كتاب الإقتراح في علم أصول النحو

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي

كتاب الإقتراح في علم أصول النحو

المؤلف:

جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي


المحقق: الدكتور أحمد محمّد قاسم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: نشر أدب الحوزة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠

إذا عرفت ذلك فاعلم أن علل النحويين ضربان :

واجب لا بد منه ، لأن النفس لا تطيق فى معناه غيره ، وهذا لا حق بعلل المتكلمين.

والآخر : ما يمكن تحمله لكن على استكراه ، وهذا لا حق بعلل الفقهاء.

فالأول : ما لا بد للطبع منه كقلب الألف واوا للضمة قبلها ، وياء للكسرة قبلها ، ومنع الابتداء بالساكن ، والجمع بين الألفين المدتين ، إذ لا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحا ، فلو التقت ألفان مدتان لوقعت الثانية بعد ساكن.

والثانى : ما يمكن النطق به على مشقة ، كقلب الواو ياء بعد الكسرة ، إذ يمكن أن تقول فى عصافير : عصافور ، ولكن يكره.

قلت : ومن الأول : تقدير الحركات فى المقصور.

ومن الثانى : تقدير الضمة والكسرة فى المنقوص.

وقال فى موضع آخر : اعلم أن أصحابنا انتزعوا العلل من كتب محمد (١) بن الحسن ، وجمعوها منها بالملاطفة والرفق.

__________________

لا طريق إلى ظهوره ، ولا إلى تصوره ، وكذلك كل ما كان من هذا القبيل. فقد ثبت بذلك تأخر علل النحويين عن علل المتكلمين ؛ وإن تقدمت علل المتفقهين» وانظر الخصائص ج ١ ص ١٤٥.

(١) فى العبارة اختصار لكلام ابن جنى فى الخصائص ج ١ ص ١٦٣ ، وقد ترجمنا لمحمد بن الحسن فى صفحة ٥.

١٢١

[المسألة] الرابعة

[الخلاف فى إثبات الحكم]

قال ابن الأنبارى (١) : اختلفوا فى إثبات الحكم فى محل النص ، بماذا ثبت بالنص أم بالعلة؟

فقال الأكثرون : بالعلة لا بالنص ، لأنه لو كان ثابتا به لا بها لأدى إلى إبطال الإلحاق ، وسد باب القياس ، لأن القياس : «حمل فرع على أصل بعلة جامعة» ، فإذا فقدت العلة الجامعة بطل القياس ، وكان الفرع مقيسا (٢) من غير أصل وذلك محال.

ألا ترى أنا لو قلنا : إن الرفع والنصب فى نحو «ضرب زيد عمرا» بالنص لا بالعلة ، لبطل الإلحاق بالفاعل والمفعول ، والقياس عليهما وذلك لا يجوز.

وقال بعضهم : ثبت فى محل النص بالنص ، وفيما عداه بالعلة ، وذلك نحو النصوص المقبولة (٣) عن العرب ، المقيس عليها بالعلة الجامعة فى جميع أبواب العربية ، واستدل لذلك بأن النص مقطوع به ، والعلة مظنونة ، وإحالة الحكم على المقطوع به أولى من إحالته على المظنون.

ولا يجوز أن يكون الحكم ثابتا بالنص والعلة معا ، لأنه يؤدى : إلى أن يكون الحكم مقطوعا به مظنونا ، وكون الشىء الواحد مقطوعا به مظنونا فى حالة واحدة محال.

__________________

(١) انظر : الفصل العشرين من لمع الأدلة.

(٢) فى الأصل : مقتبسا ؛ والصواب ما ذكرناه طبقا لما جاء فى لمع الأدلة.

(٣) فى الأصل : «المنقولة» ؛ وما ذكرناه أدق فى التعبير ومطابق لما قاله الأنبارى فى لمع الأدلة.

١٢٢

وأجيب عن هذا الاستدلال : بأن الحكم إنما يثبت بطريق مقطوع به وهو : النص ، ولكن العلة هى التى دعت إلى إثبات الحكم فنحن نقطع على الحكم بكلام العرب ، ونظن أن العلة هى التى دعت الواضع إلى الحكم ، فالظن لم يرجع إلى ما يرجع إليه القطع ، بل هما متغايران ، فلا منافاة. انتهى كلام ابن الأنبارى.

[المسألة] الخامسة

[العلة البسيطة والمركبة]

العلة قد تكون بسيطة : وهى التى يقع التعليل بها من وجه واحد ، كالتعليل بالاستثقال ، والجوار ، والمشابهة ، ونحو ذلك.

وقد تكون مركبة من عدة أوصاف اثنين فصاعدا : كتعليل قلب «ميزان» بوقوع الياء (١) ساكنة بعد كسرة ، فالعلة ليس مجرد سكونها ، ولا وقوعها بعد كسرة ، بل مجموع الأمرين ، وذلك كثير جدا.

وقد يزاد فى العلة صفة لضرب من الاحتياط بحيث لو أسقطت لم يقدح فيها كما سيأتى فى القوادح.

وقال ابن النحاس فى التعليقة : علل ابن عصفور حذف التنوين من العلم الموصوف بابن مضاف إلى علم ، بعلة مركبة من مجموع أمرين : وهو كثرة الاستعمال مع التقاء الساكنين ، والنحاة لم يعللوه إلا بكثرة الاستعمال فقط ، بدليل حذفه من «هند بنت عاصم» على لغة من صرف هندا ، وإن لم يلتق هنا

__________________

(١) كان الأولى أن يقول : «كتعليل قلب الواو ياء فى «ميزان» بوقوعها ساكنة بعد كسرة».

١٢٣

ساكنان ، وكأنه لما رأى انتقاض العلة : احتاج إلى قوله : ومن العرب من يحذف لمجرد كثرة الاستعمال ، وهذه العلة الصحيحة المطّردة فى الجميع لا ما علل به أوّلا.

ومن العلل المركبة قول الزمخشرى فى المفصل فى «الذى» : ولاستطالتهم إياه بصلة ، مع كثرة الاستعمال خففوه من غير وجه ، فقالوا : «اللذ» بحذف الياء ، ثم «اللذ» بحذف الحركة ، ثم حذفوه رأسا واجتزوا بلام التعريف الذى فى أوله ، وكذا فعلوا فى التى.

وقال ابن النحاس : إنما التزموا الفصل بين أنّ إذا خففت وبين خبرها إذا كان فعلا لعلة مركبة من مجموع أمرين ، وهما : العوض من تخفيفها ، وإيلاؤها (١) ما لم يكن يليها.

[المسألة] السادسة

[من شرط العلة إيجابها للحكم فى المقيس عليه]

من شرط العلة أن تكون هى الموجبة للحكم فى المقيس عليه ، ومن ثم خطّأ ابن مالك البصريين (٢) فى قولهم : إن علة إعراب المضارع مشابهته للاسم فى حركاته ، وسكناته ، وإبهامه ، وتخصيصه ؛ فإن هذه الأمور ليست الموجبة لإعراب الاسم ، وإنما الموجب له قبوله لصفة واحدة ، ومعانى مختلفة ، ولا يميزها إلا الإعراب ، تقول : «ما أحسن زيد» فيحتمل : النفى ، والتعجب ، والاستفهام.

__________________

(١) فى الأصل : إيلائها.

(٢) انظر : التسهيل ص ٢٢٨ ، ومقدمة التسهيل ص ٥٩ ، وشرح الأشمونى ج ٣ ص ٢٨٠ ، وأوضح المسالك ص ٢٠٩ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٦٦.

١٢٤

فإن أردت الأول : رفعت زيدا ، والثانى : نصبته ، والثالث : جررته.

فلا بد أن تكون هذه العلة هى الموجبة لإعراب المضارع ، فإنك تقول : «لا تأكل السّمك وتشرب اللبن» فيحتمل النهى عن كل منهما على انفراده ، وعن الجمع بينهما ، وعن الأول فقط والثانى مستأنف ، ولا يبيّن ذلك إلا الإعراب : بأن تجزم الثانى أيضا : إن أردت الأول ، وتنصبه : إن أردت الثانى ، وترفعه : إن أردت الثالث.

[المسألة] السابعة

[الخلاف فى التعليل بالعلة القاصرة]

قال ابن الأنبارى (١) : اختلفوا فى التعليل بالعلة القاصرة (٢) ، فجوزها قوم ، ولم يشترطوا التعدية فى صحتها ، وذلك كالعلة فى قولهم : «ما جاءت حاجتك» ، و «عسى الغوير أبؤسا» (٣) ، فإنّ «جاءت» و «عسى» : أجريا مجرى «صار» ، فجعل لهما اسم مرفوع ، وخبر منصوب ، ولا يجوز أن يجريا مجرى صار ، فى غير هذين الموضعين ، فلا يقال : ما جاءت حالتك ، أى صارت ،

__________________

(١) انظر : الفصل السابع عشر من لمع الأدلة ، والسيوطى تصرف فى عبارة الأنبارى بنقل المعنى مختصرا.

(٢) المراد بالعلة القاصرة : اقتصار التعليل بها على مواضع معينة دون غيرها.

(٣) قال ابن الأعرابى : مثل يضرب للمتهم بالأمر ، وقال الأصمعى : هو مثل لكل شىء يخاف أن يأتى منه شر ، قال : وأصل هذا المثل : أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم فقتلهم ، وفى حديث عمر رضى الله عنه : عسى الغوير أبؤسا هو جمع بأس وانتصب على أنه خبر عسى ، والغوير : ماء لكلب ، ومعنى ذلك : عسى أن تكون جئت بأمر عليك فيه تهمة وشدة ؛ وانظر : اللسان مادة : «بأس».

١٢٥

ولا : جاء زيد قائما ، أى صار زيد قائما ، وكذلك لا يقال : «عسى الغوير أنعما» ، ولا «عسى زيد قائما» بإجرائه مجرى صار ، واستدل على صحتها بأنها ساوت العلة المتعدية فى الإخالة والمناسبة ، وزادت عليها بظاهر النقل ، فإن لم يكن ذلك علما للصحة ، فلا أقل من ألّا (١) يكون علما على الفساد.

وقال قوم : إنها علة باطلة ، لأن العلة إنما تراد للتعدية ، وهذه العلة لا تعدية فيها ، وإذا لم تكن متعدية ، فلا فائدة لها ، لأنها لا ضرورة (٢) لها ، فالحكم فيها ثابت بالنص لا بها.

وأجيب : بأنا لا نسلم أنها إنما تراد للتعدية ، فإن العلة إنما كانت علة لإخالتها ، ومناسبتها ، لا لتعديتها.

ولا نسلم أيضا : عدم فائدتها ، فإنها تفيد الفرق بين المنصوص الذى يعرف معناه ، والذى لا يعرف معناه.

وتفيد أنه ممتنع ردّ غير المنصوص عليه.

وتفيد أيضا أن الحكم ثبت فى المنصوص عليه بهذه العلة. انتهى كلام ابن الأنبارى.

وقال ابن مالك فى شرح التسهيل : عللوا سكون آخر الفعل المسند إلى التاء ونحوه بقولهم : لئلا تتوالى أربع حركات فيما هو ككلمة واحدة ، وهذه العلة ضعيفة ، لأنها قاصرة : إذ لا يوجد التوالى إلا فى الثلاثى الصحيح ، وبعض

__________________

(١) فى الأصل : «أن لا» ولقد رسمه هكذا فى كل ما جاء من هذا اللفظ.

(٢) فى نسخة أخرى : لا فرع لها.

١٢٦

الخماسى ، كانطلق ، وانكسر ، ولا تتوالى فيه (١) ، والسكون عام فى الجميع ، انتهى. فمنع العلة القاصرة.

[المسألة] الثامنة

[التعليل بعلتين]

قال فى الخصائص (٢) : يجوز التعليل بعلتين ، ومن أمثلة ذلك قولك : هؤلاء (٣) مسلمىّ ، فإن الأصل مسلموى ، فقلبت الواو ياء لأمرين كل منهما موجب للقلب :

أحدهما اجتماع الواو والياء ، وسبق الأولى منهما بالسكون.

والآخر أن ياء المتكلم أبدا يكسر (٤) الحرف الذى قبلها ، فوجب قلب الواو ياء ، وإدغامها ليمكن كسر ما تليه.

ومن ذلك قولهم «سىّ» فى لا سيّما ، أصله سوى ، قلبت الواو ياء ـ إن شئت ـ لأنها ساكنة ، غير مدغمة بعد كسرة ، وإن شئت لأنها ساكنة قبل ياء ، فهاتان علتان ؛ إحداهما : كعلة قلب ميزان ، والأخرى : كعلة طىّ ولىّ : مصدرىّ طويت ولويت ، وكل منهما مؤثرة.

وقال فى موضع آخر : قد يكثر الشىء ، فيسأل عن علته ، كرفع الفاعل ،

__________________

(١) هكذا بالأصل : والأولى أن يقول : ولا تتوالى الحركات فى غير الثلاثى الصحيح وبعض الخماسى.

(٢) انظر الخصائص ج ١ ص ١٧٤ والكلام هنا تلخيص لكلام ابن جنى.

(٣) فى الأصل : هولأه.

(٤) فى الخصائص : «تكسر الحرف الذى قبلها».

١٢٧

ونصب المفعول ، فيذهب قوم إلى شىء ، وآخرون إلى غيره ، فيجب إذن تأمل القولين واعتقاد أقواهما ، ورفض الآخر ، فإن تساويا فى القوة : لم ينكسر اعتقادهما جميعا ، فقد يكون الحكم الواحد معلولا بعلتين ، انتهى.

وقال ابن الأنبارى (١) : اختلفوا فى تعليل الحكم بعلتين فصاعدا :

فذهب قوم إلى أنه لا يجوز ، لأن هذه العلة مشبهة بالعلة العقلية ، والعلة العقلية لا يثبت الحكم معها (٢) إلا بعلة واحدة فكذلك ما كان مشبها بها.

وذهب قوم إلى جوازه ، وذلك مثل أن يدل على كون الفاعل منزلا (٣) منزلة الجزء من الفعل بعلل :

كونه يسكن لام الفعل فى نحو ضربت.

ويمنع (٤) العطف عليه إذا كان ضميرا متصلا.

ووقوع الإعراب بعده فى الأمثلة الخمسة.

واتصال تاء التأنيث بالفعل ، إذا كان الفاعل مؤنثا.

وقولهم فى النسب إلى «كنت» : كنتى (٥).

وقولهم : «حبذا» بالتركيب (٦).

[و] لا أحبذه : لا أقول : حبذا.

__________________

(١) انظر : لمع الأدلة ، الفصل التاسع عشر ؛ والسيوطى اختصر هنا بعض العبارات والفقرات

(٢) فى الأصل : فيها ؛ وما ذكرناه مطابق لنسخة أخرى ، ومطابق أيضا للمع الأدلة.

(٣) فى نسخة أخرى «يتنزل» وفى لمع الأدلة «ينزل»

(٤) فى الأصل : يمنع ؛ وفى نسخة أخرى : يمتنع

(٥) الكنتى : الرجل المسن ؛ لانه يقول : كنت كذا وكذا

(٦) أى بالتركيب من الفعل والفاعل ؛ وإعراب «حبذا» كلها مبتدأ

١٢٨

وقولهم فى «فحصت» : فحصط (١) بالإبدال طاء ، لتجانس الصاد فى الإطباق ، وهذا الإبدال إنما يكون فى كلمة لا كلمتين ، فهذه ثمان (٢) علل.

واستدل على جواز ذلك بأن هذه العلة ليست موجبة وإنما هى أمارة ودلالة على الحكم ، فكما يجوز أن يستدل على الحكم بأنواع من الأمارات ، والدلالات ، فكذلك يجوز أن يستدل عليه بأنواع من العلل (٣).

وأجيب بأنه إن كان المعنى أنها ليست موجبة ، كالعلل العقلية ، كالتحرك لا يعلل إلا بالحركة ، والعالمية لا تعلل إلا بالعلم ، فمسلم وإن كان المعنى أنها غير مؤثرة بعد الوضع على الإطلاق فممنوع ، فإنها بعد الوضع بمنزلة العلل العقلية ، ينبغى أن تجرى مجراها ، انتهى.

__________________

(١) فى الأصل : محصت محصط ؛ والصواب ما ذكرناه وهو مطابق لما جاء فى لمع الادلة.

(٢) بقيت علتان ذكرهما الأنبارى ولم يذكرهما السيوطى ، الأولى منهما : أنهم قالوا : «زيد ظننت قائم» فألغوا ظننت ؛ والإلغاء إنما يكون فى المفردات لا فى الجمل فلو لم ينزلوا الفاعل والمفعول بمنزلة كلمة واحدة لما جاز الإلغاء.

الثانية : قولهم للواحد : «قفا» على التثنية لأن المعنى «قف قف» قال تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) فثنى وإن كان الخطاب لملك واحد ، وهو مالك خازن النار ؛ لأن المراد به : «ألق ألق» فنزل الفعل والفاعل منزلة الكلمة الواحدة ؛ ولذا جازت التثنية.

(٣) عقب الأنبارى على هذه العبارة بقوله : «وليس هذا بصحيح» ثم رد بالجواب الذى ذكر خلاصته السيوطى.

١٢٩

[المسألة] التاسعة

[تعليل حكمين بعلة واحدة]

يجوز تعليل حكمين بعلة واحدة ، قال فى الخصائص (١) : سواء لم يتضادا ، أو تضادا ، كقولهم : «مررت بزيد» فإنه يستدل به على أن الجار معدود من جملة الفعل ، ووجه الدلالة منه أن الباء فيه معاقبة لهمزة النقل فى نحو «أمررت زيدا» ، فكما أن همزة أفعل موضوعة فيه ، كائنة من جملته ، فكذلك ما عاقبها من حروف الجر ، ينبغى أن يعد من جملته لمعاقبة ما هو فى جملته.

ويستدل به أيضا على ضد ذلك : وهو أن الجارّ جار مجرى بعض ما جرّه ، بدليل أنه لا يفصل بينهما ، فهذان تقديران مختلفان ، مقبولان فى القياس ، متلقيان بالبشر والإيناس.

وقال فى موضع آخر : «باب فى أن سبب الحكم قد يكون سببا لضده على وجه» هذا باب ظاهر التدافع ، وهو مع استقرائه صحيح واقع ، وذلك كقولهم : القود والحوكة (٢) ، فإن القاعدة فى مثله الإعلال بقلب الواو ألفا ، لتحركها وانفتاح ما قبلها ، لكنهم شبهوا حركة العين التابعة لها بحرف اللين التابع لها ، فكأن فعلا فعال ، فكما صح جواب وهيام صح باب القود ، والغيب ونحوه ، فأنت ترى حركة العين التى هى سبب الإعلال ، صارت على وجه آخر سبب التصحيح ، وهذا مذهب غريب المأخذ انتهى.

__________________

(١) ما ذكر هنا تلخيص لكلام ابن جنى فى الخصائص ج ١ ص ٣٤١.

(٢) انظر : الخصائص ج ١ ص ١٢٣.

١٣٠

[المسألة] العاشرة

فى دور العلة

قال فى الخصائص (١) : هو نوع ظريف ، ذهب المبرد فى وجوب إسكان لام نحو : ضربت ، إلى أنه لحركة ما بعده من الضمير ، لئلا تتوالى إلى أربع حركات.

وذهب أيضا فى حركة الضمير من ذلك ، إلى أنها لسكون ما قبله ، فاعتلّ لهذا بهذا ، ثم دار ، فاعتلّ لهذا بهذا.

قال : وهو نظير ما أجازه سيبويه فى جر «الوجه» من قولك : الحسن الوجه ، وأنه جعله تشبيها بالضارب الرجل ، مع أن جر الرجل تشبيها بالحسن الوجه ، إلا أن مسألة سيبويه أقوى من مسألة المبرد ، لأن الشىء لا يكون علة نفسه ، وإذا لم يكن كذلك كان من أن يكون علّة علّته أبعد.

__________________

(١) انظر الخصائص ج ١ ص ١٨٣ وقد جاء فى الحاشية بيان عن معنى دور العلة فقال : «يريد بدور الاعتلال أن يعلل الشىء بعلة معللة بذلك الشىء ، والدور بين شيئين : توقف كل منهما على الآخر ، وهذا من مصطلحات المتكلمين ، ولهم فيه تقاسيم وبحوث ، وليس الدور فى هذا المقام هو الدوران ، كما ذهب إليه شارحا الاقتراح : اين الطيب وابن علان ؛ فإن الدوران : هو حدوث الحكم بحدوث العلة ، وانعدامه بعدمها ، كما فى حرمة النبيذ تدور مع الإسكار وجودا وعدما ، والدوران من مسالك العلة ، والدور أدنى إلى أن يكون من قوادحها».

١٣١

[المسألة] الحادية عشرة

فى تعارض العلل

قال فى الخصائص (١) : هو ضربان :

أحدهما : حكم واحد يتجاذبه علّتان فأكثر.

والآخر : حكمان فى شىء واحد مختلفان دعت إليهما علتان مختلفتان.

فالأول : ذكر فى التعليل بعلتين (٢).

والثانى : كإعمال أهل الحجاز «ما» وإهمال بنى تميم لها.

فالأولون لما رأوها داخلة على المبتدأ والخبر دخول «ليس» عليهما ، ونافية للحال نفيها إياها ، أجروها فى الرفع والنصب مجراها.

والآخرون لما رأوها حرفا داخلا بمعناه على الجملة المستقلّة (٣) بنفسها ، ومباشرة لكل واحد من جزأيها (٤) : أجروها مجرى هل ، ولذلك كانت عند سيبويه (٥) أقوى قياسا من الحجاز ، وكذلك «ليتما» من ألغاها ألحقها بأخواتها (٦) ،

__________________

(١) انظر الخصائص ج ١ ص ١٦٦.

(٢) انظر ص ١٢٧.

(٣) فى الأصل : المستقبلة ، وتصويبنا موافق للخصائص :

(٤) فى الأصل : جزئها.

(٥) عبارة سيبويه : ذلك الحرف «ما» تقول : ما عبد الله أخاك ، وما زيد منطلقا ، وأما بنو تميم فيجرونها مجرى أما وهل ، وهو القياس لأنها ليست بفعل ، وليس «ما» كليس ؛ ولا يكون فيها إضمار» وانظر الكتاب ج ١ ص ٢٨.

(٦) لأن «ما» تكف أحوات ليت عن العمل ؛ وأما ليت فيجوز فيها الإهمال أو الإعمال.

١٣٢

ومن أعملها ألحقها بحروف (١) الجر إذا دخلت عليها «ما» وفرق بينها وبين أخواتها : بأنها أشبه بالفعل فى الافراد (٢) وعدد الحروف.

وكذلك «هلم» ألحقها أهل الحجاز باسم الفعل ، فلم يلحقوها العلامات (٣) ، وبنو تميم يلحقونها العلامات اعتبارا لأصل ما كانت عليه.

[المسألة] الثانية عشرة

[التعليل بالأمور العدمية]

يجوز التعليل بالأمور العدمية ، كتعليل بعضهم بناء الضمير : باستغنائه عن الإعراب باختلاف صيغه ، لحصول الامتياز بذلك.

خاتمة

[فى استنباط علل النحو وأضرب هذه العلل]

قال أبو القاسم الزجاجى فى كتاب (٤) إيضاح علل النحو : القول فى علل النحو أقول :

__________________

(١) أى أن من ألغى «ما» التى تكف أخوات ليت عن العمل حتما ، جعل ليت كحرف الجر فى إلغاء «ما» معه نحو قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) و (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) ونحو ذلك.

(٢) أى أن ليت مفردة ، وأما كأن ولعل فمركبتان ، لأن الكاف واللام زائدتان فيهما.

(٣) المقصود بالعلامات : التثنية ، والجمع ، والتأنيث.

(٤) انظر : الإيضاح فى علل النحو ص ٦٤ ـ ٦٦ ، ولقد اختصر السيوطى بعض كلام الزجاجى.

١٣٣

أولا : إن علل النحو ليست موجبة ، وإنما هى مستنبطة أوضاعا ومقاييس ، وليست كالعلل الموجبة للأشياء والمعلوله بها (١) ، ليس هذا من تلك الطريق.

وعلل النحو بعد هذا على ثلاثة أضرب : علل تعليمية ، وعلل قياسية ، وعلل جدلية نظرية.

فأما التعليمية فهى التى يتوصّل بها إلى تعليم (٢) كلام العرب ، لأنا لم نسمع نحن ولا غيرنا كلّ كلامها منها لفظا ، وإنما سمعنا بعضا فقسنا عليه نظيره ، مثال ذلك أننا لما سمعنا قام زيد فهو قائم ، وركب عمرو فهو راكب ، فعرفنا اسم الفاعل قلنا : ذهب فهو ذاهب ، وأكل فهو آكل.

ومن هذا النوع من العلل قولنا : «إن زيدا قائم» إن قيل : لم نصبتم زيدا؟

قلنا : بإنّ ، لأنها تنصب الاسم وترفع الخبر ، لأنا كذلك علمناه [و] نعلمه (٣).

وكذلك «قام زيد» إن قيل : لم رفعتم زيدا.

قلنا : لأنه فاعل اشتغل فعله به فرفعه ، فهذا وما أشبهه من نوع التعليم ، وبه ضبط كلام العرب.

وأما علته القياسية فأن يقال : لم نصب زيد بإنّ فى قوله : «إنّ زيدا قائم» ولم وجب أن تنصب إنّ الاسم؟

__________________

(١) فى الأصل : وليست كالعلل الموجبة إلا المعلومة لها ، وقد صوبت العبارة من كتاب الإيضاح للزجاجى.

(٢) فى الإيضاح : تعلم.

(٣) فى الأصل : علمناه نعلمه ، وتصويبنا موافق للايضاح.

١٣٤

والجواب فى ذلك أن نقول : لأنها وأخواتها ضارعت الفعل المتعدى إلى مفعول ، فحملت عليه ، وأعملت إعماله لما ضارعته ، فالمنصوب (١) بها مشبه بالمفعول لفظا (٢) ، فهى تشبه من الأفعال ما قدّم مفعوله على فاعله نحو «ضرب أخاك محمد» وما أشبه ذلك.

وأما العلل الجدلية النظرية : فكل ما يعتلّ به فى باب «إنّ» بعد هذا ، مثل أن يقال : فمن أى جهة شابهت هذه الحروف الأفعال؟ وبأى الأفعال شبهتموها؟ أبا لماضية أم المستقبلة؟ أم الحادثة فى الحال؟

وحين شبّهتموها بالأفعال لأى شىء عدلتم بها إلى ما قدّم مفعوله على فاعله؟

وهلا شبهتموها بما قدم فاعله على مفعوله لأنه هو الأصل وذاك فرع؟ فأى علة دعت إلى إلحاقها بالفرع دون الأصل؟ إلى غير ذلك من السؤالات ، فكل شىء اعتل به جوابا (٣) عن هذه المسائل فهو داخل فى الجدل والنظر.

وذكر بعض شيوخنا أنّ الخليل بن أحمد ، سئل عن العلل التى يعتل بها فى النحو ، فقيل له : عن (٤) العرب أخذتها أم اخترعتها من نفسك؟

فقال : «إنّ العرب نطقت على سجيتها وطباعها ، وعرفت مواقع كلامها ،

__________________

(١) فى الأصل : فالمنسوب.

(٢) قال الزجاجى بعد هذه العبارة : «والمرفوع بها مشبه بالفاعل لفظا» الخ.

(٣) عبارة الزجاجى : «وكل شىء اعتل به المسئول جوابا عن هذه المسائل فهو داخل فى الجدل والنظر».

(٤) لعله يقصد «أعن» «لأن الجمهور وسيبويه لا يجيزون حذف همزة الاستفهام فى سياق المعادلة إلا ضرورة خلافا للأخفش إذ أجاز حذفها اختيارا».

١٣٥

وقامت فى عقولها علله وإن لم ينقل ذلك عنها ، وعللت (١) أنا بما عندى أنه علة لما عللته منه ، فإن أكن أصبت العلة فهو الذى التمست ، وإن يكن هناك علة غير ما ذكرت فالذى ذكرته محتمل أن يكون علة له ، ومثلى فى ذلك مثل حكيم دخل دارا محكمة البناء ، عجيبة النظم والأقسام ، وقد صحّت عنده حكمة بانيها ، بالخبر الصّادق ، أو البراهين الواضحة ، والحجج اللائحة ، فكلما وقف هذا الرجل الداخل الدار (٢) على شىء منها قال : إنما فعل هذا هكذا لعلة [كذا وكذا] ، ولسبب كذا [وكذا](٣) ، سنحت له وخطرت [بباله] محتملة أن تكون علة لذلك ، فجائز أن يكون الحكيم البانى (٤) للدار ، فعل ذلك للعلة التى ذكرها هذا الذى دخل الدار ، وجائز أن يكون فعله لغير تلك العلة ، إلا أن ما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك (٥) ، فإن سنحت (٦) لغيرى علة لما علّلته (٧) من النحو هى أليق مما ذكرته بالمعلول فليأت بها». وهذا كلام مستقيم وإنصاف من الخليل ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة مدار علل جميع النحو. هذا آخر كلام الزجاجى.

__________________

(١) فى الإيضاح : واعتللت.

(٢) فى الإيضاح : فكلما وقف هذا الرجل فى الدار.

(٣) فى الأصل : «إنما فعل هذا هكذا لعلة وسبب سنحت» الخ ، وهو تحريف والصواب ما ذكرناه ، وانظر : الإيضاح ص ٦٦.

(٤) فى الأصل : الثانى وهو تحريف.

(٥) فى الأصل : كذلك.

(٦) فى الأصل : سخت.

(٧) فى الأصل : علمته.

١٣٦

ذكر مسالك العلة

أحدها : الإجماع

[الإجماع (١)] بأن يجمع أهل العربية على أن علة هذا الحكم : كذا ، كإجماعهم على أن علة تقدير الحركات فى المقصور : التعذر ، وفى المنقوص : الاستثقال.

الثانى : النص

[النص هو] : أن (٢) ينص العربى على العلة ، قال أبو عمر (٣) : وسمعت رجلا من اليمن يقول : «فلان لغوب جاءته كتابى فاحتقرها» فقلت له : أتقول جاءته كتابى؟! فقال : نعم أليس بصحيفة؟

قال ابن جنى : هذا الأعرابى الجلف علل هذا الموضع بهذه (٤) العلة ، واحتج لتأنيث المذكر بما ذكره.

قال : وعن المبرد أنه قال : سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ)(٥) ، فقلت له : ما تريد؟ قال : أردت (سابِقُ النَّهارِ) فقيل له : فهلا قلته؟ قال : لو قلته لكان أوزن.

__________________

(١) انظر الخصائص ج ١ ص ١٨٩.

(٢) فى الأصل : بأن.

(٣) لعله يقصد : أبو عمر الجرمى البصرى صالح بن إسحاق ، وهو قد أخذ النحو عن يونس والأخفش ، وحدث عنه المبرد ، وتوفى سنة ٢٢٥ ه‍.

(٤) فى الأصل : بهذا ، لعلة.

(٥) الآية رقم ٤٠ من سورة يس.

١٣٧

قال ابن جنى : فى هذه الحكاية ثلاثة أغراض لنا :

أحدها : تصحيح قولنا : إن أصل كذا كذا. (١)

والثانى : أنها (٢) فعلت كذا لكذا ، ألا تراه إنما طلب الخفة ، يدل عليه قوله : لكان أوزن ، أى : أثقل فى النفس من قولهم : هذا درهم وازن ، أى : ثقيل له وزن.

والثالث : أنها قد تنطق بالشىء غيره فى نفسها أقوى منه لإيثارها التخفيف.

وقال سيبويه : سمعنا بعضهم يدعو (٣) : اللهم ضبعا وذئبا ، فقلنا له : ما أردت؟ فقال : أردت اللهم اجمع فيها ضبعا وذئبا ، كلهم يفسر ما ينوى فهذا تصريح منهم بالعلة ، انتهى.

الثالث : الإيماء

[الإيماء هو] كما روى أن قوما من العرب أتوا النبى صلّى الله عليه وسلّم فقال : من أنتم؟ فقالوا : نحن بنو غيّان (٤) ، فقال : أنتم بنو رشدان.

قال ابن جنى (٥) : أشار إلى أن الألف والنون زائدتان ، وإن كان (٦)

__________________

(١) فى الأصل : كذا وكذا.

(٢) أى العرب.

(٣) أى يدعو على غنم رجل.

(٤) حى من جهينة منهم كعب بن حمار ممن شهد بدرا ، وقد غير الرسول الكريم هذا اللفظ من الغى إلى الرشد.

(٥) انظر : الخصائص ج ١ ص ٢٥٠.

(٦) أى النبى صلّى الله عليه وسلّم.

١٣٨

لم يتفوّه بذلك ، غير أن اشتقاقه إياه من الغى بمنزلة قولنا نحن : إن الألف والنون فيه زائدتان.

ومن ذلك أيضا ما حكاه غير واحد : أن الفرزدق حضر مجلس ابن أبى إسحاق ، فقال له : كيف تنشد هذا البيت :

وعينان قال الله كونا فكانتا

فعولان بالألباب ما تفعل الخمر (١)

فقال الفرزدق : كذا أنشد ، فقال ابن أبى إسحاق : ما كان عليك لو قلت : فعولين؟! فقال الفرزدق : لو شئت أن أسبّح (٢) لسبّحت ، ونهض فلم يعرف أحد من المجلس ما أراد

قال ابن جنى : لو نصب لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما أن تفعلا ذلك ، وإنما أرادهما تفعلان [بالألباب ما تفعل الخمر] ، وكان هنا تامة غير محتاجة إلى الخبر ، فكأنه قال : وعينان قال الله : احدثا فحدثتا ، انتهى. فكان ذلك من الفرزدق إيماء إلى العلة.

__________________

(١) فى حاشية الخصائص ج ٣ ص ٣٠٢ قال : وفى مجالس كاتب ابن حنزابة كتب فى الهامش على هذا البيت : «حاشية : هذا البيت لذى الرمة ، وسؤال الفرزدق عنه غلط فيما أحسب» ثم قال : وهذا لا بعد فيه ، فقد كان ذو الرمة والفرزدق متعاصرين ، وكان ذو الرمة معروفا بالشعر فى زمن الفرزدق ، وهذا البيت قبله :

لها بشر مثل الحرير ومنطق

رخيم الحواشى لا هراء ولا نزر

(٢) فى الخصائص : تسبح.

١٣٩

الرابع : السبر والتقسيم

[السبر (١) والتقسيم] : أن (٢) يذكر الوجوه المحتملة ثم يسبرها ، أى يختبر ما يصلح وينفى ما عداه بطريقه

قال ابن جنى (٣) : مثاله إذا سئلت عن وزن مروان ، فتقول : لا يخلو إما أن يكون «فعلان» أو «مفعالا» أو «فعوالا» ، هذا ما محتمله ، ثم تفسد كونه مفعالا ، أو فعوالا : بأنهما مثالان لم يجيئا ، فلم يبق إلا «فعلان»

قال ابن جنى : وليس لك أن تقول فى التقسيم : ولا يجوز أن يكون «فعوان» [أو] «مفوالا» أو نحو ذلك ، لأن هذه ونحوها أمثلة ليست موجودة أصلا ، ولا قريبة من الموجودة (٤) ، بخلاف «مفعال» فإنه ورد قريب منه وهو «مفعال» بالكسر كمحراب ، و «فعوال» ورد قريب منه ، وهو «فعوال» بالكسر كقرواش (٥) ، وكذلك تقول فى مثل «أيمن» من قوله :

* يبرى لها من أيمن وأشمل (٦) *

__________________

(١) السبر : معناه الاختبار

(٢) فى الأصل : بأن

(٣) انظر الخصائص ج ٣ ص ٦٧ ـ ٦٨

(٤) فى الأصل : الوجود ، وما صوبناه مطابق للخصائص

(٥) القرواش : الطفيلى

(٦) يبرى لها : يعارضها ، والبيت لأبى النجم العجلى يصف الراعى يعارض الإبل من أيمن وأشمل ، والبيت من أرجوزة أولها :

* الحمد لله الوهوب المجزل*

١٤٠