تاريخ مدينة دمشق - ج ٨

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]

تاريخ مدينة دمشق - ج ٨

المؤلف:

أبي القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشافعي [ ابن عساكر ]


المحقق: علي شيري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٤
الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٢ الجزء ٣٣ الجزء ٣٤ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١ الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠

توفي (١) هزيل بعد الجماجم.

أخبرنا أبو الغنائم بن النّرسي ـ كتابة واللفظ له ـ ثم حدثنا أبو الفضل بن ناصر ، أنا أبو الفضل بن خيرون وأبو الحسين بن الطيوري وأبو الغنائم بن النّرسي ، قالوا : أنا أبو أحمد الغندجاني ـ زاد ابن خيرون ـ وأبو الحسين الأصبهاني قالا : ـ أنا أحمد بن عبدان ، أنا محمد بن سهل ، أنا محمد بن إسماعيل قال (٢) : أرقم بن شرحبيل أخو هزيل بن شرحبيل الأودي ، كوفي سمع ابن مسعود ، روى عنه أبو قيس ، وأبو إسحاق ، ولم يذكر أبو إسحاق سماعا منه.

أخبرنا أبو عبد الله الخلّال ـ كتابة ـ أنا أبو القاسم بن مندة ، أنا حمد بن عبد الله ـ إجازة ـ وأبو طاهر بن سلمة ـ قراءة ـ أنا أبو الحسن الفأفاء قالا : أنا عبد الرّحمن بن أبي حاتم قال (٣) : سئل أبو زرعة ـ يعني عن أرقم بن شرحبيل ـ فقال : هو كوفي ثقة.

٥٨٨ ـ أرقم بن عبد الله الكنديّ

رجل من تابعي أهل الكوفة ، كان ممن قدم به مع حجر بن عدي الكندي إلى عذراء (٤) في اثني عشر رجلا ، فشفع فيه وائل بن حجر إلى معاوية فأطلقه.

قرأت على أبي الوفاء حفاظ بن الحسن بن الحسين الغسّاني ، عن عبد العزيز بن أحمد الكتاني ، أنا عبد الوهاب الميداني ، أنا أبو سليمان بن زبر ، نا عبد الله بن أحمد الفرغاني ، أنا محمد بن جرير الطبري قال (٥) هشام بن محمد : قال أبو مخنف : تسمية الذين بعث بهم إلى معاوية : حجر بن عديّ بن جبلة الكنديّ. والأرقم بن عبد الله الكندي من بني الأرقم ، وشريك بن شدّاد الحضرميّ ثم التنعي ، وصيفيّ بن فسيل (٦) ، وابن ضبيعة بن حرملة العبسيّ ، وكريم بن عفيف الخثعميّ من بني عامر (٧) بن شهران ،

__________________

(١) تاريخ خليفة ص ٢٨٨ حوادث سنة ٨٢.

(٢) التاريخ الكبير ١ / قسم ٢ / ٤٦.

(٣) الجرح والتعديل ١ / قسم ١ / ٣١٠.

(٤) عذراء : قرية بغوطة دمشق من إقليم خولان معروفة (معجم البلدان).

(٥) تاريخ الطبري ٥ / ٢٧١.

(٦) عن الطبري وبالأصل وم «فشيل».

(٧) عن الطبري وبالأصل وم «عمرو».

٢١

ثم من بني قحافة (١) ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء (٢) بن سميّ البجلي ، وكدام بن حيّان ، وعبد الرّحمن بن حسان العنزيان من بني هميم ، ومحرز بن شهاب التميمي من بني منقر ، وعبد الله بن حويّة (٣) السعدي من بني تميم ، فمضوا بهم حتى نزلوا مرج عذراء ، فحبسوا بها.

ثم إن زيادا أتبعهم برجلين آخرين مع عامر بن الأسود ؛ بعتبة بن الأخنس من بني سعد بن بكر بن هوازن ، وسعد (٤) بن نمران الهمداني ثم الناعطي (٥) فتموا أربعة عشر رجلا ، فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأدخلهما ، وقبض كتابهما ، وقرأه على أهل الشام ، فإذا فيه :

بسم الله الرّحمن الرحيم. لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من زياد بن أبي سفيان. أما بعد : فإن الله جل ثناؤه قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء ، فكاد له عدوّه ، وكفاه مئونة من بغى عليه. إن طواغيت من هذه التّرابية السبئية رأسهم حجر بن عدي خالفوا أمير المؤمنين ، وفارقوا الجماعة جماعة المسلمين ، ونصبوا لنا الحرب ، فأظهرنا الله عليهم ، وأمكننا منهم ، وقد دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي الستر (٦) والدين منهم ، فشهدوا عليهم بما رأوا وعلموا ، وقد بعثت بهم إلى أمير المؤمنين ، وكتبت شهادة أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا.

فلما قرأ الكتاب وشهادة الشهود عليهم قال : ما ذا ترون في هؤلاء النفر الذين شهد عليهم قومهم بما تسمعون؟ فقال له يزيد بن أسد البجلي : أرى أن تفرقهم في قرى الشام فيكفيكهم طواغيتها. ودفع وائل بن حجر كتاب شريح بن هانئ إلى معاوية فقرأه فإذا فيه :

بسم الله الرّحمن الرحيم ، لعبد الله معاوية أمير المؤمنين من شريح بن هانئ أما

__________________

(١) عن الطبري وبالأصل وم «حذافر».

(٢) عن الطبري وبالأصل «ووفا» وفي م : ووبا.

(٣) عن الطبري وبالأصل وم : جوية بالجيم.

(٤) الطبري : سعيد.

(٥) بالأصل «الناعظي» والمثبت عن الطبري ، وهذه النسبة آخرها طاء مهملة إلى ناعط وهو بطن من همدان.

(٦) الطبري : السنّ.

٢٢

بعد ؛ فإنه بلغني أن زيادا كتب إليك بشهادتي على حجر بن عدي ، وأن شهادتي على حجر أنه ممن يقيم الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، ويديم الحجّ ، والعمرة ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، حرام الدم والمال ، فإن شئت فاقبله (١) وإن شئت فدعه. فقرأ كتابه على وائل وكثير وقال : ما أرى هذا إلّا قد أخرج نفسه من شهادتكم.

فحبس القوم بمرج عذراء وكتب معاوية إلى زياد أما بعد :

فقد فهمت ما اقتصصت من أمر حجر وأصحابه ، وشهادة من قبلكم ، فنظرت في ذلك ، فأحيانا أرى قتلهم أفضل من تركهم ، وأحيانا أرى العفو عنهم أفضل من قتلهم والسلام.

فكتب إليه زياد مع يزيد بن حجيّة بن ربيعة التيمي : أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت رأيك في حجر ، فعجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم ، وقد شهد عليهم بما سمعت من هو أعلم بهم ، فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردّن حجرا وأصحابه إليّ. فأقبل يزيد بن حجيّة حتى مرّ بهم بعذراء فقال : يا هؤلاء أما والله ما رأيي برأيكم ، ولقد جئت بكتاب فيه الذبح ، فمروني بما أحببتم مما ترون أنه لكم نافع أعمل به لكم وانطلق به (٢). فقال له حجر : أبلغ معاوية أنّا على بيعتنا ، لا نستقيلها ولا نقيلها ، وإنه إنما شهد علينا الأعداء الأظنّاء.

فقدم يزيد بالكتاب إلى معاوية فقرأه ، وبلّغه يزيد مقالة حجر فقال معاوية : زياد أصدق عندنا من حجر ، فقال عبد الرّحمن بن أم الحكم الثقفي ـ ويقال عثمان بن عمير الثقفي ـ جذاذها (٣) ، جذاذها فقال له معاوية : لا تفي (٤) أثرا ، فخرج أهل الشام ولا يدرون ما قال معاوية وعبد الرّحمن ، فأتوا النعمان بن بشير فقالوا له مقالة ابن أم الحكم ، فقال النعمان : قتل القوم ، وأقبل عامر بن الأسود العجليّ وهو بعذراء يريد معاوية ليعلمه علم الرجلين اللذين بعث بهما زياد ، فلما ولّى ليمضي قام إليه حجر بن

__________________

(١) الطبري : فاقتله.

(٢) الطبري ٥ / ٢٧٣ وأنطق.

(٣) الجذاد بفتح الجيم وضمها ، بالفتح يعني فصل الشيء عن الشيء ، وبالضم : المقطع والمكسر. وبالأصل بالدال المهملة في اللفظتين خطأ ، والمثبت عن الطبري.

(٤) في الطبري : لا تعنّ أبرا.

٢٣

عدي يرسف في القيود فقال : يا عامر ، اسمع مني ، أبلغ معاوية أن دماءنا عليه حرام ، وأخبره أنّا قد أومنّا وصالحناه ، وصالحنا وإنّا لم نقتل أحدا من أهل القبلة ، فتحل له دماؤنا فليتّق الله ولينظر في أمرنا. فقال له نحوا من هذا الكلام ، فأعاد عليه حجر مرارا. فكان الآخر أعرض ، فقال : لقد فهمت لك ـ أكثرت ، فقال له حجر : إني ما سمعت بعيب وعلى أية تلوم إنك والله تحبى وتعطى ، إن حجرا يقدّم ويقتل ، فلا ألومك أن تستثقل كلامي ، اذهب عنك ، فكأنه استحيا فقال : لا والله ما ذاك بي ، ولأبلغنّ جهدي ، فكان يزعم أن قد فعل ، والآخر أبى.

فدخل عامر على معاوية فأخبره بأمر الرجلين قال : وقام يزيد بن أسد البجلي فقال : يا أمير المؤمنين هب لي ابني عمّي ـ وقد كان جرير بن عبد الله كتب فيهما : إنّ امرأين من قومي من أهل الجماعة والرأي الحسن ، سعى بهما ساع ظنين إلى زياد ، فبعث بهما في النفر الكوفيين الذين وجه بهم زياد إلى أمير المؤمنين وهما ممن لم يحدث في الإسلام ، ولا بغيا على الخليفة فلينفعهما ذلك عند أمير المؤمنين ، فلما سألهما يزيد ذكر معاوية كتاب جرير ، فقال : قد كتب إليّ فيهما جرير يحسن الثناء عليهما ، وهو أهل أن يصدّق قوله وتقبل نصيحته ، وقد سألتنا ابني عمّك فهما لك. وطلب وائل بن حجر في الأرقم فتركه ، وطلب أبو الأعور السّلمي في عتبة بن الأخنس فوهبه له ، وطلب حمرة (١) بن مالك الهمداني في سعد (٢) بن نمران الهمداني فوهبه له ، وكلّمه ابن مسلمة في ابن حويّة فخلّى سبيله.

وقام مالك بن هبيرة السّكوني فقال لمعاوية : دع لي ابن عمي حجرا فقال : ابن عمك حجر رأس القوم وأخاف إن خلّيت سبيله أن يفسد عليّ مصري ، فيضطرنا غدا إلى أن نشخصك وأصحابك إليه بالعراق ، فقال : والله ما أنصفتني يا معاوية ، إن قاتلت معك ابن عمك فيلقاني منهم يوما كيوم صفين حتى ظفرت كفك وعلا كعبك ولم تخف الدوائر ثم سألتك ابن عمي فسطوت أو بسطت من القول فيما لا أنتفع به وتخوّفت فيما زعمت عاقبة الدوائر ، ثم انصرف فجلس في بيته فبعث معاوية هدبة بن فيّاض القضاعي من بني سلامان بن سعد ، والحصين بن عبد الله الكلابي ، وأبا شريف البدّيّ فأتوهم عند

__________________

(١) في الأغاني : حمزة.

(٢) كذا بالأصل وفي الطبري : «سعيد» وقد مرّ في بداية الترجمة.

٢٤

المساء. فقال الخثعميّ حين رأى الأعور مقبلا : يقتل نصفنا وينجو نصفنا ، فقال سعيد (١) بن نمران : اللهمّ اجعلني ممن ينجو وأنت عنه راض ، وقال عبد الرّحمن بن حسان العنزي : اللهم اجعلني ممن يكرمني بهوانهم وأنت عني راض فقال : فطالما (٢) عرضت نفسي للقتل فأبى الله إلّا ما أراد.

فجاء رسول معاوية إليهم في تخلية ستة منهم ويقتل ثمانية (٣) ، فقال لهم رسول معاوية : إنّا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من عليّ فإن فعلتم تركناكم ، وإن أبيتم قتلناكم ، وإن أمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلّت له بشهادة أهل مصركم عليكم ، غير أنه قد عفا على ذلك ، فابرءوا من هذا الرجل نخلّ سبيلكم. فقالوا : اللهم إنّا لسنا فاعلي ذلك. فأمر بقبورهم فحفرت ، وأدنيت أكفانهم ، وقاموا الليل كله يصلّون ، فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية : يا هؤلاء لقد رأيناكم البارحة قد أطلتم الصلاة ، وأحسنتم الدعاء ، فأخبرونا ما قولكم في عثمان؟ قالوا : هو أول من جار في الحكم ، وعمل بغير الحق ؛ فقال أصحاب معاوية : أمير المؤمنين كان أعلم بكم ، ثم قاموا إليهم فقالوا : تبرءون من هذا الرجل ، قالوا : بل نتولّاه ونتبرأ ممن تبرأ منه ، فأخذ كل رجل منهم رجلا ليقتله ، ووقع قبيصة بن ضبيعة في يدي أبي شريف البدّيّ فقال له قبيصة : إن الشرّ بين قومي وقومك أمرا (٤) فليقتلني سواك فقال له : برّتك رحم ، فأخذ الحضرمي فقتله ، وقتل القضاعي قبيصة بن ضبيعة.

قال : ثم إن حجرا قال لهم : [دعوني أتوضأ ، قالوا له : توضأ ، فلما أن توضأ قال لهم](٥) دعوني أصلي ركعتين فإني والله ما توضأت قط إلّا صلّيت ركعتين ؛ قالوا له : صلّ ، فصلّى ثم انصرف فقال : والله ما صلّيت صلاة قط أقصر منها ، ولو لا أن تروا أن ما بي جزع من الموت ، لأحببت أن استكثر منها ثم قال : اللهم إنا نستعديك على أمتنا ، فإن أهل الكوفة شهدوا علينا ، وإن أهل الشام يقتلوننا ، أما والله لئن قتلتموني بها ، إني لأول فارس من المسلمين هلك في واديها ، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها. فمشي إليه

__________________

(١) عن الطبري وبالأصل وم : سعد.

(٢) عن الطبري ، وبالأصل «ما».

(٣) عن الطبري وبالأصل «ستة».

(٤) الطبري : أمن.

(٥) ما بين معكوفتين سقط من الأصل وم واستدرك عن تاريخ الطبري ٥ / ٢٧٥.

٢٥

الأعور هدبة بن فيّاض بالسيف فأرعدت خصائله (١) ، فقال : كلّا ، زعمت أنك لا تجزع من الموت ، فأنا أدعك فابرأ من صاحبك فقال : وما لي لا أجزع وأنا أرى قبرا محفورا ، وكفنا منشورا ، وسيفا مشهورا ؛ إني والله وإن جزعت من القتل لا أقول ما يسخط الرّب ، فقتله وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة. قال عبد الرّحمن بن حسان العنزي وكريم بن عفيف الخثعمي : ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين ، فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته ؛ فبعثوا إلى معاوية يخبرونه بمقالتهما ، فبعث إليهم أن ائتوني بهما (٢).

فلما دخلا عليه ، قال الخثعمي : الله الله يا معاوية ، فإنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى دار الآخرة الدائمة ، ثم مسئول عما أردت بقتلنا ، وفيم سفكت دماءنا ؛ قال معاوية : ما تقول في عليّ؟ قال : أقول فيه قولك ، [قال] : أتبرأ من دين عليّ الذي كان يدين الله به؟ فسكت ، وكره معاوية أن يجيبه.

ثم قام شمر ـ ويقال : سمّي ـ ابن عبد الله من بني قحافة فقال : يا أمير المؤمنين هب لي ابن عمي ، فقال : هو لك غير أني حابسه شهرا ، فكان يرسل إليه بين كل يومين فيكلمه ، وقال له : إني لأنفس بك على العراق أن يكون فيهم مثلك. ثم إنّ شمرا عاوده فيه الكلام فقال : تمّ لي على هبة ابن عمي فدعاه فخلّى سبيله ، على أن لا يدخل الكوفة ما كان له سلطان ، وقال : تخيّر أي بلاد العرب أحبّ إليك أن أسيّرك إليها ، فاختار الموصل ، فكان يقول : لو قد مات معاوية قدمت المصر ، فمات قبل معاوية بشهر.

ثم أقبل على عبد الرّحمن العنزيّ فقال له : يا أخا ربيعة ما قولك في علي؟ قال : دعني لا تسألني فإنه خير لك ؛ قال : والله لا أدعك حتى تخبرني عنه ، قال : أشهد أنه كان من الذاكرين الله كثيرا ومن الآمرين بالحق ، والقائمين بالقسط ، العافين عن الناس ؛ قال : ما قولك في عثمان؟ قال : هو أول من فتح باب الظلم وأرتج أبواب الحق ، قال : قتلت نفسك ؛ قال : لا بل إياك قتلت ولا ربيعة بالوادي ـ يقول حين كلّم شمر الخثعمي في كريم بن عفيف الخثعمي ولم يكن له أحد من قومه يكلم فيه ـ فبعث به معاوية إلى

__________________

(١) الخصائل جمع خصيلة ، وهي كل عصبة فيها لحم غليظ.

(٢) بعدها في الأغاني ١٧ / ١٥٢ فالتفتا إلى حجر ، فقال له العنزي : لا تبعد يا حجر ، ولا يبعد مثواك ، فنعم أخو الإسلام كنت ، وقال الخثعمي نحو ذلك. ثم مضى بهما فالتفت العنزي فقال متمثلا :

كفى بشفاه القبر بعدا لهالك

وبالموت قطاعا لحبل القرائن

٢٦

زياد وكتب إليه أما بعد : فإن هذا العنزي شرّ من بعثت به فعاقبه عقوبته الذي هو أهله ، واقتله شرّ قتلة ، فلما قدم به على زياد بعث به زياد على قسّ الناطف (١) ، فدفن حيا.

قالوا : ولما حمل العنزي والخثعمي إلى معاوية قال العنزي لحجر : يا حجر لا يبعدنك الله ، فنعم أخو الإسلام كنت. وقال الخثعمي : يا حجر لا تبعد ولا تفقد فقد كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ثم ذهب بهما وأتبعهما بصره ، وقال : كفى بالموت قاطعا لحبل القرائن. وذهب بعتبة بن الأخنس وسعيد (٢) بن نمران بعد حجر بأيام. فخلّى سبيلهما.

تسمية من قتل من أصحاب حجر : حجر بن عديّ ، وشريك بن شداد الحضرمي ، وصيفيّ بن فسيل (٣) الشيباني ، وقبيصة بن ضبيعة العبسيّ ، ومحرز بن شهاب السعديّ ثم المنقريّ ، وكدام بن حيّان العنزي ، وعبد الرّحمن بن حسان العنزي بعث به إلى زياد فدفن حيا بقسّ الناطف. فهم سبعة قتلوا ودفنوا وصلّي عليهم.

قال : وزعموا أن الحسن لما بلغه قتل حجر وأصحابه قال : صلّوا عليهم وكفنوهم واستقبلوا بهم القبلة؟ قالوا : نعم ، قال : حجوهم وربّ الكعبة.

تسمية من نجا منهم : كريم بن عفيف الخثعميّ ، وعبد الله بن حويّة (٤) التميميّ ، وعاصم بن عوف البجلي ، وورقاء (٥) بن سمي البجلي ، والأرقم بن عبد الله الكندي ، وعتبة بن الأخنس (٦) من بني سعد بن بكر ، وسعيد بن نمران الهمداني فهم سبعة.

قال الطبري : ومقتل حجر [بن عدي](٧) وأصحابه في سنة إحدى وخمسين.

٥٨٩ ـ إرميا بن حلقيّا ، من سبط لاوي بن يعقوب

من أنبياء بني إسرائيل ويقال : إنه الخضر عليه‌السلام.

__________________

(١) قس الناطف : موضع قرب الكوفة (معجم البلدان).

(٢) عن الطبري والأغاني ، وبالأصل وم «سعد».

(٣) عن الطبري والأغاني وبالأصل «فشيل» وفي تاريخ الإسلام للذهبي ٢ / ٢٩٣ قشيل بالقاف أو فشيل الربعي.

(٤) في الأغاني : جؤية.

(٥) بالأصل وم : «ووفا» والصواب عن الطبري والأغاني.

(٦) بالأصل «الأحلس» وفي م : الأخلس والصواب عن الطبري والأغاني.

(٧) سقطت من الأصل واستدركت عن هامشه.

٢٧

جاء في بعض الآثار أنه وقف على دم يحيى بن زكريا عليه‌السلام بدمشق وهو يفور ، فقال : أيها الدم دم يحيى بن زكريا ، فتنت بنو إسرائيل والناس فيك فسكن الدّم ورسب حتى غاب (١). وسيأتي ذكر ذلك في ترجمة يحيى بن زكريا صلى الله عليهم أجمعين.

أنبأنا أبو القاسم علي بن إبراهيم ، أنا أبو الحسن بن أبي الحديد ، أنا جدّي أبو بكر ، أنا محمد بن يوسف بن بشر ، أنا محمد بن حمّاد ، أنا عبد الرّزّاق ، أنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبّه يقول : إن إرميا لما خرب بيت المقدس وحرق الكتب ، وقف في ناحية الجبل فقال : أنّى يحيى الله هذه بعد موتها فأماته الله مائة عام ، ثم رد الله روحه على رأس سبعين سنة حين أماته الله فعمروها ثلاثين سنة تمام المائة ، فلما تمّت المائة رد الله تعالى روحه وقد عمرت على حالها الأول ، فجعل ينظر إلى العظام كيف يلتئم بعضها إلى بعض ، ثم نظر إلى العظام تكسى عصبا ولحما ، فلما تبين له قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ، فقال : انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه قال : وكان طعامه تينا (٢) في مكتل ، وقلّة فيها ماء. ثم سلط الله عليهم الوصب (٣) فلما أراد الله أن يردّ عليهم التابوت أوحى إلى نبي من أنبيائهم إمّا دانيال وإمّا غيره : إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض فاخرجوا عنكم هذه التابوت ، قالوا : بآية ما ذا؟ قال : بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم يعملا قد (٤) قط ، فإذا نظرتا إليهما وضعتا أعناقهما للنير حتى يشدّ عليهما ، ثم يشدّ التابوت على عجل ، ثم يعلّق على البقرتين ، ثم يخلّيان ، فيسيران حيث يريد الله تبارك وتعالى أن يبلغهما ، ففعلوا ذلك ووكل الله تبارك وتعالى أربعة من الملائكة يسوقونهما فسارت البقرتان حتى إذا بلغتا القدس كسرتا نيرهما فذهبتا ، فنزل إليهما داود ومن معه ، فلما رأى داود التابوت حجل إليها فرحا بها.

قال عبد الصمد : فقلنا لوهب : ما حجل إليها؟ قال : شبيه بالرقص (٥) ، فقالت له

__________________

(١) الخبر في البداية والنهاية ٢ / ٤١ نقلا عن ابن عساكر.

(٢) بدون نقط بالأصل وفي م : تيتا ، والمثبت عن تهذيب ابن عساكر ٢ / ٣٨٤.

(٣) الوصب : المرض (القاموس).

(٤) كذا بالأصل ، وليست في م.

(٥) حجل المقيد يحجل ويحجل حجلا وحجلانا رفع رجلا تريث في مشيه على رجله (القاموس).

٢٨

امرأته : لقد خففت حتى كاد الناس أن يمقتوك لما صنعت فقال : أتبطئيني عن طاعة ربي تعالى؟ لا تكون لي زوجة أبدا بعدها ، ففارقها.

أخبرنا أبو الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا ، قالوا : أنا أبو جعفر بن المسلمة ، أنا أبو طاهر المخلّص ، أنا أحمد بن سليمان ، نا الزّبير بن بكار قال : وحدثني علي بن المغيرة : أن بخت نصّر لما أمر بغزو بلاد الروم وإدخال الجنود عليهم فيها وقتل مقاتلتهم لانتهاكهم معاصي الله ، واستحلالهم محارمه ، وقتلهم أنبياءه ، وردّهم رسالاته أمر إرميا بن حلقيا وكان نبي بني إسرائيل ، فيما ذكر لنا في ذلك الزمان ـ أن ائت معدّ بن عدنان الذي من ولده محمد خاتم النبيين ، فأخرجه عن بلاده ، واحمله معك إلى الشام ، وتولّ أمره قبلك قال : ويقال بل حمل عدنان قال : وقال ناس : حمله بورح بن تاربا كاتب إرميا بن حلقيا ، ويقال كان بحرّان الجزيرة.

أخبرنا أبو القاسم علي بن إبراهيم ـ قراءة ـ أنا رشا بن نظيف ، أنا الحسن بن إسماعيل ، أنا أحمد بن مروان ، نا محمد بن أحمد ، نا عبد المنعم ، عن أبيه ، عن وهب بن منبّه قال (١) : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له إرميا حين ظهرت فيهم المعاصي : أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوبا ولا يفقهون ، وأعينا ولا يبصرون ، وآذانا ولا يسمعون ، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي ، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي ، وهل شقي أحد ممن أطاعني بطاعتي؟ إن الدوابّ تذكر أوطانها فتنزع إليها ، وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها ، أما خيارهم (٢) فأنكروا حقي ، وأما قراؤهم فعبدوا غيري ، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا ، وأما ولاتهم فكذّبوا عليّ وعلى رسلي ، خزنوا (٣) المكر في قلوبهم وعوّدوا الكذب ألسنتهم ، وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجنّ عليهم جيولا لا يفقهون ألسنتهم ، ولا يعرفون وجوههم ، ولا يرحمون بكاءهم ، ولأبعثنّ فيهم ملكا جبارا قاسيا له عساكر كقطع السحاب ،

__________________

(١) الخبر في تاريخ الطبري ١ / ٥٤٨ وما بعدها ، والبداية والنهاية ٢ / ٤١ ـ ٤٢.

(٢) الطبري وابن كثير : أحبارهم.

(٣) عن البداية والنهاية ، وبالأصل «حزبوا».

٢٩

ومواكب (١) كأمثال العجاج (٢) ، كأن خفقان راياته طيران النسور ، وكأن حمل فرسانه كر (٣) العقبان ، يعيدون العمران خرابا ويتركون القرى وحشة ، فيا ويل إيليا وسكانها كيف أذللهم للقتل ، وأسلّط عليهم السباء ، وأعيد بعد لجب الأعراس صراخا ، وبعد صهيل الخيل عواء الذياب ، وبعد شرافات القصور مساكن السباع ، وبعد ضوء السرج وهج العجاج ، وبالعزّ الذلّ ، وبالنعمة العبودية ، ولأبدلنّ نساءهم بعد الطيب التراب ، وبالمشي على الزرابي الخبب ، ولأجعلنّ أجسادهم زبلا للأرض ، وعظامهم ضاحية للشمس ، ولأدوسنّهم بألوان العذاب ، ثم لآمرنّ السماء فلتكونن طبقا من حديد ، والأرض سبيكة من نحاس ، وإن أمطرت لم تنبت الأرض ، وإن أنبتت شيئا في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم ، ثم أحبسه في زمان الزرع ، وأرسله في زمان الحصاد ، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئا سلّطت عليه الآفة ، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة ، فإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوا لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم.

أخبرنا أبو سعد بن البغدادي ، أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم الطّهراني (٤) ، وأبو عمرو بن مندة ، قالا : أنا الحسن بن محمد بن أحمد بن يوه (٥) ، أنا أحمد بن محمد بن عمر اللّنباني (٦) ، نا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدّثني علي بن أبي مريم ، عن أحمد بن جناب ، عن عبد الله بن عبد الرّحمن قال : قال إرميا : أي ربّ ، أي عبادك أحبّ إليك؟ قال : أكثرهم لي ذكرا ، الذين يشتغلون بذكري عن ذكر الخلائق ، الذين لا يعرض لهم وساوس الغناء ، ولا يحدّثون أنفسهم بالبقاء ، الذين إذا عرض لهم عيش الدنيا قلوه وإذا روي عنهم سروا بذلك ، أولئك أنحلهم محبتي وأعطيهم فوق غاياتهم.

أخبرنا أبو الفتح نصر الله بن محمد الفقيه ، أنا أبو الفتح نصر بن إبراهيم ، أنا أبو

__________________

(١) الطبري : ومراكب.

(٢) ابن كثير : الفجاج.

(٣) الطبري : «كرير» وهو صوت في الصدر كصوت المختنق.

(٤) ضبطت عن الأنساب ، وقد تقدمت.

(٥) ضبطت عن التبصير.

(٦) إعجامها غير واضح بالأصل وفي م : النباني والصواب بتقديم النون ، هذه النسبة إلى لنبان محلة بأصبهان (الأنساب).

٣٠

محمد عبد الله بن الوليد ، نا أحمد بن علي ، نا أحمد بن الحسن ، نا المقدام بن داود ، نا علي بن معبد ، نا يزيد بن محمد ، عن أبي عباس الشامي قال : قال الله تبارك وتعالى لإرميا بن حلقيا : من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصوّرك في الرحم قدّستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهّرتك ، ومن قبل أن تبلغ أشدك نبّيتك ، ولأمر عظيم اجتبيتك.

فقال إرميا : يا ربّ ، إني ضعيف إلّا ما قويتني ، عاجز إن لم تبلّغني ، مخطئ إن لم تسدّدني ، مخذول إن لم تنصرني ، ذليل إن لم تعزّني. فقال الله عزوجل : يا إرميا ألم تعلم أن الأمر أمري ، وأن الأمور تصدر عن مشيئتي ، وأن الأمر والخلق كله لي ، وأن القلوب والألسنة كلها لي وبيدي أقلّبها كيف شئت ، فبعظمتي إنه لا يعلم ما في غد غيري ، ولا تتم إلّا لي ، وكيف تخاف الضعف وأنت معي؟ وأنا الله الذي قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ، وأنا الله الذي ذلّت لطاعتي خوفا واعترافا لأمري ، ولن يصل إليك شيء معي ، إني باعثك إلى خلق من خلقي لتبلّغهم رسالتي وتستحق بذلك مثل أجر من أطاعك (١) منهم ، لا ينقص لك من أجورهم شيئا ، فإن أنت قصّرت عنها استحققت بذلك مثل وزر من تركت في عمائه منهم لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا. انطلق إلى قومك فقم فيهم ثم قل : إن الله ذكركم بصلاح آبائكم فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر أبناء الأنبياء ونسلهم ، كيف وجد آباؤهم غب طاعتي ، وكيف وجدوا هم غب معصيتي ، هل علموا أن أحدا أطاعني فشقي بطاعتي؟ وأن أحدا عصاني فسعد بمعصيتي؟ إن الدوابّ إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها ، وإن هؤلاء القوم تركوا ما أكرمت عليه آباءهم وابتغوا الكرامة من غير وجهها ، أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا يتعبدونهم من دوني ، ويحكمون فيهم بغير كتابي ، فأجهلوهم أمري ، وأيسوهم وغرّوهم منّي ، فبطروا نعمتي ، وأمكنوا مكري ، وبدّلوا كتابي ، ونسوا عهدي ، وضيّعوا أمري ، حتى دان لهم العباد بالطاعة التي لا تنبغي لجبار غيري ، وهم يحرفون بذلك كتابي ، ويفترون من أجله على رسلي جرأة وغرّة وفرية عليّ وعلى رسلي.

أخبرنا أبو العلاء زيد وأبو المحاسن مسعود ابنا علي بن منصور بن علي بن

__________________

(١) في الطبري ١ / ٥٤٨ اتّبعك.

٣١

منصور بن الراوندي (١) الشروطيان ـ بالري ـ قالا : أنا أبو منصور محمد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقوّمي القزويني (٢) ، أنا قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد ـ قراءة عليه ـ نا أبو جعفر محمد بن يعقوب الحديدي المروزي ، نا أحمد بن محمد بن عمير ، نا أبو يحيى محمد بن يحيى بن خالد بن يزيد قال : كتب رجل إلى بعض الأدباء يسأله أن يكتب إليه بشيء ينتفع به. فكتب إليه : أما لآخرتك فإن الله أوحى إلى نبيّ من أنبيائه يقال له إرميا : وعزّتي وجلالي ؛ لو أن المعصية كانت في بيت من بيوت الجنة لأوصلت الخراب إلى ذلك البيت ، أما ما لدنياك فإن الشاعر يقول :

ما الناس إلّا مع الدنيا وصاحبها

فكيف ما انقلبت يوما به قلبوا

يعظّمون أخا الدنيا فإن وثبت

يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

أخبرنا أبو محمد بن طاوس ، أنا أبو الحسن عاصم بن الحسن بن محمد ، أنا أبو سهل محمود بن عمر بن جعفر ، أنا علي بن الفرج بن علي العكبري ، نا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا ، حدّثني أحمد بن عبد الأعلى الشيباني قال : ـ إن لم أكن سمعته من شعيب بن صفوان ـ فحدّثني بعض أصحابنا عنه ، عن الأجلح الكندي عن عبد الله بن أبي الهزيل قال : ضرا بخت نصر أسدين فألقاهما في جبّ ، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيّجاه ، فمكث ما شاء الله ، ثم اشتهى ما يشتهي الآدميون من الطعام والشراب ، فأوحى الله إلى إرميا وهو بالشام أن اعدد طعاما وشرابا لدانيال فقال : يا ربّ أنا بأرض المقدسة ، ودانيال بأرض بابل من أرض العراق ، فأوحى الله إليه أن اعدد ما أمرناك ، فإنا سنرسل من يحملك ويحمل ما أعددتّ ففعل وأرسل الله من حمله وحمل ما أعدّ حتى وقف على رأس الجبّ فقال : دانيال ، دانيال ، فقال : من هذا؟ قال : أنا إرميا قال : ما جاءك؟ قال : أرسلني إليك ربي قال : وقد ذكرني ربي؟ قال : نعم ، قال : دانيال الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه ، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة ، والحمد لله الذي هو يكشف ضرّنا بعد كربنا ، والحمد لله هو ثقتنا حين يسوء ظننا بأعمالنا ، والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل عنا.

قرأت على أبي محمد عبد الكريم بن حمزة ، عن أبي بكر الخطيب ، نا أبو القاسم

__________________

(١) هذه النسبة إلى راوند وهي قرية من قرى قاسان بنواحي أصبهان. (الأنساب). وذكر ياقوت في (راوند) زيد بن علي بن منصور ، ترجمة قصيرة.

(٢) ترجم له في سير الأعلام ١٨ / ٥٣٠ (٢٧١).

٣٢

عبد الله بن أحمد بن علي السّوذرجاني (١) ـ لفظا بأصبهان ـ نا أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة ، أنا سهل بن سعيد بن حكيم ، نا إبراهيم بن عبد المؤمن ، نا محمد بن أبان ، نا يحيى بن آدم البلخي وعبد الرّحمن بن جابر ، عن نصر بن مشارس ، عن جويبر بن سعيد ، عن الضّحاك بن مزاحم ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ)(٢) يعني به التوراة ، جملة واحدة مفصّلة محكمة ، (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ)(٣) يعني رسولا يدعى أشموئيل بن بابل ، ورسولا يدعى منشايل ، ورسولا يدعى شعيا بن امضيا ، ورسولا يدعى حزقيل ، ورسولا يدعى إرميا بن حلقيا ـ وهو الخضر ـ ورسولا يدعى داود بن أيشا ـ وهو أبو سليمان وهو من المرسلين ورأس العابدين ـ ورسولا مرسلا يدعى المسيح عيسى ابن مريم فهؤلاء الرسل ابتعثهم الله ، وانتخبهم للأمة بعد موسى بن عمران ، وأخذ عليهم ميثاقا غليظا أن يؤدّوا إلى أمتّهم صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفة أمّته.

أخبرنا أبو القاسم الحسين بن الحسن بن محمد الأسدي ، أنا أبو عبد الله بن أبي الحديد ، أنا محمد بن عوف بن أحمد المزني (٤) ، أنا أبو علي الحسين بن إبراهيم بن جابر الفرائضي ، نا عبد الصمد بن عبد الله ، نا أحمد بن أبي الحواري قال : سمعت أبا أحمد القارئ يقول : قال إرميا إلهي أتراك [مخرب بيت قدسك](٥) ، منزل وحيك ، ومهلك أبناء أحبابك وأنبيائك؟ قال : فأوحى الله إليه : يا إرميا إن الذين ذكّرتني بهم إنما أكرمهم بطاعتي ، ولو أنهم عصوني لأنزلتهم منزلة العاصين ، إني إنما أكرم من أكرمني ، وأهين من هان عليه أمري.

أخبرنا أبو الحسن بركات بن عبد العزيز بن الحسين البزاز ، وأبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر الرزّاز قالا : أنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الحافظ ، نا أبو الحسن محمد (٦) بن أحمد بن رزقويه ، نا أحمد بن سندي الحداد ، نا

__________________

(١) ضبطت عن الأنساب ، هذه النسبة إلى سوذرجان من قرى أصبهان.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٨٧.

(٣) من الآية ٨٧ ، من سورة البقرة.

(٤) ترجمته في سير الأعلام ١٧ / ٥٥٠ (٣٦٦).

(٥) ما بين معكوفتين سقط من الأصل واستدرك على هامشه وبجانبه كلمة صح.

(٦) ترجمته في سير الأعلام ١٧ / ٢٥٨ (١٥٥).

٣٣

الحسن بن علي بن علوية ، نا إسماعيل بن عيسى ، نا إسحاق بن بشر القرشي ، أنا إدريس ـ هو ابن عبد الكريم ـ عن وهب ـ وهو ابن منبّه ـ وسعيد ، عن قتادة ، عن الحسن قالا : إن إرميا كان غلاما من أبناء الملوك ، وكان زاهدا ، ولم يكن لأبيه ابن غيره ، وكان أبوه يعرض عليه النّكاح فكان يأبى مخافة أن يشغله عن عبادة ربه ، فألحّ عليه أبوه ، فكره أن يعصي أباه ، فزوّجه في أهل بيت من عظماء أهل مملكته ، فلمّا أن دخلت عليه امرأته قال لها : يا هذه إني أسر إليك أمرا ، فإن كتمتيه عليّ وسترتيه سترك الله في الدنيا والآخرة ، وإن أنت أفشيتيه فضحك الله في الدنيا والآخرة. قالت : فإني سأكتمه عليك ، قال : فإني لا أريد النساء.

قال : فأقامت معه سنة ، ثم إن أباه أنكر ذلك ، فسأله فقال : يا أبه ما طال ذلك بعد ؛ فدعا امرأته فسألها ، فقالت مثل ذلك ، ففرّق بينهما ، وزوّجه امرأة في بيت أشرافهم ، فأدخلت عليه ، فاستكتمها أمره مثل ما استكتم الأولى ، فلما مضت سنة ، فسأله أبوه مثل ما سأل فقال : ما طال ذلك يا أبه ، فسأل المرأة فقالت : كيف تحمل المرأة من غير زوج؟ ما مسّني ، فغضب أبوه ، فهرب منه حتى بعثه الله نبيا مع ناشية الملك ، وجاءه الوحي.

قال : ونا إسحاق قال : وأنا إدريس عن وهب بن منبّه : إن الله تعالى لما بعث إرميا إلى بني إسرائيل ، وذلك حين عظمت الأحداث في بني إسرائيل وعملوا بالمعاصي فقتلوا الأنبياء ، طمع بخت نصّر فيهم وقذف الله في قلبه ، وحدّث نفسه بالمسير إليهم لما أراد الله أن ينتقم به منهم ، فأوحى الله إلى إرميا إني مهلك بني إسرائيل ، ومنتقم منهم ، فقم على صخرة بيت المقدس يأتيك أمري ووحيي.

فقام إرميا ، فشق ثيابه ، وجعل الرماد على رأسه وخرّ ساجدا وقال : يا رب وددت أن أمّي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي.

فقيل له : ارفع رأسك ، فرفع رأسه ، قال : فبكى ، ثم قال : يا ربّ من تسلّط عليهم؟ قال : عبدة النيران ، لا يخافون عقابي ، ولا يرجون ثوابي ، قم يا إرميا فاستمع وحيي ، أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل : من قبل أن أخلقك اخترتك ، ومن قبل أن أصوّرك في رحم أمك قدّستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهّرتك ، ومن قبل

٣٤

أن تبلغ نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشدّ اخترتك (١) ، ولأمر عظيم اجتبيتك. فقم مع الملك ناشية تسدّده وترشده.

فكان معه يرشده (٢) ، ويأتيه الوحي من الله ، حتى عظمت الأحداث [في بني إسرائيل](٣) ونسوا ما نجّاهم الله من عدوّهم سنحاريب وجنوده ، فأوحى الله تعالى إلى إرميا : [أن ائت قومك من بني إسرائيل](٤) قم فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكّرهم نعمتي عليهم ، وعرّفهم إحداثهم. فقال إرميا : يا ربّ إني ضعيف إن لم تقوّني ، عاجز إن لم تبلّغني ، مخطئ إن لم تسدّدني ، مخذول إن لم تنصرني ، ذليل إن لم تعزّني.

فقال الله له : أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن الخلق والأمر كله لي ، وأن القلوب والألسنة كلها بيدي ، أقلبها كيف شئت فتطيعني ، فأنا الله الذي ليس شيء مثلي ، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ، وأنه لا يخلص التوحيد ولا تتم القدرة إلّا لي ولا يعلم ما عندي ، وأنا الذي كلّمت البحار ، ففهمت قولي ، وأمرتها ففعلت (٥) أمري ، وحدّدت عليها حدودا فلا تعدو حدّي (٦) ، وتأتي بأمواج كالجبال ، فإذا بلغت حدّي ألبستها مذلة لطاعتي وخوفا واعترافا لأمري ، وإني معك ولن يصل إليك شيء معي ، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلّغهم رسالاتي ، فتستوجب بذلك أجر من اتّبعك ولا ينتقص من أجورهم شيئا ، وإن تقصّر عنها تستحق بذلك مني وزر من تركته في عماءة (٧) ، ولا ينتقص ذلك من أوزارهم شيئا. انطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم : إن الله ذكّركم بصلاح آبائكم فلذلك استبقاكم (٨) يا معشر أبناء الأنبياء ، وتسألهم كيف [وجد](٩) آباؤهم مغبّة طاعتي ، وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي؟ وهل وجدوا أحدا عصاني فسعد بمعصيتي؟ وهل علموا أحدا أطاعني فشقي بطاعتي؟ إن الدوابّ إذا

__________________

(١) الطبري ١ / ٥٤٨ اختبرتك.

(٢) الطبري : يرشده ويسدده.

(٣) ما بين معكوفتين زيادة عن تاريخ الطبري ١ / ٥٤٨.

(٤) ما بين معكوفتين زيادة عن تاريخ الطبري ١ / ٥٤٨.

(٥) في الطبري : «فعقلت» وبهامشه عن إحدى نسخه : ففعلت.

(٦) الطبري : وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدّى حدّي.

(٧) الطبري : في عماه.

(٨) سقطت من الأصل واستدركت عن هامشه وبجانبها كلمة صح.

(٩) في الطبري : حمله ذلك على أن يستتيبكم.

٣٥

ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها ، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الأمر الذي به أكرمت آباءهم ، وابتغوا الكرامة من غير وجهها.

أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولا ، يتعبدونهم [دوني](١) ويحكمون فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري ، وأنسوهم ذكري ، وسنّتي ، وغرّوهم عنّي. فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلّا لي ، فهم يطيعونهم في معصيتي.

وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي ، وأمنوا مكري ، وغوتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي ، ونسوا عهدي فهم يحرّفون كتابي ، ويفترون على رسلي جرأة منهم عليّ ، وغرّة بي. فسبحان جلالي ، وعلوّ مكاني ، وعظمة شأني هل ينبغي لي أن يكون لي شريك في ملكي؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي؟ وهل ينبغي لي أن أخلق عبادا أجعلهم أربابا من دوني؟ أو آذن لأحد بالطاعة لأحد؟ [وهي](٢) لا تنبغي (٣) إلّا لي.

وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني ، ويطيعونهم في معصيتي ، ويوفون لهم بالعهود الناقضة لعهدي ، فهم جهلة بما يعملون (٤) لا ينتفعون بشيء مما علموا من كتابي (٥).

وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون يخوضون مع الخائضين يتمنون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها ، ويزعمون أنه لا أحدا أولى بذلك منهم بغير صدق منهم ولا تفكّر ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم ، وكيف كان جهدهم في أمري ، حتى اغترّ المغترّون ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم ، فصبروا وصدقوا حتى عزّ أمري ، وظهر ديني ، فتأنّيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني ، ويرجعون ، فتطوّلت عليهم ، وصفحت عنهم ، فأكثرت ومددت لهم في العمر ، وأعذرت لهم لعلهم

__________________

(١) ما بين معكوفتين زيادة عن تاريخ الطبري ١ / ٥٤٨.

(٢) زيادة عن البداية والنهاية ٢ / ٤٣.

(٣) بالأصل «ينبغي» والصواب ما أثبت عن البداية والنهاية.

(٤) في البداية والنهاية وبالأصل : يعلمون.

(٥) كذا وردت العبارة في البداية والنهاية ، وفي الطبري ١ / ٥٤٩ : وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد ، ويتزينون بعمارتها لغيري لطلب الدنيا بالدين ، ويتفقهون فيها لغير العلم ، ويتعلمون فيها لغير العمل.

٣٦

يتذكّرون ، وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض ، فألبسهم العافية وأظهرهم على العدو ، ولا يزدادون إلّا طغيانا وبعدا مني ، فحتى متى هذا؟ أبي يسخرون؟ أم بي يتمرسون (١) أم إيّاي يخادعون؟ أم عليّ يجترئون؟.

فإني أقسم بعزّتي لأتيحنّ لهم فتنة يتحير فيها الحليم (٢) ، ويضلّ فيها رأي ذوي الرأي ، وحكمة الحكيم ، ثم لأسلطنّ عليهم جبارا قاسيا عاتيا ، ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرأفة والرحمة ، وآليت أن يتبعه عدد سود مثل الليل المظلم ، له فيه عساكره مثل قطع السحاب ومواكب (٣) مثل العجاج ، وكأن خفيق راياته طيران النسور ، وحمل فرسانه كصوت العقبان ، يعيدون العمران خرابا والقرى وحشا ، ويعيثون في الأرض فسادا ، ويتبرّون ما علوا تتبيرا ، قاسية قلوبهم ، لا يكترثون ولا يرقّون ولا يرحمون ، ولا يبصرون ولا يسمعون ، يجولون في الأسواق بأصوات مرتفعة مثل رهيب الأسد ، يقشعر من هيبتها الجلود وتطيش من سمعها الأحلام ، بألسنة لا يفقهونها ، ووجوه ظاهرة عليها المنكر لا يعرفونها ، فو عزّتي لأعطّلنّ بيوتهم من كتبي وقدسي ، ولأخلينّ مجالسهم من حديثها ، ودروسها ، ولأوحشن مساجدهم من عمّارها وزوّارها الذين كانوا يتزيّنون بعمارتها لغيري ، ويتهجّدون فيها ، ويتعبّدون لكسب الدنيا بالدين ، ويتفقهون فيها لغير الدّين ، ويتعلمون فيها لغير العمل.

لأبدلنّ ملوكها بالعزّ الذلّ ، وبالأمن الخوف ، وبالغناء الفقر ، وبالنعمة الجوع ، وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء ، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء ، وبالأزواج الطيبة والأدهان جيف القتلى ، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والأغلال ، ثم لأعيدنّ فيهم بعد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب ، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع ، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد ضوء السراج دخان الحريق ، وبعد الأنس الوحشة والقفار ، ثم لأبدلنّ نساءها بالأسورة الأغلال ، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد ، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار ، وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار والخبب إلى الليل ، في بطون الأسواق ،

__________________

(١) البداية والنهاية : يتحرشون.

(٢) الأصل والطبري ، وفي البداية والنهاية : الحكيم.

(٣) الطبري : ومراكب.

٣٧

وبالخدور والستور الحسور عن الوجوه ، والسوق والأسفار والأرواح السموم.

ثم لأدوسنّهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حالق (١) لوصل ذلك إليه ، إني إنما أكرم من أكرمني ، وإنما أهين من هان عليه أمري ، ثم لآمرنّ السماء خلال ذلك فلتكونن طبقا من حديد ، ولآمرنّ الأرض فلتكوننّ سبيكة من نحاس ، فلا سماء تمطر ولا أرض تنبت ، فإن أمطرت خلال ذلك شيئا سلّطت عليه الآفة ، فإن خلص لهم منه شيء نزعت منه البركة ، وإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوني لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرّعوا إليّ صرفت وجهي عنهم. وإن قالوا اللهمّ أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك ، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك ، وجعلت فينا نبوّتك وكتابك ومساجدك ، ثم مكّنت لنا في البلاد ، واستخلفتنا فيها ، وربيتنا وأباءنا من قبلنا بنعمتك صغارا ، وحفظتنا وإيّاهم برحمتك كبارا فأنت أولى (٢) المنعمين أن لا تغيّر وإن غيّرنا ، ولا تبدّل وإن بدّلنا ، وأن يتمّ (٣) نعمته وفضله ومنّه وطوله وإحسانه.

فإن قالوا ذلك قلت لهم : إني أبتدئ عبادي برحمتي ونعمتي ، فإن قبلوا أتممت ، وإن استزادوا زدت ، وإن شكروا أضاعف ، وإن بدّلوا غيّرت ، وإن غيروا غضبت ، وإذا غضبت عذّبت ، وليس يقوم شيء لغضبي.

قال كعب : قال إرميا : برحمتك أصبحت أتكلم بين يديك ، وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذلّ وأضعف من أن ينبغي لي أن أتكلّم بين يديك ، ولكن برحمتك أبقيتني لهذا اليوم ، وليس أحد أحقّ أن يخاف هذا العذاب وهذا الوعيد منّي بما رضيت به مني طولا ، والإقامة في دار الخاطئين وهم يعصونك حولي بغير تنكير ولا تغيير منّي ، فإن تعذّبني فبذنبي ، وإن ترحمني فذلك ظنّي بك.

ثم قال : يا ربّ سبحانك وبحمدك وتباركت ربّنا وتعاليت لمهلك (٤) هذه القرية وما حولها ، وهي مساكن أنبيائك ومنزل وحيك ؛ يا ربّ سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمخرب هذا المسجد وما حوله من المساجد ومن البيوت التي رفعت لذكرك.

__________________

(١) الحالق : المكان المرتفع.

(٢) البداية والنهاية : أوفى.

(٣) البداية والنهاية : وأن تتم فضلك ومنّك وطولك وإحسانك.

(٤) البداية والنهاية : أتهلك.

٣٨

يا ربّ سبحانك وبحمدك وتباركت وتعاليت لمقتك هذه الأمّة وعذابك إيّاهم وهم من ولد إبراهيم خليلك ، وأمة موسى نجيّك ، وقوم داود صفيّك.

يا رب : أيّ القرى تأمن عقوبتك بعد أورشلم؟ وأيّ العباد يأمنون سطوتك بعد ولد خليلك إبراهيم وأمّة نجيّك موسى وقوم خليفتك داود؟ تسلّط عليهم عبدة النيران؟.

قال الله تعالى : يا إرميا من عصاني فلا يستنكر نقمتي ، فإني إنما كرّمت (١) هؤلاء القوم على طاعتي ، ولو أنهم عصوني لأنزلتهم دار العاصين إلّا أن أتداركهم برحمتي.

قال إرميا : يا رب اتخذت إبراهيم خليلا وحفظتنا به ، وموسى قرّبته نجيّا ، فنسألك أن تحفظنا ولا تتخطّفنا ، ولا تسلّط علينا عدوّنا.

فأوحى الله إليه : يا إرميا إني قدّستك في بطن أمك ، وأخّرتك إلى هذا اليوم فلو أن قومك حفظوا اليتامى والأرامل والمساكين وابن السبيل لكنت الداعم لهم ، وكانوا عندي بمنزلة جنّة ناعم شجرها ، طاهر ماؤها ولا يغور ماؤها ، ولا تبور ثمارها ولا تنقطع ، ولكن سأشكو إليك بني إسرائيل :

إني كنت لهم بمنزلة الراعي الشفيق أجنّبهم كل قحط وكلّ غرّة (٢) ، وأتبع بهم الخصب حتى صاروا كباشا ينطح بعضها بعضا ، فيا ويلهم ، ثم يا ويلهم إنما أكرم من أكرمني ، وأهين من هان عليه أمري ، إنّ من كان قبل هؤلاء القوم من القرون يستخفون بمعصيتي ، وإن هؤلاء القوم يتبرّعون معصيتي تبرّعا فيظهرونها في المساجد والأسواق ، وعلى رءوس الجبال وظلال الشجر ، حتى عجت السماء إليّ منها ، وعجّت الأرض والجبال ، ونفرت (٣) منها الوحوش بأطراف الأرض وأقاصيها ، وفي كل ذلك لا ينتهون ولا ينتفعون بما علموا من الكتاب.

وقال إسحاق : قال هؤلاء المسمّون بأسنادهم : لما بلّغهم إرميا رسالة ربّهم وسمعوا ما فيها من الوعيد والعذاب عصوه وكذّبوه واتّهموه قالوا : كذبت وعظّمت (٤)

__________________

(١) البداية والنهاية ومختصر ابن منظور ٤ / ٢٤٤ : أكرمت.

(٢) الأصل والمختصر ، وفي البداية والنهاية : عسرة.

(٣) بدون إعجام بالأصل وفي م : ويقرب والمثبت عن البداية والنهاية.

(٤) البداية والنهاية : وأعظمت.

٣٩

على الله الفرية ، فتزعم أن الله معطل أرضه ومساجده من كتابه وعبادته وتوحيده ، فمن يعبده حتى لا يبقى له في الأرض عابد ولا مسجد ولا كتاب؟ لقد أعظمت على الله الفرية ، قال ابن سندي : وسقط من كتابي كلام هو : ولقد اعتراك الجنون فأخذوه وقيّدوه وسجنوه ، فعند ذلك بعث الله عليهم بخت نصّر ، فأقبل يسير بجنوده حتى نزل بساحتهم ثم حاصرهم فكان كما قال الله تعالى : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ)(١).

قال : فلمّا طال بهم الحصر ، نزلوا على حكمه ففتحوا الأبواب فتخللوا الأزقّة ، فذلك قوله تعالى : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) وحكم فيهم حكم الجاهلية ، وبطش الجبارين ، فقتل منهم الثلث ، وسبى الثلث وترك الزمنى (٢) والشيوخ والعجائز ، ثم وطئهم بالخيل وهدم بيت المقدس وساق الصبيان ، وأوقف النساء في الأسواق محسرات ، وقتل المقاتلة ، وخرّب الحصون ، وهدم المساجد وحرّق التوراة ، وسأل عن دانيال الذي كان كتب له الكتاب فوجده قد مات ، وأخرج أهل بيته الكتاب إليه ، وكان فيهم دانيال بن حزقيل الأصغر ، وبنشائيل ، وعزرائيل ، وميخائيل فأمضى لهم ذلك الكتاب ، وكان دانيال بن حزقيل خلفا من دانيال الأكبر.

ودخل بخت نصّر بجنوده بيت المقدس ووطئ الشام كلها وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، فلما بلغ (٣) منها انصرف راجعا وحمل الأموال التي كانت بها وساق السبايا معه فبلغ عدة صبيانهم من أبناء الأحبار والملوك تسعين (٤) ألف غلام ، وقذف الكناسات في بيت المقدس وذبح فيه الخنازير فكان الغلمان سبعة آلاف غلام من بيت داود ، وأحد (٥) عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه ابن يامين وثمانية آلاف من سبط أشر (٦) بن يعقوب ، وأربعة عشر ألفا من سبط زبالون ونفتالى (٧) بن يعقوب ، وأربعة عشر ألفا (٨)

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٥.

(٢) الزمني : أصحاب العاهات.

(٣) في البداية والنهاية : فرغ.

(٤) الطبري ١ / ٥٥٣ سبعين ألفا.

(٥) عن الطبري والبداية والنهاية ، وبالأصل «إحدى».

(٦) الأصل والبداية والنهاية «أيشى» والمثبت عن الطبري.

(٧) كذا ، وفي البداية والنهاية : ابني.

(٨) بالأصل «ألف».

٤٠