السيد علي الحسيني الصدر
الموضوع : الأخلاق
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-654-5
الصفحات: ٢٤٤
في الدُّنيا والآخرة ... )(١) .
وعن الإمام الباقر عليهالسلام : ـ ( من كَظَم غيظاً وهو يقدر على إمضاءه حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة )(٢) .
وعن الإمام الصادق عليهالسلام : ـ ( ما من جرعةٍ يتجرّعها العبد أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من جرعة غيظٍ يتجرّعها عبد تردّدها في قلبه ، إمّا بصبرٍ وإمّا بحلم )(٣) .
وعن رسول الله صلىاللهعليهوآله : ـ ( مَن كَظَمَ غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ، وحَلُم عنه أعطاه الله أجر شهيد )(٤) .
وعن الإمام الصادق عليهالسلام : ثلاث من كُنّ فيه استكمل خصال الإيمان ( وإذا كمل الإيمان حَسُن الأخلاق ) :
مَن صَبَرَ على الظلم ، وكَظَم غيظه واحتسب ، وعفا وغفر كان ممّن يدخله الله عزّ وجلّ الجنّة بغير حساب ، ويشفّعه في مثل ربيعة ومضر(٥) .
وعن رسول الله صلىاللهعليهوآله : ثلاثة يُرزقون مرافقة الأنبياء : رجلٌ يُدفع إليه قاتل وليّه ليقتله فعفى عنه ، ورجلٌ عنده أمانة لو يشاء لخانها فيردّها إلى من ائتمنه عليها ، ورجلٌ كظمَ غيظه عن أخيه ابتغاء وجه الله(٦) .
والمثل الأعلى لهذه الصفة الحسنة والخلق الطيّب : كظم الغيظ هم أهل البيت عليهمالسلام الذين فاتوا جميع الخَلق في هذا الخُلق كما تدلّ عليه سيرتهم الغرّاء سلام الله عليهم
__________________________________
(١) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ١١٠ / ح ٥ .
(٢) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ١١٠ / ح ٧ .
(٣) اُصول الكافي / ج ٢ / ص ١١١ / ح ١٣ .
(٤) الوسائل / ج ١٢ / ص ١٧٨ / ب ١١٤ / ح ١٢ .
(٥) بحار الأنوار / ج ٧١ / ح ٤٤ .
(٦) بحار الأنوار / ج ٧١ / ص ٤١٧ / ح ٤٤ . ولعلّ العفو عن القاتل إنّما هو في صورة ندامته وتوبته ومورديّته للعطف والعفو .
التي كانت النمط الفريد للخُلق السديد .
من ذلك ما تلاحظه فيهم : ـ
رسول الله صلىاللهعليهوآله كظمَ وعفى عن المرأة اليهوديّة التي سمّت الشاة له ،
وعن هبّار الذي روّع زينب بنت رسول الله صلىاللهعليهوآله فألقت جنينها ،
وعن عبد الله ابن الزبعرى الذي كان يهجوه ،
وعن وحشي قاتل عمّه حمزة .
وكذلك أمير المؤمنين عليهالسلام كظمَ وعفى حين ظفر بعمرو بن العاص في صفّين ، وعبد الله ابن الزبير ، ومروان بن الحكم ، وعائشة في واقعة الجمل ، وهم من ألدّ أعداءه ، وكذلك كظم غيظه عن عمرو بن عبد ودّ العامري في شدّة حماس الحرب الذي يصعب فيها الكظم في واقعة الأحزاب .
والإمام الحسن المجتبىٰ عليهالسلام أيضاً ..
كان جالساً مع جمعٍ من الأشراف على طعام ، فجاء غلامه بطعامٍ حارّ فحبس الفرش رجلَه ، فصبّ الطعام على وجهه ورأسه دفعةً ، فنظر إلى الغلام نظر تأديب لا نظر تعذيب .
فقال الغلام : إنّ الله يقول : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) .
فقال له : قد كظمتُ غيظي .
قال : ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) .
فقال عليهالسلام : قد عفى الله عنك .
قال : ( وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .
قال عليهالسلام : إذهب فأنت حرٌّ لوجه الله ، وعليَّ معيشتك .
فتعجّب من حلمه الحاضرون وقالوا : الله أعلم حيث يجعل رسالته(١) .
__________________________________
(١) مجموعة الأخبار / ص ٧٨ .
والإمام الحسين عليهالسلام أيضاً ..
جنى غلام له عليهالسلام جنايةً توجب العقاب عليه ، فأمر به أن يُضرب .
فقال : يا مولاي ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ) .
قال عليهالسلام : خلّوا عنه .
قال : يا مولاي ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) .
قال عليهالسلام : قد عفوت عنك .
قال : ( وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .
قال عليهالسلام : أنت حرٌّ لوجه الله ، ولك ضعف ما كنتُ أعطيك(١) .
والإمام السجّاد عليهالسلام ..
كان عنده قومٌ أضياف ، فاستعجل خادم له بشواء كان في التنّور ، فأقبل به الخادم مسرعاً ، فسقط السفود ـ الحديدة التي يُشوى عليها اللّحم ـ منه على رأس بُنيٍّ لعليّ بن الحسين عليهالسلام تحت الدَرْجَة ، فأصاب رأسه فقتله .
فقال عليّ عليهالسلام للغلام ، وقد تحيّر الغلام واضطرب : أنت حرٌّ فإنّك لم تتعمّده .
وأخذ في جهاز ابنه ودفنه(٢) .
والإمام الكاظم عليهالسلام ..
وقد كان كاظماً للغيظ اسماً ووصفاً .
والإمام الرضا عليهالسلام أيضاً : روي عن محمّد بن زيد الرازي قال : كنت في خدمة الرضا عليهالسلام لمّا جعله المأمون وليَّ عهده ، فأتاه رجلٌ من الخوارج في كفّه مدية مسمومة ، وقد قال لأصحابه : والله لآتينَّ هذا الذي يزعم أنّه ابن رسول الله ، وقد دخل لهذا الطاغية فيما دخل ، فأسأله عن حجّته ، فإن كان له حجّة وإلّا أرحت الناس منه .
__________________________________
(١) كشف الغمّة / باب فضائل الإمام الحسين عليهالسلام .
(٢) بحار الأنوار / ج ٤٦ / ص ٩٩ .
فأتاه واستأذن عليه ، فأذن له .
فقال له أبو الحسن : أُجيبك عن مسألتك على شريطة تفي لي بها .
فقال : وما هذه الشريطة ؟
قال : إن أجبتك بجواب يقنعك وترضاه تكسر الذي في كمّك وترمي به .
فبقي الخارجيّ متحيّراً وأخرج المدية وكسرها .
قمّ قال : أخبرني عن دخولك لهذا الطاغية فيما دخلت له ، وهم عندك كفّار ؟
وأنت ابن رسول الله ما حملك على هذا ؟
فقال أبو الحسن : أرأيتك هؤلاء أكفر عندك أم عزيز مصر وأهل مملكته ، أليس هؤلاء على حال يزعمون أنّهم موحّدون واُولئك لم يوحّدوا الله ولم يعرفوه ؟ يوسف بن يعقوب نبيٌّ ابن نبيّ قال للعزيز ـ وهو كافر ـ : ( اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) وكان يجالس الفراعنة ، وأنا رجلٌ من ولد رسول الله صلىاللهعليهوآله أجبرني على هذا الأمر ، وأكرهني عليه فما الذي أنكرت ونقمت عليَّ ؟
فقال : لا عتب عليك إنّي اُشهد أنّك ابن نبيّ الله ، وأنّك صادق(١) .
هذه نماذج من كظم غيظ أهل البيت عليهمالسلام ، وقد جرىٰ في شيعتهم والسائرين على هداهم .
ففي قضيّة الشيخ الكبير كاشف الغطاء أعلى الله مقامه المرجع الأعلى في زمانه .. حكي عنه أنّه وزّع مبلغاً من المال على فقراء إصفهان في سفرٍ له إلى هناك ، وبعد نفاد المال صار وقت الظهر ، فأمَّ المصلّين ، وبين الصلاتين حينما كان الناس مشتغلين بالتعقيبات جاء فقيرٌ وصل متأخّراً ، ووقف أمام الشيخ قائلاً له : أعطني حقّي .
__________________________________
(١) بحار الأنوار / ج ٤٩ / ص ٥٥ .
فقال الشيخ : قد تأخّرت قليلاً مع الأسف ، ولم يبق من المال شيء .
فتفل هذا الفقير بكلّ وقاحة على لحية الشيخ .
لكن الشيخ كظم غيظه ، ولم يرد عليه بشيء ، ليس هذا فحسب بل قام وأمسك بطرف ثوب نفسه ، ومشى بين المصلّين قائلاً : كلّ من يحبّ لحية الشيخ فليساعد هذا الفقير ، فجمع له المال وأعطاه ثمّ وقف يصلّي العصر(١) .
__________________________________
(١) الفوائد الرضويّة للمحدّث القمّي / ص ٧٤ .
(٣) وإطفاء النائِرة
الإطفاء هو : الإخماد ، مقابل الإثارة .
والنائرة هي : الفتنة والعداوة .
قال في المجمع : ( النائرة : العداوة ، ومنه : بينهم نائرة ، أي شحناء وعداوة .
ومنه الحديث : أطفئوا نائرة الضغائن باللّحم والثريد ـ أي بالإطعام ـ .
وإطفاء النائرة عبارة عن تسكين الفتنة ، وهي فاعلة من النار )(١) .
ومن حلية الصالحين وصفاتهم ، ومن زينة المتّقين وأخلاقهم تسكين الفتنة ، فإنّهم يُخمدون نار الفتنة والعداوة والضغينة ولا يثيرونها .. حتّى إذا كان السبب في العداوة وحصول الفتنة هو الطرف المقابل لا أنفسهم .
فبالرغم من ذلك المطلوب في أخلاقيّات الدِّين الإسلامي أن يسعى الإنسان في إطفاء عداوة الشخص المقابل وإرضاءه بقولٍ أو فعل ، وبمالٍ أو غير مال ، وبخدمةٍ أو محبّة ، حتّى يعيد السلم والسلام .
__________________________________
(١) مجمع البحرين / ص ٣٠٨ .
ولا ينبغي أن يقول شيئاً أو يصنع فعلاً يؤجّج نار العداوة ، ويثير شرّ الفتنة ، فيزيد في الطين بلّة وفي القلب علّة ، ويفتح المجال لوسوسة الشيطان الرجيم وكيده وشرّه .
فإنّ الفتنة والعداوة من شرّ الشيطان وكيده ، عداوةً منه لبني آدم ، وحقداً منه للنبيّ آدم عليهالسلام في ذرّيته .
قال تعالى : ( يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ )(١) فإنّه عدوّ الإنسان ، وأقسم بعزّة الله أن يغوي جميع البشر إلّا عباد الله المخلصين ، لذلك يؤجّج دائماً نار الفتنة بين المؤمنين ، ويدعو إلى الخصام بين الأقارب والأرحام ، ويثير العداء بين الأحبّاء والأصدقاء .
ولهذا يعظنا الله تعالى بموعظته البليغة ، ويحذّرنا من كيده وشرّه ونبّه الإنسان بأبلغ بيان ، في آياتٍ عديدة من محكم القرآن مثل : ـ قوله تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ )(٢) .
وقوله تعالى : ( وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ )(٣) .
وقوله تعالى : ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا )(٤) .
وقوله تعالى : ( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا )(٥) .
وقوله تعالى : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ )(٦) .
فالشيطان مترصّدٌ لشبّ آثار عداوته لبني آدم ، وإيصال مكائده للبشر ،
__________________________________
(١) سورة المائدة / الآية ٩١ .
(٢) سورة الأعراف : الآية ٢٧ .
(٣) سورة النور : الآية ٢١ .
(٤) سورة فاطر : الآية ٦ .
(٥) سورة الفرقان : الآية ٢٩ .
(٦) سورة العنكبوت : الآية ٣٨ .
وترغيبه إلى كلّ معصية .
ففي حديث النهج الشريف : ( وَالشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيَّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا وَيُمَنِّهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا ، إذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا )(١) .
وفي حديث الإمام الصادق عليهالسلام قال :
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : بينما موسى بن عمران عليهالسلام جالس إذ أقبل عليه إبليس ، وعليه بُرنس ذو ألوان ، فلمّا دنا من موسى خلع البرنس وأقبل عليه فسلّم عليه .
فقال موسى : مَن أنت ؟
قال : أنا إبليس .
قال موسىٰ : فلا قرّب الله دارك ، فيمَ جئت ؟
قال : إنّما جئت لاُسلّم عليك لمكانك من الله عزّ وجلّ .
فقال له موسى : فما هذا البُرنس ؟
قال : اختطف به قلوب بني آدم .
قال له موسى : أخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه ؟
فقال : إذا أعجبته نفسه ، واستكثر عمله ، وصغُر في عينه ذنبه .
ثمّ قال له : اُوصيك بثلاث خصال يا موسى :
لا تَخْلُ بامرأةٍ ، ولا تَخْلُ بك ، فإنّه لا يخلو رجل بامرأةٍ ولا تخلو بك إلّا كنتُ صاحبه دون أصحابي .
وإيّاك أن تعاهد الله عهداً ، فإنّه ما عاهد الله أحدٌ إلّا كنتُ صاحبه ، دون أصحابي ، حتّى أحوُل بينه وبين الوفاء به .
وإذا هممت بصدقةٍ فامضِها ، فإنّه إذا همَّ العبد بصدقةٍ كنتُ صاحبه دون
__________________________________
(١) نهج البلاغة / الخطبة ٦٣ .
أصحابي أحول بينه وبينها .
ثمّ ولّى إبليس ويقول : يا ويله ، ويا عوله ، علّمتُ موسى ما لا يعلّمه بني آدم(١) .
وعليه يلزم علينا لدفع كيد الشيطان إطفاء نائرات الاخوان ، في سبيل إيجاد المودّة ، ونشر المحبّة ، وسيادة الأخلاق الحسنة .
وأهل البيت عليهمالسلام هم الطليعة المثلىٰ ، في هذه الصفة الفضلىٰ ، بإطفاء نائرات العداء من أعدائهم .
حتّى بالنسبة إلى الذين كانوا يسبّونهم ـ والعياذ بالله ـ كان أهل البيت عليهمالسلام يقابلونهم بالجميل ، وبخير بديل .
بالرغم من أنّ سبّهم يوجب النُصب والكفر في الدُّنيا ، ودخول النار في الاُخرى .
ففي حديث ابن عبّاس : أنّه مرّ بمجلسٍ من مجالس قريش وهم يسبّون عليّ ابن أبي طالب عليهالسلام .
فقال لقائده : ما يقول هؤلاء ؟
قال : يسبّون عليّاً .
قال : قرّبني إليهم ، فلمّا أن وقف عليهم قال : أيّكم السابّ الله ؟
قالوا : سبحان الله ، ومن يسبّ الله فقد أشرك بالله .
قال : فأيّكم السابّ رسول الله صلىاللهعليهوآله ؟
قالوا : ومن يسبّ رسول الله فقد كفر .
قال : فأيّكم السابّ عليّ بن أبي طالب ؟
قالوا : قد كان ذلك .
__________________________________
(١) أمالي الشيخ المفيد / ص ٩٣ / ح ٧ .
قال : فأشهد بالله ، وأشهد لله ، لقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : ( مَن سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومَن سبّني فقد سبّ الله عزّ وجلّ ) ، ثمّ مضىٰ ...(١) .
هذا حكم من سبّ أحد الأئمّة الطاهرين عليهمالسلام ، لكن مع ذلك كان الأئمّة عليهمالسلام يقابلونهم بالعفو والإحسان ، ويُطفئون بذلك نائرة الأضغان ، ومكيدة العدوان ، وينجونهم من عذاب الله والنيران .
فإنّ الإمام هو الأب العطوف ، والوالد الرؤوف ، والغيث والرحمة لجميع الاُمّة .
ونماذج إطفائهم عليهمالسلام النائرات ، وإخمادهم العداوات ، ظاهرة وشاهرة في سيرتهم المباركة .
من ذلك ما روي عن الإمام الحسن المجتبى عليهالسلام أنّ شاميّاً رآه راكباً فجعل يلعنه ، والإمام الحسن عليهالسلام لا يردّ .
فلمّا فرغ أقبل الإمام الحسن عليهالسلام فسلّم عليه وضحك فقال : أيّها الشيخ أظنّك غريباً ، ولعلّك شبّهت .
فلو استعتبتنا أعتبناك ، ولو سألتنا أعطيناك ، ولو استرشدتنا أرشدناك ، ولو استحملتنا أحملناك ، وإن كنت جائعاً أشبعناك ، وإن كنت عرياناً كسوناك ، وإن كنت محتاجاً أغنيناك ، وإن كنت طريداً آويناك ، وإن كان لك حاجة قضيناها لك ، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنتَ ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعوَد عليك ، لأنّ لنا موضعاً رحباً ، وجاهاً عريضاً ، ومالاً كثيراً .
فلمّا سمع الرجل كلامه بكىٰ ثمّ قال : أشهدُ أنّك خليفة الله في أرضه ، الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وكنت أنت وأبوك أبغضَ خلق الله إليّ ، والآن أنت أحبُّ خلق الله إليَّ .
__________________________________
(١) لاحظ إحقاق الحقّ / ج ٥ / ص ٥٠ .
وحوّلَ رحله إليه ، وكان ضيفه إلى أن ارتحل ، وصار معتقداً لمحبّتهم(١) .
ومن ذلك أيضاً ما روي عن الإمام زين العابدين عليهالسلام أنّه وقف عليه رجلٌ من أهل بيته فأسمعه وشتمه .
فلم يكلّمه ، فلمّا انصرف قال لجلساءه : لقد سمعتم ما قال هذا الرجل ، وأنا أحبّ أن تبلغوا معي إليه ، حتّى تسمعوا منّي ردّي عليه .
فقالوا له : نفعل ، ولقد كنّا نحبّ أن يقول له ويقول ..
فأخذ عليهالسلام نعليه ومشىٰ وهو يقول : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .
فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً .
فخرج حتّى أتى منزل الرجل .. فقال : قولوا له : هذا عليّ بن الحسين .
فخرج إلينا متوثّباً للشرّ ، وهو لا يشكّ أنّه إنّما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه .
فقال له الإمام عليّ بن الحسين عليهالسلام : يا أخي إنّك كنتَ قد وقفت عليَّ آنفاً وقلت فقلت ، فإن كنت قلتَ ما فيَّ فأستغفر الله منه ، وإن كنت قلت ما ليس فيَّ فغفر الله لك .
قال : فقبَّل الرجل بين عينيه وقال : بل قلتُ فيك ما ليس فيك وأنا أحقُّ به(٢) .
وهذا الخُلُق الشريف يبدّل العداء إلى الإخاء ، ويبدّل العداوة إلى المحبّة ، فيسود الخلق الطيّب في المجتمع .
وهذه من أهمّ الحِكَم الإلهيّة التي بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم في قوله عزّ اسمه : ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )(٣) .
__________________________________
(١) بحار الأنوار / ج ٤٣ / ص ٣٤٤ .
(٢) بحار الأنوار / ج ٤٦ / ص ٥٤ .
(٣) سورة فصّلت : الآية ٣٤ ـ ٣٥ .
وهذه مجاهدة عظيمة وخليقة كريمة تحلّى به أهل البيت عليهمالسلام وأمروا به ، وربّوا شيعتهم وكرام مواليهم عليه .
كما تلاحظ في قضيّة المرحوم السيّد أبو الحسن الإصفهاني قدسسره :
حدّث بعض الأجلّاء أنّه كان هناك رجلٌ يسبّ السيّد بسبٍّ لاذعٍ وكلماتٍ نابية ، لا لشيء ، فإنّ السيّد لم تصل منه أذيّة إليه ، ولا تكلّماً عليه .
وكان ذلك الرجل له أيضاً شخصيّة اجتماعيّة ، لكنّه كان يحسد السيّد ، وكلّما ذكر السيّد أو ذُكر عنده كان يسبّه ، والسبّ يصل إلى السيّد وهو ساكت .
وذكر بعض الصلحاء الذي كان صديقاً للسيّد ولذلك الرجل أيضاً وقال : إنّي كنت أتألّم من هذا السبّ ، وكلّما أنهى ذلك الرجل لا يفيده .
وسألت من السيّد رحمهالله يوماً : ما العلاج ؟
فأجاب السيّد : العلاج بيدك ، انظر وانتظر لي مناسبةً لهذا الرجل حتّى أزوره .
قلت : أنت تزوره مع هذا السبّ والبذاء ؟!
قال : نعم أزوره .
ففرحت أنا من هذه الأريحيّة الطيّبة من السيّد التي تنحلّ معها المشكلة ، وتحيّنتُ الفرصة لهذه الزيارة الإصلاحيّة .
ومرِضَ الرجل يوماً ، وصار طريح الفراش ، وقام الناس بزيارته ، فأخبرت السيّد بذلك .
فقال السيّد : نعم أزوره أنا ، فخُذ لي منه موعداً لزيارته .
فجئت إلى الرجل ، وبدأتُ معه الكلام بلين ورفق ..
ثمّ قلت له : ألا تحتمل أنّ السيّد أيضاً يزورك الآن كما يزورك الناس ؟
قال الرجل : ـ كلّا ، السيّد لا يزورني ، لأنّه بلغه عنّي سبّي له ، وعداوتي معه ، فهو لا يزورني بتاتاً .
قلتُ له : ـ لو فرضنا أنّه زارك ، ما تصنع ؟
قال : ـ والله اُهينه .
قلت له : ـ خافْ من الله ، سيّد ، ابن رسول الله ، عالِم ، مرجع تقليد ، ما يجوز أن تهينه .
ثمّ أنت ابن عشيرة عربيّة ، وعيب عند العرب يهينوا الضيف ، عيب عليك .
وحينما قلت له هذا صفن ، ونزل عن تلك الحدّة الشديدة التي كانت له ، وقال : لو فرضنا زارني السيّد أنا ما أهينه ، لكن ما أقوم له ، فقط سلام وعليك .
فأخبرت السيّد أنّه وصلت القضيّة إلى هذه المرحلة .
فقال السيّد : طيّب ، نزوره هذه الليلة .
فحان الليل ، وجاء السيّد وأنا معه لزيارة الرجل ، وسلّم بطيب على الرجل ، وأستفسر عن حاله ، ورجا له الشفاء ..
والرجل يتمارض أمام السيّد ، ويُظهر له أنّه لم يقدر على التحرّك ، وما قام للسيّد .
لكن السيّد تلاطف معه كثيراً ، وأبدى له حُسن أخلاقه وطيب كلامه .
فهشّ الرجل وبشّ في الأخير ، حتّى أنّه حينما ودّعه السيّد ، وأراد الخروج قام له الرجل ، وذهب معه إلى باب الدار .
وخرجت أنا أيضاً مع السيّد قدسسره .
ثمّ إنّي رجعت إلى الرجل فقلت له : كيف رأيت السيّد ؟
فأجاب : والله هذا صاحب الزمان ، وهذا وراءه سيّد أبو الحسن ، فصار من أولياء السيّد ، ومن المدافعين عنه .
هذه الأخلاق تحتاج إلى تصميم ، ومجاهدة نفس ، لذلك يقول الله : ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) .
لكنّه يتيسّر بالدّعاء وبالعمل بعون الله تعالى .
وكلاهما لازمان في مكارم الأخلاق ، والتخلّق بها .
حيث قال تعالى : ـ ( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ )(١) .
وقال أيضاً : ـ ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ )(٢) .
__________________________________
(١) سورة الفرقان : الآية ٧٧ .
(٢) سورة النجم : الآية ٣٩ .
(٤) وضمّ أهلِ الفُرقة
الضمّ هو الجمع ، من قولهم : ضممته ضمّاً : إذا جمعته ، وتضامّ القوم : إذا انضمّ بعضهم إلى بعض .
والفُرقة هي الانفصال ، اسمٌ من افترق القوم بعضهم عن بعض بالأبدان أو بالقلوب .
والمستظهر هنا هو التفرّق بالقلوب ، أي ضمّ المتفرّقين بقلوبهم .
فمن حلية الصالحين وزينة المتّقين ، التأليف بين أرباب القلوب المتنافرة ، وإيقاع المحبّة بين الأنفس المتباغضة ، وجعل القوم مجتمعين متحابّين .
وهي من أسباب سعادة الدُّنيا والآخرة ، ومن مقتضيات الحياة الطيّبة ، وتحسين الأخلاق ، وإعادة حُسن الخُلق .
واعلم أنّ التعبير بأهل الفرقة دون المتفرّقين يُشعر ويفيد أنّ المقصود بهم هم الذين بناؤهم ورويّتهم الافتراق والمفارقة عن بقيّة الجماعة .
ولعلّ هذا هو الفارق بين هذه الجملة من الدّعاء وبين الجملة الآتية ( إصلاح ذات البين ) الذي يستفاد منه إصلاح الفساد بين الذين ليسوا بناؤهم على الافتراق والتفرّق كالأخ وأخيه ، والأب وابنه ، والزوج وزوجته ، والصديق وصديقه .
فقوله عليهالسلام : ضمّ أهل الفرقة يستفاد منه تأليف الذين بناؤهم على المفارقة والمشاكسة ، فإنّ جمعهم وانضمامهم يوجب عدم النزاع والشِّقاق وعدم الافتراق في المجتمع .
كما ينبغي أن يُعلَم أنّ الحلية والزينة المطلوبين هو ضمّ الفُرقة المذمومة لا الفُرقة عن الباطل والانحياز عنه التي هي فرقة حقّة لازمة ، فلا يحسن محاولة الضمّ بين الحقّ والباطل ، بل يلزم الافتراق عن الباطل ، والتفرّق عن الظلم ، فإنّه لا ينضمّ معهم ولا يعينهم ولا يحسن إعانتهم حتّى على بناء مسجد ، ولا ينضمّ إليهم في شيء .
فإنّ ذلك معدود من الإعانة على الظلم ، والفساد المذموم والمحرّم .
ففي الحديث عن النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم : ـ ( من مشىٰ مع ظالم فقد أجرم )(١) .
وعن الإمام الصادق عليهالسلام : ـ ( لا تعنهم على بناء مسجد )(٢) .
وعنه عليهالسلام : ـ ( من مشى إلى ظالم ليعينه وهو يعلم أنّه ظالم فقد خرج عن الإسلام )(٣) .
عليه فليس كلّ فُرقةٍ رذيلة ، ولا كلّ ضمّ فضيلة .
وإنّما الفضيلة والصفة الجميلة هو الجمع والتأليف في المتفرّقين الذين كان تفرّقهم مذموماً ، فيحسن ضمّهم .
فيجمع بين أهل الفرقة ، ويؤلّف قلوبهم ، ويرفع الشتات الذي حصل فيهم .
وتأليف القلوب هذا من محامد صفات أهل البيت عليهمالسلام وأخلاقهم ، حتّى مع الذين عاندوهم ، وبنوا على التفرّق عنهم .
فساروا عليهمالسلام معهم بالسيرة الحسنة والأخلاق الطيّبة ، فاهتدى بعضٌ وضلّ آخرون .
ونموذج ذلك ظاهر من سيرة حياتهم كما تلاحظه في حديث سيرة الإمام
__________________________________
(١) جامع الأخبار / ص ١٥٥ .
(٢) الوسائل / ج ١٧ / ص ١٨٠ / ح ٨ .
(٣) الوسائل / ج ١٧ / ص ١٨٢ / ح ١٥ .
الرضا عليهالسلام مع بعض الخوارج الذي تقدّم ذكره(١) .
وكذلك مقابلته عليهالسلام الإساءة بالإحسان في حديث قضيّة الجلودي المفضّلة المذكورة في السفينة(٢) .
وحاصلها : أنّ الجلودي كان قد أمره الرشيد أن يُغير علىٰ دور آل أبي طالب ، وأن يسلب نسائهم ، ولا يدَع علىٰ واحدةٍ منهنّ إلّا ثوباً واحداً .
فجاء الجلودي مع خيله إلى دار الإمام الرضا عليهالسلام للهجوم على الدار ، وقال للإمام عليهالسلام : لابدّ أن أدخل الدار وأسلب النساء كما أمر الرشيد ..
فقال له الإمام الرضا عليهالسلام : أنا آتي لكَ بجميع مالهنّ ، وحلفَ له ، وجاء إلى النساء وطلب منهنّ أن يعطين جميع ما عليهنّ حتّى أقراطهنّ وخلاليهنّ وإزارهنّ ، وجميع ما كان في الدار من قليلٍ وكثير ، حتّى يسلمَن النساء من دخول الأجانب عليهنّ .
ومضى الزمان حتّى مات الرشيد ، وخلَفَهُ المأمون ، وصادف أن غاض المأمون على الجلودي وحبسه .
فلمّا كان يوم اُدخل الجلودي على المأمون ، قال الرضا عليهالسلام للمأمون ترحّماً على الجلودي : هَبْ لي هذا الشيخ .
فنظر الجلودي إلى الرضا عليهالسلام هو يُكلِّم المأمون ويسأله أن يعفو عنه ، فظنَّ أنّه يُشير عليه بقتله ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أسألك بالله وبخدمتي للرشيد أن لا تقبل قو هذا فيَّ .
فقال المأمون : يا أبا الحسن ، هذا سألنا بالله ونحنُ نبرّ قسمه ، وقال للجلودي : لا والله ، لا أقبل فيك قوله ، يا حرسي قدِّمهُ واضرِب عُنقه .
__________________________________
(١) بحار الأنوار / ج ٤٩ / ص ٥٥ .
(٢) سفينة البحار / ج ١ / ص ٦١٣ .