جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
المحقق: الدكتور أحمد محمّد قاسم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: نشر أدب الحوزة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٣٠
[المسألة] الرابعة
[فى أقسام القياس]
القياس فى العربية على أربعة أقسام (١) :
حمل فرع على أصل ، وحمل أصل على فرع ، وحمل نظير على نظير ، وحمل ضد على ضد.
وينبغى أن يسمى الأول والثالث : قياس المساوى.
والثانى : قياس الأولى.
والرابع : قياس الأدون (٢).
فمن أمثلة الأول : إعلال الجمع وتصحيحه حملا على المفرد ، فمن ذلك قولهم : قيم وديم فى : قيمة وديمة ، وزوجة وثورة فى : زوج وثوّر.
ومن أمثلة الثانى : إعلال المصدر لإعلال فعله ، وتصحيحه لصحته ، كقمت قياما ، وقاومت قواما.
وفى الخصائص (٣) : من حمل الأصل على الفرع تشبيها له فى المعنى الذى أفاده ذلك الفرع ، من ذلك الأصل تجويز سيبويه فى قولك : هذا الحسن الوجه ،
__________________
(١) انظر الخصائص ج ١ ص ٣٠٠ تحت عنوان : باب من غلبه الفروع على الأصول.
(٢) قال فى اللسان مادة «دون» : «دون : الحقير الخسيس ، وقال ابن جنى : «فى شىء دون» ـ ذكره فى كتابه الموسوم ب «المعرب» وكذلك أقل الأمرين وأدونهما ، فاستعمل منه «أفعل» وهذا بعيد لأنه ليس له فعل فتكون هذه الصيغة مبنية منه ، وإنما تصاغ هذه الصيغة من الأفعال ، كقولك : أوضع منه» الخ.
(٣) انظر الخصائص ج ١ ص ١١٢ و ٣٠٣ ، والعبارة هنا ملخصة.
أن يكون الجر فى الوجه تشبيها بالضارب الرجل ، الذى إنما جاز فيه الجر تشبيها بالحسن الوجه.
قال : فإن قيل : وما الذى سوغ لسيبويه هذا وليس مما رواه عن العرب ، وإنما هو شىء رآه وعلل به؟
قيل : يدل على صحته ، ما عرف من أن العرب إذا شبهت شيئا بشىء مكنت ذلك الشبه الذى لهما وعمرت (١) به الحال بينهما ، ألا تراهم لما شبهوا المضارع بالاسم فأعربوه ، تمموا ذلك المعنى بينهما ، بأن شبهوا اسم الفاعل بالفعل فاعملوه ، ولما شبهوا الوقف بالوصل فى نحو قولهم : «عليه السّلام والرحمت» ، وقوله :
* الله نجّاك بكّفى مسلمت (٢) *
كذلك أيضا شبهوا الوصل بالوقف فى قولهم : سب سبّا ، وكل كلّا (٣) ، وكما أجروا غير اللازم مجرى اللازم فى قوله :
__________________
(١) قال فى اللسان : «عمره : أبقاه» فعمرت : أبقت.
(٢) هذا شطر بيت لأبى النجم استشهد به فى الشافية ، وانظر الخزانة ج ٢ ص ١٤٨ ، وأنشده ابن جنى كما يلى :
الله نجاك بكفى مسلمت |
|
من بعد ما وبعد ما وبعدمت |
صارت نفوس القوم عند الغلصمت |
|
وكادت الحرة أن تدعى أمت |
(٣) فى الخصائص ج ١ ص ٣٠٥ : «سبسبا ، وكلكلا» وفى الحاشية علق عليه بقوله : أى لو جريا فى الشعر ، ومن الأول قوله :
* تترك ما أبقى الدبى سبسبا*
والدبى : الجراد ، والسبسب : القفر والمفازة. ومن الثانى قوله :
كأن مهواها على الكلكل |
|
وموقعها من ثفنات زل |
* فقلت أهى سرت أم عادنى حلم (١) *
وقوله :
* ومن يتّق فإنّ الله معه (٢) *
كذلك أجروا اللازم مجرى غيره فى قوله تعالى : (عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٣) فأجرى النصب مجرى الرفع ، الذى لا تلزم فيه الحركة ، ومجرى الجزم ، الذى لا يلزم فيه الحرف أصلا ، وكما حمل النصب على الجر فى المثنى والجمع ، حمل الجر على النصب فى ما لا ينصرف ، وكما شبهت الياء بالألف فى قوله :
* كأنّ أيديهنّ بالقاع القرق (٤) *
__________________
موقع كفى راهب يصلى |
|
فى غبش الصبح والتجلى |
يصف ناقة ، والكلكل : الصدر ، والثفنات : جمع الثفنة ، وهو ما يقع على الأرض من أعضاء الإبل ، وزل : خفاف.
(١) هذا عجز بيت صدره :
* فقمت للطيف مرتاعا وأرقنى*
والبيت لزياد بن حمل من قصيدة طويلة فى الحماسة ، وانظر الخزانة ج ٢ ص ٣٩١.
(٢) هذا صدر بيت عجزه :
* ورزق الله مؤتاب وغادى*
وقال فى اللسان مادة أوب : والمآب : المرجع وأتاب مثل آب ، وافتعل بمعنى وأنشد البيت ، وانظر شواهد الشافية ٢٢٨.
(٣) الآية رقم ٤٠ من سورة القيامة.
(٤) هذا صدر بيت عجزه :
* أيدى نساء يتعاطين الورق*
والشاعر يصف إبلا مسرعة ، والقرق : المكان المستوى لا حجارة فيه ، والورق : الدراهم ، والبيت منسوب إلى رؤبة ، وانظر الخزانة ج ٣ ص ٥٢٩ وأمالى ابن الشجرى ج ١ ص ١٠٥.
وحملت الألف على الياء فى قوله :
* ولا ترضّاها ولا تملّق (١) *
وكما وضع الضمير المنفصل موضع المتصل فى قوله :
* قد ضمنت إياهم الأرض (٢) *
ووضع المتصل موضع المنفصل فى قوله :
* إلاك ديار (٣) *
فلما رأى سيبويه العرب إذا شبهت شيئا بشىء ، فحملته على حكمه ، عادت أيضا فحملت الآخر على حكم صاحبه ـ تثبيتا لهما وتتميما لمعنى الشبه بينهما ـ حكم أيضا بأن الحسن الوجه محمول على الضارب الرجل ، ولما كان النحاة بالعرب لاحقين ، وعلى سمتهم آخذين ، جاز لهم أن يروا فيه نحو ما رأوا ، ويحذوا على أمثلتهم التى حذوا.
قال : ومن حمل الأصل على الفرع : حذف الحروف للجزم وهى أصول ،
__________________
(١) هذا عجز بيت صدره :
* إذا العجوز غضبت فطلق*
وأنشده أبو زيد ، ونسبه العينى إلى رؤبة ، انظر شواهد المعرب والمبنى
(٢) العبارة جزء من بيت هو :
بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت |
|
إياهم الأرض فى دهر الدهارير |
ونسبه ابن جنى لأمية ، وقال العينى ـ فى شواهد الضمير ـ : «قاله الفرزدق فى مدح يزيد بن عبد الملك ، وما قيل إنه لأمية بن الصلت غير صحيح» وبعده :
لو لم يبشر به عيسى وبينه |
|
كنت النبى الذى يدعو إلى النور |
(٣) هذا جزء من بيت أنشده الفراء ، ولم يعزه إلى أحد ، والبيت هو :
فما نبالى إذا ما كنت جارتنا |
|
ألا يجاونا إلاك ديار |
حملا على حذف الحركات له وهى زوائد ، وحمل الاسم على الفعل فى منع الصرف ، وعلى الحرف فى البناء ، وهو أصل عليهما (١) ، وحمل ليس وعسى فى عدم التصرف على ما ولعل ، كما حملت ما على ليس فى العمل (٢) ، انتهى.
وفى «التذكرة» لأبى حيان ذكر بعضهم : أنه إنما اشترط اتحاد الزمان فى عطف الفعل على الفعل ، لأن العطف نظير التثنية ، فكما لا يجوز تثنية المختلفين ، لا يجوز عطف المختلفين فى الزمان.
قال أبو حيان : وهذا من حمل الأصل على الفرع لأن العطف أصل التثنية إلا أن يدعى أنه فى الفعل نظير التثنية فى الاسم.
وأما الثالث : فالنظير إما فى اللفظ ، أو فى المعنى ، أو فيهما.
فمن أمثلة الأول زيادة «إن» بعد ما المصدرية الظرفية ، والموصولة ، لأنهما بلفظ ما النافية ، ودخول لام الابتداء على ما النافية ، حملا لها فى اللفظ على ما الموصولة ، وتوكيد المضارع بالنون بعد لا النافية حملا لها فى اللفظ على الناهية ، وحذف فاعل أفعل به فى التعجب ، لما كان مشبها لفعل الأمر فى اللفظ ، وبناء باب «حذام» على الكسر تشبيها له بدراك وتراك ، وبناء حاشا الاسمية لشبهها فى اللفظ بحاشا الحرفية. ومنها إدغام الحرف فى مقاربه فى المخرج.
__________________
(١) لعله يقصد بقوله «أصل عليهما» : أن الاسم محمول على الفعل فى منع الصرف وعلى الحرف فى البناء ، وهذه العبارة لم ترد فى كلام ابن جنى.
(٢) ما ذكره السيوطى تلخيص لكلام ابن جنى فى الخصائص ج ١ من ص ٣٠٣ إلى ص ٣١١ ، ولقد ختم ابن جنى عبارته بقوله : «فهذا ونحوه يدلك على قوة تداخل اللغة وتلاحمها ، واتصال أجزائها وتلاحقها ، وتناسب أوضاعها ، وأنها لم تقتعث اقتعاثا ، ولا هيلت هيلا ، وأن واضعها عنى بها وأحسن جوارها ، وأمد بالإصابة والأصالة فيها».
ومن أمثلة الثانى : جواز «غير قائم الزيدان» ، حملا على ما قام الزيدان ، لأنه فى معناه ، ولو لا ذلك لم يجز ، لأن المبتدأ : إما أن يكون ذا خبر ، أو ذا مرفوع يغنى عن الخبر ، ومنها إهمال أن المصدرية مع المضارع حملا على ما المصدرية.
ومن أمثلة الثالث : اسم التفضيل وأفعل فى التعجب ، فإنهم منعوا أفعل التفضيل أن يرفع الظاهر لشبهه بأفعل فى التعجب وزنا وأصلا ، وإفادة للمبالغة ، وأجازوا تصغير أفعل فى التعجب لشبهه بأفعل التفضيل فى ذلك.
قال الجوهرى : ولم يسمع تصغيره إلا فى أملح (١) وأحسن ، ولكن النحويون قاسوه فيما عداهما.
وأما الرابع : فمن أمثلته النصب بلم ، حملا على الجزم بلن ، فإن الأولى لنفى الماضى ، والثانية لنفى المستقبل.
وفى الجزولية : قد يحمل الشىء على مقابله ، وعلى مقابل مقابله ، وعلى مقابل مقابل مقابله.
مثال الأول : لم يضرب الرجل ، حمل الجزم على الجر.
__________________
(١) مثاله البيت الذى اختلف فى نسبته : هل هو للعرجى ، أو لكامل الثقفى ، أو لعلى بن محمد العرينى؟ وهو قوله :
يا ما أميلح غزلانا شدن لنا |
|
من هؤليائكن الضال والسمر |
وقيل : إنه لمجنون بنى عامر ، وبعده :
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا |
|
ليلاى منكن أم ليلى من البشر |
وانظر التعريف بفن التصريف لفضيلة الأستاذ الدكتور عبد العظيم الشناوى.
ومثال الثانى : اضرب الرجل ، حمل الجزم فيه (١) على الكسر الذى هو مقابل الجر ، من جهة أن الكسر فى البناء : مقابل الجر فى الإعراب.
ومثال الثالث : اضرب : الرجل ، حمل السكون فيه على الكسر ، الذى هو مقابل للجر ، الذى هو مقابل للجزم ، والجزم مقابل للسكون.
[المسألة الخامسة]
[تعدد الأصول]
اختلف هل يجوز تعدد الأصول المقيس عليها لفرع واحد؟
والأصح نعم ، ومن أمثلة ذلك «أىّ» فى الاستفهام والشرط ، فإنها أعربت حملا على نظيرتها بعض ، وعلى نقيضها كل.
__________________
(١) الامام السيوطى فيما نقله من الجزولية يوافق رأى الكوفيين ، فى أن فعل الأمر المعرى عن حرف المضارعة نحو : افعل «معرب مجزوم» لأن أفعل أصله لتفعل عندهم ؛ وانظر المسألة رقم ٧٢ من الانصاف فى مسائل الخلاف.
الفصل الثانى
فى المقيس وهل يوصف بأنه من كلام العرب أم لا؟
قال المازنى : ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب (١).
قال : ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيرك اسم كل فاعل ولا مفعول ، وإنما سمعت البعض ، فقست عليه غيره ، فإذا سمعت «قام زيد» أجزت : «ظرف بشر» و «كرم خالد».
قال أبو على : وكذلك يجوز أن تبنى بإلحاق اللام ما شئت ، كقولك : خرجج ، ودخلل ، وضربب ، من خرج ، ودخل ، وضرب ، على مثال : شملل ، وصعرر.
قال ابن جنى : وكذلك تقول فى مثال «صمحمح» [و] من الضّرب «ضربرب» ومن القتل «قتلتل» ومن الشرب «شربرب» ومن الخروج «خرجرج» وهو من العربية بلا شك ، وإن لم تنطق العرب بواحد من هذه الحروف.
قال : فإن قيل : فقد منع الخليل لما أنشد :
* ترافع العزّ بنا فارفنععا (٢) *
__________________
(١) عبارة ابن جنى فى الخصائص ج ١ ص ١١٤ «واعلم أن من قوة القياس عندهم ، اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو عندهم من كلام العرب» وذكر ما يفيد هذا المعنى أيضا فى ج ١ ص ٣٦٠.
(٢) أورده ابن جنى فى «باب أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب» ج ١ ص ٣٦٠ ، وكذلك فى باب «سقطات العلماء» ج ٣ ص ٢٩٨ ، وقيل : إنه لرجل أنشده للخليل.
قياسا على قول العجاج :
* تقاعس العزّ بنا فاقعنسسا (١) *
فدل على امتناع القياس فى مثل هذه الأبنية.
فالجواب أنه إنما أنكر ذلك لأنه فيما لامه حرف حلقىّ ، والعرب لم تبن هذا المثال مما لامه حرف حلق ، خصوصا وحرف الحلق فيه متكرر ، وذلك مستنكر عندهم ، مستثقل (٢).
قال : فثبت إذن أن كل ما قيس على كلامهم فهو من كلامهم ، ولهذا قال من قال فى العجاج ورؤبة أنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها ، وأقدما على ما لم يأت به من قبلهما.
قال : وذكر أبو بكر أن منفعة الاشتقاق لصاحبه أن يسمع الرجل اللفظة فيشك فيها ، فإذا رأى الاشتقاق قابلا لها أنس بها وزال استيحاشه منها ، وهذا تثبيت اللغة بالقياس.
وقال فى موضع آخر من الخصائص (٣) : من قوة القياس عندهم : اعتقاد النحويين أن ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم ، نحو قولك فى بناء مثل
__________________
(١) شطر بيت للعجاج ، وقد استشهد به ابن جنى فى الخصائص ج ١ ص ٣٦٠ ـ ٣٦١ ، وج ٣ ص ٢٩٨.
(٢) اختصر السيوطى جواب ابن جنى عن الاعتراض السابق فذكر وجها واحدا من أربعة وجوه باعتباره ألطف الأوجه كما قال ابن جنى ، وانظر الخصائص ج ١ ص ٣٦١ ـ ٣٦٢.
(٣) انظر الخصائص ج ١ ص ١١٤. والعبارة ليست بنصها.
«جعفر» من ضرب «ضريب» ، وهذا من كلام العرب ولو بنيت منه «ضورب» أو «ضيرب» لم يكن من كلام العرب لأنه قياس على الأقل استعمالا والأضعف قياسا ، انتهى.
الفصل الثالث
فى الحكم
[الحكم] فيه مسألتان :
الأولى : إنما يقاس على حكم ثبت استعماله عن العرب.
وهل يجوز أن يقاس على ما ثبت بالقياس والاستنباط؟
ظاهر كلامهم : نعم.
وقد ترجم عليه فى الخصائص «باب الاعتلال بأفعالهم» : (١).
قال : من ذلك أن تقول : إذا كان اسم الفاعل على قوة تحمله للضمير ، حتى جرى على غير من هو له ـ صفة ، أو صلة ، أو حالا ، أو خبرا ـ لم يتحمل الضمير ، فما ظنك بالصفة المشبهة باسم (٢) الفاعل ، فإن الحكم الثابت للمقيس عليه ، إنما هو بالاستنباط والقياس على الفعل الرافع للظاهر ، حيث لا تلحقه العلامات.
__________________
(١) انظر : الخصائص ج ١ ص ١٨٦ ؛ ولقد لخص السيوطى هنا كلام ابن جنى.
(٢) فى الاصل : بالاسم ؛ وما صوبناه مطابق لما فى الخصائص.
الثانية :
قال ابن الأنبارى (١) : اختلف فى القياس على الأصل المختلف فى حكمه.
فأجازه قوم ، لأن المختلف فيه إذا قام الدليل عليه ، صار بمنزلة المتفق عليه ، ومنعه آخرون لأن المختلف فيه فرع لغيره ، فكيف يكون أصلا؟
وأجيب بأنه يجوز أن يكون فرعا لشىء أصلا لشىء آخر ، فإن اسم الفاعل فرع على الفعل فى العمل وأصل للصفة المشبهة.
وكذلك «لات» فرع على «لا» ، و «لا» فرع على «ليس» ، فلا أصل للات ، وفرع على ليس ، ولا تناقض فى ذلك لاختلاف الجهة.
ومن أمثلة القياس على [الأصل] المختلف فيه : أن تستدل على أن «إلا» تنصب المستثنى ، فتقول : [إلا] حرف قام مقام فعل يعمل النصب ، فوجب أن يعمل النصب ك «يا» فى النداء ، فإن إعمال «يا» فى النداء مختلف فيه ، فمنهم من قال : إنه العامل ، ومنهم من قال : فعل مقدر.
__________________
(١) انظر : لمع الأدلة ، الفصل العشرون ، وكلام السيوطى هنا تلخيص لكلام الأنبارى ؛ وفيه تقديم وتأخير ، ولقد ذكر الأنبارى هذا تحت عنوان «فى الأصل الذى يرد إليه الفرع إذا كان مختلفا فيه».
الفصل الرابع
فى العلة ، وفيها مسائل
[المسألة] الأولى
قال صاحب المستوفى : إذا استقريت أصول هذه الصناعة : علمت أنها فى غاية (١) الوثاقة ، وإذا تأملت عللها : عرفت أنها غير مدخولة ولا متسمّح (٢) فيها.
وأما ما ذهب إليه غفلة العوام : من أن علل النحو تكون واهية ومتمحلة (٣).
واستدلالهم على ذلك بأنها أبدا تكون هى تابعة للوجود لا الوجود تابعا لها ، فبمعزل عن الحق.
وذلك أن هذه الأوضاع والصيغ ، وإن كنا نحن نستعملها ، فليس ذلك على سبيل الابتداء والابتداع ، بل على وجه الاقتداء والاتباع ، ولا بد فيها من التوقيف ، فنحن إذا صادفنا الصيغ المستعملة والأوضاع بحال من الأحوال ، وعلمنا أنها كلها أو بعضها من وضع واضع حكيم جل وعلا : تطلبنا بها وجه الحكمة المخصصة لتلك الحال من بين أخواتها ، فإذا حصلنا عليه ، فذلك غاية المطلوب.
__________________
(١) فى الأصل : عاية.
(٢) فى اللسان : تسمح : فعل شيئا فسهل فيه.
(٣) متمحلة : متكلفة.
وقال ابن جنى فى الخصائص (١) : اعلم أن علل النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين ، وذلك أنهم إنما يحيلون على الحسّ ، ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفّتها على النفس ، وليس كذلك علل الفقه (٢) ، لأنها إنما هى أعلام وامارات لوقوع الأحكام ، وكثير منه لا يظهر فيه وجه الحكمة كالأحكام التعبدية ، بخلاف النحو فإن كله أو غالبه مما تدرك علته ، وتظهر حكمته.
قال سيبويه (٣) : وليس شىء مما يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها (٤) ، انتهى.
نعم ، قد لا يظهر فيه وجه الحكمة ، قال بعضهم : إذا عجز الفقيه عن تعليل الحكم قال : هذا تعبدى ، وإذا عجز النحوى عنه قال : هذا مسموع.
وفى موضع آخر من الخصائص : لا شك أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها ألا ترى إلى اطراد رفع الفاعل ، ونصب المفعول ،
__________________
(١) انظر : الخصائص ج ١ ص ٤٨ و ٥٣ و ١٤٤ ، والمؤلف نقل كلام ابن جنى ملخصا.
(٢) قال ابن جنى : «فجميع علل النحو إذا مواطئة للطباع ، وعلل الفقه لا ينقاد جميعها هذا الانقياد ، فهذا فرق» وانظر ج ١ ص ٥١ من الخصائص.
(٣) انظر كتاب سيبويه ج ١ ص ١٣ ، وعبارته : «ومعنى الكاف معنى مثل ، وليس شىء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها وما يجوز فى الشعر أكثر من أن أذكره لك ها هنا».
(٤) وعلق ابن جنى على ذلك بقوله : «وهذا أصل يدعو إلى البحث عن علل ما استكرهوا عليه ، نعم ويأخذ بيدك إلى ما وراء ذلك فتستضىء به» ، وانظر : الخصائص ج ١ ص ٥٣ ـ ٥٤
والجر بحروفه ، والنصب بحروفه ، والجزم بحروفه ، وغير ذلك من التثنية ، والجمع ، والإضافة ، والنسب ، والتحقير ، وما يطول شرحه.
فهل يحسن بذى لب أن يعتقد أن هذا كله اتفاق وقع ، وتوارد اتجه؟
فإن قلت : فلعله شىء طبعوا عليه من غير اعتقاد لعلة ، ولا لقصد من القصود التى تنسبها إليهم ، بل لأن آخر منهم حذا على ما نهج للأول فقام به.
قيل : إن الله إنما هداهم لذلك وجبلهم عليه لأن فى طباعهم قبولا له ، وانطواء على صحة الوضع فيه ، ونراهم قد اجتمعوا على هذه اللغة ، وتواردوا عليها.
فإن قلت (١) : كيف تدّعى الاجتماع وهذا اختلافهم موجود ظاهر ، ألا ترى إلى الخلاف فى «ما» الحجازية والتميمية إلى غير ذلك؟
قيل : هذا القدر والخلاف لقلته محتقر غير محتفل به ، وإنما هو فى شىء من الفروع يسير ، فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور : فلا خلاف فيه ، وأيضا فإن أهل كل واحدة من اللغتين عدد كثير ، وخلق عظيم ، وكل منهم محافظ على لغته ، لا يخالف شيئا منها ، فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ، ويقتاسون ، ولا يفرطون ، ولا يخلطون؟
ومع هذا فليس شىء من مواضع الخلاف على قلته إلا وله وجه من القياس يؤخذ به ، ولو كانت هذه اللغة حشوا (٢) مكيلا ، وحثوا (٣) مهيلا : لكثر
__________________
(١) لقد تصرف السيوطى فى عبارة ابن جنى ، وانظر الخصائص ج ١ ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤.
(٢) فى الأصل : حسوا ، وهو تحريف ، والحشو من الكلام : الفضل الذى لا يعتمد عليه ، وقال : حشوا مكيلا ؛ فوصف الحشو بالمكيل ؛ ليبين أنه ليس مما يتنافس فيه ؛ فيوزن كالذهب. و «حشوا» : مطابق لكلام ابن جنى فى الخصائص.
(٣) فى الأصل : حشوا ، وما ذكرناه مطابق لما جاء فى الخصائص ، والحشو : قال فى اللسان : حثوت التراب حثوا ، وأراد هنا ما يحشى ويثار كالتراب والرمل.
خلافها وتعادت أوصافها ، فجاء عنهم جر الفاعل ، ورفع المضاف إليه ، والنصب بحروف الجزم ، وأيضا فقد ثبت عنهم التعليل فى مواضع نقلت عنهم كما سيأتى.
[المسألة] الثانية
[فى أقسام العلل]
قال أبو عبد الله الحسين بن موسى الدينورى الجليس (١) فى كتابه «ثمار الصناعة» : اعتلالات النحويين صنفان :
علة تطرد على كلام العرب ، وتنساق إلى قانون لغتهم.
وعلة تظهر حكمتهم ، وتكشف عن صحة أغراضهم ومقاصدهم فى موضوعاتهم.
وهم للأولى أكثر استعمالا ، وأشد تداولا ، وهى واسعة الشعب إلا أن مدار المشهورة منها على أربعة وعشرين نوعا.
وهى : علّة سماع ، وعلة تشبيه ، وعلة استغناء ، وعلة استثقال ، وعلة فرق ، وعلة توكيد ، وعلة تعويض ، وعلة نظير ، وعلة نقيض ، وعلة حمل على المعنى ، وعلة مشاكلة ، وعلة معادلة ، وعلة قرب ومجاورة ، وعلة وجوب ، وعلة جواز ، وعلة تغليب ، وعلة اختصار ، وعلة تخفيف ، وعلة دلالة حال ، وعلة أصل ، وعلة تحليل ، وعلة إشعار ، وعلة تضاد ، وعلة أولى.
وشرح ذلك التاج ابن مكتوم فى تذكرته فقال : قوله علة سماع مثل قولهم : «امرأة ثدياء» ، ولا يقال : «رجل أثدى» ، ليس لذلك علة سوى السماع.
__________________
(١) أكثر أبو حيان فى «التذكرة» من النقل عنه ، وذكره الشيخ مجد الدين فى «البلغة» فقال : له كتاب ثمار الصناعة فى النحو ؛ وانظر بغية الوعاة ج ١ ص ٥٤١
وعلة تشبيه مثل : إعراب المضارع لمشابهته الاسم ، وبناء بعض الأسماء لمشابهتها الحروف.
وعلة استغناء : كاستغنائهم بترك عن ودع.
وعلة استثقال : كاستثقالهم الواو فى يعد ، لوقوعها بين ياء وكسرة.
وعلة فرق : وذلك فيما ذهبوا إليه من رفع الفاعل ، ونصب المفعول ، وفتح نون الجمع ، وكسر نون المثنى.
وعلة توكيد مثل : إدخالهم النون الخفيفة والثقيلة فى فعل الأمر لتأكيد إيقاعه.
وعلة تعويض مثل : تعويضهم الميم فى اللهم من حرف النداء.
وعلة نظير مثل : كسرهم أحد الساكنين إذا التقيا فى الجزم ، حملا على الجر إذ هو نظيره.
وعلة نقيض مثل : نصبهم النكرة ب «لا» حملا على نقيضها «إنّ».
وعلة حمل على المعنى مثل : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ)(١) ذكّر فعل الموعظة وهى مؤنثة حملا لها على المعنى وهو الوعظ.
وعلة مشاكلة مثل قوله : (سَلاسِلَ وَأَغْلالاً)(٢).
وعلة معادلة مثل : جرهم ما لا ينصرف بالفتح حملا على النصب ، ثم عادلوا بينهما ، فحملوا النصب على الجر فى جمع المؤنث السالم.
وعلة مجاورة مثل : الجر بالمجاورة فى قولهم «جحر ضب خرب» ، وضم لام لله فى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لمجاورتها الدال.
__________________
(١) الآية رقم ٢٧٥ من سورة البقرة
(٢) الآية رقم ٤ من سورة الإنسان
وعلة وجوب : وذلك تعليلهم لرفع (١) الفاعل ونحوه.
وعلة جواز : وذلك ما ذكروه فى تعليل الإمالة من الأسباب المعروفة ، فإن ذلك علة لجواز الإمالة فيما أميل لا لوجوبها.
وعلة تغليب مثل : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)(٢).
وعلة اختصار مثل : باب الترخيم و (لَمْ يَكُ)(٣).
وعلة تخفيف : كالإدغام.
وعلة أصل : كاستحوذ ، ويؤكرم ، وصرف ما لا ينصرف.
وعلة أولى كقولهم : إن الفاعل أولى برتبة التقديم من المفعول.
وعلة دلالة حال : كقول المستهلّ : الهلال ، أى : هذا الهلال ، فحذف لدلالة الحال عليه.
وعلة إشعار : كقولهم فى جمع موسى : موسون ، بفتح ما قبل الواو إشعارا بأن المحذوف ألف.
وعلة تضاد مثل : قولهم فى الأفعال التى يجوز إلغاؤها متى تقدمت وأكدت بالمصدر أو بضميره ، لم تلغ لما بين التأكيد والإلغاء من التضاد.
قال ابن مكتوم : وأما علة التحليل : فقد اعتاص (٤) علىّ شرحها وفكّرت فيها أياما فلم يظهر لى فيها (٥) شىء.
__________________
(١) فى الأصل : برفع.
(٢) الآية رقم ١٢ من سورة التحريم.
(٣) الآية رقم ١٢٠ من سورة النحل.
(٤) قال فى اللسان : اعتاص على هذا الأمر : إذا التاث عليه فلم يهتد لجهة الصواب فيه ، والعويص من الشعر : ما يصعب استخراج معناه.
(٥) فى الأصل : فيه.
وقال الشيخ شمس الدين بن الصائغ : قد رأيتها مذكورة فى كتب المحققين. كابن الخشاب البغدادى ، حاكيا لها عن السلف فى نحو الاستدلال على اسمية «كيف» بنفى حرفيتها ؛ لأنها مع الاسم كلام ، ونفى فعليتها : لمجاورتها الفعل بلا فاصل ، فتحلل عقد شبه خلاف المدعى ، انتهى.
وأما الصنف الثانى : فلم يتعرض له الجليس (١) ولا بيّنه.
وقد بينه ابن السراج فى الأصول فقال : اعتلالات النحويين ضربان :
ضرب منها هو المؤدى إلى كلام العرب كقولنا : كل فاعل مرفوع ، وكل مفعول منصوب.
وضرب يسمى علة العلة ، مثل أن يقولوا : لم صار الفاعل مرفوعا ، والمفعول منصوبا؟ وهذا ليس يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب ، وإنما يستخرج منه حكمتها فى الأصول التى وضعتها ، ويتبين به فضل هذه اللغة على غيرها.
وقال ابن جنى فى الخصائص (٢) : هذا الذى سماه علة العلة إنما هو تجوز فى اللفظ ، فأما فى الحقيقة فإنه شرح وتفسير وتتميم للعلة.
ألا ترى أنه إذا قيل : فلم ارتفع الفاعل؟
قال : لإسناد الفعل إليه ، ولو شاء لابتدأ هذا فقال فى جواب رفع زيد
__________________
(١) المراد به : أبو عبد الله الدينورى.
(٢) انظر : الخصائص ج ١ ص ١٧٣.
من قولنا «قام زيد» : إنما ارتفع لإسناد الفعل إليه ، فكان مغنيا عن قوله : إنما ارتفع لأنه فاعل (١) حتى يسأل فيما بعد عن العلة التى لها رفع الفاعل.
[المسألة] الثالثة
[فى العلل الموجبة وغيرها]
قال فى الخصائص (٢) : أكثر العلل مبناها على «الإيجاب» بها ، كنصب الفضلة أو ما شابهها ، ورفع العمدة ، وجر المضاف إليه (٣) وغير ذلك ، وعلى هذا مفاد (٤) كلام العرب.
وضرب آخر يسمى علة ، وإنما (٥) هو فى الحقيقة «سبب» يجوّزه ولا يوجبه (٦) ، من ذلك أسباب الإمالة فإنها علة الجواز ، لا الوجوب ، وكذا علة قلب واو وقتت همزة ، وهى كونها انضمت ضما لازما ، فإنها مع ذلك يجوز إبقاؤها واوا ، فعلّتها مجوّزة لا موجبة.
قال : وهكذا كل موضع جاز فيه إعرابان فأكثر ، كالذى يجوز جعله بدلا
__________________
(١) عبارة ابن جنى : «إنما ارتفع بفعله ، حتى تسأله فيما بعد عن العلة التى ارتفع لها الفاعل ، وهذا هو الذى أراده المجيب بقوله : ارتفع بفعله ، أى بإسناد الفعل إليه» ، وانظر المرجع السابق
(٢) انظر الخصائص ج ١ ص ١٦٤
(٣) فى الأصل : ليه
(٤) قال ابن علان فى شرح الاقتراح : «مفاد بضم الميم أى إفادة» وفى الخصائص «مقاد» بالقاف بفتح الميم والقاف ، ولعل فيها تحريف
(٥) فى الأصل : «وإنها» ، وما صوبناه مطابق لما جاء فى الخصائص.
(٦) فى الخصائص : «سبب يجوز ولا يوجب» وانظر ج ١ ص ١٦٤.
وحالا ، وذلك النكرة بعد معرفة هى فى المعنى (١) هى ، نحو مررت بزيد رجل صالح ، ورجلا صالحا ، فإن علته : لجواز ما جاز لا لوجوبه ، انتهى.
فظهر بهذا الفرق بين العلة والسبب ، وأن ما كان موجبا يسمى : علة ، وما كان مجوّزا يسمى : سببا.
وقال فى موضع آخر : اعلم أن محصول مذهب أصحابنا ، ومنصرف أقوالهم مبنى على جواز تخصيص العلل ، فإنها وإن تقدمت علل الفقه ، فأكثرها يجرى مجرى التخفيف والفرق ، فلو تكلّف متكلّف نقضها لكان ذلك ممكنا ، وإن كان على غير قياس مستثقلا ، كما لو تكلف (٢) تصحيح فاء ميزان وميعاد ، ونصب الفاعل ، ورفع المفعول ، وليست كذلك علل المتكلمين ، لأنها لا قدرة على غيرها (٣) ، فإذن علل النحويين متأخرة عن علل المتكلمين ، متقدمة علل المتفقهين.
__________________
(١) عبارة ابن جنى فى الخصائص أوضح مما ذكر هنا حيث قال : «ومن علل الجواز أن تقع النكرة بعد المعرفة التى يتم الكلام بها ، وتلك النكرة هى المعرفة فى المعنى ، فتكون حينئذ مخيرا فى جعلك تلك النكرة ـ إن شئت ـ حالا ، وـ إن شئت ـ بدلا ، فتقول : «مررت بزيد رجل صالح» على البدل ، وإن شئت قلت : «مررت بزيد رجلا صالحا» على الحال ، أفلا ترى كيف كان وقوع النكرة عقيب المعرفة على هذا الوصف علة لجواز كل واحد من الأمرين لا علة لوجوبه» ، انظر ج ١ ص ١٦٥.
(٢) انظر الخصائص ج ١ ص ١٤٤ ، وعبارة ابن جنى «وإن كان على غير قياس ومستثقلا كما لو تكلفت» الخ.
(٣) أكمل ابن جنى استدلاله بقوله : «ألا ترى أن اجتماع السواد والبياض فى محل واحد ممتنع لا مستكره ، وكون الجسم متحركا ساكنا فى حال واحد فاسد