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته ، أما سمعت حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المستتر بالحسنة ، تعدل سبعين حجّة ، والمذيع بالسيّئة مخذول ، والمستتر بها مغفور له » أما سمعت قول الأوّل :

متى آته يوماً لأطلب حاجة

رجعت إلى أهلي ووجهي بمائة(١).

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٩ / ص ١٠١ .

٧٤

الإمام الجواد عليه‌السلام

كان في أعلى درجات الجود والكرم ، وطيب الأخلاق والعشرة ، وكرامة النفس والسجيّة ، من ذلك : ـ

روي عن محمّد بن الوليد الكرمانيّ قال : أتيت أبا جعفر ابن الرّضا عليه‌السلام فوجدت بالباب الذي في الفناء قوماً كثيراً ، فعدلت إلى سافر فجلست إليه حتّى زالت الشمس ، فقمنا للصلاة ، فلمّا صلّينا الظهر وجدت حسّاً من ورائي ، فالتفتُّ فإذا أبو جعفر عليه‌السلام فسرت إليه حتّى قبّلت كفّه ، ثمّ جلس وسأل عن مقدمي .

ثمّ قال : سلّم فقلت : جعلت فداك قد سلّمت .

فأعاد القول ثلاث مرّات : « سلِّم ! » فتداركتها وقلت : سلّمت ورضيت ياابن رسول الله ، فأجلى الله عمّا كان في قلبي حتّى لو جهدت ورمت لنفسي أن أعود إلى الشكّ ما وصلت إليه .

فعُدت من الغد باكراً فارتفعت عن الباب الأوّل وصرت قبل الخيل وما وراي أحدٌ أعلمه ، وأنا أتوقّع أن آخذ السبيل إلى الإرشاد إليه ، فلم أجد أحداً أخذ ، حتّى اشتدّ الحرُّ والجوع جدّاً ، حتّى جعلت أشرب الماء اُطفىء به حرّ ما أجد من الجوع والجوى ، فبينما أنا كذلك إذ أقبل نحوي غلام قد حمل خواناً عليه طعام

٧٥

وألوان ، وغلام آخر عليه طست وإبريق ، حتّى وضع بين يدي وقالا أمرك أن تأكل فأكلت .

فلمّا فرغت أقبل فقمت إليه فأمرني بالجلوس وبالأكل ، فأكلت ، فنظر إلى الغلام فقال : كُل معه ينشط ! حتّى إذا فرغت ورفع الخوان ، وذهب الغلام ليرفع ما وقع من الخوان ، من فتات الطعام ، فقال : مه ومه ما كان في الصحراء فدعه ، ولو فخذ شاة ، وما كان في البيت فالقطه ، ثمّ قال : سل !

قلت : جعلني الله فداك ما تقول في المسك ؟

فقال : إنَّ أبي أمر أن يعمل له مسك في فارة فكتب إليه الفضل يخبره أنّ الناس يعيبون ذلك عليه .

فكتب : يا فضل أما علمت أنّ يوسف كان يلبس ديباجاً مزروراً بالذّهب ويجلس على كراسيّ الذّهب فلم ينتقص من حكمته شيئاً ، وكذلك سليمان ، ثمّ أمر أن يعمل له غالية بأربعة آلاف درهم .

ثمّ قلت : ما لمواليكم في موالاتكم ؟

فقال : إنّ أبا عبد الله عليه‌السلام كان عنده غلام يمسك بغلته إذا هو دخل المسجد ، فبينما هو جالس ومعه بغلة إذ أقبلت رفقة من خراسان ، فقال له رجل من الرفقة : هل لك يا غلام أن تسأله أن يجعلني مكانك وأكون له مملوكاً وأجعل لك مالي كلّه ؟ فإنّي كثير المال من جميع الصنوف اذهب فاقبضه ، وأنا اُقيم معه مكانك .

فقال : أسأله ذلك .

فدخل على أبي عبد الله فقال : جُعلت فداك تعرف خدمتي وطول صحبتي فإن ساق الله إليَّ خيراً تمنعينه ؟

قال : اُعطيك من عندي وأمنعك من غيري ، فحكى له قول الرّجل ، فقال : إن زهدت في خدمتنا ورغب الرّجل فينا قبلناه وأرسلناك .

٧٦

فلمّا ولّى عنه دعاه ، قال له : أنصحك لطول الصّحبة ، ولك الخيار ، فإذا كان يوم القيامة كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعلّقاً بنور الله ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام متعلّقاً برسول الله ، وكان الأئمّة متعلّقين بأمير المؤمنين وكان شيعتنا متعلّقين بنا يدخلون مدخلنا ، ويردون موردنا .

فقال الغلام : بل اُقيم في خدمتك واُؤثر الآخرة على الدُّنيا ، وخرج الغلام إلى الرجل فقال له الرجل : خرجت إليَّ بغير الوجه الذي دخلت به ، فحكى له قوله وأدخله على أبي عبد الله عليه‌السلام فقبل ولاءه ، وأمر بألف دينار ثمّ قام إليه فودّعه وسأله أن يدعو له ففعل .

فقلت : يا سيّدي لولا عيال بمكّة وولدي سرّني أن اُطيل المقام بهذا الباب فأذن لي ، وقال لي : توافق غمّاً ، ثمّ وضعت بين يديه حُقّاً كان له فأمرني أن أحملها فتأبّيت وظننت أنّ ذلك موجدة .

فضحك إليَّ وقال : خُذها إليك فإنّك توافق حاجة ، فجئت وقد ذهبت نفقتنا شطر منها فاحتجت إليه ساعة قدمت مكّة (١) .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٥٠ / ص ٨٧ .

٧٧

٧٨

الإمام الهادي عليه‌السلام

كان هادياً إلى الدِّين وشريعة سيّد المرسلين ، ونموذجاً لحسن أخلاق الطيّبين ، ومهذّباً لأصحابه على شكر النعم .

من ذلك ما في حديث أبي هاشم الجعفري قال : ـ

أصابتني ضيقة شديدة ، فصرت إلى أبي الحسن عليّ بن محمّد عليهما‌السلام ..

فأذنَ لي ، فلمّا جلست قال : ـ

يا أبا هاشم إنّ نِعَم الله عزّ وجلّ عليك ، تريد أن تؤدّي شكرها ؟

قال أبو هاشم : فوجمتُ ، فلم أدرِ ما أقول له .

فابتدأ عليه‌السلام فقال :

رزَقَك الإيمان فحرّم بدنك على النار ، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة ، ورزقك القنوع فصانك عن التبذّل .

يا أبا هاشم : إنّما ابتدأتك بهذا لأنّني ظننتُ أنّك تريد أن تشكو لي من فَعَل بك هذا ، وقد أمرتُ لك بمائة دينار فخذها(١) .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٥٠ / ص ١٢٩ .

٧٩

٨٠