أخلاق أهل البيت عليهم السلام

السيد علي الحسيني الصدر

أخلاق أهل البيت عليهم السلام

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-654-5
الصفحات: ٢٤٤
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

مفتاحه ، فصمّم أن يبيع ما يحتاج إليه الناس من الأقفال والمفاتيح فيربح فيها ويسدّ حاجته .

فاتّخذ لنفسه بساطاً ، وبسّط سلعته في مدخل صحن الإمام الحسين عليه‌السلام في المدخل ، وجعل يبيع بمقدار ما يحصّل به قوت ذلك اليوم ، ثمّ يجمع بساطه ، ويذهب إلى دروسه ، وهو آنذاك في أوّل شبابه ، ولم يكن معروفاً بالشيخ ، بل كان يُدعىٰ : مرتضى .

واتّفق في ذلك الوقت أنّ جمعاً من طلبة النجف الأشرف كانوا يسعون في الحصول على طريقٍ يصلون إلى خدمة مولانا صاحب الزمان أرواحنا فداه ، وجعلوا يواصلون الذهاب إلى مسجد السهلة ومسجد الكوفة شوقاً إلى لقائه ، ويتوسّلون ويتضرّعون إلى الله تعالى لأجل ذلك ، لكن لم ينتج لهم هذه الاُمنية السعيدة ، ولم يحصل لهم توفيق التشرّف واللّقاء الميمون .

نعم ، النتيجة التي حصلوها هي أنّه أخبرهم أحد الصلحاء الأتقياء أنّ الإمام الحجّة عليه‌السلام في اليوم الفلاني ، وفي الوقت الكذائي ، يتواجد في صحن جدّه الإمام الحسين عليه‌السلام .

ففرحوا بذلك ، وتحيّنوا الفرصة ، واستعدّوا لذلك ، وذهبوا بكلّ شوق في ذلك اليوم إلى كربلاء ، وحضروا صحن الإمام الحسين عليه‌السلام ، يتصفّحون الوجوه ، ويتفحّصون فيمن يناسب نور وجهه وسيماءه أن يكون هو المولى الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف .

فوصلوا إلى بساط الشيخ الأنصاري في مدخل الصحن الشريف ، ورأوا أنّ شخصاً محترماً وجيهاً نورانيّاً ، يجذب سيماء وجهه القلوب ، جالساً عند الشيخ الأنصاري ، والشيخ جالسٌ بكمال التأدّب والاحترام ، فجلب نظرَهم هذا المنظر اللطيف ، ووقفوا بدون اختيار ينظرون بشوقٍ إلى هذا السيماء الوجيه .

وفي هذه الأثناء ، وبينما هم كذلك ، جاءت إلى الشيخ الأنصاري امرأة

٢٠١

تريد شراء قفلٍ منه .

وقالت : إنّي أرملة ، ولي أولاد أيتام ، وليس لنا ما نصرفه في شراء الطعام سوى هذا القفل الذي لا مفتاح له ، فاشتره منّي بثمنٍ جيّد ، حتّى أصرف ثمنه في شراء طعامٍ للأيتام .

فأخذ الشيخ القفل ونظر إليه ، ثمّ قال للمرأة : يا مؤمنة هذا القفل وحده يسوى فلس ، وأنا أرهّم له مفتاحاً يسوى بفلس أيضاً ، فإذا كمل القُفل ، أنا أشتريه منك بخمس فلوس ، كثمن أحسن وأكثر حتّى تستعيني به على أيتامك .

فاشترى منها الشيخ ذلك ، وأعطاها خمس فلوس ، وهو أحسن ثمنٍ لذلك القفل .

تحمّل الشيخ هذا الثمن ، مع أنّه كان يمكنه أن يشتري ذلك القفل منها بفلسٍ واحد ويربح هو ضمناً ، لكنّه صنع هذا إنصافاً منه مع تلك الأرملة ، وإعانةً منه لاُولئك الأيتام ، وإيثاراً لغيره على نفسه .

فأخذت الأرملة ذلك المبلغ ، وانصرفت رائحةً ، واُولئك الطلبة واقفون وينظرون جيّداً إلى هذه القضيّة المحسنة .

وفي هذا الحين قام ذلك الشخص الجليل المحترم ، وودّع الشيخ الأنصاري ، والتفت إلى هؤلاء الطلبة وقال لهم بلهجتهم : ـ

( صيروا مثل هذا ، صاحب الزمان هو يجي عِدكم ) وانصرف ، وغاب عنهم .

وهؤلاء الطلبة التفتوا فجأةً إنّ هذا الشخص المحترم من أين كان يعرف إنّا نبحث عن صاحب الزمان عليه‌السلام ونريد لقاءه ، ونحن لم نقل له ما كنّا ننويه .

فأسرعوا إلى جهة مسيره في الصحن المقدّس فوراً ، واجتهدوا في طلبه فلم يجدوه .

ونحن نلاحظ أنّ هذا الإيثار من الشيخ كان عملاً محبوباً عند الله تعالى ، ومرضيّاً عند أهل البيت عليهم‌السلام ، وموجباً لفوز التشرّف بالتوفيق الأمثل ، ولقاء بقيّة الله تعالى بالنحو الأفضل .. رزقنا الله ذلك .

٢٠٢

(١٤) وترك التعيير

التعيير : تفعيل من العار .. والعار هو كلّ شيء يلزم منه مهانةٌ على الشخص بواسطة ارتكاب ذلك الشيء .

يُقال : عيّرته بكذا ، أي نسبته إلى العار فيه ، وهو من التنقيص .

والتعيير صفةٌ مذمومة ، تستلزم إهانة المؤمن ، وإسقاط كرامته ، حتّى تعييره بالذنب الذي ارتكبه سرّاً ولم يتجاهر به .

ومن الذي يخلو من الذنب والعيب حتّى يعيّر غيره ؟

لذلك ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ـ

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ مَن عيّر مؤمناً بذنبٍ لم يمت حتّى يركبه(١) ، فالعيوب الخَلقيّة والبدنيّة لا يجوز التعيير فيها كما هو واضح .

فإنّه غيبة مؤمنٍ إن كان غائباً ، وإهانته إن كان حاضراً ، وكلاهما من المعاصي الكبيرة .

والعيوب الأخلاقيّة والشرعيّة إنّما يحسن النُصح فيها للمذنب ، وهو الذي

__________________________________

(١) يُقال : ركب هذا الأمر يعني ارتكبه وفَعَلَهُ .

٢٠٣

يكون مفيداً ومؤثّراً فيه ، دون التعيير والتشهير ، حتّى يُهان المؤمن ، ويحدث فيه العناد واللّجاج .

وحتى النقائص الاحكاميّة في الناس يحسن الإلطاف في بيانها ، وتعليمها ، لتكون النتيجة أفضل وأمثل .

وما أجمل وضوء الإمامين الهمامَين الحسن والحسين عليهما‌السلام في قضيّة تعليم ذلك الرجل الكبير الذي لم يُحسن الوضوء .

حيث توضّئا أمامه بحجّة أن يحكم ذلك الرجل أنّ أيّهما أحسن وضوءاً .

فانتبه الرجل إلى صحّة وضوء أولاد الرسول ، ونقصان وضوءه هو ، فصحّح وضوء نفسه ، وحسّن وضوء الحسنين عليهما‌السلام .

فمن حيلة الصلحاء ، وزينة الأتقياء ترك التعيير .

بل هو من مقوّمات الصلاح والتقوى ، إذا كان التعيير إهانة وإذلالاً للمؤمن ، وقد وردت الأحاديث المتظافرة في المنع عن إذلال المؤمن وتحقيره ، من ذلك : ـ

١ ـ حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : ـ

( قال الله عزّ وجلّ : ليأذنَ بحربٍ منّي من أذلَّ عبدي المؤمن ، وليأمن غضبي من أكرم عبدي المؤمن )(١) .

٢ ـ حديث الإمام الرضا عن آبائه عليهم‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ـ

( مَن أذلَّ مؤمناً أو حقّره وقلّة ذات يده شهره الله على جسر جهنّم يوم القيامة )(٢) .

٣ ـ حديث تفسير القمّي في قوله تعالى : ـ

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن

__________________________________

(١) بحار الأنوار / ج ٧٥ / ص ١٤٥ / ب ٥٦ / ح ١٢ .

(٢) بحار الأنوار / ج ٧٥ / ص ١٤٣ / ب ٥٦ / ح ٥ .

٢٠٤

نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ )(١) .

فإنّها نزلت في صفيّة بنت حييّ بن أخطب ، وكانت زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك أنّ عائشة وحفصة كانتا تُؤذيانها ، وتشتمانها ، وتقولان لها : يا بنت اليهوديّة .

فشكت ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال لها : ألا تجيبينهما ؟

فقالت : ماذا يا رسول الله ؟

قال : ـ قولي أبي هارون نبيّ الله ، وعمّي موسىٰ كليم الله ، وزوجي محمّد رسول الله ، فما تُنكران منّي ؟!

فقالت لهما ـ ذلك ـ ، فقالتا : هذا علّمك رسول الله ، فأنزل الله في ذلك : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ... )(٢) .

فالصّلحاء والمتّقون يتركون التعييب ، ويرفعون العيب ويزيلونه بأحسن تعليم ، وأجلّ تكريم ، ولا يعيّرون الناس ، بل يرشدونهم إلى التنزّه عن العيوب ، وترك الذنوب ، ويسألون الله تعالى توفيقهم وتوبة المخطئين منهم ، كما في وصيّة سيّدنا ورئيس مذهبنا الإمام الصادق عليه‌السلام لعبد الله بن جندب(٣) ، جاء فيها : ـ

( ياابن جُندب ، لا تقُل في المذنبين من أهل دعوتكم ـ أي المؤمنين ـ إلّا خيراً ، واستكينوا إلى الله في توفيقهم ، وسلوا التوبة لهم .

فكلّ من قَصَدَنا وتولانا ، ولم يوالِ عدوّنا ، وقال ما يعلم ، وسكت عمّا لا يعلم أو أشكل عليه ، فهو من الجنّة )(٤) .

__________________________________

(١) سورة الحجرات : الآية ١٠ ـ ١١ .

(٢) بحار الأنوار / ج ٧٥ / ص ١٤٤ / ب ٥٦ / ح ١٠ .

(٣) لاحظ وصيّة الجامعة المباركة في البحار / ج ٧٨ / ص ٢٧٩ .

(٤) بحار الأنوار / ج ٧٨ / ص ٢٨٠ .

٢٠٥

ثمّ إنّ للتعبير أثره السيء في الدُّنيا ـ مضافاً إلى عقوبة الآخرة ـ وهو الابتلاء بنفس ذلك العيب الذي عيّر به ، كما صرّح به في الحديث النبويّ المتقدّم ، وشواهده في العالم كثيرة ، وفيها العِظة والعِبرة .

٢٠٦

(١٥) والإفضال على غير المستحقّ

هذا معطوف على قوله عليه‌السلام : ترك التعيير ، فالمعنى : ترك الإفضال على غير المستحقّ .

والإفضال : هو التفضّل والابتداء بالإحسان .

يقال : أفضل عليه إفضالاً ، وكذا تفضّل عليه تفضّلاً : أي تطوَّل عليه ، وأحسَنَ إليه ابتداءً .

وغير المستحقّ : هو من لا يستوجب الإفضال والإحسان إليه ، بواسطة عدم أهليّته له ، أو عدم حصول أهليّة له بالإحسان إليه ، بواسطة كونه فاسداً .

فإنّ الابتداء بالإحسان إلى هكذا شخص تبذيرٌ للمال ، وإسرافٌ فيه ، وهو مذموم ، وقد ينجرّ إلى فساد هذا الشخص ، أو فساد عمله ، أو ترويج عملٍ فاسدٍ في المجتمع .

ومن الصفات الحسنة في الصالحين والمتّقين أنّه يكون إفضالهم وإحسانهم إلى مستحقّي ذلك واللّائقين له .

فلا يسرفون بإهدار أموالهم في الموارد غير المناسبة ..

ومن طرفٍ آخر لا يبخلون بأموالهم في المستحقّين والموارد المناسبة ..

٢٠٧

بل هم النمط الأوسط ، بعيدون عن الإفراط والتفريط ، معتدلون في الإنفاق ، يكون إحسانهم وإفضالهم جارياً على المستحقّين .

وهذا هو الممدوح في القرآن الكريم والحديث الشريف ..

أمّا في القرآن الكريم فقد قال تعالى في صفات عبد الرحمٰن : ـ

( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا )(١) .

فالإسراف هو : التجاوز عن الحدّ كالإنفاق في المعصية ، وصرف المال في غير حقّه .

والإقتار هو : البُخل عن الإنفاق في محلّه .

والقوام هو : العدل في الإنفاق ، وهو الإنفاق فيما أمرَ الله به وأثاب عليه ، والمطلوب المرغوب فيه هو هذا القسم الأخير من الإنفاق ، وهو الذي يوصف بكونه بِرّاً وخيراً ومعروفاً ، وهو الذي يعقّب خير الدُّنيا والآخرة ، بل يكسب الجنّة والنعيم الدائم .

كالإنفاق في بناء المساجد الشريفة ، والمراقد المشرّفة ، والمدارس الدينيّة ، والحسينيّات المباركة ، والمستشفيات الخيريّة ، وإعانة المحتاجين ، وتزويج عزّاب المؤمنين ، وطبع ونشر كتب الدِّين ، وتأسيس وخدمة مجالس المعصومين عليهم‌السلام ، ونحو ذلك من الاُمور الخيريّة ، والأعمال القُربيّة .

وأمّا في الحديث الشريف ، ففي صحيحة المفضّل الجعفي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ـ

( إذا أردت أن تعلم أشقيٌّ الرجل أم سعيد ؟ فانظر إلى سَيْبِهِ ـ أي عطاءه ـ ومعروفه إلى من يصنعه .

__________________________________

(١) سورة الفرقان : الآية ٦٧ .

٢٠٨

فإن كان يصنعه إلى من هو أهله فاعلم أنّه إلى خير .

وإن كان يصنعه إلى غير أهله فاعلم أنّه ليس له عند الله خير )(١) .

وعليه ، فالإحسان الحَسَن ، والإفضال المستحسن هو أن يكون إحساناً إلى من له أهليّة الإحسان ، أو من يصير أهلاً بالإنفاق عليه كالمؤلّفة قلوبهم الذين ذُكروا في آية الزكاة الشريفة : ـ ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ... )(٢) .

وهو قومٌ وحّدوا الله ، وخلعوا عبادة الأصنام ، ولم تدخل المعرفة قلوبهم أنّ محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان رسول الله يتألّفهم ويعرّفهم لكي ما يعرفوا ويعلّمهم كما في حديث الإمام الباقر عليه‌السلام (٣) .

والقُدوة المُثلى في الإفضال إلى المستحقّ ، والإحسان إلى الأهل هم أهل البيت الطاهرين عليهم‌السلام .

فإنّهم كانو في أعلى درجات التوفيق الإلهي في إنفاقاتهم وخيراتهم وصدقاتهم حيث كانت في المستحقّين ، والذين لهم أهليّة إحسان المحسنين ، أو يصيرون أهلاً صالحين ، كما تلاحظه بوضوح في باب إنفاقاتهم سلام الله عليهم أجمعين ، وقد تقدّم شيءٌ منها في فقرة : ( وإيثار التفضّل ) فراجع .

فالصالحون المتقّون يكون مورد إنفاقهم وإفضالهم هم المستحقّون .

وحتى صفة الجود والسخاء التي هي من الصفات المثلى بحيث روي أنّه : ( شابٌّ سخيٌّ مرهِقٌ في الذنوب أحبّ إلى الله من شيخٍ عابدٍ بخيل )(٤) .

__________________________________

(١)

(٢) سورة التوبة : الآية ٦٠ .

(٣)

(٤) الوسائل / ج ١٢ / ص ٥٤٦ / ح ٧ .

٢٠٩

حتّى هذه الصفة يلزم فيها أن تكون سخاءً في موضعه وفي المورد الحقّ .

ففي حديث الإمام الصادق عليه‌السلام : ـ

( السخيّ الكريم : الذي يُنفق ماله في حقّ )(١) .

وعليه ، فالإحسان حتّى السخاء يلزم فيه أن يكون إلى أهله ومستحقّه حتّى ينتج النتيجة الحسنة ، والثواب الأكمل في الآخرة .

أمّا إذا كان إلى غير الأهل وغير المستحقّ فإنّه ينتج النتيجة السيّئة كما قال الشاعر :

ومَن يصنَع المعروفَ في غير أهله

يُلاقي الذي لاقى مُجير اُمّ عامرِ (٢)

فالإفضال والإحسان سواء أكان إحساناً ماليّاً أم عمليّاً يلزم أن يكون إلى من هو أهله ، لأنّه من إيصال الحقّ إلى مستحقّه .

وهي صفة مُثلىٰ ، يُحمد الإنسان عليها ، وتزكو النفس بها .

والمرتبة العُليا من هذه الصفة أن يتنازل الإنسان عن حقّه ويسلّمه إفضالاً إلى من هو أحقّ به .

وهذه المرتبة تحتاج إلى جهاد النفس وعلوّ الروح ، كما تلاحظه في قضيّة المرحوم السيّد حسين الكوه كمري ، الذي كان من أعاظم العلماء والمدرّسين في النجف الأشرف ، ومع ذلك تنازل عن حقّه للشيخ الأنصاري قدس‌سره في ما ينقل في أحوالهما جاء فيها :

أنّه ذات يوم كان السيّد الكوه كمري عائداً من مكان ، ولم يكن قد بقي إلى

__________________________________

(١) معاني الأخبار / ص ٢٤٣ .

(٢) اُمّ عامر : كنية الضبع ، الاُنثى ، والذكر منه أبو عامر .

وقد أكلت الشخص الذي أجارها من برد الشتاء في خيمته ، فضُرب مثلاً في الذي يُجرىٰ على إحسانه إلى غير محلّه بالسوء .

والضبع معروف بشهوته للحوم بني آدم ، حتّى أنّه ينبش القبور ليأكل لحم الإنسان ، وإذا رأى إنساناً اغتنم الفرصة ليجده نائماً ، فيهجم عليه ليأكل لحمه .

٢١٠

حين درسه الخارج أكثر من نصف ساعة ..

فرأى أنّ الوقت لا يتّسع للذهاب إلى البيت .. ولذا فضّل أن يجلس في المسجد بانتظار موعد الدرس .

دخل المسجد ولم يكن قد حضر أحد من طلّابه .. ورأى في زاوية المسجد شيخاً عاديّاً جدّاً ، جالس مع عدّة طلّاب يدرّسهم ، إستمع المرحوم السيّد حسين إلى درسه .. وبمنتهى الغرابة رأى أنّ الشيخ العادي قمّة في التحقيق .. فحمله ذلك على أن يأتي في اليوم التالي مبكِّراً عمداً ويستمع إلى درسه .. جاء واستمع فازداد اقتناعاً بانطباعه الذي كوّنه في اليوم الماضي ..

وتكرّر ذلك لعدّة أيّام .. فحصل للمرحوم السيّد حسين اليقين بأنّ هذا الشيخ أعلم منه ، وأنّه يلزم أن يستفيد من درسه ، وأنّه إذا حضر تلامذته درس هذا الشيخ فيستفيدون أكثر ..

هنا رأى نفسه مخيّراً بين التسليم والعناد ، بين الآخرة والدنيا .

وفي اليوم التالي عندما جاء طلّابه واجتمعوا قال : أيّها الأحبّة .. اُريد اليوم أن أقول لكم شيئاً جديداً : هذا الشيخ الجالس في ذلك الجانب مع عدّة طلّاب أحقّ منّي بالتدريس ، وأنا أستفيد منه ، والآن نذهب كلّنا إلى درسه .

والتحق بحلقة درس الشيخ العادي المستضعف الذي كانت آثار الفقر بادية عليه .

هذا الشيخ الرثّ اللّباس هو الذي عُرف فيما بعد باسم الشيخ مرتضى الأنصاري .

فتلاحظ أنّ هذا الإفضال العملي على المستحقّ كيف أنتج تلك الثروة العلميّة التي ظهرت من الشيخ الأنصاري ، وبقيت إلى الآن دروساً دينيّة في الحوزات العلميّة .

بل إنّ الإفضال على مستحقّه وأهله هو من صنائع المعروف وعمل الخير الذي يدفع مصارع السوء ويُنجي من الموت في نفس هذه الحياة الدُّنيا ، قبل ثواب الآخرة .

كما تجده في قضيّة المرحوم الطبيب المعروف الميرزا خليل الطهراني الذي

٢١١

نقله المحدّث القمّي قدس‌سره ، وحاصلها : ـ

إنّ الميرزا خليل كان طبيباً ماهراً معروفاً منذ شبابه ، وعالج يد امرأةٍ علويّة هنديّة كانت تشكو من الجذام .. المرض العضال ، عالجها مجّاناً وقربةً إلى الله تعالى ـ فكان إفضالاً إلى من يستحقّه ـ .

ثمّ إنّه ابتلي نفسه بمرضٍ صعب بحيث لم يمكنه علاج نفسه ، وقال له الأطبّاء الآخرون إنّه يعيش مع هذا المرض عشرة أيّام فقط .

وفعلاً استمرّ به المرض إلى اليوم العاشر ـ كما قالوا له ـ واشتدّت حالته الصحّية وتدهورت ، حتّى عرض عليه سكرات الموت ، بحيث اجتمع عليه أهله ، ووجّهوه إلى القبلة ، وكانوا يبكون عليه .

وفي هذه الأثناء دخلت تلك العلويّة التي عالجها الميرزا خليل وقالت : إنّي توسّلت بجدّي الإمام الحسين عليه‌السلام لشفاء الميرزا خليل ، وبكيت كثيراً حتّى غلبني النوم ، فرأيت الإمام عليه‌السلام في المنام ، وطلبت منه شفاءه .

فقال عليه‌السلام : إنّه قد تمّ عمره ، لكن دعونا الله تعالى له واستجاب الله الدّعاء ، ويعيش عمراً جديداً إن شاء الله تعالى .

وبمجرّد أن تمّ كلام العلويّة جلس الميرزا خليل صاحياً من تلك السكرات ، وفرح الجميع ، وسألوه ما الذي حدث ؟!

فقال : إنّي رأيت ملكين جاءا لقبض روحي ، وأحسستُ بانتزاع روحي من رجلي إلى قريب حنجرتي ، لكن دخل شخصٌ الغرفة ، وقال لهذين الملكين : ـ

( ردّوه فإنّ الحسين بن عليّ عليهما‌السلام تشفّع إلى الله تعالى في عُمرٍ ثانٍ له ) .

فأحسستُ بعودة روحي إليّ ، وحياتي من جديد ، فانصرف الملكان ، فقمت الآن أراكما بهذه الحالة .

وعاش الميرزا خليل بعد هذا ، وعمّر كاملاً ٩٠ سنة ، ورزقه الله تعالى خمسة من

٢١٢

الأولاد ، كان ثلاثة منهم من العلماء ، أحدهم المرجع الديني المعروف الميرزا حسين(١) .

فالإفضال على المستحقّ بارَك للميرزا خليل بهذا الخير العظيم ، مضافاً إلى ثواب يوم الدِّين .

فينبغي أن ندعو الله تعالى لتوفيق الحصول على هذه الخصلة ، والمكرمة الأخلاقيّة .

__________________________________

(١) الفوائد الرضويّة / ص ٢٩٣ .

٢١٣

٢١٤

(١٦) والقول بالحقّ وإنْ عَزّ

الحقّ : ضدّ الباطل ، وهو الحكم المطابق للواقع ، والشيء الثابت الصحيح .

والعزّة : في أصل معناها ضدّ الذلّة ، وتُطلق على الشيء القليل .

يُقال : عزَّ الشيء ، إذا قلّ فلم يكد يوجد ..

فالشيء العزيز هو القليل ، لكن إذا كان مفيداً ، ومنه الحديث ( عزّ ماؤنا ليلة التاسع من المحرّم ) .

فالشيء القليل غير المفيد لا يطلق عليه العزيز .

والقول بالحقّ وإن عزّ : هو أن يقول الإنسان الحقّ ، ويتكلّم بالكلام الحقّ المفيد ، في وقت قلّة القول بالحقّ وعدم إقدام الآخرين عليه .

وقول الحقّ وإن كان قد يقوله جميع الناس ، إلّا أنّ قوله الحقّ والتصديع به في حين قلّته هو الذي يكون عزيزاً ، وهو زينة المتّقين ، وحلية الصالحين ، بل هو الذي يتقوّم به الدِّين .

وقد هدى القرآن الكريم إلى التوصية بالحقّ في قوله عزّ اسمه : ـ

( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ )(١) .

__________________________________

(١) سورة العصر : الآية ٣ . راجع كنز الدقائق / ج ١٤ / ص ٤٢٧ .

٢١٥

وهذه الصفة الجليلة ممّا كان القدوة فيها أيضاً أهل البيت عليهم‌السلام ، وفي الطليعة الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها ، صدعت بالحقّ في حين قلّته ، ونبّهت أهل الغفلة في حين تقاعسهم ، وبيّنت الحقيقة الجليّة لتبقىٰ علىٰ مدى الدهور والعصور .

وذلك في خطبتها المباركة التي دوّت بالحقّ ، وشيّدت حقيقة الإسلام ، وردعت الباطل لجميع الأنام .

وكذلك في خطبتها لنساء المهاجرين والأنصار ..

قالت كلمة الحقّ ، ونطقت بحقيقة الدِّين ، وكشفت عن رسالة سيّد المرسلين ، ودافعت عن حقّ أمير المؤمنين ـ عند إمامٍ جائر ومَن في وراءه سائر ، في حين عزّت كلمة الحقّ ، والتفّ الناس حوله الباطل .

وخطبتها الشريفة في الأُسس الهامّة في الدِّين ، والجديرة بدراستها لجميع المؤمنين ، في سبيل معرفة الإسلام المحمّدي والدِّين الأحمدي(١) . وهي المعجزة الخالدة ، والآية الباهرة ، والحجّة الكاملة التي صَدَعَت بها أمام جميع المسلمين من الأنصار والمهاجرين .

فكانت قمّة الكلام المتّصف بفصاحة النطق ، وبلاغة البيان ، وقوّة الحجّة ، ومتانة الدليل .

بل كانت خطبتها عليها‌السلام البيان الكامل للدِّين ، والدستور الشامل لشريعة سيّد المرسلين ، في المحاور التي ركّزت عليها الصدِّيقة الطاهرة عليها‌السلام من التجليل بساحة ربّ العالمين بصفاته الحُسنىٰ ، والتعريف بنعمة الرحمة الإلهيّة المتمثِّلة في أبيها المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإشادة بمعالي ومواقف وجهاد ابن عمّها المرتضى عليه‌السلام ،

__________________________________

(١) الاحتجاج / ج ١ / ص ١٣١ .

٢١٦

وتبيين معالم القرآن الكريم وأحكام ربّ العالمين ، ثمّ أشارت إلى الانقلاب على الأعقاب ، وظهور الظلم والطغيان والغصب والعدوان الذي صدرَ من القوم بعد رحيل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ختمت الخطاب بوعيد العذاب علىٰ خذلانهم وعدوانهم ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون » .

وقد سار على طريق أهل البيت عليهم‌السلام وهُداهم في القول بالحقّ عند عزّته صفوة أصحابهم الكرام كالإثنى عشر صحابي الذين دافعوا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن حقّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأنكروا على أبي بكر غصبه للخلافة ، فخطبوا واحتجّوا بما تلاحظ مفصّله في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام(١) .

ومن هذه الثلّة الطيّبة المدافعين عن الحقّ بصراحة ، والقائلين بالحقّ حين العزّة الطرماح بن عدي بن حاتم الطائي الذي صدع كيان الباطل الأموي ، وزلزل رئيسه الطاغي ، وألقمه الحجر ، وسقاه الكأس المصبّر ، في وروده عليه ، وحمل رسالة الأمير عليه‌السلام إليه كما تلاحظ نصّه الكامل في حديث البحار(٢) .

__________________________________

(١) الاحتجاج / ج١ / ص ٩٧ ، والخصال / ص ٤٦١ / ح ٤ .

(٢) بحار الأنوار / ج ٣٣ / ص ٢٨٩ / ب ٢٠ / ح ٥٥٠ .

٢١٧

٢١٨

(١٧) واستقلال الخير وإن كثر من قولي وفعلي واستكثار الشرّ وإن قلّ من قولي وفعلي

استقلال الخير : عدّة قليلاً ، واعتبار ما صدر من الإنسان من الخيرات شيئاً يسيراً ، وإن كان في الواقع كثيراً ، سواء الخير من أقواله أم أفعاله .

واستكثار الشرّ : عدّة كثيراً ، وإن كان في الواقع قليلاً نادراً ، سواء في قول الشرّ أم عمله .

وهذه من الخصال المحمودة التي هي حيلةٌ وزينة .

ليس فقط لا يحدّث الإنسان الناس بخيراته وأعماله الخيّرة ، بل يعدّها عنه نفسه نزراً يسيراً .

وفي مقابله إن صدر منه شرٌّ قليل ، ليس فحسب لا يتهاون به ، بل يعدّه عند نفسه كثيراً .

وهذا الاستقلال والاستكثار مفيدان غاية الفائدة في تهذيب النفس ، وتزكية الروح ، وذلك :

أمّا استقلال الخير من نفسه ، ففائدته عدم استيلاء العُجب عليه .

٢١٩

والعجب هو : استعظام العمل الصالح واستكثاره ، والإدلال به ، وأن يرى الإنسان نفسه خارجاً عن حدّ التقصير .

وهو يوجب سقوط العمل عن القبول ، وهو مذموم ، كما تلاحظ ذمّه في الأحاديث الشريفة ، ومنها : ـ

١ ـ حديث الإمام الصادق عليه‌السلام قال : ـ

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ـ بينما موسى عليه‌السلام جالساً ، إذ أقبل إبليس وعليه برنس ذو ألوان ، فلمّا دنىٰ من موسىٰ عليه‌السلام خلع البرنس ، وقام إلى موسى فسلّم عليه .

فقال له موسى : مَن أنت ؟

فقال : أنا إبليس .

فقال له : أنت ، فلا قرّب الله دارك .

قال : إنّي جئت لاُسلّم عليك لمكانك من الله .

فقال له موسى عليه‌السلام : فما هذا البُرنس ؟

قال : به أختطفُ قلوب بني آدم .

فقال موسى : فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذتَ عليه ؟

قال : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغر في عينه ذنبه(١) .

٢ ـ حديث الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

قال داود النبيّ عليه‌السلام : لأعبدنَّ الله عبادة ، ولأقرأنَّ قراءةً لم أفعل مثلها قطّ ، فدخل في محرابه ، ففعل .

فلمّا فرغ من صلاته ، إذا هو بضفدع في المحراب ، فقال لداود : ـ أعجبَكَ اليوم ما فعلت من عبادتك وقراءتك ؟

__________________________________

(١) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ٢٣٧ / ح ٨ .

٢٢٠