أخلاق أهل البيت عليهم السلام

السيد علي الحسيني الصدر

أخلاق أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-654-5
الصفحات: ٢٤٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فقال : نعم .

فقال : لا يعجبنّك ، فإنّي اُسبّح لله في كلّ ليلةٍ ألف تسبيحة ، يتشعّب لي مع كلّ تسبيحة ثلاثة آلاف تحميدة ، وأنّي لأكون في قعر الماء فيصوّت الطير في الهواء ، فأحسبه جائعاً ، فأطفوا له على الماء ليأكلني وما لي من ذنب(١) .

٣ ـ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ـ

تصعد الحفَظَة بعملِ العبد يزهر كالكوكب الدرّيّ في السماء ، له دويٌّ بالتسبيح ، والصوم ، والحجّ ، فيمرّ به إلى ملك السماء الرابعة فيقول له : قِف ، فاضرب بهذا العمل وجهَ صاحِبه وبطنَه ، أنا مَلَك العُجب ، إنّه كان يعجبُ بنفسه ، وأنّه عمل وأدخل نفسه العُجب ، أمرني ربّي أن لا أدع عملَه يتجاوزني إلى غيري ، فاضرب به وجه صاحبه(٢) .

فاستقلال الإنسان الخير من نفسه يفيد الإنسان التحذّر عن هذا العجب المفسد لذلك العمل الخيّر .

وأمّا استكثار الشرّ من نفسه ، ففائدته عدم التهاون بالمعصية .

والتهاون بالمعصية هو جعلها هيّنةً ، وعدم الاهتمام بها ، وهو يوجب الجرأة على عصيان الله العظيم ، عصيان جبّار السماء والأرض ، وهو مذموم ممقوت كما تلاحظه في الأحاديث الشريفة منها : ـ

١ ـ حديث الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ـ

إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل بأرضٍ قرعاء ـ أي لا نبات ولا شجر فيها ـ فقال لأصحابه : ائتوا بحطب .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧١ / ص ٢٣٠ / ح ٧ .

(٢) مستدرك الوسائل / ج ١ / ص ١٤١ / ح ١٧ ، ولاحظ قضيّة ابن الماوردي في كون العجب مقروناً بالجهل ، في سفينة البحار / ج ٦ / ص ١٥٦ .

٢٢١

فقالوا : يا رسول الله ، نحن بأرضٍ قرعاء ، ما بها من حطب .

قال : فليأت كلّ إنسان بما قدر عليه .

فجاؤوا به ، حتّى رَمَوا بين يديه بعضه على بعض .

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هكذا تجتمع الذنوب .

ثمّ قال : إيّاكم والمحقّرات من الذنوب ...(١) .

٢ ـ حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام : ـ

( أشدّ الذنوب ما استهان به صاحبه )(٢) .

٣ ـ حديث وصيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه : ـ

يا أبا ذرّ .. إنّ المؤمن ليرى ذنبه كأنّه تحت صخرة ، يخاف أن يقع عليه ، وإنّ الكافر ليرىٰ ذنبه كأنّه ذبابٌ مرَّ على أنفه .

يا أبا ذرّ ، إنّ الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيراً جعل ذنوبه بين عينيه ممثّلة ، والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً ، وإذا أراد بعبدٍ شرّاً أنساه ذنوبه .

يا أبا ذرّ ، إنّ نفس المؤمن ارتكاضاً ـ أي اضطراباً ـ من الخطيئة من العصفور حين يقذف في شَرَكه(٣) .

فإذا استكثر الإنسان الشرّ من نفسه ، لم يتهاون به ، بل اشتدّ اجتنابه عنه .

فاللّازم علينا في مكارم أخلاقنا أن نستقلّ الخير من أنفسنا في أقوالنا وأفعالنا وإن كثرت .

وأن نستكثر الشرّ من أنفسنا في أقوالنا وأفعالنا وإن قلّت .

__________________________________

(١) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢١٨ / ح ٣ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم / ج ١ / ص ١٩٢ / ح ٣١٨ .

(٣) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٧٩ .

٢٢٢

وفي حديث الإمام الكاظم عليه‌السلام : ـ

( لا تستكثروا كثير الخير ، ولا تستقلّوا قليل الذنوب ، فإنّ قليل الذنوب يجتمع حتّى يكون كثيراً )(١) .

فالمفروض علينا أن نهذّب أنفسنا ونروّضها على هاتين الخصلتين ، فنفكّر في خيرات وعبادات ومواعظ أولياء الله تعالى ، فتصغر في أعيننا خيرنا وعبادتنا وأقوالنا .

ونفكّر في نزاهة أولياء الله من الشرور والذنوب في قولٍ أو فعلٍ منهم ، فتكثر في أعيينا شرورنا ومعاصينا .

وأهل البيت عليهم‌السلام لم يكن لهم شرٌّ في الحياة في آنٍ من الآنات ، وكانت حياتهم مليئة بالخيرات والطيّبات من أقوالهم وأفعالهم ، وبالرغم من ذلك كانوا يستقلّون خير أنفهسم ، كما مرّ عليك في حديث الأعرابي الذي وفدَ على الإمام الحسين عليه‌السلام حين أغناه بأربعة آلاف دينار ، ومع ذلك كان يعتذر إليه بقلّة النفقة منه(٢) .

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٣ / ص ٣٤٦ .

(٢) بحار الأنوار / ج ٤٤ / ص ١٩٠ .

٢٢٣

٢٢٤

(١٨) وأكمِلْ ذلكَ لي بدوام الطاعة

الطاعة هي : موافقة الأمر ، وامتثاله والانقياد له .

كامتثال أوامر الله تعالى ونواهيه ، فإنّه طاعةٌ لله تعالى .

ودوام الطاعة : استمرارها ، مضافاً إلى إيجادها وتحقّقها .

والسعادة العظمى في الدُّنيا والآخرة هي إطاعة الله تعالى ، وإطاعة من أمرنا الله تعالى بإطاعتهم .

وهم الرسول الأعظم وأهل بيته الكرام عليهم‌السلام في قوله عزّ اسمه : ـ

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ )(١) .

وقد تظافرت الأحاديث من الفريقين في تفسير اُولي الأمر بأهل البيت الطيّبين ، الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام (٢) .

وهذه الإطاعة فوز الدُّنيا والآخرة ، وسعادة الدارين الاُولى والاُخرى ..

__________________________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩ .

(٢) لاحظ تفسير البرهان / ج / ص / ، وإحقاق الحقّ / ج ٣ / ص ٤٢٤ .

٢٢٥

قال تعالى : ( يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )(١) .

وقال عزّ اسمه : ـ ( وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا )(٢) .

وذكرت الأحاديث الشريفة فضلها وفضيلتها في جملة منها مثل : ـ

١ ـ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ

( ... إنّ طاعة الله نجاحُ كلّ خيرٍ يُبتغى ، ونجاةٌ من كلّ شرٍّ يُتّقىٰ ، وإنّ الله العظيم يعصم من أطاعه ، ولا يعتصم منه من عصاه )(٣) .

٢ ـ حديث الإمام الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى : ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )(٤) قال عليه‌السلام : ـ ( لقد كان ابنه ، ولكن لمّا عصى الله عزّ وجلّ نفاه الله عن أبيه .

كذا من كان منّا لم يطع الله فليس منّا .

وأنت إذا أطعت الله فأنت منّا أهل البيت )(٥) .

فإطاعة الله تعالى هو الإكسير الأعظم ، والفوز الأتمّ ، بخير الدارين ، وسعادة النشأتين والاستمرار عليها .

وإطاعة الإنسان لربّه ، وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولأهل البيت عليهم‌السلام ، عجيبة في النتيجة ، من حيث إنّها توجب أن يكون الإنسان من أولياء الله المقرّبين ، ومن مظاهر قدرة ربّ العالمين ، حتّى أنّها توجب نيل الكرامات وإطاعة المخلوقات للإنسان كما تلاحظه في مثل : ـ

١ ـ الصاحبي الجليل سلمان المحمّدي رضوان الله تعالى عليه ، وقضاياه التي

__________________________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٧١ .

(٢) سورة النساء : الآية ٦٩ .

(٣) بحار الأنوار / ج ٧٧ / ص ٦٩ .

(٤) سورة هود : الآية ٤٦ .

(٥) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٢٣٠ .

٢٢٦

تلاحظها في مثل حديث القدر المغلي(١) ، وحديث طينته(٢) .

٢ ـ جابر الجُعفي رضوان الله تعالى عليه ، وقضاياه التي تجدها في مثل طيّ الأرض له ، وسفره إلى أرض السواد(٣) .

وهذه الفقرة من الدّعاء الشريف يُطلب فيها من الله تعالى تكميل تلك المكارم الأخلاقيّة المتقدّمة : بسط العدل ، وكظم الغيظ .. إلخ ، بدوام طاعة الله تعالى ، وعدم عصيانه .

فإنّ ترك الطاعة وارتكاب المعصية ، نقضٌ لتلك المكارم الأخلاقيّة ، بل موجبٌ لارتكاب الاُمور المذمومة ، والأفعال المحرّمة .

فيُطلب دوام الطاعة في الأوامر والنواهي الإلهيّة ، وفي الصفات المرغوبة الأخلاقيّة .

وهذا يحتاج إلى الطلب من الله تعالى ؛ لأنّ البقاء على العمل أصعب من نفس إتيان العمل ، ومستلزمٌ للصبر وتحمّل المشقّة .

والمثل الأعلى في دوام الطاعة ، وعدم الخروج عنها طرفة عين هم أهل البيت عليهم‌السلام الذين لم يعصوا ولا يعصون الله تعالى فيما أمرهم ، ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

لم يخالفوا الله تعالى في صغيرةٍ ولا كبيرة ، في شدّةٍ ولا رخاء ، حتّى أنّهم لم يفعلوا ما كان الأولى تركه ، ولم يتركوا ماكان الأولى فعله .

فاتّصفوا بالعصمة الكبرى والطهارة العظمى ، كما تدلّ عليه أدلّة الكتاب والسنّة مثل : آية التطهير ، وأحاديث العصمة المرويّة من طرق الفريقين(٤) .

__________________________________

(١) رجال الكشّي / ص ١٩ .

(٢) الاختصاص / ص ٢٢١ .

(٣) رجال الكشّي / ص ١٧٢ .

(٤) لاحظ تحقيقه ومصادره في كتاب العقائد الحقّة / ص ٣٤٩ / مبحث العصمة .

٢٢٧

فيلزم علينا الاقتداء بأهل البيت عليهم‌السلام ، وتكميلاً للصفات الحسنة التي هي حلية الصالحين وزينة المتّقين ، وترويض النفس على الصبر عليها ، وعدم إبداء السخط منها ، لكي يحصل لنا الكمال بتلك الصفات ، والأجر بالصبر عليها ، وعدم الندامة من تركها .

فإنّ تركها يوجب الندم ، وإظهار السخط منها يوجب الخجل ، كما في قضيّة ذلك العالم المحقّق الذي أبدى السخط ، ولم يصبر عند تأخير حاجته ، فحصلت له الندامة .

فقد حكى بعض السادة الأجلّاء الثقات عن أحد العلماء المحقّقين الذي كان يؤلّف كتاباً في الدفاع عن أهل البيت عليهم‌السلام الذي هو من أهمّ الوظائف الشرعيّة على علماء الدِّين ، وأصحاب القلم من المحقّقين .

فاحتاج هذا العالم في مصادر كتابه إلى كتاب كان نادر الوجود ، وكلّما بحث عنه في النجف الأشرف لم يعثر عليه ، وكان يعلم أنّه موجود في النجف ، لكن لم يعرف أنّه عندَ مَن .

فتوسّل بالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يهيّئ له ذلك الكتاب ، بأن يُرشده في المنام أو في اليقظه إلى محلّ وجود ذلك الكتاب ، حتّى يستعيره ويستفيد منه وينقل عنه .

ودام التوسّل بالإمام عليه‌السلام ستّة أشهر متواصلة ، لكن لم تحصل له النتيجة .

وبعد هذه المدّة الكثيرة ، وبينما هو أمام الضريح المقدّس ، وملتصقٌ به ، ويتوسّل بالإمام ويطلب منه الكتاب ويقول :

( أنت مولاي ، وتعلم بإذن الله تعالى أين يوجد الكتاب ، وأنا محتاج إليه ، فارشدني إلى موضعه ) .

بينما هو يقول هذا ، إذ سمع من الطرف الآخر من الضريح المقدّس ، شخصاً

٢٢٨

آخر يطلب من الإمام عليه‌السلام حاجته ، ويبدو من لسانه أنّه شخصٌ قرويّ ، ويقول بلهجةٍ حادّة للإمام عليه‌السلام : ـ

( لو لم تعطني حاجتي لا أزورك بعد هذا أبداً ) .

ومرّت سبعة أيّام على هذه القضيّة ، وبينا أنا أيضاً مقابل للضريح الشريف أطلب حاجتي ، إذ سمعت ذلك القروي يقول للأمير عليه‌السلام بلهجته الخاصّة : ـ

( أروح لك فدوه يا علي ، أعطيتني حاجتي ، كفو ، كفو ، كفو ) .

قال ذلك العالم : لمّا رأيت أنا ذلك هاجت نفسي ، وخرجتُ عن الطبيعة ، ونفذ صبري ، وصرتُ أقول للإمام عليه‌السلام بخشونة شديدة :

( شنو حاجة هذا المعيدي غير الدُّنيا ، تعطيه سريعاً ، ولا تعطيني حاجتي وهي للدفاع عنكم وكتابة فضائلكم ) .

وخرجت من الحرم الشريف شبه الزعلان ، وبحالة الغضب ـ وهذا هو محلّ الصبر على الطاعة وعلى تلك المكارم الأخلاقيّة ، وامتحان من يدوم له لين العريكة ومن لا يدوم ـ .

ولمّا وصلت إلى داري ندمتُ كثيراً على أنّه لماذا تجاسرت بخدمة الإمام عليه‌السلام وهو خلاف الأدب .

وخصوصاً وبيما أنا كذلك ، إذ طرق باب الدار جارٌ لنا ، فذهب ولدي وفتح الباب ، ودخل عَليَّ جارنا ، فرحّبت به ، وجلس عندي ، ودار الكلام عندنا فقال الجار : نحن في حالة انتقال إلى دارٍ جديد ، وقد نظّفنا دارنا الفعلي لنحوّله إلى المشتري ، وفي أثناء تنظيف رفوف الدار عثرتُ في الرفّ الأعلى على كتابٍ أنا لا أستفيد منه لأنّي لا أعرف القراءة والكتابة ..

فقلتُ لابني : ـ إذهب بهذا الكتاب ، واجعله في المسجد .

فقال ابني : ـ لا يا أبه ، لا تجعله في المسجد ، بل أعطه لجارنا العالم حتّى

٢٢٩

يستفيد منه ، وهو هذا الكتاب ، جئت به إليك هديّة لك .

قال ذلك العالم : فأخذتُ منه الكتاب ، فإذا هو نفس الكتاب الذي طلبته من أمير المؤمنين عليه‌السلام ، طلبتُ منه أن يرشدني إليه لأستعيره ، لكن ذلك الكريم صلوات الله عليه أهداه لي ، وملّكه بدل الاستعارة .

فذهبت واعتذرت من أمير المؤمنين عليه‌السلام على سوء أدبي ، وعدم صبري ، وتشكّرت منه على لطفه وإحسانه .

وعليه فالمطلوب تكميل مكارم الأخلاق بدوام الطاعة واستمرارها ، وعدم النقض بالمعاصي والمحرّمات ، أو بما يخالف الأخلاقيّات .

فيُستدام على الطاعات بصبر ، ويستمرّ على المكارم والأخلاقيّات بتحمّل ، فيحصل بذلك الكمال الكامل ، والفضل الشامل .

٢٣٠

(١٩) ولزوم الجماعة

اللّزوم هو : الملازمة ، وعدم المفارقة .

والجماعة هي : جماعة الناس ..

والمراد بها جماعة المؤمنين المتّفقين على المذهب الحقّ ، لا كلّ جماعةٍ وإن كانت باطلة .

و « أل » فيها عهديّة ، والمعهود في الدّعاء جماعة أهل الحقّ ..

نظير « أل » العهديّة في القرآن الكريم في قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ )(١) حيث إنّ المعهود فيها نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقوله عليه‌السلام : ( ولزوم الجماعة ) معطوف على قوله : ( بدوام الطاعة ) أي واكمل لي ذلك بلزوم الجماعة .

فتكمل المكارم الأخلاقيّة المتقدّمة بدوام طاعة الله تعالى والاستمرار عليها ، وملازمة جماعة أهل الحقّ وعدم مفارقتهم .

بل عدم مفارقتهم ولو لحظةً واحدة حتّى يصدق التلازم وعدم الافتراق ، كما

__________________________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٦ .

٢٣١

تلاحظه في الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار ، فإنّهما لا يفترقان أبداً .

حيث إنّ المفارقة عن الحقّ لا يعني إلّا الدخول في الباطل ، فإنّه ليس بعد الحقّ إلّا الضلال .

ويدلّ على كون المراد بالجماعة جماعة أهل الحقّ ، الحديث الصادقي الشريف :

( سُئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما جماعة اُمّتك ؟

فقال : ـ جماعةُ اُمّتي أهل الحقّ ، وإن قلّوا ) .

وفي حديثٍ آخر : ( فقال : من كان على الحقّ ، وإن كانوا عشرة )(١) .

فمفاد الدعاء الشريف طلب ملازمة جماعة أهل الحقّ التي هي الفضائل المكمّلة لمكارم الأخلاق ، ومعالي الصفات .

فهي التي تكون حلية الصالحين ، وزينة المتّقين ، وإلّا فملازمة أهل الباطل رذيلة ومعيبة ، وليست حلية وزينة .

والجدير بالبيان هو معرفة أنّه :

مَن هم جماعة أهل الحقّ الذين يلزم متابعتهم وملازمتهم ؟

الجواب : هم الذين بيّنهم الرسول الأعظم ، ونصّ عليهم صاحب هذا الدِّين ، النبيّ الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال في الأحاديث المتظافرة المتّفق عليها بين الفريقين : ـ

( عليٌّ مع الحقّ والحقّ معه ، يدور حيثما دار )(٢) .

( أهل بيتي مع الحقّ ، والحقّ معهم ، لا يفارقهم ولا يفارقوه )(٣) .

فمحور الحقّ هم عليٌّ وأهل البيت عليهم‌السلام ، فإذا أردنا أن نعرف أنّه هل هذا الشخص على الحقّ أو على الباطل ؟

__________________________________

(١) رياض السالكين / ص ٢٢٤ .

(٢) غاية المرام / ص ٥٣٩ .

(٣) إحقاق الحقّ / ج ٩ / ص ٤٧٩ .

٢٣٢

يكون المحك هو عليّ عليه‌السلام .. فإن كان الشخص مع عليّ عليه‌السلام فهو على حقّ ، وإلّا فهو على باطل .

فأمير المؤمنين عليه‌السلام ( هو فارق بين الحقّ والباطل )كما نصّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله(١) .

ولذلك عبّر عنه الرسول في واقعة الخندق بالإيمان كلّه ، ومنحه أعظم وسام بقوله صلوات الله عليه وآله : ـ ( برز الإيمان كلّه ) .

فكلّه حقّ لأنّ كلّه إيمان ، فمن كان معه كان مع الحقّ ومن أهل الإيمان ، ومن لم يكن معه فهو على باطل وعلى غير إيمان .

فيتّضح جيّداً أنّ المراد بالجماعة في الدعاء الشريف هم جماعة عليّ وأهل البيت عليهم‌السلام فهم جماعة أهل الحقّ الذي تكون ملازمتهم فضيلة وحلية .

وقد عقد العلّامة المجلسي أعلى الله مقامه باباً في البحار في لزوم الجماعة بأحاديث شريفة منها : ـ

حديث علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال : ـ

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ

من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه .

قيل : يا رسول الله وما جماعة المسلمين ؟

قال : جماعة أهل الحقّ وإن قلّوا(٢) .

وفائدة ملازمة أهل البيت عليهم‌السلام هي سعادة الدُّنيا والآخرة .

ففي حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ

( إلزموا عليّ بن أبي طالب ، فاز من لزمه )(٣) .

__________________________________

(١) إحقاق الحقّ / ج ٤ / ص ٢٦ .

(٢) بحار الأنوار / ج ٢٩ / ص ٦٨ / ب ٣ / ح ١ .

(٣) إحقاق الحقّ / ج ٤ / ص ٢٦ ، وص ١٤٩ .

٢٣٣

وفي حديث الإمام الرضا عليه‌السلام : ـ

( مَن لزمنا لزمناه ، ومن فارقَنا فارقناه )(١) .

وفي حديث الزيارة الجامعة المباركة : ـ

( فاز مَن تمسّك بكم ، وأمِنَ مَن لجأ إليكم ، وسَلِم مَن صدّقكم ، وهُدي من اعتصم بكم )(٢) .

فنسأل الله تعالى أن يرزقنا ملازمتهم ، ويديم لنا موالاتهم ، ويمنّ علينا بالجنّة معهم كما في بشارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ

( من أحبَّ أن يحيىٰ حياتي ، ويموت مماتي ، ويدخل الجنّة التي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّاً بعدي ، فإنّه لن يخرجكم من هدىٰ ، ولن يدخلكم في ردىٰ )(٣) .

__________________________________

(١) وسائل الشيعة / ج ١٨ / ص / ب / ح .

(٢) عيون الأخبار / ج ٢ / ص ٢٧٧ .

(٣) أمالي الشيخ الطوسي / ج ٢ / ص ١٠٧ .

٢٣٤

(٢٠) ورفضِ أهلِ البِدَع ومستعملي الرأي المخترَع

الرفض هو الترك ، والردّ ، وعدم القبول .

والبدَع : جمع بدعة ، وهي اسمٌ من الابتداع بمعنى الإحداث والإختراع .

قال في المجمع : ـ ( البدعة : بالكسر فالسكون : الحدثُ في الدِّين وما ليس له أصلٌ في كتابٍ ولا سنّة .

وإنّما سمّيت بدعة لأنّ قائلها ابتدعها من نفسه )(١) .

وقال في المرآة : ـ ( البدعة في عرف الشرع ما حدث بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يَرد فيه نصٌّ على الخصوص ، ولا كيون داخلاً في بعض المعلومات ، أو ورد فيه نهيٌ عنه خصوصاً أو عموماً )(٢) .

ويؤيّده الحديث الشريف : ـ السُنّة ما سنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والبدعة ما اُحدث من بعده )(٣) .

__________________________________

(١) مجمع البحرين / ص ٣٧٠ .

(٢) مرآة الأنوار / ص ٧٨ .

(٣) بحار الأنوار / ج ٢ / ص ٢٦٦ .

٢٣٥

وعُرّفت في الاصطلاح الفقهي بأنّها هي : ـ

( إدخال ما ليس من الدِّين في الدِّين ، نظير إدخال التكتّف في الصلاة .

ومثله إخراج ما ثبت في الدِّين من الدِّين ، نظير إسقاط حيَّ على خير العمل من الأذان ) .

وقد حدثت هذه البِدَع المذمومة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بواسطة الغاصبين والظالمين والمنحرفين .

وقد ذكر السيّد الجليل شرف الدِّين أعلى الله مقامه في كتابه الخاصّ بذلك ( النصّ والاجتهاد ) ٧١ مورداً من بدع الغاصبين ، منها : ـ

١ ـ غصب نحلة الزهراء عليها‌السلام ، وبدعتهم أنّ الرسول لم يورّث ، وهذه بدعة الأوّل والثاني .

٢ ـ قتل مانعي الزكاة بما جناه خالد بن الوليد في مالك بن نويرة ، وهذه بدعة الأوّل .

٣ ـ تحريم متعة الحجّ ، ومتعة النساء ، وهذه كانت من قِبَل الثاني .

٤ ـ إسقاط طواف النساء من الحجّ .

٥ ـ إسقاط ( حيّ على خير العمل ) من الأذان .

٦ ـ إدخال الصلاة خيرٌ من النوم في أذان الصبح .

٧ ـ تشريع الطلاق ثلاثاً مؤبّداً في مجلسٍ واحد .

٨ ـ تشريع صلاة التراويح .

٩ ـ حكم الثاني بسقوط الصلاة عند فقدان الماء .

١٠ ـ تقديم الثالث رأيه على نصوص الكتاب والسنّة ، كإتمامه الصلاة في السفر ، وإعطاءه الخمس لغير بني هاشم ، بل للطريد مروان بن الحكم(١) .

__________________________________

(١) لاحظ للاستقصاء كتاب الغدير / ج ٦ / فصل نوادر الأثر ، خصوصاً الصفحات : ـ ٨٣ ، ١٠٨ ، ١٨٧ ، ٢٨٢ ، ٢٩٤ .

٢٣٦

هذه هي البدع المبتدعة التي يأتي بيان فسادها وذمّها في الأحاديث الشريفة .

وفي هذا الدّعاء الشريف يُطلب من الله تعالى التكميل برفض أهل البدع ، وتركهم ، وعدم القبول منهم .

أي واكمل لي ذلك برفض أهل البدع .

قوله عليه‌السلام : ـ ( ومستعملي الرأي المخترع ) عطفٌ على أهل البدَع ، أي واكمل لي ذلك برفض مستعملي الرأي المخترع .

ومستعملي الرأي المخترَع هم الذين اخترعوا رأياً من عند أنفسهم ، وبناقص عقولهم ، ثمّ عملوا به وأفتوا على طبقه ، كاختراع القياس في الدِّين .

والرأي المخترع قسمٌ من البدعة ، لأنّه إدخال ما ليس من الدِّين في الدِّين ، خصّص بالذمّ ، وأكّد بالردع .

ومذموميّة البدعة واختراع الرأي ممّا تظافرت به الأدلّة المعتبرة ، والأحاديث الشريفة .

فتكون صفةً مذمومة منافية للتقوى والصلاح ، فيلزم تركها ، والابتعاد عنها في سبيل تحصيل التقوى ، وتزيين الصالحين .

وممّا ورد في ذمّ البدعة والرأي المخترَع : ـ

١ / حديث الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما‌السلام قالا : ـ

( كلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار )(١) .

٢ / حديث الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ـ

( لا تصحبوا أهل البدع ، ولا تجالسوهم ، فتصيروا عند الناس كواحدٍ منهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : المرء علىٰ دين خليله )(٢) .

__________________________________

(١) اُصول الكافي / ج ١ / ص ٤٥ .

(٢) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢٧٨ .

٢٣٧

٣ / حديث أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : ـ

( من مشىٰ إلى صاحب بدعةٍ فوقّره ، فقد مشىٰ في هدم الإسلام ) (١) .

٤ / حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ـ

( من أحدث في الإسلام ، أو آوى مُحدِثاً ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )(٢) .

٥ / حديث الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ـ

( إنّ أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس ، فلم تزدهم المقاييس من الحقّ إلّا بُعداً ، وإنّ دين الله لا يُصاب بالعقول )(٣) .

وعليه فالبدعة وإحداث الرأي المخترَع من الضلال والباطل ، وقد ارتكب أشنعه أهل الخلاف كما ذكر شيءٌ منها في الفصل الثالث من كتابنا : شيعة أهل البيت عليهم‌السلام .

فقد حكى الزمخشري عن يوسف بن أسباط أنّه قال : ردّ أبو حنيفة على النبيّ أربعمائة حديث ...

قيل : مثل ماذا ؟

قال : مثل هذا : ـ

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « للفرس سهمان » .

وقال أبو حنيفة : لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم المؤمن(٤) .

وأشعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله البُدن .

__________________________________

(١) عقاب الأعمال / ص ٣٠٧ .

(٢) مستدرك الوسائل / ج ١٢ / ص ٣٢٢ .

(٣) اُصول الكافي / ج ١ / ص ٥٦ / ح ٧ ، وفي الحديث ٢٠ ( أوّل من قاس إبليس ) .

(٤) يردّه أنّ سهمي الفرس من غنائم الحرب يكون لنفس الفارس ، لعنائه ، وتكلّفه مؤونة فرسه ، ومأكله واصطبله ، لا لنفس الفرس حتّى يكون سهماً للبهيمة كما توهّم .

٢٣٨

وقال أبو حنيفة : الإشعار مُثلَة(١) .

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » .

وقال أبو حنيفة : إذا وجب البيع فلا خيار(٢) .

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يُقرع بين نساءه إذا أراد سفراً .

وقال أبو حنيفة : القرعة قمار(٣) .(٤) .

فتلاحظ أنّ الرأي المخترع ، وهذه البدع كيف تنافي الدِّين وتعارض شريعة سيّد المرسلين ، فرفضها من مقوّمات التقوى ، ومن حلية المتّقين .

هذا تمام الكلام في الصفات العشرين التي هي من حلية أهل الصلاح ، وزينة أهل التقوى ، رزقنا الله تعالى العمل بها والبقاء عليها ، إنّه وليّ التوفيق .

والحمدُ لله ربّ العالمين أوّلاً وآخراً ، وصلواته على رسوله وآله الطاهرين ، ولعنته على أعدائهم إلى يوم الدِّين .

__________________________________

(١) يردّه أنّ الإشعار الذي هو شقّ سنام البعير من جانبه الأيمن ، وتلطيخ صفحته بدمه من حجّ القران الذي يسوق هديه معه ، لمن كان حاضري مكّة ، وكذلك التقليد الذي هو تعليق نعلٍ صلّى فيه في عنقه ، إعلاناً بأنّه هديه الذي يسوقه للنحر ، كلّ ذلك شعيرة من شعائر الحجّ الذي ورد في القرآن الكريم في قوله عزّ اسمه في سورة الحجّ الآية ٣٦ : ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ ) فالردّ على هذه الشعيرة ردٌّ على القرآن الكريم .

(٢) يردّه أنّ هذا خيار المجلس الذي هو أمرٌ ثابت في الشريعة المقدّسة للبائع والمشتري ، وتوسعةً عليها فيما إذا ندم أحدهما .

(٣) يردّه أنّ هذا الكلام منافٍ للبداهة ، فإنّ المقامرة هي المراهنة ، وأين هي من القرعة التي هي تعويل الأمر على اختيار الله تعالى في الأمر المشكل .

(٤) لاحظ تلخيص الرياض / ج ٢ / ص ١١٤ .

٢٣٩

٢٤٠