أخلاق أهل البيت عليهم السلام

السيد علي الحسيني الصدر

أخلاق أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-654-5
الصفحات: ٢٤٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٣ / السيرة الأخلاقيّة العلميّة لأهل البيت عليهم‌السلام

هناك دروسٌ بليغة من النبيّ الأعظم وعترته الطاهرة عليهم‌السلام في سيرتهم المثاليّة ، وأخلاقهم الفذّة ، التي فيها كلّ العظة النافعة ، وبها الاُسوة الحسنة ، نذكر نبذة منها فيما يلي : ـ

الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله

من أخلاقه الشريفة ، وآدابه الرفيعة ما جمع من الأحاديث الواصفة له ، والمذكورة في مناقبه ، جاء فيها : ـ

كان النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحكم الناس ، وأحلمهم ، وأشجعهم ، وأعدلهم ، وأعطفهم حتّى وصفه الله تعالى بقوله : ( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ )(١) .

وكان أسخى الناس ، حتّى وصف بأنّه : ( لا يثبت عنده دينارٌ ولا درهم ) .

وكان يجلس على الأرض ، وينام عليها ، ويأكل عليها .

وكان بنفسه يخصف النعل ، ويُرقّع الثوب ، ويفتح الباب ، ويحلب الشاة ،

__________________________________

(١) التوبة : ١٢٨ .

٤١

ويعقل البعير ، ويطحن مع الخادم إذا تعب ، ويضع طهوره بالليل بيده ، ويخدم في أهله ، ويقطع اللّحم لهم .

وكان لا يجلس متّكئاً ، وإذا جلس على الطعام جلس بتواضع ، ويلطع أصابعه ، ولم يتجشّأ قطّ .

وكان يُجيب دعوة الحرّ والعبد ولو على كراع ، ويقبل الهديّة ولو جُرعةٌ من اللّبن ، ولا يأكل الصدقة .

وكان في معاشراته لا يُثبت بصره في وجه أحد ، ويغضب لربّه ولا يغضب لنفسه ، ويوصي بالوالدين إحساناً .

وكان يلبس الغليظ من القطن والكتّان ، وأكثر ثيابه البيض ، ويلبس القميص من قبل ميامنه .

وكان له عباءٌ يُفرش له حيث ما ينتقل ، ويردف خلفه عبده أو غيره ، ويركب ما أمكنه من فرسٍ أو بغلة أو حمار بلا تكبّر .

وكان يشيّع الجنازة ، ويعود المرضىٰ في أقصى المدينة ، ويجالس الفقراء ، ويؤاكل المساكين ، ويناولهم بيده .

وكان يُكرم أهل الفضل في أخلاقهم ، ويتألّف أهل الشرف بالبرّ لهم ، ويصِل رحمه ، ولا يجفو على أحد ، ويقبل معذرة المُعتذر .

كان أكثر الناس تبسّماً ، وما شتم أحداً بشتمة ، ولا لعن خادماً بلعنة ، ليس بفظٍّ ولا غليظ ، ولا يجزي السيّئة بالسيّئة ، بل يغفر ويصفح ، حتّى وصفه ربّه بالخُلق العظيم .

يبدأ من لقيه بالسلام ، وإذا لقي مسلماً يبدأ بالمصافحة ، وما أخذ أحدٌ يده فيرسل يده حتّى يرسلها ذاك ، ولا يقوم ولا يجلس إلّا على ذكر الله تعالى .

وكان خير الناس لأهله ويقول : خيركم خيركم لأهله وأنا خيرٌ لأهلي ، ويعال الرجل أسراؤه ، وأحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ أحسنهم صُنعاً إلى أُسراءه .

٤٢

وكان لا يجلس عند أحدٌ وهو يصلّي إلّا خفّف صلاته وأقبل عليه وقال : ألكَ حاجة ؟

وكان يجلس حيث ما ينتهي به المجلس ، وأكثر ما يجلس مستقبل القبلة ، ويكرم من دخل عليه حتّى ربما بسط له ثوبه ، ويُؤثِر الداخل بالوسادة .

قال خادمه : خدمتُ النبيّ تسع سنين ، ما عاب عليَّ شيئاً قطّ .

أدركه أعرابيّ فأخذ برداءه ، فجذبه جذبةً شديدة ، حتّى نظرت إلى صفحة عنقه قد أثّرت به حاشية الرداء من شدّة جذبته ..

ثمّ قال الأعرابي : مُر لي يا محمّد من المال الذي عندك .

فالتفت إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضحك ، وأمر له بعطاء(١) .

__________________________________

(١) لاحظ بحار الأنوار / ج ١٦ / ص ٢٣٦ عن المناقب لابن شهر آشوب .

٤٣

٤٤

أمير المؤمنين عليه‌السلام

كان قمّة وقدوةً في حُسن الأخلاق مع الصديق والعدوّ ، وعلى ذلك أدّب شيعته ، ودعى إلى الحقّ أعداءه ، حتّى هداهم بهداية الله تعالى بعمله قبل قوله .

وكان من أخلاقه عليه‌السلام أنّه يرافق في السفر ، ويشايع صاحبه إذا فارقه .

وفي الحديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : ـ

صاحَبَ عليٌّ رجلاً ذمّيّاً فقال له الذمّي : أين تريد يا عبد الله ؟

قال عليه‌السلام : اُريد الكوفة .

فلمّا عَدَلَ الطريق بالذمّي عَدَل معه علي عليه‌السلام .

فقال له الذمّي : أليس زعمتَ تريد الكوفة ؟

قال : بلىٰ .

فقال له الذمّي : فقد تركت الطريق ؟

فقال : قد علمتُ .

فقال له : فلِمَ عدلتَ معي وقد علمتَ ذلك ؟

فقال له عليّ عليه‌السلام : هذا من تمام حُسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئةً إذا فارقَه ، وكذلك أمرَنا نبيّنا .

٤٥

فقال له : هكذا ؟

قال : نعم .

فقال له الذمّي : لا جَرم إنّما تبعه مَن تبعه لأفعاله الكريمة .

وأنا اُشهدك أنّي علىٰ دينك ، فرجع الذمّي مع عليّ عليه‌السلام ، فلمّا عرفه أسلم(١) .

ومن مكارم أخلاقه عليه‌السلام وحُسن سيرته ما جمع من أحاديث أحواله جاء فيها : ـ

كان عليٌّ عليه‌السلام يجلس جلسة العبد ، ويأكل أكل العبد ، ويشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما ، ثمّ يلبس الآخر في أشدّ التواضع .

وُلّي خمس سنين ما وضع آجرةً على آجرة ، ولا أورثَ بيضاء ولا حمراء .

وكان يُطعم الناس خُبزَ البُرّ واللّحم ، وينصرف إلى منزله يأكل خبز الشعير والملح أو الزيت أو الخلّ .

وما ورد أمران كلاهما لله تعالى رضاً إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه .

ولقد أعتق ألف مملوك من كدّ يده وعَرَق وجهه ، وتترّب يده من عمله .

وما كان لباسه إلّا الكرابيس التي هي أوضع الملابس .

دخل عليه عمرو بن العاص ليلةً وهو في بيت المال ، فأطفأ السراج ، ولم يستحلّ أن يجلس في ضوء بيت مال المسلمين بغير استحقاق .

واُتي بأحمال فاكهةٍ فأمر ببيعها ، وطرح ثمنها في بيت المال .

وبعث إليه دهقان(٢) بثوبٍ منسوج بالذهب ، فابتاعه منه عمرو بن حريث بأربعة آلاف درهم إلى العطاء .

وجاء إليه من همدان وحلوان عسل ، وتين ، فأمر أن يأتوا باليتامى ، فأمكنهم

__________________________________

(١) البحار / ج ٤١ / ص ٥٣ .

(٢) الدهقان : يطلق على رئيس القرية ـ معرّب دهقان ـ ، ويطلق على التاجر ومن له مال وعقار كما في مجمع البحرين / ص ٤٣٠ .

٤٦

من رؤوس الأزقاق يلعقونها ، وهو يقسّمها للناس قدحاً قدحاً ، ثمّ ألعقهم هو عليه‌السلام بيده المباركة .

فقيل له : يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها ؟

فقال : إنّ الإمام أبو اليتامى ، وإنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء .

وكان عليه‌السلام بنفسه يستقي ، ويحتطب ، وينقّي العدس في البيت ، وفاطمة الزهراء عليها‌السلام تطحن وتعجن وتخبز .

وما اُصيب بمصيبة إلّا صلّى في ذلك اليوم ألف ركعة ، وتصدّق على ستّين مسكيناً ، وصام ثلاثة أيّام .

وكان إذا صلّى الفجر لم يزل معقّباً إلى أن تطلع الشمس ، فإذا طلعت الشمس اجتمع إليه الناس فعلّمهم الفقه والقرآن .

قال عنه صعصعة بن صوحان العبدي وغيره من شيعته وأصحابه : ـ

( كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، وشدّة تواضع ، وسهولة قياد . وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه )(١) .

وقال عنه ابن أبي الحديد :

( وأمّا سماحة الأخلاق ، وطلاقة المحيّا والتبسّم فهو المضروب به المثل ) .

وقد شهد عدوّه اللدود معاوية بمكارم أخلاقه ومعالي صفاته التي بيّنها ضرار ابن ضمرة الليثي :

حيث دخل على معاوية فقال له : صِف لي عليّاً .

فقال ضرار : أوَ تعفيني عن ذلك .

__________________________________

(١) هذه هي الهيبة الإلهيّة التي كان يعظم بها عند أولياءه ويخاف منه خصومه ، حتّى ذكروا عنه أنّه كنّا نخوّف الأعداء بمجيء عليّ عليه‌السلام .

٤٧

فقال معاوية : لا أُعفيك .

فقال ضرار : ـ

كان والله بعيد المدىٰ ـ أي عالي الهمّة ـ ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً .

يتفجّر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه .

يستوحش من الدُّنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته .

كان والله غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّه ، ويخاطب نفسه ، ويناجي ربّه .

يُعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشُب .

كان والله فينا كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه ، ويُجيبنا إذا سألناه ، وكنّا مع دنوّه منّا ، وقُربنا منه لا نكلّمه لهيبته ، ولا نرفع عيننا إليه لعظمته .

فإن تبسّم فمن مثل اللؤلؤ المنظوم .

يعظّم أهل الدَّين ، ويحبّ المساكين .

لا يطمع القويّ في باطله ، ولا ييأس الفقير من عدله .

وأشهدُ بالله لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وهو قائمٌ في محرابه ، قابضٌ على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأنّي أسمعه وهو يقول :

يا دُنيا دنيّة أبيَ تعرّضتِ ؟ أم إليَّ تشوّقتِ ؟ هيهات هيهات غُرّي غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد طلّقتك ثلاثاً ، لا رجعة لي فيها ، فعُمرك قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير .

آهٍ آهٍ من قلّة الزاد ، وبُعد السفر ، ووحشة الطريق ، وعِظَم المورد .

فوكَفَت ـ أي سالت ـ دموع معاوية على لحيته ، فنشّفها بكمّه ، واختنق القوم بالبكاء .

ثمّ قال معاوية : كان والله أبو الحسن كذلك ، فكيف صبرك عنه يا ضرار ؟

٤٨

قال : صبرُ مَن ذُبح واحدُها على صدرها ، فهي لا ترقأ عبرتها ، ولا تسكن حسرتها .

ثمّ قام ـ ضرار ـ وخرج وهو باكٍ .

فقال معاوية : أما إنّكم لو فقدتموني لما كان فيكم من يُثني عليَّ هذا الثناء .

فقال بعض من حضر : الصاحب علىٰ قدر صاحبه(١) .

__________________________________

(١) لاحظ بحار الأنوار / ج ٤١ / ص ١٢٠ / ب ١٠٧ / ح ٢٨ .

٤٩

٥٠

الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام

كانت نموذجاً للأخلاق المرضيّ ، واُسوة للإنسان الزكيّ ، بل هي اُسوة للإمام المهدي عليه‌السلام الذي هو اُسوتنا وحجّة الله علينا .

يقتدي بها الإمام فكيف بسائر الأنام ، كما ورد في التوقيع الشريف : ـ

« وفي ابنة رسول الله لي اُسوةٌ حسنة »(١) .

فيلزم أن نتأسّى بها ، ونقتدي بمحاسن صفاتها .

وهي فخر النساء ، والاُسوة العلياء للمرأة المؤمنة الصالحة .

ومن خُلقها الطيّب : كرمها وإيثارها المذكور في حديث الإمام الصادق عن أبيه عليهما‌السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : ـ

صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة العصر فلمّا انفتل جلس في قبلته والناس حوله ، فبينا هم كذلك إذ أقبل إليه شيخٌ من مهاجرة العرب عليه سَمِلٌ قد تهلّل وأخلق وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً ، فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحثّه الخبر فقال الشيخ : ( يا نبيّ الله أنا جائع الكبد فأطعمني ، وعاري الجسد فأكسني ، وفقيرٌ فأرشِني ) .

__________________________________

(١) الغيبة للشيخ الطوسي / ص ١٧٢ ، والاحتجاج للطبرسي / ج ٢ / ص ٢٧٧ ، وذكرنا هذا التوقيع بشرحه في الإمام المنتظر / ص ٢٢١ .

٥١

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أجد لك شيئاً ولكنّ الدالّ على الخير كفاعله ، انطلق إلى منزل من يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، يؤثِر الله على نفسه ، انطلق إلى حجرة فاطمة ، وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي ينفرد به لنفسه من أزواجه ، وقال : يا بلال قُم فقف به على منزل فاطمة ، فانطلق الأعرابيّ مع بلال ، فلمّا وقف على باب فاطمة نادىٰ بأعلى صوته : السلام عليكم يا أهلبيت النبوّة ! ومختَلَف الملائكة ، ومهبط جبرئيل الرّوح الأمين بالتنزيل ، من عند ربّ العالمين ، فقالت فاطمة : وعليكَ السلام ، فمَن أنت يا هذا ؟ قال : شيخٌ من العرب أقبلتُ علىٰ أبيك سيّد البشر مهاجراً من شُقّة وأنا يا بنت محمّد عاري الجسد ، جائع الكبد فواسيني يرحمك الله ، وكان لفاطمة وعليّ في تلك الحال ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثاً ما طَعِموا فيها طعاماً ، وقد علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك من شأنها ...

فعَمَدَت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين فقالت : خُذ هذا أيّها الطارق ! فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خيرٌ منه ، قال الأعرابيّ : يا بنت محمّد شكوت إليك الجوع فناوليني جلد كبش ما أنا صانع به مع ما أجد من السّغب .

قال : فعَمَدَت لمّا سَمِعَت هذا من قوله إلى عِقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبد المطّلب ، فقطعته من عنقها ونبذته إلى الأعرابي فقالت : خُذه وبعه فعسى أن يعوّضك به ما هو خيرٌ منه ، فأخذ الأعرابي العِقد وانطلق إلى مسجد رسول الله والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في أصحابه ، فقال : يا رسول الله أعطتني فاطمة [ بنت محمّد ] هذا العقد فقالت : بعه فعسى الله أن يصنع لك .

قال : فبكى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : وكيف لا يصنع الله لك وقد أعطتكه فاطمة بنت محمّد سيّدة بنات آدم .

فقام عمّار بن ياسر رحمة الله عليه فقال : يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا

٥٢

العِقد ؟ قال : ( اشترهِ يا عمّار فلو اشترك فيه الثَقَلان ما عذّبهم الله بالنار ) ، فقال عمّار : بِكَمْ العِقد يا أعرابيّ ؟ قال : بشَبعةٍ من الخبز واللّحم ، وبردة يمانيّة أستر بها عورتي واُصلّي فيها لربيّ ، ودينار يبلّغني إلى أهلي ، وكان عمّار قد باع سهمه ـ من الغنيمة ـ الذي نفله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من خبير ولم يُبقِ منه شيئاً ، فقال : لك عشرون ديناراً ومأتا درهم هجريّة ، وبُردة يمانيّة ، وراحلتي تبلّغك أهلك ، وشَبَعُك من خبز البُرّ واللّحم .

فقال الأعرابيّ : ما أسخاك بالمال أيّها الرجل ، وانطلق به عمّار فوفّاه ما ضمن له .

وعاد الأعرابيّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أَشَبِعتَ واكتَسَيت ؟ قال الأعرابيّ : نعم واستغنيت بأبي أنت واُمّي ، قالْ : فأجْزِ فاطمة بصنيعها ، فقال الأعرابيّ : اللَّهُمَّ إنّك إله ما استحدثناك ، ولا إلهٌ لنا نعبده سواك وأنت رازقنا على كلّ الجهات ، اللَّهُمَّ أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا اُذن سمعت .

فأمّن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على دعائه وأقبل على أصحابه ، فقال : إنّ الله قد أعطى فاطمة في الدُّنيا ذلك : أنا أبوها وما أحدٌ من العالمين مثلي ، وعليٌّ بعلها ولولا عليّ ما كان لفاطمة كفو أبداً ، وأعطاها الحسن والحسين وما للعالمين مثلهما سيّدا شباب أسباط الأنبياء وسيّدا أهل الجنّة ... ـ وكان بإزائه مقداد وعمّار وسلمان ـ فقال : وأزيدكم ؟

قال : نعم يا رسول الله .

قال : أتاني الرّوح يعني جبرئيل عليه‌السلام أنّها إذا هي قبضت ودفنت يسألها الملكان في قبرها : من ربّك ؟ فتقول : الله ربّي ، فيقولان : فمَن نبيّك؟ فتقول : أبي ، فيقولان : فمن وليّك ؟ فتقول : هذا القائم على شفير قبري عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام .

ألا وأُزيدكم من فضلها : إنّ الله قد وكّل بها رعيلاً من الملائكة يحفظونها من بين يديها ومن خلفها وعن يمينها وعن شمالها وهم معها في حياتها وعند قبرها

٥٣

وعند موتها يكثرون الصلاة عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها .

فمن زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن زار فاطمة فكأنّما زارني ، ومن زار عليّ بن أبي طالب فكأنّما زار فاطمة ، ومن زار الحسن والحسين فكأنّما زار عليّاً ، ومن زار ذرّيتهما فكأنّما زارهما .

فعمد عمّار إلى العقد ، فطيّبه بالمسك ، ولفّه في بردة يمانيّة ، وكان له عبدٌ اسمه سَهم ابتاعه من ذلك السّهم الذي أصابه بخبير ، فدفع العقد إلى المملوك وقال له : خُذ هذا العقد فادفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنت له ، فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بقول عمّار ، فقال النبيّ : انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها ، فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخَذت فاطمة عليها‌السلام العِقد وأعتَقَت المملوك ، فضحك الغلام ، فقالت : ما يضحك يا غلام ؟ فقال : أضحكني عِظَمِ بركة هذا العقد ، أشبع جائعاً ، وكسى عرياناً ، وأغنى فقيراً ، وأعتق عبداً ، ورجع إلى ربّه(١) .

ومن مكارم أخلاقها سلام الله عليها دعاؤها في عبادتها للمؤمنين دون نفسها ، ففي حديث دلائل الإمامة : ـ

عن الإمام الحسن عليه‌السلام قال : ـ رأيت اُمّي فاطمة قائمةً في محرابها ليلة الجمعة ، فلم تزل راكعةً ساجدة حتّى انفلق عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتُكثر الدّعاء لهم ، ولا تدعو لنفسها بشيء .

فقلت : يا اُمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيركِ ؟

قالت : يا بُنيّ الجار ثمّ الدار (٢) .

ومن طيب أخلاقها حسن سيرتها مع أمير المؤمنين عليه‌السلام زوجها وابن عمّها ،

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٥٦ .

(٢) دلائل الإمامة للطبري / ص ٥٢ .

٥٤

ففي حديث البحار : ـ

قال عليّ عليه‌السلام : ـ ( فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتُها على أمرٍ حتّى قبضها الله عزّ وجلّ ولا أغضبني ، ولا عَصَت لي أمراً ، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان )(١) .

ومن لطف أخلاقها مشاطرتها خدمة البيت مع خادمتها فضّة ، وخدمتها بنفسها الطاهرة ، ففي حديث من لا يحضره الفقيه : ـ

أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لرجلٍ من بني سعد : ـ

ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة الزهراء سلام الله عليها ؟ إنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها ، وطحنت بالرّحىٰ حتّى مجلت يداها ، وكَسَحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها ، وأوقدت تحت القدر حتّى دكَنَت ثيابها ، فأصابها من ذلك ضرٌّ شديد ...(٢) .

ومن كريم عشرتها عدم تكليفها أمير المؤمنين عليه‌السلام بما يصعب عليه ، ففي حديث البحار : ـ

عن أبي سعيد الخدري ، قال : أصبح عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ذات يوم ساغباً ، فقال : يا فاطمة هل عندكِ شيءٌ تغذّينه ؟

قالت : لا ، والذي أكرم أبي بالنبوّة ، وأكرمك بالوصيّة ، ما أصبح الغداة عندي شيء ، وما كان شيء ، أطعمناه مُذ يومين إلّا شيء كنت أوثرك به على نفسي وعلى ابنيّ هذين الحسن والحسين .

فقال عليّ : يا فاطمة ألا كنتِ أعلمتني فألفيكم شيئاً ؟

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ١٣٤ .

(٢) من لا يحضره الفقيه / ج ١ / ص ٣٢ .

٥٥

فقالت : يا أبا الحسن إنّي لأستحي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه(١) .

ومن وجودها وكرمها : إنفاقها واردات فدك للفقراء والمساكين في سبيل الله تعالى .

علماً بأنّ واردات فدك نحلتها من أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله تبلغ في كلّ سنة سبعين ألف دينار ، يعني ما يعادل ( ٠٠٠/٧٠ ) مثقال من الذهب(٢) .

ثمّ وصيّتها ببساتينها السبعة : ( العَواف ، والدلال ، والبرقة ، والمثيَب ، والحسنى ، والصافية ، وأمّ إبراهيم ) .

وهي المسمّاة بالحوائط السبعة والعوالي ، وكانت على نصف فرسخ من المدينة المنوّرة كما في البهجة(٣) .

ومن طيب سجيّتها حنانها ومحبّتها لأبيها وبعلها وبنيها وذرّيتها وشيعتها حتّى لُقّبت بالحانية .

فتلاحظ في سيرتها المباركة شدّة محبّتها برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى أنّه غُشي إليها حينما رأت قميصه بعد شهادته(٤) .

وتلاحظ محبّتها لزوجها وتعبيرها عنه في وصيّتها بقولها :

( ثمّ إنّي أوصيك في نفسي وهي أحبّ الأنفس إليَّ بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ... )(٥) .

ولم تتركه في شديد مصابها في يوم الدار ، بل أسرعت إليه لخلاصه من أيدي أعدائه كما اتّفقت عليه السِّير .

وتلاحظ محبّتها لأولادها حتّى في حال آلامها وقرب شهادتها في خدمتها

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٥٩ .

(٢) كشف المحجّة للسيّد ابن طاووس / ص ١٨٢ .

(٣) بهجة قلب المصطفى / ص ٥١١ .

(٤) أهل البيت ، لتوفيق أبو علم / ص ١٦٦ .

(٥) بحار الأنوار / ج ١٠٣ / ص ١٨٥ .

٥٦

لهم حتّى في غسل رؤوسهم .

وتلاحظ محبّتها لذرّيتها حتّى سلّمت عليهم وعلىٰ من جاء منهم إلى يوم القيامة كما في وصيّتها .

وتلاحظ محبّتها لشيعتها حتّى أنّها تلتقطهم للشفاعة يوم القيامة كما يلتقط الطير الحبّ الجيّد من الحبّ الرديء .

فهي القدوة والاُسوة التي ينبغي أن نتأسّى بها في حياتنا الدينيّة والأخلاقيّة حتّى نحصل على السعادة الأبديّة .

٥٧

٥٨

الإمام الحسن المجتبىٰ عليه‌السلام

كان حَسَناً في صفاته كاسمه ، بل غاية الحُسن في أخلاقه كما نستلهمه من سيرته الشريفة في صفاته الغرّاء .

من ذلك حلمه العظيم مع الرجل الشامي الذي جعل يلعنه والإمام عليه‌السلام لا يردّ عليه ، بل أحسن له في الجواب ، كما في الحديث المعروف .

ومن ذلك جوده وكرمه حيث قاسَمَ ربّه جميع أمواله ثلاث مرّات .

ومن سخاءه ما روي :

إنّه سأل الحسن بن علي رجلٌ فأعطاه خمسين ألف درهم ، وخمس مائة دينار .

ثمّ قال له : ائتِ بحمّال ، فأعطى طيلسانه وقال : ـ هذا كرى الحمّال .

وجاءه بعض الأعراب فقال عليه‌السلام : أعطوه ما في الخزانة ، فوجدن فيها عشرون ألف دينار ، فدفعها إلى الأعرابي .

فقال الأعرابي : يا مولاي ألا تركتني أبوح بحاجتي ، وأنشر مدحتي .

فأنشأ الإمام الحسن عليه‌السلام يقول : ـ

نحنُ اُناسٌ نوالُنا خَضَل

يرتعُ فيه الرجاءُ والأملُ

٥٩

تجودُ قبل السؤالِ أنفسُنا

خوفاً على ماء وجه من يَسَلُ

لو عَلِم البحر فضل نائِلنا

لغاضَ من بعد فيضَه خجلُ (١)

__________________________________

(١) لاحظ بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٣٤٠ .

٦٠