كتاب الإقتراح في علم أصول النحو

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

كتاب الإقتراح في علم أصول النحو

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: الدكتور أحمد محمّد قاسم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: نشر أدب الحوزة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

[الفرع] الثالث

[أحوال الكلام الفرد والاحتجاج به]

المسموع الفرد هل يقبل ويحتج به؟

له أحول لخصتها من متفرقات كلام ابن جنى فى الخصائص :

أحدها : أن يكون فردا ، بمعنى أنه لا نظير له فى الألفاظ المسموعة ، مع إطباق العرب على النطق به ، فهذا يقبل ويحتج به ، ويقاس عليه إجماعا ، كما قيس على قولهم فى شنوءة : شنئى (١) ، مع أنه لم يسمع غيره لأنه لم يسمع ما يخالفه ، وقد أطبقوا على النطق به.

الحال الثانى : أن يكون فردا ، بمعنى أن المتكلم به من العرب واحد ويخالف ما عليه الجمهور ، قال ابن جنى : فينظر فى حال هذا المنفرد به ، فإن كان فصيحا فى جميع ما عدا ذلك القدر الذى انفرد به ، وكان ما أورده مما يقبله القياس ، إلا أنه لم يرو به استعمال إلا من جهة ذلك الإنسان ، فإن الأولى فى ذلك أن يحسن الظن به ولا يحمل على فساده ، قال : فإن قيل : فمن أين ذلك وليس يجوز أن يرتجل لغة لنفسه؟

قيل : قد يمكن ، إن ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال عهدها ، وعفا رسمها ، فقد أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبى خليفة الفضل بن الحباب

__________________

(١) جاء بالأصل هكذا : شنأى ، وفى الخصائص ج ١ ص ١١٥ قال ابن جنى : «هذا باب ظاهره التناقض إلا أنه مع تأمله صحيح ، وذلك أن يقل الشىء وهو قياس ويكون غيره أكثر منه إلا أنه ليس بقياس الأول ، قولهم فى النسب إلى شنوءة : شنئى ، وإلى حلوبة : حلبى ، قياسا على شنئى لأنهم أجروا فعولة مجرى فعيلة» ا ه ملخصا.

٦١

قال : قال لى ابن عون عن ابن سيرين قال : قال عمر بن الخطاب : كان الشعر علم قوم ، ولم يكن لهم علم أصح منه ، فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد ، وغزو فارس والروم ، ولهت عن الشعر وروايته ، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح ، واطمأنت العرب فى الأمصار ، راجعوا رواية الشعر ، فلم يؤولوا إلى ديوان مدوّن ، ولا كتاب مكتوب ، وألفوا ذلك ، وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل ، فحفظوا قل ذلك ، وذهب عنهم كثره.

ثم روى بسنده عن أبى عمرو بن العلاء قال : ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا قلة ، ولو جاءكم وافر لجاءكم علم وشعر كثير.

وعن حماد الراوية قال : أمر النعمان فنسخت له أشعار العرب فى الطنوج (١) ، وهى الكراريس ، ثم دفنها فى قصره الأبيض ، فلما كان المختار بن أبى عبيد قيل له : إن تحت القصر كنزا ، فاحتفره ، فلما فتحه أخرج تلك الأشعار ، فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة.

قال ابن جنى (٢) : فإذا كان كذلك لم يقطع على الفصيح يسمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ (٣) ، ما دام القياس يعضده ، فإن لم يعضده كرفع المفعول والمضاف إليه ، وجر الفاعل أو نصبه ، فينبغى أن يرد لأنه جاء مخالفا للقياس والسماع

__________________

(١) الطنوج : الكراريس ، ولا واحد لها من لفظها ، ولقد أورد ابن منظور هذه القصة عن ابن جنى وعبارته «فى الطنوج يعنى الكراريس ثم دفنها» إلخ. وعبارة الخصائص «فى الطنوج وهى الكراريس» الخ ج ١ ص ٣٨٧.

(٢) بتصرف عن الخصائص ج ١ ص ٣٨٧.

(٣) فى الأصل : بالخطاء.

٦٢

جميعا (١) ، وكذا إذا كان الرجل الذى سمعت منه تلك اللغة المخالفة ، مضعوفا فى قوله ، مألوفا منه اللحن ، وفساد الكلام ، فإنه يرد عليه ، ولا يقبل منه (٢).

وإن احتمل أن يكون مصيبا فى ذلك لغة قديمة ، فالصواب رده ، وعدم الاحتفال بهذا الاحتمال.

الحال الثالث : أن ينفرد به المتكلم ، ولا يسمع من غيره ، لا ما يوافقه ولا ما يخالفه.

قال ابن جنى : والقول فيه أنه يجب قبوله إذا ثبتت فصاحته ، لأنه إما أن يكون شيئا أخذه عمن نطق به بلغة قديمة ، لم يشارك فى سماع ذلك منه ، على ما قلناه فيمن خالف الجماعة ، وهو فصيح ، أو شيئا ارتجله فإن الأعرابى إذا قويت فصاحته ، وسمت طبيعته ، تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه ، فقد حكى عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها ولا سبقا إليها (٣) ، أما لو جاء عن متهم ، أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته ، فإنه يرد ولا يقبل ، فإن ورد عن بعضهم شىء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها ، فإنه لا يقنع فى قبوله أن يسمع من الواحد ولا من العدة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم ، فإن كثر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوجه فى القياس ، فمجازه وجهان :

__________________

(١) انظر الخصائص ج ١ ص ٣٨٧ ، وعبارته : «إذا كان القياس يعاضده فإن لم يكن القياس مسوغا له كرفع المفعول» إلخ.

(٢) انظر المرجع السابق ج ١ ص ٣٩٠.

(٣) انظر الخصائص ج ٢ ص ٢٥.

٦٣

أحدهما : أن يكون من نطق به لم يحكم قياسه (١).

والآخر : أن تكون أنت قصرت عن استدراك وجه صحته ، ويحتمل أن يكون سمعه من غيره ممن ليس فصيحا ، وكثر استماعه له فسرى فى كلامه ، إلا أن ذلك قلما يقع ، فإن الأعرابى الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها ولم يعبأ (٢) بها.

فالأولى أن يقبل ممن شهرت فصاحته ما يورده ، ويحمل أمره على ما عرف من حاله لا على ما عسى أن يحتمل ، كما أن على القاضى قبول شهادة من ظهرت عدالته ، وإن كان يجوز كذبه فى الباطن ، إذ لو لم يؤخذ بذلك ، لأدى إلى ترك الفصيح بالشك وسقوط كل اللغات.

[الفرع] الرابع

[اللغات والاحتجاج بها]

قال ابن جنى : اللغات (٣) على اختلافها كلها حجة ألا ترى أن لغة الحجازيين فى إعمال «ما» ، ولغة التميميين فى تركه ، كل منها يقبله القياس فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها. وسيأتى فى ذلك مزيد كلام فى الكتاب السادس.

__________________

(١) فى الخصائص ج ٢ ص ٢ عبارته «لم يحكم قياسه على لغة آبائهم».

(٢) عبارة ابن جنى فى المرجع السابق «ولم يبهأ بها» ومعناه ولم يأنس بها ، فكلام ابن جنى أنسب من عبارة السيوطى الناقل عنه.

(٣) انظر الخصائص ج ٢ ص ١٠.

٦٤

[الفرع] الخامس

[علة امتناع الأخذ عن أهل المدر]

قال ابن جنى : علة (١) امتناع الأخذ عن أهل المدر (٢) ، كما يؤخذ عن أهل الوبر ، ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد ، ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم لم يعرض للغتهم شىء من الفساد لوجب الأخذ عنهم ، كما يؤخذ عن أهل الوبر ، وكذلك لو فشا فى أهل الوبر ما شاع فى لغة أهل المدر من الخلل والفساد لوجب رفض لغتها.

قال : وعلى ذلك العمل فى وقتنا هذا لأنّا لا نكاد نرى بدويّا فصيحا ، وإذا كان قد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يلحن فقال : «أرشدوا أخاكم فقد ضل» ، وسمع عمر (٣) رجلا يلحن ، وكذلك علىّ (٤) حتى حمله ذلك على وضع النحو ، إلى أن شاع أو استمر فساد الألسنة مشهورا ظاهرا ، فينبغى

__________________

(١) انظر المرجع السابق ج ٢ ص ٥.

(٢) قال فى اللسان : قال عامر للنبى صلّى الله عليه وسلّم : «لنا الوبر ولكم المدر» إنما عنى بالمدر : المدن أو الحضر ، وعنى بالوبر : الأخبية لأن أبنية البادية بالوبر.

(٣) رووا أن أحد ولاة عمر كتب إليه كتابا لحن فيه ، فكتب إليه عمر : «أن قنع كاتبك سوطا» ، والمراد بأحد الولاة : أبو موسى الاشعرى ، وانظر الخصائص ج ٢ ص ٨.

(٤) روى من حديث على مع الاعرابى الذى أقرأه المقرىء : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بكسر اللام فى رسوله ، حتى قال الاعرابى : «برئت من رسول الله» فأنكر ذلك على عليه السّلام ، ورسم لأبى الأسود من عمل النحو مار وانظر : المرجع السابق.

٦٥

أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلا أن تقوى لغته ، وتشيع فصاحته ، وقد قال الفراء فى بعض كلامه : «إلا أن تسمع شيئا من بدوى فصيح فتقوله».

[الفرع] السادس

[فى العربى الفصيح ينتقل لسانه]

قال ابن جنى : العمل فى ذلك أن ينظر حال ما انتقل إليه ، فإن كان فصيحا مثل لغته أخذ بها ، كما يؤخذ بما انتقل عنها (١) ، أو فاسدا فلا يؤخذ بالأولى (٢).

قال : فإن قيل فما يؤمنك ـ أن تكون كما وجدت فى لغته فسادا بعد أن لم يكن فيها ـ أن يكون فيها فساد آخر لم تعلمه؟

قيل : لو أخذ بهذا لأدى إلى أن لا تطيب نفس بلغة ، وأن يتوقف عن الأخذ عن كل أحد ، مخافة أن يكون فى لغته زيغ لا نعلمه الآن ، ويجوز أن يعلم بعد زمان ، وفى هذا من الخطل (٣) ما لا يخفى.

فالصواب الأخذ بما عرف صحته ، ولم يظهر فساده ، ولا يلتفت إلى احتمال الخلل فيه ما لم يبن.

__________________

(١) عبارة ابن جنى : «اعلم أن المعمول عليه فى نحو هذا أن تنظر ما انتقل إليه لسانه ، فإن كان إنما انتقل من لغته إلى لغة أخرى مثلها فصيحة ، وجب أن يأخذ بلغته التى انتقل إليها ، كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها ، حتى كأنه إنما حضر غائب من أهل اللغة التى صار إليها ، أو نطق ساكت من أهلها» ، وانظر : ج ٢ ص ١٢ من الخصائص.

(٢) الخطل : المنطق الفاسد المضطرب.

(٣) قال ابن جنى : «فإن كانت اللغة التى انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها ، [ويؤخذ] بالأولى ، حتى كأنه لم يزل من أهلها وهذا واضح» ، وانظر : الخصائص ج ٢ ص ١٢.

٦٦

[الفرع] السابع

[فى تداخل اللغات]

قال فى الخصائص : إذا اجتمع فى كلام الفصيح لغتان فصاعدا ، كقوله :

وأشرب الماء ما بى نحوه عطش

إلّا لأنّ عيونه سيل واديها (١)

فقال : «نحوه» بالإشباع ، و «عيونه» بالإسكان فينبغى أن يتأمل حال كلامه.

فإن كانت (٢) اللفظتان فى كلامه متساويتين فى الاستعمال كثرتهما واحدة ، فأخلق (٣) الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت فى ذلك المعنى على تينك اللفظتين ، لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليه فى أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها ، ويجوز أن تكون لغته فى الأصل إحداهما ، ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى ، وطال بها عهده ، وكثر استعماله لها ، فلحقت بطول المدة ، واتصال الاستعمال بلغته الأولى.

__________________

(١) استشهد ابن جنى بهذا البيت مرتين فى الحصائص : الأولى : فى ج ١ ص ٣٧١ ، والشطر الأول منه رواه هكذا :

* وأشرب الماء ما بى نحو هو عطش*

والثانية : فى ج ٢ ص ١٨ ، وروايته كالتى معنا ، والبيت فيه إشباع فى نحوه ، وإسكان فى عيونه ، وهو مروى عن قطرب.

(٢) فى الأصل : كان ، والعبارة كما صوبناها ثابتة فى الخصائص ج ١ ص ٣٧٢.

(٣) فى الخصائص : «فإن أخلق الأمر به» ج ١ ص ٣٧٢ ، وأخلق الأمر به معناه : أخلق الأشياء به

٦٧

وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر فى كلامه من الأخرى ، فأخلق (١) الأمر به أن تكون القليلة الاستعمال هى الطارئة عليه ، والكثيرة هى الأولى الأصلية.

ويجوز أن تكونا معا لغتين له ولقبيلته ، وإنما قلّت إحداهما فى استعماله لضعفها فى نفسه. وشذوذها عن قياسه.

وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة ، فسمعت فى لغة إنسان فعلى ما ذكرناه كما جاء عنهم فى أسماء الأسد ، والسيف ، والخمر ، وغير ذلك ، وكما تنحرف (٢) الصيغة واللفظ واحد ، كقولهم : رغوة اللبن ، ورغوته ، ورغوته ، ورغاوته (٣) ، كذلك مثلنا

وكذلك قولهم : جئته من عل ، ومن على ، ومن علا ، ومن علوّ ، من علو ، ومن علو ، ومن عال ، ومن معال ، فكل ذلك لغات لجماعات قد تجتمع لإنسان واحد.

قال الأصمعى : اختلف رجلان فى الصقر ، فقال أحدهما : بالصاد ، وقال الآخر : بالسين ، فتراضيا بأول وارد عليهما ، فحكيا ما هما فيه ، فقال : لا أقول كما قلتما إنما هو الزقر (٤)

__________________

(١) فى الخصائص ج ١ ص ٣٧٢ قال ابن جنى : «فأخلق الحالين به فى ذلك أن تكون القليلة فى الاستعمال هى المفادة ، والكثيرة هى الأولى الأصلية».

(٢) فى الأصل : تتحرف

(٣) فى المرجع السابق ج ١ ص ٣٧٣ أضاف : رغاوته ورغاوته بكسر الراء وضمها

(٤) قال ابن جنى بعد هذه القصة : «أفلا ترى إلى كل واحد من الثلاثة ، كيف أفاد فى هذه الحال إلى لغته لغتين أخريين معها ، وهكذا تتداخل اللغات» ، وانظر الخصائص ج ١ ص ٣٧٤.

٦٨

وعلى هذا يتخرج جميع ما ورد من التداخل ، نحو : قلى يقلى (١) ، وسلا يسلا ، وطهر فهو طاهر ، وشعر فهو شاعر ، فكل ذلك إنما هو لغات تداخلت فتركبت بأن أخذ الماضى من لغة ، والمضارع أو الوصف من أخرى لا تنطق بالماضى كذلك ، فحصل التداخل والجمع بين اللغتين ، فإن من يقول قلى (٢) يقول فى المضارع : يقلى (٣) ، والذى يقول : يقلى ، يقول فى الماضى : قلى ، وكذا من يقول : سلا ، يقول فى المضارع : يسلو ، ومن يقول فيه : يسلا ، يقول فى الماضى : سلى ، فتلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا ، وهذا لغة هذا ، فأخذ كل واحد من صاحبه ما ضمه إلى لغته ، فتركبت هناك لغة ثالثة ، وكذا شاعر وطاهر إنما هما من شعر وطهر بالفتح ، وأما بالضم فوصفه على فعيل ، فالجمع بينهما من التداخل.

انتهى كلام ابن جنى.

وقد حكى غيره فى استعمال اللغتين المتداخلتين قولين أحدهما : أنه (٤) يجوز مطلقا.

والثانى : إنما يجوز بشرط ألّا (٥) يؤدى إلى استعمال لفظ مهمل كالحبك (٦).

__________________

(١) فى الأصل : قلا يقلا.

(٢) فى الأصل : قلا.

(٣) فى الاصل : يقلا.

(٤) فى الاصل : أن.

(٥) فى الاصل : أن لا.

(٦) الحبك : طرائق النجوم ، أو الخلق الحسن ، أو الطرائق الحسنة ، وبهذا فسر قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ).

٦٩

[الفرع] الثامن

[فى عدم الاحتجاج بكلام المولدين]

أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولّدين ، والمحدثين فى اللغة والعربية ، وفى الكشاف (١) ما يقتضى تخصيص ذلك بغير أئمة اللغة ورواتها ، فإنه استشهد على مسألة بقول حبيب بن أوس ، ثم قال : وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره فى اللغة ، فهو من علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ، ألا ترى إلى قول العلماء : الدليل عليه بيت الحماسة فيقتنعون بذلك لتوثقهم بروايته وإتقانه.

فائدة

[أول الشعراء المحدثين]

أول الشعراء المحدثين : بشار (٢) بن برد ، وقد احتج سيبويه فى كتابه ببعض شعره تقربا إليه ، لأنه كان هجاء لترك الاحتجاج بشعره ، ذكره المرزبانى وغيره ، ونقل ثعلب عن الأصمعى قال : ختم الشعر بإبراهيم بن هرمة ، وهو آخر الحجج.

__________________

(١) أبو معاذ بشار بن برد أحد البلغاء المكفونين ، ورأس للشراء المحدثين ، توفى سنة ١٩٧ ه‍.

(٢) للامام محمود بن عمر الزمخشرى المتوفى سنة ٥٢٨ ه‍.

٧٠

[الفرع] التاسع

[فى عدم الاحتجاج بكلام مجهول قائله]

لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يعرف قائله ، صرّح بذلك ابن الأنبارى فى الإنصاف (١) ، وكأن علة ذلك خوف أن يكون لمولد أو من لا يوثق بفصاحته ، ومن هذا يعلم أنه يحتاج إلى معرفة أسماء شعراء العرب وطبقاتهم.

قال ابن النحاس فى «التعليقة» : أجاز الكوفيون إظهار أن بعد كى ، واستشهدوا بقول الشاعر :

أردت لكيما أن تطير بقربتى

فتتركها شنّا بيداء بلقع (٢)

قال : والجواب أن هذا البيت غير معروف قائله ، ولو عرف لجاز أن يكون من ضرورة الشعر.

__________________

(١) انظر المسألة رقم ٨٠ من كتاب الإنصاف فى مسائل الخلاف ج ٢ ص ٥٨٣ وعبارة الأنبارى : «هذا البيت غير معروف ، ولا يعرف قائله فلا يكون حجة» ، وقد علق عليه الشيخ محيى الدين عبد الحميد بقوله : «لا نرى لك أن تقر هذا ـ لا فى هذا الموضع ، ولا فى غيره ، ولا على لسان الكوفيين ولا البصريين ـ فكم من الشواهد التى يستدل بها هؤلاء وهؤلاء ، وهى غير منسوبة ، ولا لها سوابق أو لواحق ، وفى كتاب سيبويه وحده خمسون بيتا لم يعثر لها العلماء بعد الجهد والعناء الشديدين على نسبة لقائل معين».

(٢) تطير : تسرع ، شنا : القربة البالية المتخرقة ، البيداء : المفازة لا ماء فيها ، البلقع : الأرض القفراء لا شىء فيها ، ومحل الاستشهاد «لكيما أن» حيث أظهر الشاعر أن المصدرية بعد كى.

٧١

وقال أيضا : ذهب الكوفيون إلى جواز دخول اللام فى خبر لكن ، واحتجوا بقول الشاعر :

* ولكنّنى من حبّها لعميد (١) *

والجواب أن هذا البيت لا يعرف قائله ، ولا أوّله (٢) ، ولم يذكر منه إلا هذا ، ولم ينشده أحد ممن وثّق فى اللغة ، ولا عزى إلى مشهور بالضبط والإتقان ، وفى ذلك ما فيه.

وفى تعاليق ابن هشام على الألفية استدل الكوفيون على جواز مد المقصور للضرورة بقوله :

* قد علمت أخت بنى السّعلاء (٣) *

وعلمت ذاك مع الجراء

أن نعم مأكولا على الخواء

يا لك من تمر ومن شيشاء

ينشب فى المسعل واللهاء (٤)

__________________

(١) هذا عجز بيت ، وصدره الذى رواه ابن عقيل :

* يلوموننى فى حب ليلى عواذلى*

والشاهد فيه «ولكننى لعميد» حيث قرن خبر لكن باللام ، والبصريون يرون ذلك شاذا لا يجوز القياس عليه ، والكوفيون يرونه سائغا جائزا.

(٢) أوله ما ذكرناه فى رواية ابن عقيل.

(٣) هذا البيت أورده المؤلف فى كتابه «المزهر» ، وكذا أورد العينى فى شرح شواهد الألفية وبنو السعلاة هم بنو عمرو بن يربوع ، قال آخر :

يا قاتل الله بنى السعلاة

عمرو بن يربوع شرار النات

أو له معنى آخر سنذكره فى الشاهد التالى ، والشاهد فيه «السعلاء» حيث مد المقصور. فأصله السعلاة.

(٤) قال الأنبارى فى الإنصاف ج ٢ ص ٧٤٦ المسألة رقم ١٠٩ : أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على جواز مد المقصور أنه جاء ذلك عن العرب فى أشعارهم ، قال الشاعر :

٧٢

فمد السعلا ، والخوا ، واللها ، وهى مقصورات ؛ قال : والجواب عندنا انه لا يعلم قائله فلا حجة فيه ؛ لكن ذكر فى شرحه للشواهد ما يخالف ذلك.

فإنه قال : طعن عبد الواحد الطواح فى كتابه «بغية الأمل» فى الاستشهاد بقوله :

* لا تكثرن إنّى عسيت صائما (١) *

وقال : هو بيت مجهول لم ينسبه الشراح إلى أحد فسقط الاحتجاج به ، ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتا من كتاب سيبويه فإن فيه ألف بيت قد عرف قائلوها ، وخمسين مجهولة القائلين.

__________________

قد علمت أم أبى السعلاء

وعلمت ذاك مع الجراء

أن نعم مأكولا على الخواء

يا لك من تمر ومن شيشاء

* ينشب فى المسعل واللهاء*

وهذه الأبيات قيل : هى لأعرابى من أهل البادية ، وقيل : هى لأبى المقدام الراجز ، والسعلاء اصله : السعلاة قيل : هى الغول أو ساحرة الجن ، والجراء : الفتاء والصبا ، والخواء : الخلاء ، والشيشاء : الشيص من التمر ، وينشب : يعلق ، والمسعل : موضع السعال من الحلق ، واللهاء : جمع لهاة ، وهى هنة مطبقة فى أقصى سقف الفم ومحل الاستشهاد فى اللهاء حيث مد المقصور وأصله اللهاة ، والخواء أصله المد فلا شاهد فيه كما زعم الأنبارى.

(١) قال العينى صدره :

* أكثر فى العذل ملحا دائما*

قال أبو حيان : «هذا مجهول لم ينسبه الشراح إلى أحد فسقط الاحتجاج به» وكذا قال عبد الواحد فى «بغية الأمل».

قلت : لو كان الأمر كذلك لسقط الاحتجاج بخمسين بيتا من كتاب سيبويه لم يعلم قائلها ، وقد حرف ابن الشجرى هذا الرجز ، فأنشده :

قم قائما قم قائما

إنى عسيت صائما

والشاهد فى «عسيت صائما» وذلك لأن الأصل أن يكون خبر عسى فعلا مضارعا ، وقد جاء فى البيت مفردا وهو نادر.

٧٣

[الفرع] العاشر

[هل يقبل قول القائل : حدثنى الثقة؟]

إذا قال [قائل] : حدثنى الثقة فهل يقبل؟ قولان :

فى علم الحديث وأصول الفقه رجّح كلّا مرجّحون ، وقد وقع ذلك لسيبويه كثيرا يعنى به الخليل وغيره ، وكان يونس يقول : حدثنى الثقة من العرب ، فقيل له : من الثقة؟ قال : أبو زيد ، قيل له : فلم لا تسميه؟ قال : هو حى بعد فأنا لا أسميه.

[الفرع] الحادى عشر

[طرح الشاذ وعدم الاهتمام به]

قال ابن السراج فى الأصول ـ بعد أن قرر أن أفعل التفضيل لا يأتى من الألوان ـ فإن قيل : قد أنشد بعض الناس :

يا ليتنى مثلك فى البياض

أبيض من أخت بنى أبلض (١)

__________________

(١) استشد الأنبارى فى الإنصاف بهذا البيت للكوفيين الذين يجيزون مجىء أفعل التفضيل ، وصيغتى التعجب من خصوص البياض والسواد دون سائر الألوان ، لكونهما أصلا الألوان كلها ، والبصريون يمنعون ذلك ، ويحكمون على ما جاء من كلام العرب مما ظاهره ذلك ، بأنه شاذ أو يكون «أفعل» فى مثل قول هذا الراجز صفة مشبهة لا أفعل تفضيل ، هذا ورواية الأنبارى هكذا :

جارية فى ذرعها الفضفاض

تقطع الحديث بالايماض

* أبيض من أخت بنى أباض*

٧٤

فالجواب : أن هذا معمول على فساد ، وليس البيت الشاذ ، والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجتمع عليه فى كلام ولا نحو ولا فقه (١) ، وإنما يركن إلى هذا ضعفة أهل النحو ومن لا حجة معه.

وتأويل هذا وما أشبهه كتأويل ضعفة أصحاب الحديث واتباع القصاص. فى الفقه ، انتهى. فأشار بهذا الكلام إلى أن الشاذ ونحوه يطرح (٢) طرحا ولا يهتم بتأويله.

[الفرع] الثانى عشر

[متى يكون التأويل مستساغا ومتى لا يكون؟]

قال أبو حيان فى شرح التسهيل : التأويل إنما يسوغ إذا كانت الجادة (٣) على شىء ، ثم جاء شىء يخالف الجادة فيتأول.

أما إذا كان لغة طائفة من العرب لم تتكلم إلا بها فلا تأويل.

ومن ثم كان مردودا تأويل أبى على «ليس الطيب إلا المسك» (٤) على أن فيها ضمير الشان لأن أبا عمرو نقل أن ذلك لغة تميم.

__________________

ومعنى تقطع الحديث بالايماض : أن المرأة إذا أومضت ، قطعوا حديثهم للنظر إليها لبراعة جمالها ، وبنو أباض : قوم اشتهروا ببياض ألوانهم ، ولقد نسب البغدادى هذا الرجز لرؤبة بن العجاج ، وانظر الخزانة ج ٣ ص ٤٨٣ ، والانصاف المسألة رقم ١٦ ، ورضى الدين فى شرح الكافية ج ٢ ص ١٩٩.

(١) أى مثل ذلك ليس حجة أيضا فى نحو ولا فقه.

(٢) يطرح طرحا : أى يبعد إبعادا.

(٣) الجادة ، يقال : فلان جاد مجد أى مجتهد ، فالجادة : هم المجتهدون ، والجادة : معظم الطريق أيضا.

(٤) استشهد بعض النحويين بهذا المثال على أن عسى يغلب عليها الحرفية

٧٥

[الفرع] الثالث عشر

قال أبو حيان أيضا : إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال ، ورد به على ابن مالك كثيرا فى مسائل استدل عليها بأدلة بعيدة التأويل ، منها استدلاله على قصر الأخ بقوله :

أخاك الذى إن تدعه لمسلمة

يجبك بما تبغى ويكفيك من يبغى (١)

فإنه يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار فعل أى الزم ، وإذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال.

[الفرع] الرابع عشر

[رواية الأبيات بأوجه مختلفة]

كثيرا ما تروى الأبيات على أوجه مختلفة ، وربما يكون الشاهد فى بعض دون بعض ، وقد سئلت عن ذلك قديما ، فأجبت باحتمال أن يكون الشاعر

__________________

حيث رفع الطيب والمسك جميعا ، وبما حكى أن بعض العرب قيل له : فلان يتهددك ، فقال : «عليه رجلا ليسى» فأنى بالياء وحدها من غير نون الوقاية ، ولو كان فعلا لأنى بها كسائر الأفعال ، وانظر الإنصاف المسالة رقم ١٨ ، وهنا نقل السيوطى عن أبى حيان : أن التأويل لا يجوز إذا كان الكلام لغة لقوم أو طائفة من العرب.

(١) نقل السيوطى عن أبى حيان أن ابن مالك استدل بهذا البيت على قصر نصب «أخاك» على الاغراء بإضمار «الزم» ورد عليه أبو حيان بأن إضمار الفعل مجرد احتمال ، والدليل إذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال ، وتبغى الأولى من البغية وهى الحاجة ، والثانية من البغى وهو التعدى.

٧٦

أنشد مرة هكذا ومرة هكذا ، ثم رأيت ابن هشام قال فى شرح الشواهد : روى قوله :

* ولا أرض أبقل إبقالها (١) *

بالتذكير والتأنيث مع نقل الهمزة ، فإن صح أن القائل بالتأنيث هو القائل بالتذكير ، صح الاستشهاد به على الجواز من غير الضرورة ، وإلا فقد كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض ، وكل يتكلم على مقتضى سجيته التى فطر عليها ، ومن هنا تكثرت الروايات فى بعض الأبيات ، انتهى.

__________________

(١) هذا البيت من شواهد سيبويه ج ١ ص ٢٤٠ ، والمبرد فى «المذكر والمؤنث» ص ١١٢ ، والمخصص ١٦ / ٨٠ ، وأمثال أبى عكرمة ٥ / ٨ ، وشرح ابن يعيش على المفصل ج ٥ ص ٩٤ ، ولسان العرب ج ١٢ ص ٢٥٢ ، وج ١١ ص ٢٠٦ ، والبلغة للأنبارى ص ٦٣ ، وهو لعامر بن جوين ، وكان من الخلعاء حتى أن قومه تبرأوا منه ، والبيت من كلمة وصف بها أرضا مخصبة بكثرة ما نزل بها من الغيث ، وقبله :

وجارية من بنات الملو

ك قعقعت بالرمح خلخالها

ككرفئة الغيث ذات الصبي

ر ترمى السحاب ويرمى لها

تواعدها بعد مر النجو

م كلفاء تكثر تهطالها

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

والمزنة : السحاب ؛ والودق : المطر ، قال الاعلم ، والشاهد فيه : حذف التاء من أبقلت لأن الارض بمعنى المكان ، فكأنه قال : «ولا مكان أبقل إبقالها» ولكن ابن هشام استشهد بالبيت على أن «أبقل» روى بروايتين : التذكير والتأنيث

٧٧

فصل

[فى حكم معرفة اللغة والنحو والتصريف ، ثم التواتر والآحاد والرواة]

ملخص من «المحصول» للإمام فخر الدين الرازى مع زيادات من شروحه.

قال : اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرض كفاية ، لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبة بالإجماع ، ومعرفة الأحكام بدون معرفة أدلها مستحيل ، فلا بد من معرفة أدلتها ، والأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة ، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم ، فإذن توقّف العلم بالأحكام على الأدلة ، ومعرفة الأدلة تتوقف على معرفة اللغة والنحو والتصريف ، وما يتوقف على الواجب المطلق ، وهو مقدور للمكلف ، فهو واجب ، فإذن معرفة اللغة والنحو والتصريف واجبة.

قال : ثم الطريق إلى معرفتها إما النقل المحض كأكثر اللغة ، أو العقل مع النقل كقولنا الجمع المحلّى باللام للعموم ، لأنه يصح استثناء أى فرد منه ، فإن صحة الاستثناء بالنقل ، وكونه معيار العموم بالعقل

فمعرفة كون الجمع المذكور له بالتركيب من النقل والعقل ، وأما العقل المحض فلا مجال له فى ذلك.

قال : فالنقل المحض إما تواتر أو آحاد ، وعلى كل منهما إشكالات :

أما التواتر : فالإشكال عليه من وجوه :

أحدها : أنا نجد الناس مختلفين فى معانى الألفاظ ـ التى هى أكثر الألفاظ تداولا ودورانا على ألسنة المسلمين ـ اختلافا شديدا لا يمكن فيها القطع بما هو

٧٨

الحق كلفظة (الله) فإن بعضهم زعم أنها عبرية ، وقال قوم : سريانية ، والذين جعلوها عربية اختلفوا ، هل هى مشتقة أو لا؟

والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا ، ومن تأمل أدلتهم فى تعيين مدلول هذا اللفظ علم أنها متعارضة ، وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين ، وكذلك اختلفوا فى لفظ الإيمان ، والكفر ، والصلاة ، والزكاة ، فإذا كان هذا الحال فى هذه الألفاظ التى هى أشهر الألفاظ والحاجة إليها ماسة جدا ، فما ظنك بسائر الألفاظ؟

وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر فى اللغة والنحو متعذر.

وأجيب عنه بأنه وإن لم يمكن دعوى التواتر فى معانيها على سبيل التفصيل ، فإنا نعلم معانيها فى الجملة ، فنعلم أنهم يطلقون لفظة (الله) على الإله المعبود بحق ، وإن كنا لا نعلم مسمى هذا اللفظ أذاته؟ أم كونه معبودا؟ أم كونه قادرا على الاختراع؟ أم كونه ملجأ للخلق؟ أم كونه بحيث تتحير العقول فى إدراكه؟ إلى غير ذلك من المعانى المذكورة لهذا اللفظ ، وكذا القول فى سائر الألفاظ.

الإشكال الثانى : أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة.

فهب أنا علمنا حصول شرط التواتر فى حفاظ اللغة والنحو والتصريف فى زماننا ، فكيف نعلم حصولها فى سائر الأزمنة؟

وإذا جهلنا شرط التواتر جهلنا التواتر ضرورة ، لأن الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط.

فإن قيل الطريق إليه أمران :

أحدهما : أن الذين شاهدناهم ، أخبرونا : أن الذين أخبروهم بهذه اللغات

٧٩

كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة فى التواتر ، وأن الذين أخبروا من أخبرهم كانوا كذلك ، إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلّى الله عليه وسلّم.

والآخر : أن هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعة لهذه اللغات ثم وضعها واضع لهذه المعانى ، لاشتهر ذلك وعرف ، فإن ذلك مما تتوفر الدواعى على نقله.

قلنا : أما الأول فغير صحيح ، لأن كل واحد منّا حين سمع لغة مخصوصة من إنسان ، فإنه لم يسمع منه أنه سمعه من أهل التواتر ، وهكذا بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه ، مما لا يفهمه كثير من الأدباء ، فكيف يدعى عليهم أنهم علموه بالضرورة؟ بل الغاية القصوى فى راوى اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح ، أو إلى إسناد متقن ، ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين.

وأما الثانى فضعيف أيضا ، لأن ذلك الاشتهار إنما يجب فى الأمور العظيمة ، وليس هذا منه ، سلمنا أنه منه ، لكن لا نسلم أنه لم يشتهر ، فإنه قد اشتهر ، بل بلغ مبلغ التواتر : أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوص كالخليل ، وأبى عمرو ، والأصمعى ، وأقرانهم ، ولا شك أن هؤلاء ما كانوا معصومين ، ولا بالغين حد التواتر ، وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم.

أقصى ما فى الباب أن يقال : نعلم قطعا أن هذه اللغات بأسرها غير منقولة على سبيل الكذب ، ونقطع بأن فيها ما هو صدق قطعا ، لكن كل لفظة عيّنّاها فإنا لا يمكننا القطع بأنها من قبيل ما نقل صدقا ، وحينئذ لا يبقى القطع فى لفظ معين أصلا ، هذا هو الإشكال على من ادعى التواتر فى نقل اللغات ... هذا كلام الإمام (١).

__________________

(١) الإمام فخر الدين الرازى كما تقدم.

٨٠