أضواء على التقيّة

المؤلف:

السيد علي الحسيني الصدر


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
المطبعة: نگارش
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-397-824-2
الصفحات: ٨٧

١
٢

٣
٤

٥
٦

بِسمِ الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلواته وسلامه على محمّد وآله الطاهرين

ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين

تمهيد

من الحقائق الدينيّة التي هي من صُلب الاسلام ، ووليدة القرآن ، وحصيلة السنّة ، وعليها الاجماع ، وسيرة الأصحاب ، وحكم العقل : التقيّة.

وهي من سنن الأنبياء ، وشعار الصلحاء ، وعمل الشيعة الأصفياء.

وقد طعن عليهم بعض خصومهم من العامّة ، واستنكروها عليهم غاية الاستنكار ، مع أنّ صحاحهم ومسانيدهم وكتبهم مليئة بذلك ، ومصرّحة بما هنالك ، إلّا أنّ القلوب منكوسة ، والأقوال معكوسة ..

قال السيّد شبّر :

(قد شنّع المخالفون علينا في قولنا بالتقيّة مع كثرة الدلائل عليها من الكتاب والسنّة ، وقد رووا ما يدلّ عليها من طرقهم ...

روى البخاري في صحيحه في باب فضل مكة وبنيانها بأربعة أسانيد ، ومسلم في صحيحه ، ومالك في الموطأ ، والترمذي والنسائي في صحيحهما أنّ عبد الله بن محمّد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لها :

٧

ألم ترى أنّ قومك حين بنوا الكعبة ما اقتصروا على قواعد ابراهيم؟ (١).

فقلت : يا رسول الله! ألا تردّها على قواعد ابراهيم؟

قال : لو لا حدثان قومك بالكفر لفعلت.

ومن لفظ البخاري ومسلم عن الأسود بن يزيد ، عن عائشة ، قالت :

سألت النبي عن الجدار ؛ من البيت هو؟

قال : نعم.

قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت؟

قال : إنّ قومك قصرت بهم النفقة.

قلت : فما شأن بابه مرتفعاً؟

قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ، ولو لا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت وأن ألصق بابه بالأرض.

وفي صحيح البخاري عن جوير بن يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة : أنّ النبي قال لها : يا يعائشة! لو لا أن قومكِ حديثوا عهد بالجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما اُخرج منه والزقته بالأرض ، وجعلت له بابين ؛ باباً شرقياً وباباً غربياً ، فبلغت به أساس ابراهيم.

ولا ريب أن ظاهر هذه الأخبار أن تعليق الامضاء بحدثان عهد القوم وقربه من الكفر والجاهلية يستلزم خوفه صلّى الله عليه وآله من إرتدادهم وخروجهم عن الاسلام ، أن يعود بذلك ضررٌ إلى نفسه أو إلى غيره ويتطرق بذلك الوهن في المسلمين ، وهذا هو التقيّة) (٢).

__________________

١. يعني جعلوها أوسع من القواعد التي بنى عليها إبراهيم عليه السلام الكعبة.

٢. أصول الأصليّة : ص ٢٣٨.

٨

وقال الشيخ كاشف الغطاء : (من الأُمور التي يشنّع بها بعض الناس على الشيعة ، ويزدري عليهم بها : قولهم بالتقيّة .. جهلاً منهم بمعناها ، وبموقعها وحقيقة مغزاها.

ولو تثبتوا في الأمر وتريّثوا في الحكم وصبروا وتبصّروا لعرفوا أنّ التقيّة التي تقول بها الشيعة لا تختصّ بهم ، ولم ينفردوا بها.

بل هو أمر ضرورة العقل ، وعليه جبلّة الطباع ، وغرائز البشر.

وشريعة الاسلام في اسس أحكامها وجوهريات مشروعيتها تماشي العقل والعلم جنباً إلى جنب وكتفاً الى كتف ، رائدها العلم ، وقائدها العقل ولا تنفك عنهما قيد شعرة.

ومن ضرورة العقول وغرائز النفوس أن كل إنسان مجبول على الدفاع عن نفسه والمحافظة على حياته ، وهي أعز الأشياء عليها وأحبها إليه.

نعم قد يهون بذلها من سبيل الشرف وحفظ الكرامة ، وصيانة الحق ، ومهانة الباطل.

أمّا في غير امثال هذه المقاصد الشريفة والغايات المقدّمة فالتغرير بها وإلقاءها في مظان الهلكة ومواطن خطر تسفهُ وحماقة ، لا يرتضيه عقل ولا شرع ، وقد أجازت شريعة الاسلام المقدّسة للمسلم في مواطن الخوف على نفسه أو عرضه إخفاء الحق والعمل به سرّاً ريثما تنتصر دولة الحق وتغلب على الباطل ...

فتارة تجب التقيّة ؛ كما إذا كان تركها يستوجب تلف النفس من غير فائدة.

واخرى تكون رخصة ؛ كما لو كان في تركها والتظاهر بالحق نوع تقوية له ، فله أن يضحّي بنفسه ، وله أن يحافظ عليها.

وثالثة يحرم العمل بها ؛ كما لو كان ذلك موجباً لرواج الباطل وإضلال الحق ، وإحياء الظلم والجور.

ومن هنا تتصاع لك شمس الحقيقة ضاحيةً ، وتعرف أن اللوم والتعبير بالتقية ـ إن كانت تستحق اللوم والتعيير ـ ليس على الشيعة ، بل على من سبلهم موهبة للحرية ، وألجأهم إلى العمل بالتقيّة).

٩

ثمّ ذكر كاشف الغطاء قدس سره الظروف التي ألجأت الشيعة إلى التقيّة ، ثمّ بيّن المواقع الاستثنائية التي كانت توجب وتقتضي ترك التقيّة ، والتضحية في سبيل الدين فقال فيما أفاد :

تغلّب معاوية على الأُمّة وابتزّها الإمرة عليها بغير رضا ، وصار يتلاعب بالشريعة الإسلاميّة حسب أهوائه ، وجعل يتتبع شيعة علي عليه السلام ويقتلهم تحت كلّ حجر ويأخذ على الظنّة والتهمة ، وسارت على طريقته العوجاء وسياسته الخرقاء الدولة المروانيّة ، ثمّ جاءت العبّاسيّة فزادت على ذلك بنغمات اضطرت الشيعة إلى كتمان أمرها تارة والتظاهر به أُخرى زنة ما تقتضيه مناصرة الحق ومكافحة الضلال وما يحصل به اتمام الحجة ، وكي لا تعمى سبل ال حق بتاتاً عن الخلق.

ولذا تجد الكثير من رجالات الشيعة وعظمائهم سحقوا التقية تحت أقدامهم وقدموا هياكلهم المقدّسة قرابين للحق على مشانق البغي ، وأضاحي في مجازر الجور والغي.

أهل استحضرت ذاكرتك شهداء (مرج عذراء) ـ قرية من قرى الشام ـ وهم أربعة عشر من رجال الشيعة ، ورئيسهم ذلك الصحابي الذي انهكه الورع والعبادة (حجر بن عدي الكندي) الذي كان من القادة في فتح الشام؟!

قتلهم معاوية صبراً ثمّ صار يقول : ما قتلت أحداً إلّا وأنا أعرف فيما قتلته خلا حجر ، فانّي لا أعرف بأيّ ذنب قتله.

نعم ، أنا أعرّف معاوية بذنب حجر ، ذنبه ترك العمل بالتقيّة وغرضه اعلان ضلال بني أُميّة ومقدار علاقتهم من الدين.

وهل تذكرت الصحابي الجليل : عمرو بن الحمق الخزاعي ، وعبد الرحمن حسان العنزي ، الذي دفنه زياد في (قس الناطف حيّاً)؟

أتراك تذكرت ميثم التمّار ، ورشيد الهجري ، وعبد الله بن يقطر ، الذي شنقهم ابن زياد في كناسة الكوفة ..

١٠

هؤلاء والمئات من أمثالهم هانت عليهم نفوسهم العزيزة في سبيل الحق ونطحوا صخرة الباطل ، وما تهشمت رؤوسهم حتى هشموها ، وما عرفوا أين زرع التقيّة وأين واديها. بل وجدوا العمل بها حراماً عليهم. ولو سكتوا وعملوا بالتقيّة لضاعت البقية من الحق وأصبح دين الاسلام دين معاوية ويزيد وزياد ابن زياد .. دين المكر ، دين الغدر ، دين النفاق ، دين الخداع ، دين كل رذيلة ، وأين هذا من دين الإسلام الذي هو دين كلّ فضيلة؟! اولئك ضحايا الإسلام وقرابين الحق.

ولا يغيبن عنك ذكر «الحسين» وأصحابه سلام الله عليهم الذين هم سادة الشهداء وقادة أهل الإباء.

نعم ؛ هؤلاء وجدوا العمل بالتقيّة حراماً عليهم ، وقد يجد غيرهم العمل بها واجباً ويجد الآخرون العمل بها رخصة وجوازاً حسب اختلاف المقامات وخصوصيات الموارد (١).

ولقد أجاد فيما أفاد أعلى الله مقامه ، فان تضحية كبار الشيعة في سبيل إعلاء الشريعة ، وقمع الظالمين والمعتدّين ، ممّا يثبت أنّ التقيّة من الشيعة الأبرار ليست هي في جميع الموارد ، وليست هي لجُبن أو نكوصٍ منهم ، بل هي تكليف شرعي لحفظ دينهم وإيصاله إلى الأجيال التي تليهم ..

والا فهم أعاظم الشجعان ، والمستميتين لاحياء الدين وشريعة سيّد المرسلين لا يضاهيهم من سواهم ، أو للمذاهب الاخرى التي تناوؤهم وتطعن فيهم كلّ ذاك إذ املته عليه شريعتهم وأرادها لهم أئمّتهم.

ومن نموذج ذلك : التضحيات العظيمة التي فاز بها عظماء الشيعة نماذج ندرج باقة منهم :

__________________

١. أصل الشيعة وأُصولها : ص ١٥٠ ـ ١٥٢.

١١

ضحايا الشيعة في سبيل الحق والحقيقة

من الشواهد الناظقة بأنّ الشيعة لا ترى التقيّة في جميع الموارد ، بل تقدّم التضحية على التقيّة حين ترى التضحية هي السبيل النبيل لاقامة الدين ، ونفي الانحراف عن الشرع المبين .. التضحيات الباسلة الموصلة إلى شرف الموت وسعادة الشهادة التي اتّسم بها عظماء الشيعة أمثال الصحابي الجليل عمرو بن الحمق ، وحجر بن عدي الكندي ، وميثم التمّار ، ورشيد الهجري ، وقنبر خادم أمير المؤمنين عليه السلام ومئتات ساروا على دربهم وفازوا في الشهادة تقتصر بدراسة قصيرة في حياة هؤلاء وسيرتهم الغرّاء.

١ ـ عمرو بن الحمق الخزاعي

هو الصحابي الجليل لرسول الله صلى الله عليه وآله ، الذي حفظ عنه أحاديث عديدة ، وسقى الرسول ماءً فدعا له الرسول وقال : «اللّهمّ أمتعه بشبابه» ، فمرّت له ثمانون سنة لم يُرَ له شعرة بيضاء (١).

كان من حواري أمير المؤمنين عليه السلام وشهد معه مشاهده كلّها : الجمل ، وصفّين ، ونهروان ، استنكر على معاوية ظلمه وتلاعبه بالدين (٢).

أمّنه معاوية ثمّ غدر به ، فبعث إليه من قتله وجاء برأسه ، فبعث به معاوية إلى امرأته وهي في سجنه ، فوضع في حجرها فقالت :

__________________

١. بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ١٢ ، حديث ٣٧.

٢. لاحظ حسن حاله وجلالة قدره في تنقيح المقال : ج ٢ من ال طبعة الحجريّة ، ص ٣٢٦.

١٢

سترتموه عنّي طويلاً ، وأهديتموه إليّ قتيلاً! فأهلاً وسهلاً من هديّة غير تالية ولا مقلية ، بلّغ ـ أيّها الرسول ـ عنّي معاوية ما أقول : طلب الله بدمه ، وعجّل له الويل من نقمه ، فقد أتى أمراً فريّاً ، وقتل براً تقيّاً (١).

وكتب الامام لحسين عليه السلام إلى معاوية :

«ألست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه ، وصفر لونه ، بعد ما أمّنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل ، ثمّ قتلته جرأة على ربّك ، واستحفافاً بذلك العهد ... فأبشر يا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب واعلم أن لله تعالى كتابا (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) ، وليس الله بناس لأخذك بالظنة وقتلك أوليائه على التهم ونفيك أوليائه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس بيعة ابنك غلام حدث يشرب الخمر ويلعب بالكلاب ، لا أعلمك إلّا وقد خسرت نفسك وتبرت دينك وغششت رعيتك وأخربت أمانتك وسمعت مقالة السفيه الجاهل وأخفت الورع التقى» (٢).

وقد صكّت هذه الرسالة مسامع معاوية الكريهة ، وألجمت فمه البذي وقد عجز عن الجواب إلّا أن يقول : وما عسيت أن أعيب حسيناً ، ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً.

٢ ـ حُجر بن عديّ الكندي

كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان من الأبدال ، وكان يعرف بـ : حجر الخير ، وكان معروفاً بالزهد وكثرة القيام والعبادة ، حتّى حُكي أنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة (٣).

__________________

١. بحار الأنوار : ج ٣٤ ، ص ٢٧٩.

٢. بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٢١٣.

٣. سفينة البحار : ج ٢ ، ص ٩٧. ولاحظ عظمة منزلته وعظيم مواقفه ، وكونه من أجلّاء العدول

١٣

كان ممّن ينكر على معاوية ظلمه وبدعه ، قتله معاوية ظلماً وغيلة ، فأنكر عليه قتله العدوّ والصديق.

وهو الذي قال له أمير المؤمنين عليه السلام :

«كيف لي بك إذا دعيت إلى البراءة منّي ، فما عساك أن تقول؟»

فأجاب : والله يا أمير المؤمنين لو قُطّعت بالسيف إرباً إرباً وأضرم لي النار وألقيت فيها ، لآثرت ذلك على البراءة منك.

فقال عليه السلام له :

«وُفّقت لكلّ خير يا حجر! جزاك الله خيراً عن أهل بيت نبيّك» (١).

وجاء في كتاب الامام الحسين عليه السلام السالف ذكره لمعاوية :

«ألست القاتل حجراً أخا كندة ، والمصلّين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة أن لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ، ولا بأحنة تجدها في نفسك عليهم» (٢).

٣ ـ ميثم التمّار

كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وصاحب أسراره ، وممّن أطلعه على علم كثير ، وأسرار خفيّة من أسرار الوصيّة (٣).

__________________

والأخيار ، المختوم أمره بالشهادة على يد أمير الأشرار ، وأنه من فضلاء الصحابة في تنقيح المقال : ج ١٨ ، ص ٥٧.

١. بحار الأنوار : ج ٤٢ ، ص ٢٩٠.

٢. بحار الأنوار : ج ٤٤ ، ص ٢١٢.

٣. بحار الأنوار : ج ٣٤ ، ص ٣٠٢.

١٤

كان ممّن يحدث بفضائل بني هاشم ، ومخازي بني أُميّة.

روى الكشي عن ميثم رضي الله عنه أنّه قال : دعاني أمير المؤمنين عليه السلام وقال لي :

«كيف أنت ـ يا ميثم ـ إذا دعاك دعيّ بني أُميّة عبيد الله بن زياد إلى البراءة منّي؟»

فقلت : يا أمير المؤمنين! أنا والله لا أبرأ منك.

قال : «إذاً والله يقتلك ويصلبك».

فقلت : أصبر ، فذاك في الله قليلاً.

فقال : «يا ميثم! إذاً تكون معي في درجتي» (١).

وفي الحديث :

قال له أمير المؤمنين عليه السلام يماً بمحضر من خلق كثير من أصحابه :

«يا ميثم! إنّك تؤخذ بعدي فتصلب ، فاذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دماً حتّى تخضب لحيتك ، فاذا كان اليوم الثالث طعنت بحربةة فيقضي عليك فانتظر ذلك ، والموضع الذي تُصلب فيه على دار عمر بن حريث ، إنّك لعاشرة عشرة ، أنت أقصرهم خشبة ، وأقربهم إلى المطهّرة ـ يعني الأرض ـ ولأرينّك النخلة التي تُصلب على جذعها ..».

ثمّ أراه إيّاها بعد ذلك بيومين ، فكان ميثم يأتيها ، فيصلّي عندها ، ويقول : بوركت من نخلة ، لكِ خُلقت ، ولي نبتِّ.

فلم يزل يتعاهدها بعد قتل علي عليه السلام حتّى قطعت ..

ويلقى عمرو بن حريث فيقول له : انّي مجاورك فأحسن جواري ..! فلم يعلم ما يريد حتّى وقع ما وقع ..

وحجّ ميثم في السنة التي قُتل فيها ، فدخ على أمّ سلمة رضي الله عنها ، فلمّا قال : أنا ميثم.

__________________

١. رجال الكشي : ص ٧٨.

١٥

قالت : سبحان الله! .. والله لربما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يوصي بك عليّاً عليه السلام في جوف الليل.

فسألها عن الحسين بن علي عليهما السلام؟ فقالت : هو في حائط له.

قال : أخبريه انّي قد احببت السلام عليه ... ولا أقدر اليوم على لقائه واريد الرجوع ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله.

فدعت ـ أمّ سلمة ـ بطيب فطيّبت لحيته.

فقال لها : أما انّها ستُخضب بدم.

قالت : من أنبأك بهذا؟

قال : أنبأني سيّدي.

فبكت أُمّ سلمة وقالت : هو سيّدي وسيّد المرسلين أجمعين ، ثمّ ودّعته.

فقدم ميثم الكوفة فأخذ وادخل عن ابن زياد ، وقيل له : هذا كان من آثر الناس عند أبي تراب.

فأمر بحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة ، فقال له ميثم ـ وهما في حبسه ـ إنك ـ يعني المختار ـ تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين عليه السلام ، فتقتل هذا الجبار الذي نحن في سجنه ، وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخدّه.

فلمّا دعا ابن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب إليه يأمره بتخلية سبيله ، وذلك أن أخته كانت تحت عبد الله بن عمر ، فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد ، فشفع ، فكتب بتخلية المختار ، فأطلق سبيله ، وأمر بميثم أن يُصلب.

فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث.

فقال عمرو : لقد كان يقول : إنّي مجاورك.

فلما صُلب ، كان يأمر جاريته كل عشيّة أن تكنس تحت خشبته وترشّه وتجمره بمجمرة.

١٦

فجعل يثم يحدث بفضائل بني هاشم ومخازي بني اُميّة.

فقيل لابن زياد : قد فضحكم هذا العبد.

فقال : ألجموه ـ شدّوا له اللجام ـ فاُلجم ، فكان أوّل خلق الله اُلجم من الاسلام.

فلمّا كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دماً.

فلمّا كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات.

وكان قتل ميثم قبل قدوم الحسين عليه السلام العراق بعشرشة أيّام (١).

٤ ـ رشيد الهجري

كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن أصفياء أصحابه وحاملي أسراره ، ومن السابقين المقرّبين عنده ، وممّن يُعد في عداد سلمان وأبي ذر والمقداد وميثم التمّار رضوان الله عليهم.

وكان أمير المؤمنين عليه السلام يسميه : رشيد البلايا ، وكان قد القى إليه علم المنايا والبلايا (٢).

بلغ الدرجة العليا في الولاء والدفاع عن الحق حتّى قتله ابن زياد على البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام (٣).

__________________

١. لاحظ جامع أحاديث فضيلته ، وعظيم منزلته في تنقيح المقال : ج ٣ من الطبعة الحجريّة ، ص ٢٦٢ ، قال أعلى الله مقام صاحبه في شأنه : (حاله في الجلالة ورفعة المنزلة وعلوّ الشأن وارتفاع المكان ، مستغنٍ عن البيان ، هو عدل ثقة وأيُّ ثقة ، بل لو كانت بين العصمة والعدالة مرتبة واسطة لأطلقناها عليه).

٢. الاختصاص : ص ٣ و ٦ و ٧٧.

٣. اتقان المقال : ص ٦١.

١٧

روى الكشي (١) بسنده عن أبي حيّان البجلي ، عن قنواء بنت رشيد الهجري ، قال :

قلت لها : أخبريني ما سمعت من أبيك؟

قالت : سمعت أبي يقول : أخبرني أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، فقال :

«يا رشيد! كيف صبرت إذا أرسل إليك دعيّ بني أُميّة فقطع يديك ورجليك ولسانك؟»

قلت : يا أمير المؤمنين! آخر ذلك إلى الجنّة؟

فقال : «يا رشيد! أنت معي في الدنيا والآخرة».

قالت : فوالله ما ذهبت الأيّام حتّى أرسل إليه عبيد الله بن زياد الدعي ، فدعاه إلى البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام ، فأبى أن يبرأ منه.

فقال له الدعيّ : فبأي ميتة قال لك تموت؟

قال له : أخبرني خليلي أنت تدعوني إلى البراءة منه ، فلا أبرأ منه ، فتقدّمني فتقطع يديّ ورجليّ ولساني.

فقال : والله لأكذبنّ قوله فيك ..! فقدّموه فقطعوا يديه ورجليه وتركوا لسانه.

فحملت أطراف يديه ورجليه فقلت : يا أبت! هل تجد ألماً لما أصابك؟

فقال : لا يا بُنيّة إلّا كالزحام بين الناس.

فلمّا احتملناه وأخرجناه من القصر ، اجتمع الناس حوله.

فقال : ائتوني بصحيفة ودواة اكتب لكم ما يكون إلى يوم الساعة!

فأرسل إلى الحجام حتّى قطع لسانه ، فمات رحمه الله في ليلته (٢).

وفي حديث آخر :

__________________

١. اختيار معرفة الرجال.

٢. رجال الكشي : ص ٧٥.

١٨

لما قطعوا يديه ورجليه أقبل يحدث الناس بالعظائم وهو يقول :

«أيّها الناس! سلوني فانّ للقوم عندي طلبة لم يقضوها».

فدخل رجل على ابن زياد فقال له : ما صنعت ، قطعت يده ورجله وهو يحدّث الناس بالعظائم.

فأرسل إليه ردّوه ، فردّوه فقطع لسانه وأمر بصلبه (١).

وفي حديث آخر :

قال ابن زياد : اقطعوا لسانه ، فقال له رشيد : الآن والله جاء تصديق خبر أمير المؤمنين عليه السلام (٢).

٥ ـ قنبر خادم أمير المؤمنين عليه السلام

عدّه شيخ الطائفة الطوسي من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وكنا غلاماً له ، وكان يحبّه حبّاً شديداً ، قتله الحجّاج ظلماً ، ذبحاً بغير حق!

جاء في حديث للاختصاص وللكشي وغيرهما :

سُئل قنبر مولى من أنت؟ فقال : أنا مولى من ضرب بسيفين ، وطعن برمحين ، وصلى القبلتين ، وبايع البيعتين ، وهاجر الهجرتين ، ولم يكفر بالله طرفة عين.

أنا مولى صالح المؤمنين ، ووارث النبيين ، وخير الوصيين ، وأكبر المسلمين ، ويعسوب المؤمنين ، ونور المجاهدين ، ورئيس العابدين ، وسراج الماضين ، وضوء القائمين ، وأفضل القانتين ، ولسان رسول رب العالمين ، وأول المؤمنين من آل ياسين.

__________________

١. رجال الكشي : ص ٧٦.

٢. بحار الأنوار : ج ٤٢ ، ص ١٢٦.

١٩

المؤيد بجبريل الأمين ، والمنصوور بميكائيل المتين ، والمحمود عند أهل السماء أجمعين ، سيد المسلمين والسابقين ، وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين ، والمحامي عن حرم المسلمين ، ومجاهد أعدائه الناصبين ، ومطفئ نيران الموقدين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأول من أجاب واستجاب لله.

أمير المؤمنين ، ووصي نبيه في العالمين وأمينه على المخلوقين ، وخليفة من بعث إليهم أجمعين.

مبيد المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان كلمة العابدين.

ناصر دين الله ، وولي الله ، ولسان كلمة الله ، وناصره في أرضه ، وعيبة علمه ، وكهف دينه.

إمام الأبرار من رضي عنه العلي الجبار.

سمح سخي ، بهلول (١) سنحنحي (٢) زكي ، مطهر أبطحي ، باذل جري همام (٣) ، صابر صوام ، مهدي مقدام ، قاطع الأصلاب ، مفرق الأحزاب ، علي الرقاب.

أربطهم جنانا ، وأشدّهم شكيمة (٤) بازل (٥) ، باسل ، صنديد (٦) ، هزبر ، ضرغام ، حازم عزّام ، حصيف (٧) خطيب ، محجاج.

__________________

١. البهلول : الضحّاك ، والسيد الجامع لكلّ خير.

٢. السنحنحي : الذي لا ينام الليل.

٣. الهُمام : الملك العظيم الهمّة والسيّد السخي الشجاع.

٤. الشكيمة : الطبع الشديد على العدو.

٥. البازل : الرجل الكامل في تجربته.

٦. الصنديد : السيّد الشجاع.

٧. الحصيف : الكامل العقل.

٢٠