كتاب الإقتراح في علم أصول النحو

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

كتاب الإقتراح في علم أصول النحو

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: الدكتور أحمد محمّد قاسم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: نشر أدب الحوزة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله الذى كرم العربية فجعلها لغة كتابه العظيم ، وجعل القرآن الكريم مادة قوية لحفظ اللغة ، وبناء قواعدها ، فكانت الآيات أساسا قويا لوضع قواعد النحو ، وكان الاستشهاد بالقرآن الكريم ، والقياس عليه منهلا عذبا ، استنبط منه علماء النحو أصولهم السماعية ، وقاسوا على الآيات كلامهم ، وعلى ذلك تم وضع قواعد النحو على أسس قوية ثابتة لا تتغير ، ولا يعتريها الضعف ، ولا يدركها الاضمحلال.

والقرآن الكريم هو الضمان الربانى للحفاظ على اللغة العربية ، وهو العامل الأساسى لبقائها واستمرارها ، قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١).

ولقد كان للقرآن الكريم أثره البين فى توحيد اللغة العربية ونشرها ، وتعدد أغراضها ومعانيها ، وألفاظها وأساليبها ، فلقد أثر فيها تأثيرا كبيرا ، وصانها من كل ما يشوب نقاءها ، أو يشوه خلقها ، فأصبحت اللغة الحية الخالدة بين اللغات القديمة التى انطمست آثارها.

ولقد جدت من أجل القرآن الكريم علوم جمة ، وفنون جديدة لم يعرف الناس طريقها من قبل ، وفى مقدمة العلوم التى جدت فى اللغة العربية من أجل

__________________

(١) الآية رقم ٩ من سورة الحجر

٣

القرآن الكريم : «علم النحو» فسبحان من حفظ العربية بقرآنه الكريم ، وجعل العربية مفتاحا لمعرفة دقائق وأسرار كتابه المبين.

وبعد :

فلما كنا فى أمسّ الحاجة للإلمام بكتب تراثنا القديم ، وما يتصل بلغتنا العربية عامة ، وما يتعلق بأصول النحو خاصة ، لأن هذه المادة رغم أهميتها فإن القلائل من العلماء هم الذين تعرضوا لها ، ومع ذلك لم ينشر من هذه المؤلفات إلا القليل.

لذا فقد وجدت أن تحقيق هذا الكتاب ونشره يؤدى خدمة للعربية للوقوف على أسرار أصولها.

والكتاب الذى نقدمه هو كتاب : «الاقتراح» فى علم أصول النحو ، للإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطى ، وهو ليس أول من ألّف فى هذه المادة ، فقد سبقه إليها غيره من علماء النحو.

فأبو بكر بن السراج المتوفى سنة ٣١٦ ه‍ ، قد وضع كتابه «أصول النحو» (١) ، ويقول السيوطى (٢) : «وقيل : ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله».

ثم جاء أبو الفتح عثمان بن جنى المتوفى سنة ٣٩٢ ه‍ وطمح أن يكون له دور فى هذا الفن ، وقد أشار إلى محاولة النحويين واللغويين فى ذلك ، وسجل

__________________

(١) منه نسخة خطية بمعهد المخطوطات العربية تحت رقم ١١ وقد طبع مؤخرا بالعراق.

(٢) انظر : بغية الوعاة ج ١ ص ١١٠.

٤

فى كتابه «الخصائص» (١) : أن علماء اللغة يستمدون من كتب الشريعة قواعدهم ، واحتذوا حذوهم ، وأشار إلى كتب الإمام محمد (٢) صاحب أبى حنيفة بقوله : «وكذلك كتب محمد بن الحسن رحمه الله إنما ينتزع أصحابنا منها العلل لأنهم يجدونها منثورة فى أثناء كلامه ، فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفة والرفق ، ولا تجد له علة فى شىء من كلامه مستوفاة محررة ، وهذا معروف من هذا الحديث عند الجماعة غير منكور».

ثم جاء بعد ابن جنى من ألّف فى هذه المادة ، فألّف الأنبارى (٣) المتوفى سنة ٥٧٧ ه‍ كتابه : «لمع الأدلة فى أصول النحو» وكتب فى مقدمته :

«أصول النحو هى التى تفرعت منها فروعه وفصوله ، كما أن أصول الفقه هى أدلة الفقه التى تنوعت عنها جملته وتفصيله ، وفائدته التعويل فى إثبات الحكم

__________________

(١) انظر : الخصائص ج ١ ص ١٦٣.

(٢) هو صاحب الإمام أبى حنيفة ، وله مؤلفات نادرة فى الفقه منها : الجامع الكبير ، والجامع الصغير ، وهو ابن خالة الفراء النحوى الكوفى ، ويروى عن الإمام الشافعى رضى الله عنه أنه قال : «ما رأيت سمينا زكيا إلا محمد بن الحسن» مات بالرى سنة ١٩٨ ه‍ فى اليوم الذى مات فيه الكسائى النحوى فقال هارون الرشيد : «دفنت الفقه والعربية بالرى»

من تعليق للشيخ النجار على كتاب «الخصائص» ج ١ ص ١٦٣.

(٣) هو أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن أبى سعيد الأنبارى الملقب بالكمال النحوى».

كان من طلاب المدرسة النظامية ببغداد ، وصار معيدا بها نم أصبح مدرسا فأستاذا وله مؤلفات كثيرة فى النحو وغيره ، ولد الأنبارى سنة ٥١٣ ه‍ وتوفى سنة ٥٧٧ ه‍. ولقد كان الأنبارى موضوع رسالتى للدكتوراه ١٩٧٣ فى قسم اللغويات من كلية اللغة العربية ، وحصلت على مرتبة الشرف الأولى ، وأوصت اللجنة بطبع الرسالة وتداولها مع الجامعات الأخرى.

٥

على الحجة والتعليل ، والارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع (١) الاطلاع على الدليل ، فإن المخلد إلى التقليد لا يعرف وجه الخطأ من الصواب ، ولا ينفك فى أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب».

فالأنبارى قد بين أن أصول النحو مشابهة أصول الفقه وموضوعة على غرارها ، وأن هناك ارتباطا قويا بين المسادتين ، وأن مادة أصول الفقه سابقة على مادة أصول النحو ، فعلماء النحو نظروا فى أصولهم إلى علماء أصول الفقه.

والأنبارى يذكر فوائد وضع هذا العلم فيقول : إنه يتم به تقرير الحكم وإثباته بالدليل الصحيح ، والحجة القوية ، والتعليل السليم.

ومن فوائده كذلك البعد عن التقليد ، لأن التقليد قد يوقع صاحبه فى الخطأ فلا يهتدى إلى الصواب ، والإنسان المقلد لم يقنع نفسه بما يقول ، فإذا تحدث كان شاكا ومرتابا فيما يقول.

ثم بعد وفاة الأنبارى بما يقرب من أربعة قرون جاء السيوطى فألف كتابه : «الاقتراح» الذى سنتناوله بالعرض والتحقيق والتعليق ، ولقد ورد فى مقدمة هذا الكتاب ـ كما سيأتى ـ عبارات أريد مناقشته فيها ، فقد تحدث عن الاقتراح ، فقال :

«لم تسمح قريحة بمثاله» وقال : «لم ينسج على منواله ناسج» وقال : «وبعد تمامه رأيت الكمال ابن الأنبارى قال فى كتابه «نزهة الألباء فى طبقات الأدباء» (٢) : علوم الأدب ثمانية : اللغة ، والنحو ، والتصريف ، والعروض ،

__________________

(١) اليفاع : كل شىء مرتفع ، والمراد هنا : قمة الاطلاع.

(٢) انظر : نزهة الألباء ص ٦١ ترجمة هشام بن السائب الكلبى.

٦

والقوافى ، وصنعة الشعر ، وأخبار العرب ، وأنسابهم ، ثم قال : وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما : علم الجدل فى النحو ، وعلم أصول النحو».

ثم يقول السيوطى : «هذه عبارته فتطلبت هذين الكتابين حتى وقفت عليهما فإذا هما لطيفان جدا».

ثم يقول : «وإذا فى كتابى هذا من القواعد المهمة والفوائد ما لم يسبق إليه أحد ، ولم يعرج فى واحد منهما عليه».

ويقول بعد ذلك : «ولقد أخذت من الكتاب الأول (١) اللباب ، وأدخلته معزوا إليه فى خلل (٢) هذا الكتاب.

وضممت خلاصة الثانى (٣) فى مباحث العلة ، وضممت إليه من كتاب الإنصاف (٤) فى مباحث الخلاف جملة».

ونستطيع أن نرد على كلام الإمام السيوطى فى عباراته السابقة بما يلى :

١ ـ إذا كان قد عثر على كتابى الأنبارى بعد تمام كتابه ، فكيف نقل عنهما معظم أبوابه إما بالنص أو بشىء من التصرف؟

٢ ـ هو نفسه يقول إنه أدخل من كتب الأنبارى الثلاثة : لمع الأدلة ، والإغراب ، والإنصاف إلى كتابه فى خلله ، فكيف يدعى أنه لم يسبقه أحد إلى هذه المادة؟

__________________

(١) المراد بالأول : كتاب «لمع الأدلة فى أصول النحو» للأنبارى.

(٢) الخلل : الفرجة بين الشيئين ، والجمع خلال.

(٣) المراد بالثانى : كتاب «الإغراب فى جدل الإعراب» للأنبارى.

(٤) الإنصاف فى مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين للأنبارى.

٧

٣ ـ كتاب الاقتراح ملىء بالنقول عن الأنبارى وغيره ، وإذا حذفنا ما نقله عن الأنبارى وغيره ، لا يكون كتابا كاملا ، فقد نقل عن الأنبارى أكثر من نصف «لمع الأدلة» إذ نقل عنه ثمانية عشر فصلا من ثلاثين فصلا هى كل فصول «لمع الأدلة» بالإضافة إلى أنه قد نقل ثلاثة فصول كاملة من «لمع الأدلة» إلى كتابه «المزهر».

فالسيوطى لا ينكر أحد علمه وفضله ، إلا أنه لم يكن له أن يدعى فضل السبق فى التأليف فى مادة أصول النحو ، لأنه قد سبقه غيره من العلماء ، منهم ابن السراج ، والأنبارى.

هذا ولى ملاحظات أخرى على الإمام السيوطى فى الاقتراح نلخصها فيما يلى :

١ ـ السيوطى قد ينقل النص كاملا عن غيره ، وقد يتصرف فيما نقله بالحذف والاختصار مما قد يخل بالمعنى أحيانا ، كما سنشير إلى ذلك فى موضعه.

٢ ـ ادعى السيوطى أن الأنبارى قد أسقط «الإجماع» كدليل من أدلة العربية ، فهو يقول : «إن الأنبارى خالف ابن جنى حيث قال فى الخصائص (١) : أدلة النحو ثلاثة : السماع ، والإجماع ، والقياس.

فكأن ابن الأنبارى زاد استصحاب الحال ، ولم يذكر «الإجماع» ، فكأنه لم ير الاحتجاج به فى العربية كما هو رأى قوم».

ونستطيع أن نرد على الإمام السيوطى بأن الأنبارى يرى أن «الإجماع» دليل من أدلة العربية ، بدليل أنه يقول فى «لمع الأدلة» (٢) : إنه إذا كان واحد

__________________

(١) انظر : الخصائص ج ١ ص ١٨٩.

(٢) انظر : لمع الأدلة ص ٩٨.

٨

من الصحابة حجة فى قول لأشرف الأئمة (١) ، فما ظنك بقول ذلك الحبر العظيم على بن أبى طالب ، والرسول صلوات الله عليه وسلامه يقول فى حقه : «أنا مدينة العلم وعلى بابها» (٢) ، ويقول : «اللهم أدر الحق مع على حيثما دار» (٣) ، كيف وقد تلقت الأمة منه ذلك الوضع بالقبول ، ولم ينكر ذلك منكر مع اشتهاره وإظهاره فكان إجماعا ، والإجماع حجة قاطعة ، قال عليه الصلاة والسّلام : «أمتى لا تجتمع على ضلالة» (٤).

فالإجماع حجة فى رأى الأنبارى على عكس ما قال عنه الإمام السيوطى.

٣ ـ بعد قراءتنا لكتاب «الاقتراح» والإلمام بمصادره نستطيع أن نرتب مراجعه حسب أهميتها كالآتى :

(ا) «لمع الأدلة فى أصول النحو» و «الإغراب فى جدل الإعراب» للانبارى.

(ب) «الخصائص» لابن جنى.

(ح) «الإنصاف فى مسائل الخلاف» للأنبارى.

__________________

(١) لعله يقصد أن أشرف الأئمة فى كل عصر يحتجون بقول واحد من الصحابة.

(٢) ذكره السيوطى فى كتابه : «اللآلىء المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة ج ١ ص ٣٢٩ ، وفى رواية الترمذى : «أنا دار الحكم وعلى بابها» ويعلق عليه بقوله : «هذا حديث غريب منكور» وانظر سنن الترمذى ج ٢ ص ٢٩٨.

(٣) فى رواية الترمذى : «رحم الله عليا ، اللهم أدر الحق معه حيث دار» ثم يستبعد صحته بقوله : «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه».

(٤) فى رواية الترمذى فى أبواب الفتن ج ٢ ص ٢٥ ، وفى مستدرك الحاكم ج ١ ص ١١٥ ، وروايته : «لا يجمع الله أمتى على ضلالة أبدا» وعلق عليه بأن له طرقا عدة عن ابن عمر وغيره.

٩

(د) «التذبيل والتكميل» لأبى حيان الذى شرح به «التسهيل» و «المحصول» للفخر الرازى ، و «شرح التذكرة» لابن مكتوم ، و «المفصل» للزمخشرى ، و «الإيضاح فى علل النحو» للزجاجى. ويضاف إلى ذلك مصادر أخر كثيرة.

وكتاب الاقتراح لما فيه من مادة علمية غزيرة ، وما أضفنا إليه من تحقيقات وتعليقات ، لا يستغنى عنه باحث فى مادة النحو.

ويمكن أن يجاب عن السيوطى حين قال فى مقدمته : «لم تسمح قريحة بمثاله» و «لم ينسج على مغواله ناسج» و «بعد تمامه رأيت الكمال ابن الأنبارى قال» الخ و «إذا فى كتابى هذا من القواعد المهمة ، والفوائد ، ما لم يسبق إليه أحد» الخ بأنه لم تسمح قريحة أحد من العلماء بمثل اطلاعه على آراء السابقين عليه ، واهتمامه بهذا الفن ، فجمع آراء العلماء ورتب أقوال النحويين ، وأضاف آراء من عنده ، فهو على هذا لم ينسج على منواله ناسج ، ولم يسبقه أحد ألم بمصادر النحويين السابقين ، واستخلص منها هذا الفن مثل ما فعل ، فهو قد أتى بالقواعد المهمة ، والفوائد ما لم يسبق إليه أحد كما يقول.

فكتاب الاقتراح قد جمع آراء العلماء الذين أشرنا إلى بعضهم ، ورتب هذه الآراء ترتيبا جيدا ، ونسق مادة الكتاب تنسيقا جميلا ، ووضح الأصول النحوية ، والقواعد العربية ، وجمعها جمعا ميسّرا بعد أن كانت هذه المادة مبعثرة فى مصادر شتى.

والكتاب لذلك مصدر هام من أهم مصادر علم أصول النحو التى تعين الباحثين والدارسين.

١٠

ولقد رأيت عند تحقيقه أن أرجع إلى المصادر والمراجع التى رجع إليها الإمام السيوطى ، فاطلعت على النصوص التى نقلها أو تصرف فيها بالاختصار أو التلخيص والإيجاز ، ولقد أشرت إلى مكان كل نص فى موضعه ، وأكلمت من المراجع النصوص التى تحتاج إلى تكملة ، حتى تكون الفائدة ميسرة وحتى يسهل الرجوع إلى هذه المصادر لمن أراد المزيد من الإلمام بعلم أصول النحو.

كذلك قمت بمراجعة الأصل الذى معى على أصول أخر ، حتى يخرج النص سليما وعلى ذلك تم تصويب الأخطاء التى وردت بالأصل وأشرت إليها فى مواضعها ، ولقد شرحت الكلمات الغربية ، وضبطت ما يحتاج إلى ضبط وعلقت على آرائه فى بعض المسائل وغير ذلك مما يلمسه القارىء لهذا الكتاب

وبعد وفاة السيوطى بما يقرب من أربعة قرون ونصف ، برز أحد العلماء (١) المحدثين المشهود لهم بالأصالة العلمية ، ولقد كتب فى «أصول النحو السماعية (٢)» فتحدث بإفاضة عن الاستشهاد بالقرآن الكريم ، والحديث الشريف ، وكلام العرب : والكتاب غاية فى الدقة ، ويعين الباحث فى الحصول على بغيته ، وحبذا أن يشق هذا الكتاب طريقه بين المطبوعات لتتسع دائرة إفادته للباحثين فى علوم العربية.

ولقد ذكر مؤلفه نبذة عن تاريخ ونشأة علم أصول النحو ، ونقد بعض العلماء ثم قال : «ولسنا ننكر فضل علمائنا ـ فى القديم والحديث ـ وقدر جهدهم

__________________

(١) هو فضيلة الأستاذ الدكتور محمد رفعت فتح الله رئيس قسم اللغويات فى كلية اللغة العربية

(٢) نسخة خطية بمكتبة كلية اللغة العربية بالقاهرة برقم ٨٣٥١ ولقد كتبت فى سنة ١٣٦٣ ه

١١

فلهم صفحة مشرقة إشراق الشمس ، وقد رصعوا كتب النحو بشذور من أصوله كنا نود لو نظموها ـ بعد سبك البحث ـ فى عقد علمى.

ولا ريب فى نفاسة هذا العلم وجلالة موضوعه ، إذ يهتم بالدليل من يتبين مدى الاستدلال به ، ويوصل العلم بأحواله إلى القدرة على إثبات الأحكام النحوية للألفاظ العربية».

ويتحدث عن «أصول النحو» بالنسبة للنحو فيقول : «هى ميزان قواعده إذا اضطرب التقدير ، ومصباحها إذا أظلم السبيل ، ولديها مجلس القضاء إذا اختصمت المذاهب النحوية ، ونبض منها عرق العصبية ، وإليها مرجع التجديد السليم ، على الأساس الصحيح ، إذا أراد دعاة التجديد فى هذا العصر الذى تفشاه الادعاء».

ثم يقول : «ولما كان هذا العلم لم يدبغ من قبل ، لم نرد أن نأتى على جميع أصوله صدمة واحدة ، فوضعنا هذه الرسالة للأدلة الأولى وهى : «أصول النحو السماعية».

تلك نبذة موجزة عن علم «أصول النحو» والمراحل التى مرت بهذا العلم حتى نكون على بينة عند قراءة كلام السيوطى صاحب الاقتراح الذى لم يشأ أن يتعب الباحثين عن حياته وتاريخه وشيوخه ومؤلفاته ، فلقد ترجم لنفسه عند الحديث عن الذين عاصروه بمصر من الأئمة والعلماء المجتهدين ، وذلك فى كتابه حسن المحاضرة (١) حيث قال : «عبد الرحمن بن الكمال أبى بكر بن محمد بن سابق الدين بن الفجر عثمان بن ناظر الدين محمد بن سيف الدين

__________________

(١) انظر حسن المحاضرة ج ١ من ص ١٤٢ إلى ص ١٤٤

١٢

خضر بن نجم الدين أبى الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الهمام الخضيرى الأسيوطى. ثم قال :

وإنما ذكرت ترجمتى فى هذا الكتاب اقتداء بالمحدثين قبلى ، فقل أن ألف أحد منهم تاريخا إلا ذكر ترجمته فيه ، وممن وقع له ذلك : الإمام عبد الغافر الفارسى فى «تاريخ نيسابور» وياقوت الحموى فى «معجم الأدباء» ، ولسان الدين بن الخطيب فى «تاريخ غرناطة» ، والحافظ تقى الدين الفاسى فى تاريخ مكة ، والحافظ أبو الفضل بن حجر فى «قضاة مصر» وأبو شامة فى «الروضتين» ـ وهو أروعهم وأزهدهم ـ فأقول :

أما جدى الأعلى همام الدين ، فكان من أهل الحقيقة ، ومن مشايخ الطرق ـ وسيأتى ذكره فى قسم الصوفية ـ ومن دونه كانوا من أهل الوجاهة والرياسة ، منهم من ولى الحكم ببلده ، ومنهم من ولى الحسبة بها ، ومنهم من كان تاجرا فى صحبة الأمير شيخون ، وبنى بأسيوط مدرسة ووقف عليها أوقافا ، ومنهم من كان متمولا ، ولا أعلم منهم من خدم العلم حق الخدمة إلا والدى ـ وسيأتى ذكره فى قسم فقهاء الشافعية ـ وأما نسبتنا إلى الخضيرى فلا أعلم ما تكون هذه النسبة إلا الخضرية ـ محلة ببغداد ـ وقد حدثنى من أثق به أنه سمع والدى رحمه الله يذكر أن جده الأعلى كان أعجميا ، أو من الشرق ، فالظاهر أن النسبة إلى المحلة المذكورة.

وكان مولدى بعد المغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة ، وحملت فى حياة أبى إلى الشيخ محمد المجذوب ، رجل كان من الأولياء بجوار المشهد النفيسى ، فبرّك علىّ ، ونشأت يتيما ، فحفظت القرآن ولى دون ثمان سنين ، ثم حفظت العمدة ، ومنهاج الفقه ، والأصول ، وألفية ابن مالك ،

١٣

وشرعت فى الاشتغال بالعلم فى مستهل سنة أربع وستين ، فأخذت الفقه والنحو عن جماعة من الشيوخ ، وأخذت الفرائض عن العلامة فرضىّ زمانه الشيخ شهاب الدين الشار مساحى ، الذى كان يقال : إنه بلغ السن العالية ، وجاوز المائة بكثير ـ والله أعلم بذلك ـ قرأت عليه فى شرحه على المجموع.

وأجزت بتدريس العربية فى مستهل سنة ست وستين ، ولقد ألفت فى هذه السّنة ، فكان أول شىء ألفته : شرح الاستعاذة والبسملة ، وأوقفت عليه شيخنا شيخ الإسلام علم الدين البلقينى ، فكتب عليه تقريظا ، ولازمته فى الفقه إلى أن مات ، فلازمت ولده ، فقرأت عليه من أول «التدريب» لوالده إلى «الوكالة» وسمعت عليه من أول «الحاوى الصغير» إلى «العدد» ، ومن أول «المنهاج» إلى «الزكاة» ، ومن أول «التنبيه» إلى قريب من الزكاة ، وقطعة من «الروضة» ، وقطعة من تكملة «شرح المنهاج» للزركشى ، ومن «إحياء الموات» إلى «الوصايا» أو نحوها

وأجازنى بالتدريس والإفتاء ، من سنة ست وسبعين ، وحضر تصديرى ، فلما توفى سنة ثمان وسبعين ، لزمت شيخ الإسلام شرف الدين المناوى ، فقرأت عليه قطعة من «المنهاج» ، وسمعته عليه فى التقسيم إلى مجالس فاتتنى ، وسمعت دروسا من «شرح البهجة» ومن حاشيته عليها ، ومن تفسير البيضاوى.

ولزمت فى الحديث والعربية شيخنا الإمام العلامة تقى الدين الشبلى الحنفى ، فواظبته أربع سنين ، وكتب لى تقريظا على «شرح ألفية ابن مالك» وعلى «جمع الجوامع» فى العربية تأليفى : وشهد لى غير مرة ، بالتقدم فى العلوم بلسانه وبنانه ، ورجع إلى قولى مجردا فى حديث ، فإنه أورد فى حاشيته على «الشفاء» حديث أبى الجمرا فى الإسرا ، وعزاه إلى تخريج ابن ماجة ، فاحتجت إلى إيراده بسنده ، فكشفت ابن ماجة فى مظنته فلم أجده ، فمررت على الكتاب كله

١٤

فلم أجده فاتهمت نظرى ، فمررت مرة ثانية فلم أجده ، فعدت ثالثة فلم أجده ، ورأيته فى معجم الصحابة لابن قانع ، فجئت إلى الشيخ فأخبرته ، فبمجرد ما سمع منى ذلك أخذ نسخته وأخذ القلم فضرب على لفظ «ابن ماجة» ، وكتب «ابن قانع» وألحق «ابن قانع» فى الحاشية ، فأعظمت ذلك وهبته لعظم منزلة الشيخ فى قلبى ، واحتقارى فى نفسى ، فقلت : ألا تصبرون لعلكم تراجعون؟! فقال : إنما قلدت فى قولى ابن ماجة البرهان الحلبى ، ولم أنفك عن الشيخ إلى أن مات».

والإمام السيوطى درس التفسير والأصول والعربية والمعانى على العلامة محيى الدين الكافيجى أربع عشرة سنة.

ودرس التوضيح والكشاف وتلخيص المفتاح على الشيخ سيف الدين الحنفى.

وشرع فى التصنيف فى سنة ست وستين ، وبلغت مؤلفاته ثلاثمائة كتاب ، وقيل : ضعف ذلك ، بالإضافة إلى كتب لم يرض عنها فأعدمها.

وسافر إلى بلاد الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب ، وكان يتمنى أن يصل فى الفقه إلى رتبة الشيخ سراج الدين البلقينى ، وفى الحديث إلى رتبة ابن حجر ، وحج وشرب من ماء زمزم بنية ذلك ، ولقد أفتى فى مستهل سنة إحدى وسبعين ، وأملى الحديث فى مستهل سنة اثنتين وسبعين.

وكان عالما فى التفسير ، والحديث ، والفقه ، والنحو ، والمعانى ، والبيان ، والبديع.

وهو يقول عن إلمامه بهذه العلوم : «والذى أعتقده أن الذى وصلت إليه من هذه العلوم السبعة سوى الفقه والنقول التى اطلعت عليها ، لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخى فضلا عمن دونهم.

١٥

أما الفقه فلا أقول ذلك فيه ، بل شيخى فيه أوسع نظرا ، وأطول باعا».

وغير العلوم السابقة كان له إلمام بمعرفة أصول الفقه والجدل والتصريف ، وإلمام أقل من ذلك فى الإنشاء والترسل والفرائض ويليها القراءات فالطب.

وقد كملت عنده مؤهلات الاجتهاد ، فنراه يقول : «ولو شئت أن أكتب فى كل مسألة مصنفا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية ، ومداركها ونقوضها وأجوبتها ، والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها ، لقدرت على ذلك من فضل الله ، لا بحولى ولا قوتى ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله».

ومن مؤلفاته : المزهر ، والأشباه والنظائر ، وبغية الوعاة ، والدر المنثور ، والجامع الكبير ، والجامع الصغير ، وهمع الهوامع ، وشرح ألفية ابن مالك ، وغير ذلك كثير.

وفى نهاية حياته (١) ترك التدريس واعتزل الناس وتجرد للعبادة ، وألف كتابه «التنفيس فى الاعتذار عن الفتيا والتدريس».

ولقد كان عفيف النفس لا يذهب إلى ذى جاه أو سلطان ، وكان الأمراء والوزراء يأتون لزيارته ، ويعرضون هباتهم عليه فلا يقبلها ، وروى أن السلطان الغورى أرسل إليه مرة خصيا وألف دينار ، فرد الدنانير ولم يقبلها ، وأخذ الخصى فأعتقه ، وجعله خادما فى الحجرة النبوية.

وأرسل للسلطان من يقول له : «لا تعد قط تأتينا بهدية فإن الله أغنانا عن ذلك».

__________________

(١) انظر مقدمة بغية الوعاة للأستاذ محمد أبو الفضل إبراهيم.

١٦

ولكثرة تلاميذه ووفرة علومه ، تحامل عليه بعض أقرانه ومعاصروه ، فرموه بما هو براء منه ، ومن هؤلاء المؤرخ شمس الدين السخاوى صاحب كتاب «الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع» فقد تناول فى ترجمته للسيوطى علمه وخلقه بالتجريح والتشهير.

وقد دفع ذلك التجريح الإمام السيوطى للرد عليه ، فألّف مقامة أسماها «الكاوى على تاريخ السخاوى».

كما أن تلاميذه قاموا بالدفاع عنه أيضا.

وهكذا بعد حياة حافلة بالعلم والتأليف والدراسة والمعرفة ، وافته منيته فى يوم الخميس التاسع من جمادى الأولى سنة ٩١١ ه‍ رحمه الله رحمة واسعة.

وأخيرا : لعلنا قد وفقنا فى اختيار كتاب «الاقتراح» للتحقيق والنشر ، حتى يكون بين أيدى الباحثين والدارسين ، مصدرا من أهم المصادر ، فى علم أصول النحو.

والله نسأل أن ييسر فهمه للدارسين ، وأن يعم به النفع ، إنه سميع مجيب.

الدكتور

أحمد محمّد قاسم

حدائق حلوان بالقاهرة

١١ من ربيع الأول سنة ١٣٩٦ ه‍

فى يوم الجمعة

١٢ من مارس سنة ١٩٧٦ م

(٢ ـ الاقتراح)

١٧
١٨

كتاب الاقتراح

فى علم أصول النحو

١٩
٢٠