كتاب الإقتراح في علم أصول النحو

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

كتاب الإقتراح في علم أصول النحو

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: الدكتور أحمد محمّد قاسم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: نشر أدب الحوزة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تقديم

يقول الفقير إلى الله تعالى جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطى :

الحمد لله الذى أرشد لابتكار هذا النمط ، وتفضل بالعفو عما صدر عن العبد على وجه السهو والغلط ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة لاوكس (١) فيها ولا شطط ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، أفضل من عليه جبرئيل (٢) بالوحى هبط ، صلّى الله عليه وسلّم ، وعلى آله وصحبه الذين هم لاتباعه خير فرط (٣)

هذا كتاب غريب الوضع ، عجيب الصنع ، لطيف المعنى ، طريف المبنى ، لم تسمح قريحة بمثاله (٤) ، ولم ينسج ناسج على منواله ، فى علم لم أسبق إلى ترتيبه ولم أتقدم إلى تهذيبه ، وهو «أصول النحو» الذى هو بالنسبة إلى النحو ، كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه ، وإن وقع فى متفرقات كلام بعض المؤلفين وتشتت فى أثناء كتب المصنفين ، فجمعه وترتيبه صنع مخترع ، وتأصيله وتبويبه وضع مبتدع ، لأبرز فى كل حين للطالبين ما تبتهج به أنفس الراغبين.

وقد سميته ب «الاقتراح فى علم أصول النحو» ورتبته على مقدمات وسبعة كتب.

__________________

(١) الوكس : النقص.

(٢) يقصد : سيدنا جبريل عليه السّلام.

(٣) فرط : تبع.

(٤) سبق أن قلنا فى المقدمة أنه قد سبقه الأنبارى وغيره أنظر ص ٦ وما بعدها.

٢١

واعلم أنى قد استمددت فى هذا الكتاب كثيرا من كتاب «الخصائص» لابن جنى ، فإنه وضعه فى هذا المعنى ، وسماه أصول النحو ، لكن أكثره خارج هذا المعنى ، ليس مرتبا ، وفيه الغث والثمين والاستطرادات ، فلخصت منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى ، بأوجز عبارة وأرشقها وأوضحها ، معزوا إليه ، وضممت إليه نفائس أخر ، ظفرت بها فى متفرقات كتب اللغة والعربية والأدب وأصول الفقه ، وبدائع استخرجتها بفكرى.

ورتيته على نحو ترتيب أصول الفقه ، فى الأبواب والفصول والتراجم كما ستراه واضحا بينا إن شاء الله تعالى.

ثم بعد تمامه ، رأيت الكمال ابن الأنبارى قال ـ فى كتابه نزهة الألباء (١) فى طبقات الأدباء ـ «علوم الآدب ثمانية : اللغة ، والنحو ، والتصريف ، والعروض ، والقوافى ، وصنعه الشعر ، وأخبار العرب ، وأنسابهم.

ثم قال : وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما : علم الجدل فى النحو ، وعلم أصول النحو ، فيعرف به القياس وتركيبه وأقسامه ، من قياس العلة ، وقياس الشبه ، وقياس الطرد ، إلى غير ذلك على حد أصول الفقه ، فإن بينهما من المناسبة مالا (٢) خفاء به ، لأن النحو معقول من منقول ، كما أن الفقه معقول من منقول» هذه (٣) عبارته.

__________________

(١) انظر نزهة الألباء ص ٦١ ترجمة هشام بن السائب الكلبى.

(٢) عبارة الأنبارى. «فإن بينهما من المناسبة ما لا يخفى ؛ لان النحو معقول كما أن الفقه معقول من منقول ، ويعلم هذا حقيقة أرباب المعرفة بهما» انظر المرجع السابق.

(٣) بالأصل : هذا عبارته

٢٢

فتطلبت هذين الكتابين حتى وقفت عليها ، فإذا هما لطيفان جدا ، وإذا فى كتابى هذا من القواعد المهمة والفوائد ، ما لم يسبق إليه أحد ، ولم يعرج فى واحد منهما عليه ، فأما الذى فى أصول النحو ، فإنه فى كراستين صغيرتين سماه : «لمع الأدلة» ورتبه على ثلاثين فصلا :

الأول : فى معنى أصول النحو وفائدته :

الثانى : فى أقسام أدلة النحو ، الثالث : فى النقل

الرابع : فى انقسام النقل الخامس : فى شرط نقل المتواتر.

السادس : فى شرط نقل الآحاد. السابع : فى قبول نقل أهل الأهواء.

الثامن : فى قبول المرسل والمجهول. التاسع : فى جواز الإجازة.

العاشر : فى القياس. الحادى عشر : فى تركيب القياس (١).

الثانى عشر : فى الرد على من أنكر القياس.

الثالث عشر : فى حل شبه تورد على القياس.

الرابع عشر : فى أقسام القياس الخامس عشر : فى قياس الطرد.

السادس عشر : فى كون الطرد شرطا فى العلة.

السابع عشر : فى كون العكس شرطا فى العلة.

الثامن عشر : فى جواز تعليل الحكم بعلتين فصاعدا.

التاسع عشر : فى إثبات الحكم فى محل النقل (٢) بماذا يثبت؟ بالنقل أم بالقياس؟

العشرون : فى العلة القاصرة (٣).

__________________

(١) لم يرد فى النسخة التى بين أيدينا من «لمع الأدلة» هذا العنوان ، ولم يذكر السيوطى «قياس الشبه» الذى ورد بلمع الأدلة.

(٢) عبارة الأنبارى فى لمع الأدلة : فى إثبات الحكم فى محل النص

(٣) لم يرد هذا العنوان بلمع الأدلة وإنما ورد «فى قياس العلة»

٢٣

الحادى والعشرون : فى إبراز الإخالة والمناسبة عند المطالبة.

الثانى والعشرون : فى الأصل الذى يرد إليه الفرع إذا كان مختلفا فيه.

الثالث والعشرون : فى إلحاق الوصف بالعلة مع عدم الإخالة.

الرابع والعشرون : فى ذكر ما يلحق بالقياس [وما] يتفرع (١) عليه من وجوه الاستدلال.

الخامس والعشرون : فى الاستحسان.

السادس والعشرون : فى المعارضة.

السابع والعشرون : فى معارضة النقل بالنقل.

الثامن والعشرون : فى معارضة القياس بالقياس.

التاسع والعشرون : فى استصحاب الحال

الثلاثون : فى الاستدلال بعدم الدليل فى الشىء على نفيه (٢)

__________________

(١) عبارة «ويتفرع عليه» لم ترد بلمع الادلة

(٢) قال الأستاذ سعيد الأفغانى فى مقدمة كتاب «لمع الادلة» للأنبارى : هناك خلاف فى ترتيب بعض الفصول بين مخطوطتنا ، وما ذكره السيوطى فى مقدمة «الاقتراح» ، وقد رأيت مقابلة المسردين ، ليقف القارىء على عناوين الفصول ، وعلى الخلاف معا. ثم قال ما خلاصته : إن الفصول الخمسة الأولى ناقصة فى مخطوطته وأنه نقلها عن السيوطى فى الاقتراح والمزهر ، ونسخة خطية أخرى ، وأن الفصول من ٦ إلى ١٠ ومن ٢١ إلى ٣٠ باستثناء الفصل ٢٤ ، فهى متفقة مع النسخة الخطية عنده وأما الفصل ٢٤ وهو : «فى ذكر ما يلحق بالقياس ويتفرع عليه من وجوه الاستدلال» فانه يقابله فى نسخة لمع الأدلة : «فى ذكر ما يلحق بالقياس من وجوه الاستدلال» وأما الفصول من ١١ إلى ٢٠ فهى مختلفة العناوين كالآتى :

الفصل

مخطوطة لمع الأدلة

فى مقدمة الاقتراح

١١

فى الرد على من أنكر القياس

فى تركيب القياس

١٢

فى حل شبه تورد على القياس

فى الرد على من أنكر القياس

١٣

فى معرفة انقسام القياس

فى حل شبه تورد على القياس

٢٤

وأما الذى فى جدل النحو ، فإنه فى كراسة لطيفة سماه ب «الإغراب فى جدل الإعراب» ورتبه على اثنى عشر فصلا :

الأول : فى السؤال الثانى : فى وصف السائل.

الثالث : فى وصف المسئول به الرابع : فى وصف المسئول منه.

الخامس : فى وصف المسئول عنه. السادس : فى الجواب.

السابع : فى الاستدلال. الثامن : فى الاعتراض على الاستدلال بالنقل.

التاسع : فى الاعتراض على الاستدلال بالقياس.

العاشر : فى الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال.

الحادى عشر : فى ترتيب الأسئلة :

الثانى عشر : فى ترجيح الأدلة ، انتهى.

وقد أخذت من الكتاب الأول (١) اللباب ، وأدخلته معزوا إليه فى خلل هذا الكتاب ، وضممت خلاصة الثانى (٢) فى مباحث العلة.

__________________

الفصل

مخطوطة لمع الأدلة

فى مقدمة الاقتراح

١٤

فى قياس العلة

فى أقسام القياس

١٥

فى قياس الشبه

فى قياس الطرد

١٦

فى قياس الطرد

فى كون الطرد شرطا فى العلة

١٧

فى كون الطرد شرطا فى العلة

فى كون العكس شرطا فى العلة

١٨

فى كون العكس شرطا فى العلة

فى جواز تعليل الحكم بعلتين فصاعدا

١٩

فى جواز تعليل الحكم بعلتين فصاعدا

فى إثبات الحكم فى محل النقل بماذا يثبت بالنقل أم بالقياس؟

٢٠

فى إثبات الحكم فى محل النقل

فى العلة القاصرة

بماذا يثبت بالنقل أم بالقياس؟

(١) المقصود به : لمع الأدلة للانبارى ، والمراد باللباب : الشىء الخالص.

(٢) المراد به : الاغراب فى جدل الاعراب للانبارى أيضا.

٢٥

وضممت إليه من كتابه الإنصاف (١) فى مباحث الخلاف جملة ، ولم أنقل من كتبه حرفا إلا مقرونا بالعزو إليه ليعرف مقام كتابى من كتابه ، ويتميز عند أولى التمييز جليل نصابه ، وإلى الله الضراعة فى حسن الختام والقبول ، فلا ينفع العبد إلا ما من بقبوله والسّلام.

__________________

(١) هو كتاب الانصاف فى مسائل الخلاف للأنبارى.

٢٦

الكلام فى المقدمات

فيها مسائل :

المسألة الأولى

[فى حد أصول النحو]

[المسألة] الأولى : أصول النحو : «علم يبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هى أدلته ، وكيفية الاستدلال بها وحال المستدل».

فقولى : «علم» أى صناعة ، فلا يرد ما أورد على التعبير به فى حد أصول الفقه ، من كونه يلزم عليه فقده إذا فقد العالم به ، لأنه صناعة مدونة مقررة وجد العالم به أم لا.

وقولى : «عن أدلة النحو» يخرج كل صناعة سواه وسوى النحو ، وأدلة النحو الغالبة أربعة.

قال ابن جنى فى الخصائص (١) : أدلة النحو ثلاثة : السماع والإجماع والقياس.

وقال ابن الأنبارى فى أصوله (٢) : أدلة النحو ثلاثة : نقل وقياس واستصحاب (٣)

__________________

(١) انظر الخصائص ج ١ ص ١٨٩.

(٢) انظر لمع الأدلة ، الفصل الثانى ص ٨١.

(٣) استصحاب الحال هو : «إبقاء حال اللفظ على ما يستحقه فى الأصل عند عدم دليل النقل عن الأصل» كقولك : فعل الأمر مبنى لأن الأصل فى الأفعال البناء ، ولا يوجد دليل على مشابهته الاسم ليعرب فبقى على حاله مبنيا. وسيأتى مزيد كلام عنه.

٢٧

حال ، فزاد الاستصحاب ، ولم يذكر الإجماع (١) ، فكأنه لم ير الاحتجاج به فى العربية ، كما هو رأى قوم ، وقد تحصل مما ذكراه أربعة (٢) ، وقد عقدت لها أربعة كتب.

وكل من الإجماع والقياس لا بد له من مستند من السماع كما هما فى الفقه كذلك ، ودونها الاستقراء ، والاستحسان ، وعدم النظير ، وعدم الدليل ، المعقود لها الكتاب الخامس.

وقولى : «الإجمالية» احتراز من البحث عن التفصيلية ، كالبحث عن دليل خاص بجواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، وبجواز الإضمار قبل الذكر فى باب الفاعل و [باب] المفعول ، وبجواز مجىء الحال من المبتدأ ، وبجواز مجىء التمييز مؤكدا ، ونحو ذلك ؛ فهذه وظيفة علم النحو نفسه لا أصوله.

وقولى : «من حيث هى أدلته» بيان لجهة البحث عنها ، أى البحث عن القرآن بأنه حجة فى النحو ، لأنه أفصح الكلام سواء كان متواترا أم آحادا ، وعن السنة كذلك بشرطها الآتى ، وعن كلام من يوثق بعربيته كذلك ، وعن إجماع (٣) أهل البلدين كذلك ، أى أن كلا مما ذكر يجوز الاحتجاج به دون غيره ، وعن القياس وما يجوز من العلل فيه وما لا يجوز.

وقولى : «وكيفية الاستدلال بها» أى عند تعارضها ونحوه ، كتقديم

__________________

(١) سبق الرد على الامام السيوطى فى ذلك ، وانظر ص ٨ من هذا الكتاب وص ٩٨ من لمع الأدلة.

(٢) هى : السماع ، والاجماع ، والقياس ، واستصحاب الحال.

(٣) لعله يقصد بالبلدين : البصرة والكوفة.

٢٨

السماع على القياس ، واللغة الحجازية على النميمية إلا لمانع ، وأقوى العلتين على أضعفهما ، وأحف الأقبحين على أشدهما قبحا ، إلى غير ذلك ، وهذا هو المعقود له الكتاب السادس.

وقولى : «وحال المستدل» أى المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة أى صفاته وشروطه ، وما يتبع ذلك من صفة المقلد والسائل ، وهذا هو الموضوع له الكتاب السابع.

وبعد أن حررت هذا الحد بفكرى وشرحته ، وجدت ابن الأنبارى قال : «أصول النحو أدلة النحو التى تفرعت منها فروعه وفصوله ، كما أن أصول الفقه أدلة الفقه التى تنوعت عنها جملته وتفصيله.

وفائدته : التعويل فى إثبات الحكم على الحجة والتعليل ، والارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الدليل فإن المخلد إلى التقليد ، لا يعرف وجه الخطأ (١) من الصواب ، ولا ينفك فى أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب». وهذا جميع ما ذكره فى الفصل الأول (٢) بحروفه.

المسألة الثانية

[حدود النحو]

للنحو حدود شتى وأليقها بهذا الكتاب قول ابن جنى فى الخصائص : انتحاء سمت كلام العرب فى تصرفه من إعراب وغيره ، كالتثنية والجمع والتحقير (٣) والتكسير ، ولإضافة وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها

__________________

(١) بالأصل : الخطاء.

(٢) من لمع الأدلة.

(٣) المراد بالتحقير : التصغير.

٢٩

فى الفصاحة ، وأصله : مصدر نحوت ، بمعنى قصدت ثم خص به انتحاء هذا القبيل من العلم ، كما أن الفقه فى الأصل : فقهت بمعنى فهمت ثم خص به علم الشريعة (١) ، انتهى.

وقال صاحب المستوفى : النحو صناعة علمية ينظر لها أصحابها فى ألفاظ العرب من جهة ما يتألف بحسب استعمالهم لتعرف النسبة بين صبغة النظم ، وصورة المعنى ، فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى.

وقال الخضراوى (٢) : النحو علم بأقيسة تغير ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب.

وقال ابن عصفور (٣) : النحو علم مستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التى ائتلف (٤) منها ، وانتقده ابن الحاج بأنه ذكر ما يستخرج به النحو ، وتبيين ما يستخرج به الشىء ليس تبيينا لحقيقة النحو ، وبأن فيه أن المقاييس شىء غير النحو ، وعلم مقاييس كلام العرب هو النحو.

__________________

(١) انظر الخصائص ج ١ ص ٣٤ ، ولقد تصرف السيوطى فى عبارة ابن جنى.

(٢) الخضراوى صاحب كتاب : الإفصاح ، وهو محمد بن يحيى بن هشام الخضراوى المتوفى سنة ٦٤٦ ه‍.

(٣) انظر المقرب ج ١ ص ٤٥.

(٤) فى إحدى نسخ المقرب : تأتلف ، والتعريف الذى نقله المؤلف هنا عن ابن عصفور نقله عنه الأشمونى فى شرح الألفية أيضا.

وذكر «الصبان» : أن المراد بالعلم : القواعد التى من شأنها أن تعلم ، والباء فى قوله «بالمقاييس» للتصوير ، وهذا هو اللائق هنا لا أن يكون المراد بالعلم : الإدراك ، ولا أن يكون المراد به : الملكة.

٣٠

وقال صاحب البديع : النحو صناعة علمية يعرف بها أحوال كلام العرب ، من جهة ما يصح ويفسد فى التأليف ليعرف الصحيح من الفاسد ، وبهذا يعلم أن المراد بالعلم المصدّر به حدود العلوم : الصناعة ، ويندفع الإيراد الأخير على كلام ابن عصفور (١).

وقال ابن السراج فى الأصول : النحو علم استخرجه المتقدمون من استقراء كلام العرب.

المسألة الثالثة

[حد اللغة ، وهل هى من وضع الله تعالى أو البشر]

قال فى الخصائص (٢) : حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ، واختلف : هل هى بوضع الله أو البشر؟ على مذاهب :

أحدها وهو مذهب الأشعرى : أنها بوضع الله ، واختلف على هذا ، هل وصل إلينا علمها بالوحى إلى نبى من أنبيائه ، أو بخلق أصوات فى بعض الأجسام تدل عليها وإسماعها لمن عرفها ونقلها ، أو بخلق العلم الضرورى فى بعض العباد بها؟

على ثلاثة آراء أرجحها الأول ، وبدل له ولأصل المذهب قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)(٣) أى أسماء المسميات. قال ابن عباس : علمه اسم

__________________

(١) المراد أن الاعتراض السابق الذى ساقه ابن الحاج على تعريف ابن عصفور لا محل له هنا.

(٢) انظر الخصائص ج ١ ص ٣٣.

(٣) الآية رقم ٣١ من سورة البقرة.

٣١

الصحفة (١) والقدر حتى الفسوة والفسية. وفى رواية عنه : عرض عليه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب ، فقيل : هذا الحمار ، هذا الجمل ، هذا الفرس ، أخرجهما ابن أبى حاتم فى تفسيره.

وتعليمه تعالى دال على أنه الواضع دون البشر ، وأن وصولها بالوحى إلى آدم ، ومال إلى هذا القول ابن جنى (٢) ، ونقله عن شيخه أبى على الفارسى ، وهما من المعتزلة.

والمذهب الثانى : أنها اصطلاحية وضعها البشر ، ثم قيل : وضعها آدم ، وتأول ابن جنى الآية على أن معنى : (عَلَّمَ آدَمَ) أقدره على وضعها (٣).

وقيل : لعله كان يجتمع حكيمان أو ثلاثة فصاعدا ، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء المعلومة ، فوضعوا لكل واحد منها لفظا إذا ذكر عرف به.

وقيل : أصل اللغات كلها من الأصوات المسموعات ، كدوىّ الريح والرعد ، وخرير الماء ، ونعيق الغراب ، وصهيل الفرس ، ونهيق الحمار ، ونحو ذلك ، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد ، واستحسنه ابن جنى (٤).

__________________

(١) الصحفة : القصعة ، وأعظم القصاع : الجفنة.

(٢) انظر الخصائص ج ١ ص ٤٠.

(٣) انظر الخصائص ج ١ ص ٤٠ ـ ٤١ ، وقال ابن جنى : «وقد كان أبو على رحمه الله أيضا قال به فى بعض كلامه».

(٤) انظر الخصائص ج ١ ص ٤٦ ـ ٤٧ ، وعبارة ابن جنى «وهذا عندى وجه صالح ومذهب متقبل»

٣٢

والمذهب الثالث : الوقف ، أى لا يدرى أهى من وضع الله أو البشر لعدم دليل قاطع فى ذلك ، وهو الذى اختاره ابن جنى (١) أخيرا.

تنبيهان :

الأول : زعم بعضهم أنه لا فائدة لهذا الخلاف ، وليس كذلك بل ذكر له فائدتان :

الأولى : فقهية ، ولذا ذكرت هذه المسألة فى أصوله (٢)

والأخرى : نحوية ، ولهذا ذكرتها فى أصوله تبعا لابن جنى فى الخصائص ، وهى جواز قلب اللغة ، فإن قلنا : إنها اصطلاحية جاز وإلا فلا ، وإطباق أكثر النحاة على أن المصحّفات (٣) ليست بكلام ، ينبغى أن يكون من هذا الأصل.

الثانى : قال ابن جنى : الصواب وهو رأى أبى الحسن الأخفش ، سواء قلنا بالتوقيف أم بالاصطلاح أن اللغة لم توضع كلها فى وقت واحد ، بل وقعت

__________________

(١) انظر الخصائص ج ١ ص ٤٧ ، وعبارة ابن جنى «فأقف بين تين الخلتين حسيرا ، وأكاثرهما فأنكفىء مكثورا ، وإن خطر خاطر فيما بعد ، يعلق الكف بإحدى الجهتين ، ويكفها عن صاحبتها قلنا به ، وبالله التوفيق» وقد علق الشيخ محمد على النجار على هذه العبارة بقوله : «يبدو من هذا أن مذهب ابن جنى فى المبحث الوقف فنراه لا يجزم بأحد الرأيين : الاصطلاح والتوقيف ، وقد صرح بهذا ابن الطيب فى شرح الاقتراح» وانظر حاشية المرجع السابق.

(٢) أى أصول الفقه.

(٣) المصحفات : أى الصحائف المكتوبة.

٣٣

متلاحقة متتابعة (١) ، قال الأخفش : اختلاف لغات العرب إنما جاء من قبل.

إن أول ما وضع منها وضع على خلاف وإن كان كله مسوقا على صحة وقياس ، ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها ، غير أنها على قياس ما كان وضع فى الأصل مختلفا.

قال : ويجوز أن يكون الموضوع الأول ضربا واحدا ، ثم رأى من جاء بعد أن خالف قياس الأول إلى قياس ثان جار فى الصحة مجرى الأول.

قال (٢) : وأما أىّ الأجناس الثلاثة الاسم والفعل والحرف وضع قبل؟ فلا يدرى ذلك ويحتمل فى كل من الثلاثة أنه وضع قبل ، وبه صرح أبو على ، قال : وكان الأخفش يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب

__________________

(١) عبارة ابن جنى : «فإنها لا بد أن يكون وقع فى أول الأمر بعضها ، ثم احتيج فيما بعد للزيادة عليه ، لحضور الداعى إليه ، فزيد فيها شيئا فشيئا ، إلا أنه على قياس ما كان منها فى حروفه وتأليفه ، وإعرابه المبين عن معانيه ، لا يخالف الثانى الأول» الخ. ثم قال فى نهاية عبارته : «وهذا رأى أبى الحسن وهو الصواب» ، وانظر الخصائص ج ٢ ص ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) عبارة ابن جنى : «فأما أى الأجناس الثلاثة تقدم ـ أعنى الأسماء والأفعال والحروف ـ فليس مما نحن عليه فى شىء» ثم ذكر رأى أبى على الذى لخصه صاحب الاقتراح ، وانظر الخصائص ج ٢ ص ٣٠ ، ويختم ابن جنى عبارته بقوله : «فلا عليهم بأيها بدأوا ، أبا لإسم ، أم بالفعل ، أم بالحرف؟ لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جمع ، إذ المعانى لا تستغنى عن واحد منهن هذا مذهب أبى على وبه كان يأخذ ويفتى».

٣٤

قبل وضعه ، وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها (١) إياه ، فابتدءوا بتغييره ، علما بأن لا بد من كثرته (٢) الداعية إلى تغييره

قال : ويجوز أن يكون كانت قديما معربة (٣) ، فلما كثرت غيرت فيما بعد ، قال : والقول عندى هو الأول لأنه أدل على حكمتها ، وأشهد لها بعلمها بمصاير أمرها ، فتركوا بعض الكلام مبنيا غير معرب نحو : أمس وأين وكيف وكم وإذا وحيث وقبل ، علما بأنهم سيستكثرون منها فيما بعد ، فيجب لذلك تغييرها (٤).

__________________

(١) فى الأصل : «استعمالهم» ، والصواب ما قلناه ، وهو نص عبارة الخصائص وانظر ج ٢ ص ٣١.

(٢) فى الأصل : «كثرة» ، والصواب : كثرته ، وهو الظاهر والمطابق لنص عبارة ابن جنى ، وانظر المرجع السابق.

(٣) علق الشيخ النجار على هذه العبارة بقوله : «أى لأن الإعراب هو الأصل فى الأسماء فبناؤها عارض فى الرتبة والتقدير ، وقد جعل علة بنائها كثرة استعمالها ، وذلك أنها صارت لكثرة استعمالها قوالب للكلام ، فاقتضى ذلك أن تبقى على صورة واحدة ، فكانت مبنية ، ولم يرض هذا الكلام ابن الطيب فى شرح الاقتراح ، فاعترض بأن هذا يقضى بأن يكون كثرة الاستعمال من أسباب البناء ولا قائل به ، وابن جنى لا يلتزم اصطلاح النحاة ويتكلم على أصل الوضع»

انظر حاشية الخصائص ج ٢ ص ٣١ ، وعبارة ابن جنى : «وقد كان أيضا أجاز أن يكون قد كانت قديما معربة».

(٤) بتصرف عن الخصائص ج ٢ ص ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣.

٣٥

المسألة الرابعة

فى مناسبة الألفاظ للمعانى

قال فى الخصائص (١) : هذا موضع شريف نبه عليه الخليل وسيبويه وتلقته الجماعة بالقبول ، قال الخليل : كأنهم توهموا فى صوت الجندب استطالة (٢) فقالوا : صر ، وفى صوت البازى تقطيعا فقالوا : صرصر.

وقال سيبويه فى المصادر التى جاءت على الفعلان : إنها تأتى للاضطراب والحركة نحو الغليان والغثيان ، فقابلوا بتوالى حركات المثال توالى حركات الأفعال.

قال ابن جنى : وقد وجدت أشياء كثيرة من هذا النمط (٣).

من ذلك المصادر الرباعية المضعّفة تأتى للتكرير نحو (٤) الزّعزعة والقلقلة والصّلصلة والقعقعة والقرقرة ، والفعلى (٥) تأتى للسرعة نحو الجمزى والولقى ، ومن ذلك باب استفعل ، جعلوه للطلب لما فيه من تقدم حروف زائدة على

__________________

(١) العبارة ملخصة عن الخصائص ، وانظر ج ٢ ص ١٥٢.

(٢) عبارة ابن جنى : «كأنهم توهموا فى صوت الجندب استطالة ومدا فقالوا : صر ، وتوهموا فى صوت البازى تقطيعا فقالوا : صرصر» وانظر الخصائص ج ٢ ص ١٥٢.

(٣) عبارة ابن جنى : «ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حداه» ، وانظر ج ٢ ص ١٥٣ من الخصائص.

(٤) فى الأصل : «للتكرير والزعزعة نحو القلقلة» والصواب ما ذكرناه ، وهو يطابق ما جاء بالمرجع السابق.

(٥) قال ابن جنى : «ووجدت الفعلى» إلخ ، انظر الخصائص ج ٢ ص ١٥٣.

٣٦

الأصول كما يتقدم الطلب الفعل ، وجعلوا الأفعال الواقعة عن غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول ، أو ما ضارع الأصول ، نحو خرج وأكرم.

وكذلك جعلوا تكرير العين دالا على تكرير الفعل نحو فرّح وكسّر ، فجعلوا قوة اللفظ لقوة المعنى ، وخصوا بذلك العين لأنها أقوى من الفاء واللام ، إذ هى واسطة لهما ومكنوفة بهما ، فصارا كأنهما سياج لها ، ومبذولان للعوارض دونها ، ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها (١).

ومن ذلك قولهم : الخضم لأكل الرّطب ، والقضم لأكل اليابس ، فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب ، والقاف لصلابتها لليابس (٢).

والنّضح للماء ونحوه ، والنّضخ أقوى منه ، فجعلوا الحاء لرقتها للماء الخفيف والخاء لغلظها لما هو أقوى.

ومن ذلك قولهم : القد طولا ، والقط عرضا ، لأن الطاء أحصر (٣) للصوت وأسرع قطعا له من الدال المستطيلة ، فجعلوها (٤) لقطع العرض لقربه وسرعته ، والدال المستطيلة لما طال من الأثر ، وهو قطعه طولا ، وهذا الباب واسع جدا لا يمكن استقصاؤه.

__________________

(١) بتلخيص عن الخصائص ج ٢ ص ١٥٥.

(٢) قال ابن جنى بعد هذه العبارة : «حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث» ، وانظر المرجع السابق ج ٢ ص ١٥٨.

(٣) فى الأصل : أخصر ، والصواب ما ذكرنا ، وهو مطابق لما ذكره ابن جنى فى الخصائص ، وانظر ج ٢ ص ١٥٨.

(٤) الضمير فى جعلوها يعود على «الطاء».

٣٧

المسألة الخامسة

[فى الدلالات النحوية]

الدلالات النحوية ثلاث : لفظية ، وصناعية ، ومعنوية ، قال فى الخصائص (١) : وهى فى القوة على هذا الترتيب.

قال : وإنما كانت الصناعية أقوى من المعنوية من قبل أنها وإن لم تكن لفظا فإنها صورة يحملها اللفظ ويخرج عليها ، ويستقر على المثال المعتزم بها ، فلما كانت كذلك لحقت بحكمه ، وجرت مجرى اللفظ المنطوق به ، فدخلا بذلك فى باب المعلوم بالمشاهرة ، وأما المعنى فدلالته لاحقة بعلوم الاستدلال ، وليست فى حيّز الضروريات ؛ مثال ذلك الأفعال ، ففى كل واحد منها الدلالات الثلاث : فإنه يدل بلفظه على مصدره ، وببنائه وصيغته الصناعية على زمانه ، وبمعناه على فاعله ، فالأولان : مسموعان ، والثالث : إنما يدرك بالنظر من جهة أن كل فعل لا بد له من فاعل ، لأن وجود فعل من غير فاعل محال.

قال الخضراوى فى الإفصاح : ودلالة الصيغة : هى المسماة دلالة التضمن ، والدلالة المعنوية : هى المسماة دلالة اللزوم.

وقال أبو حيان فى «تذكرته» : فى دلالة الفعل ثلاثة مذاهب :

أحدها : إنما يدل على الحدث بلفظه ، وعلى الزمان بصيغته أى كونه على شكل مخصوص ، ولذلك تختلف الدلالة على الزمان بإختلاف الصيغ ، ولا تختلف الدلالة على الحدث باختلافها.

والثانى : إنه يدل على الحدث بالصيغة واختلافها من كونه واقعا أو غير واقع ، وينجر مع ذلك الزمان ، فيدل عليه الفعل باللزوم دلالة السقف على الحائط.

__________________

(١) انظر الخصائص ج ٣ ص ٩٨

٣٨

والثالث : عكسه ، إنه يدل على الزمان بذاته لأن صيغته تدل على الزمان الماضى والمستقبل بالذات ودلالته على الحدث بالانجرار.

المسألة السادسة

[فى تقسيم الحكم النحوى إلى واجب وغيره]

الحكم النحوى ينقسم إلى : واجب ، وممنوع ، وحسن ، وقبيح ، وخلاف الأولى ، وجائز على السواء.

فالواجب : كرفع الفاعل ، وتأخيره عن الفعل ، ونصب المفعول ، وجر المضاف إليه ، وتنكير الحال والتمييز ، وغير ذلك.

والممنوع : كأضداد ذلك (١).

والحسن : كرفع المضارع الواقع جزاء بعد شرط ماض.

والقبيح : كرفعه بعد شرط المضارع (٢).

وخلاف الأولى : كتقديم الفاعل فى نحو ضرب غلامه زيدا.

والجائز على السواء : كحذف المبتدأ أو الخبر وإثباته حيث لا مانع من الحذف ، ولا مقتضى له.

وقد اجتمعت الأقسام الستة فى عمل الصفة المشبهة ، فإنها إما أن تكون

__________________

(١) بأن ننصب الفاعل أو نجره ، أو نقدمه عن الفعل ، أو نرفع المفعول أو بجره.

(٢) ومعنى كلامه هذا أن المضارع إذا كان جوابا لشرط وكان فعل الشرط مضارعا قبح رفع جواب الشرط ، وفى ذلك يقول ابن مالك :

* ورفعه بعد مضارع وهن*

أى ضعيف ، وانظر الأشمونى ج ٤ ص ١٨.

٣٩

بأل أو لا ، ومعمولها إما مجرد ، أو مقرون بأل ، أو مضاف إلى ما فيه أل ، أو إلى ضمير ، أو إلى مضاف إلى ضمير ، أو إلى مجرد ؛ فهذه اثنا عشر قسما ، وعملها : إما رفع أو نصب أو جر ، فتلك ستة وثلاثون (١).

والجر ممنوع فى أربع صور : أن تكون بأل والمعمول خال منها ومن إضافة لما هى فيه ، بأن يكون مجردا ، أو مضافا إلى مجرد ، أو إلى ضمير ، أو إلى مضاف إلى ضمير (٢).

وخلاف الأولى فى صورتين : أن تكون الصفة مجردة والمعمول مضاف إلى ضمير ، أو إلى مضاف إلى ضمير (٣).

والرفع قبيح فى أربع صور : أن يكون المعمول مجردا ، أو مضافا إلى مجرد سواء كانت الصفة بأل أم دونها (٤).

والحسن : فيها النصب أو الجر ، والنصب خلاف الأولى فى أربع صور : أن تكون الصفة مجردة والمعمول بأل ، أو مضاف إلى ما فيه أل ، أو إلى ضمير ، أو إلى مضاف إلى ضمير (٥).

__________________

(١) انظر هذه المسألة فى شرح الأشمونى ج ٣ ص ٦.

(٢) الأمثلة على التوالى : جاء الحسن وجها ، والحسن وجه أب ، والحسن وجهه والحسن وجه أبيه.

(٣) مثال ذلك : رأيت رجلا حسن وجهه ، أو : حسن وجه أبيه.

(٤) الأمثلة على التوالى : جاء الرجل الحسن وجها ، والحسن وجه أب ، وحسن وجها ، وحسن وجه أب.

(٥) الأمثلة على التوالى : جاء رجل حسن الوجه ، وحسن وجه الأب ، وحسن وجهه وحسن وجه أبيه.

٤٠