جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
المحقق: الدكتور أحمد محمّد قاسم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: نشر أدب الحوزة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠
والجواب : أن يبين عدم الضّدية ، أو يسلم له ذلك ، ويبين أنه يقتضى ما ذكره أيضا من وجه آخر.
[من القوادح فى العلة : المنع للعلة]
ومنها : المنع للعلة ، قال ابن الأنبارى (١) : وقد يكون فى الأصل والفرع :
فالأول : كأن يقول البصرى : إنما ارتفع المضارع لقيامه مقام الاسم ، وهو عامل (٢) معنوى ، فأشبه الابتداء فى الاسم المبتدأ ، والابتداء يوجب الرفع ، فكذلك ما أشبهه ، فيقول له الكوفى : لا نسلم أن الابتداء يوجب الرفع فى الاسم المبتدأ.
والثانى : يقول البصرى : الدليل على أن فعل الأمر مبنى ؛ لأن «دراك وتراك» ونحوهما من أسماء الأفعال مبنية ، لقيامها مقامه ، ولو لا أنه مبنى وإلا لما بنى ما قام مقامه.
فيقول له الكوفى : لا نسلم أن نحو دراك إنما بنى لقيامه مقام فعل الأمر بل لتضمنه لام الأمر
والجواب عن منع العلة أن تدل على وجودها فى الاصل والفرع مما يظهر به فساد المنع.
__________________
(١) انظر ص ٥٨ من الإغراب.
(٢) فى الأصل : فاعل ، وتصويبنا مطابق للاغراب.
[من القوادح فى العلة : المطالبة بتصحيح العلة]
ومنها : المطالبة بتصحيح العلة ، قال ابن الأنبارى (١) : والجواب أن يدل على ذلك بشيئين : التأثير ، وشهادة الأصول :
فالأول : وجود الحكم لوجود العلة ، وزواله لزوالها ، كأن يقول إنما بنيت «قبل وبعد» (٢) على الضم لأنها اقتطعت عن الإضافة.
فيقال : وما الدليل على صحة هذه العلة؟
فيقول : التأثير ، وهو وجود البناء لوجود هذه العلة ، وعدمه لعدمها ، ألا ترى أنه إذا لم يقتطع عن الإضافة يعرب ، فإذا افتطع عنها بنى ، فإذا عادت الإضافة عاد الإعراب.
والثانى : كأن يقول : إنما بنيت كيف ، وأين ، ومتى لتضمنها معنى الحرف.
فيقال : وما الدليل على صحة هذه العلة؟
فيقول : إن الأصول تشهد وتدل على أنّ كل اسم تضمن معنى الحرف ، وجب أن يكون مبنيا.
__________________
(١) انظر ص ٥٩ من المرجع السابق.
(٢) انظر المرجع السابق ، وشذور الذهب ص ١١٩ ـ ١٢٣.
[من القوادح فى العلة : المعارضة]
ومنها : المعارضة (١) ، قال ابن الأنبارى : وهو أن يعارض المستدل بعلة مبتدأة.
والأكثرون على قبولها لأنها دفعت العلة.
وقيل : لا تقبل ، لأنها تصدّ لمنصب (٢) الاستدلال وذلك رتبه المسئول (٣) لا السائل (٤).
مثالها : أن يقول الكوفى فى الإعمال : إنما كان إعمال الأول أولى (٥) لأنه سابق : وهو صالح للعمل ، فكان (٦) إعماله أقوى لقوة الابتداء والعناية به.
فيقول البصرى : هذا معارض بأن الثانى أقرب إلى الاسم ، وليس فى إعماله نقص معنى فكان إعماله أولى.
تنبيه
[إلى ترتيب الأسئلة]
قال ابن الأنبارى : ذهب (٧) قوم إلى أنه لا يجب على السائل ترتيب الأسئلة ، بل له أن يوردها كيف يشاء ، لأنه جاء مستفهما مستعلما.
__________________
(١) انظر الإغراب فى جدل الإعراب ص ٥٢ ـ ٥٣.
(٢) فى الأصل : لنصب.
(٣) فى الأصل : المسؤل.
(٤) علق الأنبارى على هذا الرأى بقوله : والصحيح أنها مقبولة ، لأن التعليل ما لم يسلم عن معارضه دليل ، لم يكن عليه تعويل.
(٥) أى إعمال الأول فى باب التنازع.
(٦) فى الأصل : فكأن.
(٧) انظر الإغراب فى جدل الاعراب ص ٦٤ ـ ٦٥.
وقال آخرون : يجب ترتيبها ، فعلى هذا أول الأسئلة «فساد الاعتبار» (١) ، و «فساد الوضع» (٢) ، لأن المعترض يدعى أن ما يظنه قياسا ليس مستعملا فى موضعه ، فقد صادم أصل الدليل والقول بالموجب ، لأنه تبين أنه لم يدل فى محل الخلاف ، ولا حاجة إلى الاعتراض والمنع ثم المطالبة ، لأن المنع إنكار للعلة ، والمطالبة إقرار بالعلة ، والإقرار بعد الإنكار يقبل ، والإنكار بعد الإقرار لا يقبل.
ثم «النقض» لما فيه من تسليم صلاحية العلة لو سلمت من النقض ، فكان تأخيره عن المطالبة أولى [من تقديمه (٣) عليها] ، لأن المطالبة لا تتوجه على علة منقوضة.
ثم المعارضة لأنها ابتداء دليل مستقبل فى مقابلة دليل [المستدل](٤) فهى بمنصب الاستدلال أشبه منها بالسؤال (٥).
__________________
(١) سبق الكلام عن «فساد الاعتبار» بأنه : عبارة عن الاستدلال بالقياس على شىء فى مقابلة النص عن العرب ، وانظر ص ١٥٦.
(٢) «فساد الوضع» هو : أن يعلق على العلة ضد المقتضى ، وانظر ص ١٦٠.
(٣) ذكر الأنبارى هذه العبارة ، ولم يذكرها السيوطى ، وذكرها يوضح المعنى ، وانظر : الإغراب ص ٦٥.
(٤) هذه الكلمة ذكرها الأنبارى ، وانظر : المرجع السابق ص ٦٥.
(٥) قال الأنبارى بعد ذلك : «ولهذا ذهب من ذهب إلى أنها ليست بسؤال»
تذنيب
[فى ما ينبغى فى السؤال والجواب]
قال ابن الأنبارى : السؤال طلب الجواب بأداته.
ومبناه على : سائل ، ومسئول به (١) ، ومسئول عنه (٢).
فالسائل : ينبغى له القصد قصد المستفهم.
ولهذا قال قوم : إنه (٣) ليس له مذهب.
والجمهور على أنه لا بد له من مذهب لئلا ينتشر الكلام ، فتذهب فائدة النظر
وأن يسأل عما يثبت فيه الاستبهام ، فقد قيل : ما ثبت فيه الاستبهام صح عنه الاستفهام ، كأن يسأل من حد النحو ، وأقسام الكلام.
فإن سأل عن وجود النطق والكلام : كان فاسدا (٤)
وألا يسأل إلا عما يلائم مذهبه ؛ فإن سأل عما لا يلائم مذهبه : لم يسمع
__________________
(١) فى الأصل : مسؤل.
(٢) لخص السيوطى فى هذا الفصل ستة فصول من كتاب الإغراب فى جدل الإعراب ص ٣٧ ـ ٤٥.
(٣) إنه : أى السائل
(٤) إنما كان السؤال فاسدا ، لان «المنطق والكلام» ليس مما يثبت فيه الاستبهام لانه يسأل عما يعلم حكمه ، فهو معاند كمن يسأل عن وجود الليل والنهار.
منه ، كأن يسأل الكوفى عن الابتداء : لم كان عمله الرفع دون غيره؟ فإنه لا يرى أنه عامل البتة (١).
وألا ينتقل من سؤال إلى سؤال ، فإن انتقل عد منقطعا (٢)
والمسئول به : أدوات الاستفهام المعروفة (٣) ، وليكن [السؤل] مفهوما غير مبهم ، كأن يقول : ما تقول فى اشتقاق الاسم؟
فإن كان مبهما غير مفهوم لم يستحق الجواب ، كأن يقول : ما تقول فى الاسم؟
__________________
(١) إنما لم يسمع من الكوفى مثل هذا السؤال لأنه حين يقول : لم كان عمله الرفع؟ كأنه سلم بأن الابتداء عامل ، وهو لا يقول إنه عامل البتة ، فلما سأل عن تفصيل ما ينكر جملته لم يسمع منه ، وانظر الإعراب ص ٣٨.
(٢) قيل : إن انتقل من سؤال إلى سؤال لا يعد منقطعا بحال ، بدليل انتقال إبراهيم الخليل عليه السّلام حين قال لنمرود : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) بعد قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) الآية ٢٥٨ من سورة البقرة ، فهذا انتقال.
وأجيب عن ذلك بجواز الانتقال للأنبياء ، لأنهم أمروا بالدعوة بأقرب الطرق وأيسرها ، قال صلّى الله عليه وسلّم : «إنا أمرنا معاشر الأنبياء أن نخاطب الناس على قدر عقولهم» فالخليل عليه السّلام قد رأى أن قوله «فإن الله يأتى بالشمس» الخ أقرب لقطع حجاجه ، ودفع لحاجه.
وليست محاجة أهل الجدل على هذا المنهاج فلا يحمل عليه ، وانظر ص ٣٨ ـ ٣٩ من الإغراب.
(٣) أدوات الاستفهام قسمان : حروف ، وأسماء :
والأسماء تنقسم إلى قسمين : أسماء غير ظروف ، وأسماء هى ظروف :
والأسماء التى هى ظروف تنقسم إلى قسمين : ظروف زمان ، وظروف مكان :
والأصل فى الاستفهام أن يكون بالحروف والأصل فيها الهمزة ، والأسماء محمولة عليها ؛ وانظر الإغراب فى جدل الإعراب ص ٤٠ ـ ٤١.
لأنه لا يدرى ، أسأل عن حدّه؟ أم [عن] اشتقاقه؟ أم [عن] غير ذلك؟
والمسئول منه : كونه أهلا [لما يسأل عنه] بأن يكون من أهل فن السؤال ، كالنحوى [يسأل] عن النحو ، والتصريفى عن التصريف.
وعليه أن يأخذ فى ذكر الجواب بعد تعيين السؤال ، فإن سكت بعده كان قبيحا ، وكذلك إن ذكر الجواب وسكت عن ذكر الدليل زمنا طويلا كان قبيحا ، ولم يعدّ منقطعا ، لاحتمال أن يكون سكوته لتفكره فى إيراد الدليل بعبارة أدل على الغرض.
وقيل : يعدّ منقطعا ، لأنه تصدى لمنصب (١) الاستدلال ، فينبغى أن يكون الدليل معدا فى نفسه (٢).
والمسئول عنه : ينبغى أن يكون مما يمكن إدراكه ، كأنواع الحركات (٣).
فإن كان لا يمكن [إدراكه] كأعداد جميع الألفاظ والكلمات الدالة على جميع المسميات : كان فاسدا ، لتعذر إدراكه ، فلا يستحق الجواب عنه.
والجواب : هو المطابق للسؤال من غير زيادة ولا نقصان ، فإن كان السؤال عاما : وجب أن يكون الجواب عاما.
وقال قوم : يجوز «الفرض» فى بعض الصور ، كأن يسأل عن جواز
__________________
(١) قال الأنبارى : «والأول [وهو عدم إعداده منقطعا] أصح» ، وانظر ص ٤٣ من الإغراب.
(٢) فى الأصل : لنصب.
(٣) ومثل الحركات : المرفوعات والمنصوبات والمجرورات والمجزومات.
تقديم الخبر على المبتدأ ، فله أن يفرض فى المفرد ، وله أن يفرض فى الجملة ، لأن من سأل عن الكل فقد سأل عن البعض.
وقال آخرون : لا يجوز فى الجواب (١) ، وإنما يجوز فى الدليل لئلا يكون الجواب غير مطابق للسؤال ، انتهى.
مسألة فى الدور
قال فى الخصائص (٢) : وذلك أن تؤدى الصنعة إلى حكم ما ، مثله مما يقتضى التغيير فإن أنت غيّرت صرت إلى مراجعة مثل ما منه هربت ، فحينئذ يجب أن تقيم على أول رتبة.
وذلك كأن تبنى من «قويت» مثل «رسالة» فإنك تقول : «قواءة» ، ثم تكسّرها على قواء ، ثم تبدل من الهمزة الواو لتطرفها بعد ألف ساكنة ، فتقول : «قواو» فتجمع بين واوين مكتنفتى ألف التكسير ، ولا حاجز بين الأخيرة والطرف ، فإن أنت فررت من ذلك وقلت : أهمز كما همزت فى أوائل : لزمك أن تقول : قواء كما كان أوّلا ، وتصير هكذا تبدل من الهمزة واوا ،
__________________
(١) عبارة الأنبارى «وذهب آخرون إلى أن الفرض إنما يجوز فى الدليل لا فى الجواب ، لئلا يكون الجواب غير مطابق للسؤال.
وهذا أيضا فيه نظر : لأنه يلزمهم فيما ذهبوا إليه مثل ما هربوا منه.
لأنه كما يلزم المسئول أن يكون الجواب عاما ليكون مطابقا للسؤال ، فكذلك يلزمه أيضا أن يكون الدليل عاما ليكون مطابقا للجواب» ، وانظر : ص ٤٤ من الإغراب.
(٢) انظر : الخصائص ج ١ ص ٢٠٨ ـ ٢١٢ ، والكلام هنا ملخص عن كلام ابن جنى
ثم من الواو همزة إلى ما لا نهاية له ، فإذا أدت الصنعة إلى نحو هذا ، وجبت الإقامة على أول رتبة ولا يعدل عنها.
مسألة فى اجتماع ضدين
قال فى الخصائص (١) : اعلم أن التضادّ فى هذه اللغة جار مجرى التضادّ عند أهل الكلام ، فإذا ترادف الضّدّان فى شىء منها كان الحكم للطارىء ويزول (٢) الأول ، وذلك ك «لام التعريف» إذا دخلت على «المنوّن» يحذف لها تنوينه ، لأن اللام للتعريف ، والتنوين للتنكير ، فلمّا ترادفا على الكلمة تضادّا ، فكان الحكم للطارىء ، وهو «اللام» وهذا جار مجرى الضدين المترادفين على المحل الواحد ، كالأبيض يطرأ عليه السواد ، والساكن تطرا عليه الحركة ، وكذلك أيضا حذف التنوين للإضافة ، وحذف تاء التأنيث لياء النسب (٣).
__________________
(١) انظر : الخصائص ج ٣ ص ٦٢ ـ ٦٧ تحت عنوان : «باب فى أن الحكم للطارىء»
(٢) فى الخصائص : فأزال ، بدلا من : ويزول
(٣) السيوطى اختصر هنا الأمثلة التى أوردها ابن جنى وتصرف فى عبارته ، ولقد ختم ابن جنى كلامه بقوله : «واعلم أن جميع ما مضى من هذا يدفع قول «الفراء» فى قوله سبحانه : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ـ الآية ٦٣ من سورة طه ـ : إنه أراد ياء النصب ثم حذفها لسكونها وسكون الألف قبلها ، وذلك أن ياء التثنية هى الطارئة على ألف «ذا» فكان يجب أن تحذف الألف لمكانها» وانظر : الخصائص ج ٣ ص ٦٥.
مسألة فى التسلسل
قال الأندلسى فى شرح المفصل : من قال بأن العامل فى الصفة مقدر : أجاز الوقف على زيد من قولك : «جاءنى زيد العاقل» ، وابتدأ (١) ب «العاقل» لأن تقديره عنده : «جاءنى العاقل» فكان جملة ، والجملة مستقلة ، فوجب أن يوقف ويبتدأ بها.
وهذا فاسد يؤدى إلى التسلسل إذا قدّر : جاءنى العاقل ، والصفة لا بد لها من موصوف ، فيكون التقدير : جاءنى زيد العاقل ، ثم يقدر أيضا : جاءنى العاقل ، ويكون التقدير أيضا : جاءنى زيد العاقل ، وهكذا أبدا متى أولى العامل الصفة قدر بينهما موصوف ، ومتى استقل العامل بموصوف : قدّر مع الصفة عامل آخر إلى ما لا يتناهى ، وذلك محال.
فالمختار الذى عليه الجماعة والجمهور أنه لا يجوز الوقف على الموصوف دون الصفة ، انتهى.
مسألة : القياس جلى وخفى
القياس : جلى وخفى
فمن الأول : قياس حذف النون من المثنى فى صلة الألف واللام على حذف النون من الجمع (٢) فيها ، فإن الأول لم يسمع بخلاف الثانى.
قال أبو حيان : وقياس المثنى على الجمع قياس جلى.
__________________
(١) فى الأصل : ابتداء.
(٢) قال ابن مالك :
«وإن كان لمذكر فالمزيد فى الرفع واو بعد ضمة ، وفى الجر والنصب ياء بعد كسرة ، تليهما نون مفتوحة ، تكسر ضرورة ، وتسقط للاضافة ، أو لضرورة ، أو لتقصير صلة ، وربما سقطت اختيارا قبل لام ساكنة» وانظر ص ١٣ من التسهيل.
خاتمة
[فى الاستدلال لمسألة واحدة بالسماع والإجماع والقياس]
قد يجتمع السماع والإجماع والقياس دليلا على مسألة
قال فى شرح التسهيل : «الباء» فى خبر «ما» التميمية خلافا للفارسى والزمخشرى ، ويدل عليه السماع ، والقياس ، والإجماع.
أما السماع : فلوجود ذلك فى أشعار بنى تميم (١) ونثرهم.
وأما القياس : فلأن الباء دخلت الخبر لكونه منفيّا ، لا لكونه منصوبا ، بدليل دخولها بعد «ما» المكفوفة ، وبعد هل.
وأما الإجماع : فنقله أبو جعفر الصفار.
__________________
(١) قال الفرزدق :
لعمرك ما معن بتارك حقه |
|
ولا منسىء معن ولا متيسر |
وهذا البيت من شواهد سيبويه ج ١ ص ٣١.
الكتاب الرابع : فى الاستصحاب
قال ابن الأنبارى : هو إبقاء حال اللفظ على ما يستحقه فى الأصل عند عدم دليل النقل عن الأصل (١).
قال : وهو من الأدلة المعتبرة (٢) ، كاستصحاب حال الأصل فى الأسماء وهو «الإعراب» حتى يوجد دليل البناء ، وحال الأصل فى الأفعال وهو «البناء» حتى يوجد دليل الإعراب
وقال فى الإنصاف (٣) : أجمع البصريون على عدم تركيب «كم» بأن الأصل الإفراد ، والتركيب : فرع ، ومن تمسك بالأصل خرج عن عهدة المطالبة بالدليل ، ومن عدل عن الأصل افتقر إلى إقامة دليل ، لعدوله عن الأصل ، واستصحاب الحال أحد الأدلة المعتبرة.
وقال فى موضع آخر منه : احتج البصريون على أنه لا يجوز الجر بحرف محذوف بلا عوض بأن قالوا : أجمعنا على أن الأصل فى حروف الجر أن لا تعمل مع الحذف ، وإنما تعمل معه (٤) فى بعض المواضع إذا كان لها عوض ، ولم يوجد هنا فبقى ، فيما (٥) عداه على الأصل ، والتمسّك بالأصل [تمسّك] باستصحاب الحال وهو من الأدلة المعتبرة ، انتهى.
__________________
(١) انظر : ص ٤٦ من جدل الإعراب.
(٢) انظر : الفصل التاسع والعشرين من لمع الأدلة ص ١٤١.
(٣) انظر : المسألة رقم ٤ من الإنصاف ج ١ ص ٣٠٠.
(٤) فى الإنصاف : «وإنما تعمل مع الحذف فى بعض المواضع» الخ ، وانظر : المسألة رقم ٥٧ ج ١ ص ٣٩٦.
(٥) فى الأصل : فى ما.
وقال ابن مالك : من قال إنّ كان وأخواتها لا تدل على الحدت فهو مردود بأن الأصل فى كل فعل الدلالة على المعنيين (١) ، فلا يقبل إخراجهما عن الأصل إلا بدليل
قلت : والمسائل التى استدل فيها النحاة بالأصل كثيرة جدّا لا تحصى ، كقولهم : الأصل فى البناء السكون إلا لموجب تحريك ، والأصل فى الحروف عدم الزيادة حتى يقوم دليل عليها من الاشتقاق ونحوه ، والأصل فى الأسماء الصرف والتنكير والتذكير وقبول الإضافة والإسناد.
وقال الأندلسى فى شرح المفصل : استدل الكوفيون على أن الضمير فى لولاك ونحوه مرفوع ، بأن قالوا : أجمعنا على أن الظاهر الذى قام هذا الضمير مقامه مرفوع (٢) ، فوجب أن يكون كذلك فى هذا الضمير بالقياس عليه والاستصحاب.
__________________
(١) المراد بالمعنيين : الحدث والزمان ؛ قال ابن مالك فى التسهيل : عند الكلام عن كان وأخواتها : «وتسمى نواقص لعدم اكتفائها بمرفوع ؛ لا لأنها تدل على زمن دون حدث ؛ فالأصح دلالتها عليهما إلا ليس» وانظر : ص ٥٢ ـ ٥٣.
(٢) قال الأنبارى : «ذهب الكوفيون إلى أن «الياء» و «الكاف» فى «لولاى» و «لولاك» فى موضع رفع ، وإليه ذهب أبو الحسن الأخفش من البصريين.
وذهب البصريون إلى أن الياء والكاف فى موضع جر بلولا.
وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه لا يجوز أن يقال : «لولاى ولولاك» ويجب أن يقال : «لو لا أنا» و «لو لا أنت» فيؤتى بالضمير المفصل ، كما جاء به فى التنزيل فى قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ـ الآية رقم ٣١ من سورة سبأ ـ ولهذا لم يأت فى التنزيل إلا منفصلا.
وقال ابن الأنبارى فى أصوله : استصحاب الحال من أضعف الأدلة ، ولهذا لا يجوز التمسك به ما وجد هناك دليل ، ألا ترى أنه لا يجوز التمسك به فى إعراب الاسم مع وجود دليل البناء من شبه الحرف أو تضمين (١) معناه ، وكذلك لا يجوز التمسك به فى بناء الفعل مع وجود دليل الإعراب من مضارعته للاسم (٢).
وقال فى جدله (٣) : الاعتراض على الاستدلال بالاستصحاب : بأن يذكر دليلا يدل على زواله (٤) ، كأن يدل الكوفى على زواله إذا تمسك البصرى به فى بناء فعل (٥) الأمر ، فيبين أن فعل الأمر مقتطع من المضارع ، ومأخوذ منه ،
__________________
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : إنما قلنا إن الياء والكاف فى موضع رفع ، لأن الظاهر الذى قام «الياء والكاف» مقامه رفع بها على مذهبنا ، وبالابتداء على مذهبكم ، فكذلك ما قام مقامه» الخ ، وانظر : الإنصاف فى مسائل الخلاف المسألة رقم ٩٧ ص ٦٨٧ ـ ٦٩٥ وهذه المسألة من المسائل السبع التى أيد فيها الأنبارى مذهب الكوفيين ، وانظر المسألة رقم ١٠ من الإنصاف ، وهى عن العامل فى الاسم المرفوع بعد لو لا ، وهى من المسائل التى نصر فيها الأنبارى مذهب الكوفيين أيضا.
(١) فى لمع الأدلة : تضمن ، وانظر ص ١٤٢.
(٢) قال الأنبارى بعد دلك : «وعلى هذا قياس ما جاء من هذا النحو» ، وانظر المرجع السابق.
(٣) انظر : الإغراب فى جدل الإعراب ص ٦٣.
(٤) أى زوال استصحاب الحال.
(٥) البصريون قالوا : «الدليل على بناء فعل الأمر : استصحاب الحال ؛ لأن الأصل فى الأفعال أن تكون مبنية ، والأصل فى البناء أن يكون على السكون ، وإنما أعرب ما أعرب من الأفعال أو بنى منها على فتحة لمشابهة ما بالأسماء ، ولا مشابهة بوجه ما بين فعل الأمر والأسماء فكان باقيا على أصله فى البناء» الخ.
والمضارع قد أشبه الأسماء ، وزال عنه استصحاب [حال] البناء ، وصار معربا بالشبه فكذلك فعل الأمر.
والجواب : أن يبين أن ما توهمه دليلا لم يوجد ، فبقى التمسك باستصحاب الحال صحيحا.
__________________
وانظر المسألة رقم ٧٢ من الإنصاف ج ٢ ص ٥٢٤ وفيها أيد الأنبارى مذهب البصريين ، ويمكن أن يراجع فى هذه المسألة أيضا شرح الأشمونى بحاشية الصبان ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ والتصريح على التوضيح ج ١ ص ٥٥ ؛ والأشباه والنظائر للسيوطى ج ١ ص ٦٤ ؛ وشرح الرضى على الكافية ج ٢ ص ٢٤٩ ؛ وشرح ابن يعيش على المفصل ج ٧ ص ٥٨ ؛ واسرار العربية للأنبارى ص ٣١٧ ؛ وشذور الذهب ص ٧٩.
الكتاب الخامس : فى أدلة شتى
قال ابن الأنبارى : اعلم أن أنواع الاستدلال كثيرة لا تحصر (١)
[من أنواع الاستدلال : الاستدلال بالعكس]
منها : الاستدلال بالعكس ، كأن يقول : لو كان نصب الظرف فى خبر المبتدأ بالخلاف لكان ينبغى أن يكون الأول [أى المبتدأ] منصوبا ، لأن الخلاف لا يكون من واحد وإنما يكون من اثنين ، فلو كان الخلاف موجبا للنصب فى الثانى لكان موجبا للنصب فى الأول ، فلما لم يكن [الأول] منصوبا دل على أن الخلاف لا يكون موجبا للنصب فى الثانى (٢).
__________________
(١) انظر : لمع الأدلة ص ١٢٧ ولقد أدرج الأنبارى الاستدلال بالتقسيم ، والاستدلال ببيان العلة ، والاستدلال بالأصول تحت عنوان : «فى ذكر ما يلحق بالقياس».
(٢) فى هذه المسألة يقول الكوفيون : «إن الظرف فى مثل : «زيد أمامك» منصوب بالخلاف ؛ وذلك لأن خبر المبتدأ فى المعنى هو المبتدأ ؛ ألا ترى أنك إذا قلت «زيد قائم» كان قائم فى المعنى هو زيد ، فإذا قلت : «زيد أمامك» لم يكن أمامك فى المعنى هو زيد ، كما كان قائم فى المعنى هو زيد ، فلما كان مخالفا نصب على الخلاف ليفرقوا بينهما.
وأما البصريون فيقولون : إنه ينتصب بفعل مقدر تقديره استقر ونحوه.
ومنهم من قال : إنه منتصب بتقدير اسم فاعل أى مستقر أمامك.
وقالوا : إن الظرف انتصب بالعامل المقدر لأن الأصل : «فى أمامك» ، لأن أسماء الأمكنة والأزمة يراد بها معنى «فى» ، وحرف الجر لا بد له من شىء يتعلق به ؛ فلما حذف حرف الجر اتصل الفعل بالظرف فنصه ، فالفعل الذى هو «استقر» مقدر مع الظرف ، كما هو مقدر مع الحرف».
[من أنواع الاستدلال : الاستدلال ببيان العلة]
ومنها : الاستدلال ببيان العلة ، قال ابن الأنبارى (١) : وهو ضربان :
أحدهما : أن يبين علة الحكم ، ويستدل بوجودها فى موضع الخلاف ليوجد بها الحكم.
والثانى : أن يبين العلة ، ثم يستدل بعدمها فى موضع الخلاف ليعدم الحكم.
فالأول : كأن يستدل من أعمل اسم الفاعل فى محل الإجماع لجريانه على حركة الفعل وسكونه فوجب أن يكون عاملا.
والثانى : كأن يستدل من أبطل عمل «إن» المخففة من الثقيلة ، فيقول : إنما عملت إنّ الثقيلة لشبهها بالفعل ، وقد عدم بالتخفيف فوجب ألا تعمل (٢).
[من أنواع الاستدلال : الاستدلال بعدم الدليل فى الشىء على نفيه]
ومنها : الاستدلال بعدم الدليل فى الشىء على نفيه.
قال ابن الأنبارى (٣) : وهذا إنما يكون فيما إذا ثبت لم يخف دليله ، فتستدل بعدم الدليل على نفيه ، كأن تستدل على نفى أنّ [أقسام الكلم](٤)
__________________
ويرد على الكوفيين بالاستدلال بالعكس الذى ذكره السيوطى.
وانظر المسألة رقم ٢٩ من الإنصاف ص ٢٤٥.
(١) انظر : لمع الأدلة ص ١٣٢.
(٢) فى الأصل : أن.
(٣) انظر : الفصل الثلاثين من لمع الأدلة ص ١٤٢ ـ ١٤٣.
(٤) فى الأصل : الكلمات ، وما صوبناه مطابق للمع الأدلة.
أربعة ، وعلى نفى أنّ أنواع الإعراب خمسة فتقول : لو كانت [أقسام الكلم] أربعة ، وأنواع الإعراب خمسة لكان على ذلك دليل ، ولو كان على ذلك دليل لعرف مع كثرة البحث ، وشدة الفحص ، فلما لم يعرف ذلك دلّ على أنه لا دليل ، فوجب ألا تكون [أقسام الكلم] أربعة ، ولا أنواع الإعراب خمسة.
قال : وقد زعم بعضهم أن النافى لا دليل عليه (١) ، وليس كذلك ، لأن الحكم بالنفى لا يكون إلا عن دليل ، كما أن الحكم بالإثبات لا يكون إلا عن دليل ، فكما يجب الدليل على المثبت يجب أيضا على النافى.
[من أنواع الاستدلال : الاستدلال بالأصول]
ومنها : الاستدلال بالأصول ، قال ابن الأنبارى (٢) : كأن يستدل على إبطال أنّ رفع المضارع لتجرده من الناصب والجازم ، بأن ذلك يؤدى إلى خلاف الأصول ، لأنه يؤدى إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم ، وهذا خلاف الأصول (٣) ، لأن الأصول تدل على أن الرفع قبل النصب ، لأن الرفع صفة
__________________
(١) قال الأنبارى : بعد هذه العبارة : «وإنما الدليل على المثبت ، وهذا ليس بصحيح لأن الحكم بالنفى» الخ ، وانظر ص ١٤٢ من لمع الأدلة.
(٢) انظر : لمع الأدلة ص ١٣٢ ـ ١٣٣ ، وانظر المسألة رقم ٧٤ من الإنصاف ج ٢ ص ٥٥٠.
(٣) هذا رد على رأى جمهور الكوفيين فى «عامل الرفع للفعل الضارع» فقد قالوا : «إن المضارع فى مثل «يقوم زيد» مرفوع لتعريه من العوامل الناصبة والجازمة لأن المضارع تدخل عليه النواصب فتنصبه ، وتدخل عليه الجوازم فتجزمه ، فإذا لم تدخل عليه النواصب أو الجوازم ، يكون مرفوعا ، فبدخولها دخل النصب أو الجزم ، وبسقوطها عنه دخله الرفع».
الفاعل ، والنصب صفة المفعول ، فكما أن الفاعل قبل المفعول ، فكذلك الرفع قبل النصب ، وكذلك تدل الأصول أيضا على أن الرفع قبل الجزم ، لأن الرفع فى الأصل من صفات الأسماء ، والجزم من صفات الأفعال ، فكما أن رتبة الأسماء قبل الأفعال ، فكذلك الرفع قبل الجزم.
فإن قيل : فهب أن الرفع فى الأسماء قبل الجزم فى الأفعال فلم قلتم الرفع فى الأفعال قبل الجزم؟
قلنا : لأن إعراب الأفعال فرع على إعراب الأسماء ، وإذا ثبت ذلك فى الأصل ، فكذلك فى الفرع لأن الفرع يتبع الأصل.
[من أنواع الاستدلال : الاستدلال بعدم النظير]
ومنها : الاستدلال بعدم النظير ، ولم يذكره ابن الأنبارى وذكره ابن جنى (١) ، وهو كثير فى كلامهم ، وإنما يكون دليلا على النفى لا على الإثبات ؛ وقد استدل المازنى [به] ردّا على من قال : إن «السين» و «سوف» ترفعان الفعل المضارع بأنا لم نر عاملا فى الفعل يدخل عليه «اللام» ، وقد قال تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ)(٢).
__________________
ولقد أيد ابن مالك رأى جمهور الكوفيين حيث قال :
ارفع مضارعا إذا يجرد |
|
من ناصب وجازم كتسعد |
ولكن من عارض هذا الرأى رد عليه بمخالفة الأصول المذكور فى الكتاب ، وانظر ما كتبناه فى «النحو البغدادى ونواصب المضارع» ص ٣٦ ـ ٢٧.
(١) انظر : الخصائص ج ١ ص ١٩٧.
(٢) الآية رقم ٥ من سورة الضحى.
قال فى الخصائص : وإنما يستدلّ بعدم النظير على النفى ، حيث لم يقم الدليل على الإثبات ، فإن قام لم يلتفت إليه ، لأن إيجاد النظير بعدم قيام الدليل ، إنما هو للأنس به لا للحاجة إليه ، مثاله : «أندلس» فإن همزته ونونه زائدتان ، فوزنه «أنفعل» وهو مثال لا نظير له ، لكن قيام الدليل على ما ذكرنا لأن النون زائدة لا محالة ، إذ ليس فى ذوات الخمسة شىء على «فعلل» (١) ، فتكون النون فيه أصلا لوقوعها موقع العين ، وإذا ثبت زيادة النون بقى فى الكلمة ثلاثة أحرف أصول : الدال ، واللام ، والسين ، وفى أولها همزة ومتى وقع ذلك ، حكمت بزيادة الهمزة ، ولا تكون النون أصلا والهمزة زائدة ، لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أولها إلا فى الأسماء الجارية على أفعالها ، نحو «مدحرج» وبابه ، فقد وجب إذن أن الهمزة والنون زائدتان ، وأن الكلمة بهما على وزن «أنفعل» ، وإن كان مثالا لا نظير له ، فإن اجتمع الدليل والنظير فهو الغاية ، كنون عنبر (٢) فالدليل يقتضى كونها أصلا ، لأنها مقابلة لعين جعفر ، والنظير موجود وهو فعلل ، انتهى.
وقال الخضراوى : إذا ورد شىء حمل على القياس ، وإن لم يوجد له نظير.
[من أنواع الاستدلال : الاستحسان]
ومنها : الاستحسان ، قال فى الخصائص : دلالته ضعيفة (٣) غير مستحكمة إلا أن فيه ضربا من الاتساع والتصرف ، من ذلك تركك الأخف إلى الأثقل
__________________
(١) فى الأصل : فعلل والصواب ما ذكرناه.
(٢) قال فى الخصائص : «كنون عنتر» وكلا المثالين صحيح ، وانظر : ج ١ ص ١٩٨.
(٣) انظر : الخصائص ج ١ ص ١٣٣.