المناقب

الموفق بن احمد البكري المكي الحنفي الخوارزمي

المناقب

المؤلف:

الموفق بن احمد البكري المكي الحنفي الخوارزمي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٣

الكتيبة وهم كباش الكتائب.

قال رضي الله عنه : وكان معاوية على التل ، مع وجوه قريش ، ينظر إلى علي عليه‌السلام يقتل كل من بارزه ، فقال : لقد دعاني علي إلى البراز حتى استحييت من قريش فقال له عتبة : أله عن هذا كأن لم تسمعه ، فقد علمت انه قتل حريثا وفضح عمراً وقتل كل من برز إليه وانما يقوم مقامك بسر بن ارطاة ، فقال بسر : ما كان أحد أحق بمبارزته من ابن حرب ، فاما إذا ابيتموه فانا له وكان عند بسر ابن عم له فقال :

أنت له يابسر ان كنت مثله

وإلا فان الليث للضبع آكل

كأنك يابسر بن ارطاة جاهل

بشداته في الحرب أو متجاهل

متى تلقه فالموت في رأس رمحه

وفي سيفه شغل لنفسك شاغل

وما بعده في آخر الخيل عاطـف

وما قبله في أول الخيل حامل (١)

فقال بسر : خرج مني شيء ، فانا استحي أن ارجع عنه ، فغدا بسر إلى المعركة فرأى عليا عليه‌السلام في أول الخيل منقطعاً عن خيله مع الاشتر وهو يريد التل ويقول :

أني علي فسلوني تخبروا

سيفي حسام وسناني أزهر

منا النبي الطاهر المطهر

وحمزة الخير وصنوي جعفر

له جناح في الجنان أخضر

ذا أسد الله وفيه مفخر

هذا الهزبر وابن هند مجحر (٢)

مطرد مذبذب مؤخّر

فاستقبله بسر قريبا من التل فطعنه علي عليه‌السلام ولم يعرف أنه بسر ، فانحنى سيفه فدفعه بيده فصرعه على وجهه وانكشفت عورته فانصرف عنه علي ، فناداه الاشتر : يا أمير المؤمنين انه بسر ، فقال : دعه لعنه الله فحمل ابن

__________________

(١) رجل عطوف وعطاف : يحمى المنهزمين.

(٢) من « أجحره » : ألجأه السبع أن يدخل جحره.

٢٤١

عم بسر على علي عليه‌السلام وهو يقول :

أرديت بسراً والغلام ثائره

أرديت شيخاً غاب عنه ناصره

فحمل عليه الاشتر وهو يقول :

اكل يوم رجل شيخ شاغرة

وعورة وسط العجاج ظاهرة

تبرزها طعنة كف واترة

عمرو وبسر رميا بالفاقرة (١)

وطعنه الاشتر فكسر صلبه ، قام بسر من ضربة علي عليه‌السلام وولت خيله وناداه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : يا بسر معاوية كان أحق بهذا منك ، فرجع بسر إلى معاوية فقال له معاوية : ارفع طرفك فقد ادال الله عمرا منك فقال في ذلك النضر بن الحارث :

أفي كل يوم فارس تندبونه

له عورة وسط العجاجة بادية

يكف بها عنه علي سنانه

ويضحـك منها في الخلاء معاوية

بدت أمس من عمر وفقنع رأسه

وعورة بسر مثلها فرج جارية (٢)

فقولا لعمرو وابن ارطاة ابصرا

سبيلكما لا تلقيا الليث ثانية

ولا تحمدا إلا الحيا وخصاكما

كما كانتا والله للنفس واقية

فلولاهما لم تنجوا من سنانه

وتلك بما فيها عن العود ناهية

متي تلقيا الخيل المشيحة صبحة

وفيها علي فاتركا الخيل ناحية

وكونا بعيدا حديث لا تبلغ القنا

وحمى الوغى ان التجارب كافية

وان كان منه بعد في النفس حاجة

فعودا إلى ما شئتما هي ماهية

وكان بسر بعد ذلك إذا لقى الخيل التي فيها علي عليه‌السلام تنحى ناحية عنه (٣).

وروى أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يقول أيام

__________________

(١) وقعة صفين / ٤٦١ ـ والفاقرة : الداهية تكسر فقار الظهر.

(٢) وفي وقعة صفين : وعورة بسر مثلها حذو حاذية ولا يخلو من مناسبة.

(٣) وقعة صفين / ٤٦٢.

٢٤٢

صفين : والله ما سمعت بامة قد آمنت بنبيها وقاتلت أهل بيت نبيها غيركم.

قال رضي الله عنه : وروى عن حبة العرني قال : لما نزل علي عليه‌السلام بمكان يقال له البليخ (١) على جانب الفرات نزل راهب من صومعته فقال لعلي عليه‌السلام : ان عندنا كتابا توارثناه من آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم عليه‌السلام اعرضه عليك؟ فقال علي عليه‌السلام : نعم فما هو قال الراهب :

بسم الله الرحمن الرحيم.

الذي قضى فيما قضى ، وسطر فيما كتب ، انه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويدلهم على سبيل الله لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الاسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشز (٢) وفي كل صعود وهبوط تذل (٣) السنتهم بالتهليل والتكبير وينصره الله على كل من ناواه فإذا توفاه الله اختلفت امته ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء ، ثم يمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقضى بالحق ولا يوكس (٤) الحكم ، الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح والموت أهون عليه من شرب الماء على الظماء يخاف الله في السر وينصح له في العلانية لا يخاف في الله لومة لائم ، فمن ادرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضوان والجنة ؛ ومن ادرك ذلك العبد الصالح

__________________

(١) البليخ : اسم نهر بالرقة يجتمع فيه الماء من عيون ... ويتشعب من ذلك الموضع انهار تسقي بساتين وقرى ثم تصب في الفرات تحت الرقة بميل ـ معجم البلدان.

(٢) النشز بالفتح والتحريك : المتن المرتفع من الأرض ـ والصعود والهبوط : ما ارتفع وما انخفض من الارض.

(٣) يذل ، من الذل بالكسر والضم : اللين.

(٤) الوكس : النقص.

٢٤٣

فلينصره فان القتل معه شهادة فأنا مصاحبك لا افارقك حتى يصيبني ما اصابك قال : فبكى علي وقال : الحمد لله الذي لم يجعلني عنده منسياً ، الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار ، فمضى الراهب معه وكان فيما ذكر يتغدى مع أمير المؤمنين عليه‌السلام ويتعشى حتى اصيب بصفين ، فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : اطلبوه فلما وجده صلى عليه ودفنه وقال : هذا منا أهل البيت واستغفر له مراراً (١).

« قال رضي الله عنه » : وفي اليوم السابع والعشرين نادى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : هل من معين؟ فقال اثنا عشر الفاً : نموت بين يديك وكسروا جفون سيوفهم وسار علي عليه‌السلام بهم وهو يقول :

دبوا دبيب النمل لا تفوتوا

واصبحوا بحربكم وبيتوا

حتى تنالوا الثار أو تموتوا

أو لا فأني طال ما عصيت

قد قلتم لو جئتنا فجيت

ليس لكم ما شئتم وشيت

بل ما يشاء المحيي المميت

وحمل الأشتر وقال :

ابعد عمار وبعد هاشم

وابن بديل فارس الملاحم

نرجو البقاء ضل حكم الحاكم

وحمل حارثة بن قدامة وقال :

جرت باسباب الفناء مذحج

يحار فيها البطل المدجج (٢)

يقدمها تميمها والمذحـج

قوم إذا ما حسموها انضجوا

روحوا إلى الله ولا تعرجوا

دين قويم وسبيل منهج (٣)

وحمل علي عليه‌السلام والناس معه وخرق الصفوف وأزال الألوف

__________________

(١) وقعة صفين / ١٤٧.

(٢) المدجج : اللابس السلاح كانه المستتر به.

(٣) وقعة صفين / ٤٠٣.

٢٤٤

فرآه معاوية فركب فرسه ومر هاربا.

فقال معاوية ثم ذكرت قول قيس بن الحطيم فنزلت وقلت لاصحابي ما يمنعني من الانهزام إلا قول قيس حيث يقول :

أبت لي اسرتي وأبى بلائي

واخذي الحمد بالثمن الربيح

واعطائي على العلات مالي

وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشـت

مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع (١) عن مآثر صالحات

واحمى بعد عن عرض صحيح

ألا من مبلـغ الاحلاف عني

وقد تهدى النصيحة للنصيح (٢)

واشتد القتال وحمل الرؤساء على الرؤساء واضطرب الناس ولم يسمع إلا وقع الحديد على الحديد والهام.

قال رضي الله عنه وروى ان في اليوم الخامس والثلاثين ، اجتمع أهل العراق عند خيمة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ينتظرون خروجه ، فخرج وركب فرسه البحر وعليه درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، متقلداً سيفه ، متختماً بخاتمه ، متعمما بعمامته السحاب وخرج إلى المعركة ولم يكلم أحداً ، وكان معاوية سبق علياً عليه‌السلام إلى المعركة فقال له عمرو بن قيس بن عامر العكي ـ وهو رئيس عك ـ اما عك فلا تخرج من قولى ولكن مر القواد والرؤساء وفرسان الشام فليحملوا بحملتي فانهم ان فعلوا ذلك هزمت أهل العراق وارحتك مما أنت فيه ، وكانت عك اشجع أهل الشام وأصبرهم على القتال واشدهم على أهل العراق وكانوا يلزمون الارض ويشدون أنفسهم ، بعضهم ببعض وربيعة وهمدان ومذحج أشجع أهل العراق وأصبرهم على حر القتال وأطوعهم لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وأشدهم على معاوية وقومه ، وقد لقى هو وقومه منهم كل بلاء ثم حمل رئيس

__________________

(١) في [ ر ] : (خ ل) اناضل عن مآثر.

(٢) وقعة صفين / ٤٠٤.

٢٤٥

عك وحمل محمد ابن الحنفية والعباس بن ربيعة الهاشمي وعبد الله بن جعفر وارتفع الغبار وثار القتام (١) ، وجرت الدماء واختلط القوم ولم يعرف أحد صاحبه واشتد البلاء وقتل الاشتر من عك خلقاً كثيراً ، وفقد أهل العراق أمير المؤمنين عليه‌السلام وساءت الظنون وقالوا : لعله قتل ، فعلا البكاء والنحيب ، ونهاهم الحسن من ذلك وقال : ان علمت الأعداء ذلك منكم ، اجترؤا عليكم وان أمير المؤمنين عليه‌السلام أخبرني بأن قتله يكون بالكوفة ، وكانوا على ذلك إذ أتاهم شيخ يبكي وقال : قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد رأيته صريعاً بين القتلى ، فكثر البكاء والانتحاب ، فقال الحسن : يا قوم هذا الشيخ يكذب فلا تصدقوه وإن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : يقتلني رجل من مراد في كوفتكم هذه.

وروى أنه حكى للرشيد : ان الابطال بصفين جثوا على الركب وكسفت الشمس ، وثار القتام واظلمت الدنيا ، وضلت الألوية وفقدت الرايات ومرت مواقيت الصلاة لا يسجد فيها إلا تكبيراً ولا يسمع إلا وقع الحديد على الهام ، حتى تكادموا بالأفواه ونادى القوم في تلك الغمرات : يا معاشر العرب ، الله الله في الحرمات من النساء والبنات فغشي على الرشيد حتى رش عليه الماء ، فأفاق وقد اصفر لونه ودموعه تنحدر على لحيته ، وكان الاشتر يطلب أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك اليوم راية راية ، وقال لغلامه هاشم : أنظر هل رجع إلى موقفه وأنا أطلبه في العسكر ، فان بشرتني برجوعه فلك كذا وكذا ، وكان علي عليه‌السلام حينئذ مع سعيد بن قيس الهمداني وهمدان فوارسه الخواص فوجده الأشتر عنده فرآه علي عليه‌السلام متغيراً باكياً ، فقال له : ما خبرك؟ أفقدت ابنك ابراهيم ، أم ما أصابك غير ذلك؟

__________________

(١) القتام : الغبار الاسود أو الظلام.

٢٤٦

فقال الاشتر :

كل شيء سوى الامام صغير

وهلاك الامير أمر كبير

قد رضينا وقد اصيب لنا اليوم

رجال هم الحماة الصقور

من رأى غرة الوصي علي

انه في دجى الحنادس نور

قال رضي الله عنه يقال كدمه : عضه بادنى الفم ، وحمار مكدم : معضض ، وتكادموا : تفاعل من ذلك ؛ وقولهم : الدواب تكدم الحشيش إذا لم تستمكن من الحشيش ، وفي المرعى كدامة بقية ، مجاز ما قدمنا.

واشتدت المناجزة بين همدان وعك حتى قتل من همدان يومئذ ثلاثمائة رجلاً واثنا عشر رجلاً : وقتل من عك ثمانمائة وسبعون وقيل : ثمان مائة وثمانون رجلاً قال سعيد بن القيس الهمداني وهو رئيسهم :

وقد علمت عك بصفين اننا

إذا ما التقى الخيلان نطعنهم شزرا

ونحمل رايات الطعان بحقها

فنوردها بيضا ونصدرها حمرا

« قال رضي الله عنه » : روى انه في اليوم السابع والثلاثين من حروب صفين لما أصبح أمير المؤمنين عليه‌السلام أتاه أولا سعيد بن قيس الهمداني ووقف خيله مع راياته ، ثم أتاه الأشتر في عسكره ، وحجر بن عدى الكندي وقيس بن سعد بن عبادة ، ثم أتاه عبد الله بن عباس وسليمان بن صرد وصغيرة بن خالد والأحنف بن قيس ورفاعة بن شداد وجندب بن زهير ، وخرج أمير المؤمنين عليه‌السلام في درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفوقها خفتان أخضر محشو بالقز وهو متقلد سيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه حجفته ، وبيده قضيب رسول الله الممشوق ، وسلم عليه القوم وانصرفوا إلى معسكرهم وأقبل [ علي عليه‌السلام ] على الاشتر فقال : يا مالك معى راية لم أخرجها إلا يومى هذا وهي أول راية أخرجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد قال لي عند وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أبا الحسن انك لتحارب الناكثين والقاسطين والمارقين وأي تعب ونصب يصيبك من أهل الشام

٢٤٧

فاصبر على ما أصابك ، ان الله مع الصابرين ، وأخرج الراية وقد عفت وبليت وبكى الناس لما رأوها بكاء عالياً وقبلها من وجد إليها سبيلا وقال علي عليه‌السلام لقنبر : اخرج رمح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الملموس [ بيده ] ويرثه منى الحسن ولا يستعمله وينكسر بيد ابني الحسين ولقد أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله باخبار كثيرة.

يا مالك ان الدنيا دنية خلقت للفناء والخير خير الآخرة ، فانها خلقت للبقاء ، ثم سار ومعه الناس إلى المعركة وصفوا الصفوف وتأهبوا للقتال ، فأول من برز من صف أهل الشام رجل عليه درع مذهبة وبيضة عادية وبيده سيف حميري وصاح : يا أهل العراق ، تزعمون ان اليوم تجرى الدماء على الأرض كما تجرى [ الماء ] في النهر؟ وقد صدقتم اليوم نسفك دماءكم ، فليبرز الي أشجعكم ، فبرز إليه عمرو بن عدي بن وهب بن خصيب بن يعمر النخعي وقال له : يا شامى أنت أول قتيل يومنا هذا ، ثم تكافحا فسبقه عمرو بالضربة فصرعه ووقف مكانه ونادى : يا أهل الشام ليبرز إلي آخر ، فبرز إليه رجل مشهور بالشجاعة ، مذكور بالحماسة ، كان معاوية يعده لشدته يقال له أبو جندب عبيد بن ذويب السكوني اليماني ، فقتل أبو جندب عمراً فبرز إليه عبد الله بن بشر بن عوز (١) النخعي فقتله أيضاً أبو جندب فبرز إليه الشخير بن يحيى النخعي وكان فقيها صالحاً سخيا جواداً ، فقتله أبو جندب أيضاً فقال الاشتر وقد اغتاظ لأنه قتل جماعة من قومه لبعض بني عمه وهو طرفة بن عبيدة : انزع درعك وناولني رايتك فانى أبرز إليه ولعله يعرفني إذا بزرت إليه في زيي ، فلا يحاربني ، فاعطاه ذلك فبرز إليه الاشتر وأبو جندب ينظر إلى قتلاه ، فصاح عليه الاشتر وقال : قاتلك الله إذ قتلت سادات نخع ، فقال : لان القتل وجب عليهم بخروجهم على الامام عثمان وقتال

__________________

(١) في [ و ] عون.

٢٤٨

معاوية ، فقال الاشتر : ما أعظم حماقتكم وقد خدعكم معاوية بهذا ، انتم اطوع الناس لمخلوق واعصاهم للخالق ، ولم يعلم أبو جندب انه الاشتر فحمل عليه أبو جندب وضربه بسيفه فاتقاه الاشتر بحجفته ، ثم ضربه الاشتر على رأسه فرمى به ووقف مكانه ودعا بآخر ، فبرز إليه فقتله الاشتر وكان يقتل كل من برز إليه حتى قتل منهم أحد عشر رجلا ، ثم انصرف وكأنه مصاب فقال له أخوه : كم مرة تخاطر بنفسك وبروحك وقد قيل في المثل :

ياجرة يستقى بها زمناً

لابد من أن تصير منكسرة

فقال الاشتر :

أبعد عمار وبعد هاشم

وابن بديل فارس الملاحم

أرجوا البقاء ضل حكم الحاكم

لقد عضضنا امس بالأباهم

فاليوم لا نقرع (١) سن النادم

وكان قبل ذلك قتل عمار بن ياسر وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص ابن أخي سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن بديل الخزاعي « رض » وكانوا فرسان العراق ومردة الحروب ورجال المعارك وحتوف الأقران وامراء الاجناد وانياب أمير المؤمنين وقد فعلوا باهل الشام ما بقى ذكره على ممر الاحقاب حتى احتالوا لقتلهم فقتلوا فذكرهم الاشتر في شعره متأسفاً.

ثم برز من أهل الشام رجل ونادى : يا أهل العراق من الذي قتل منا احد عشر رجلا وفيهم أخي وعمي وابن خالتي فقال [ الأشتر : ] وأنت تلحق بهم ان شاء الله الساعة ، فقال الشامي :

انا الغلام الاريحي الكندي

اختال في الديباج والفرند

فضربه الأشتر فرمى برأسه ثم دعا أمير المؤمنين عليه‌السلام قنبراً وقال له : سر إلى الميمنة وقل لعبدالله بن جعفر ولا بني محمد : إذا حملت فاحملوا معي

__________________

(١) في [ و ] : يقرع.

٢٤٩

وقال لكميل بن زياد : قل لسليمان بن صرد وتكون على الميسرة وكذلك أرسل إلى أصحاب الميسرة واوصاهم بذلك ثم تقدم وانتظر الناس حملته ومعه الاشتر ومحمد وغيرهما ، وزحف الناس بعضهم إلى بعض وارتموا بالنبل حتى فنيت ثم تطاعنوا بالرماح حتى تكسرت ، ثم تضاربوا بالسيوف وعمد الحديد واشتد القتال حتى جرت الدماء جري الماء ، وانهزم عرب اليمن وكان وقع الحديد على الحديد أشد هولاً من الصواعق والجبال حين تنهدم وانكسفت الشمس وثار القتام وضلت الألوية والرايات ووصلوا النهار بالليل وهي ليلة الهرير واصبح أهل العراق والمعركة خلف ظهورهم وافترقوا عن سبعين الف قتيل.

في رواية : وحمل الوليد بن عقبة على أمير المؤمنين عليه‌السلام مع الف فارس فحمل عليه أمير المؤمنين مع الف فارس ، فانهزم الوليد ومن معه ولم يتبعهم أمير المؤمنين ، وكذلك كان يفعل ، فقال الاصبغ بن نباته وصعصعة بن صوحان : يا أمير المؤمنين كيف يكون لنا الفتح وإذا هزمناهم لم نقتلهم وإذا هزمونا قتلونا؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ان معاوية لا يعمل بكتاب الله ولا بسنة رسوله ولست انا كمعاوية ولو كان عنده علم وعمل لما حاربني والله بيني وبينه. قيل لم ير رئيس قوم مذ خلق الله الدنيا قتل بيده ما قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام في ذلك اليوم وتلك الليلة وهي ليلة الهرير إذ وصلوا الليل بالنهار في القتال حتى روي انه قتل في تلك الليلة بيده خمسمائة رجل وزيادة وفي رواية قتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك اليوم والليلة الفا رجل وسبعون رجلا وفيهم اويس القرنى زاهد زمانه وخزيمة بن ثابت الانصاري ذو الشهادتين وقتل من أصحاب معاوية [ في ذلك اليوم ] سبعة آلاف رجل.

قال رضي الله عنه : ومن المكاتبات التي جرت بين أمير المؤمنين عليه‌السلام وبين معاوية لعنه الله أيام صفين ، كتب علي بن أبي طالب إلى

٢٥٠

معاوية لعنه الله : اما بعد فان لله عباداً آمنوا بالتنزيل وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين وبين الله فضلهم في القرآن الحكيم ، وانتم في ذلك الزمان اعداء الرسول تكذبون بالكتاب وتجتمعون على حرب المسلمين من ثقفتم منهم ، عذبتموه أو قتلتموه حتى اذن الله تعالى باعزاز دينه واظهار نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله وادخل العرب في دينه افواجاً واسلمت له هذه الامة طوعاً وكرهاً ، فكنتم ممن دخل في هذا الدين اما رغبة واما رهبة ، حتى فاز أهل السبق بسبقهم وفاز المهاجرون الاولون بفضلهم ، فلا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم ان ينازعوهم في الامر الذين هم أهله واولياؤه فيجور ويظلم ولا ينبغي لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد أن يجهل قدره ويعدو طوره ولا يشقي نفسه بالتماس ما ليس له ولا هو أهله وان اولى الناس بهذا الامر قديما وحديثا اقربهم من الرسول واعلمهم بالكتاب والتأويل وأفقههم في الدين وأولهم اسلاماً وافضلهم اجتهادا فاتقوا الله الذي إليه ترجعون ، ولا تلبسوا الحق بالباطل لتدحضوا الحق وانتم تعلمون (١) ، واعلموا ان خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون وشر عباد الله الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم. ألا واني ادعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وحقن دماء هذه الامة ، فان قبلتم اصبتم وهديتم ، وان ابيتم إلا الفرقة وشق عصا هذه الامة لم تزدادوا من الله إلا بعداً ولم يزداد الله عليكم الا سخطاً (٢).

فلما وصل الكتاب إلى معاوية قام إليه أبو مسلم الخولانى فقال : صدق علي ، فعلام نقاتله؟ فوالله ، انه لأحق بالأمر منك قال : أجل ولكنه أطالبه بدم عثمان ، قال فاكتب إليه بحجتك حتى أحمل كتابك وآتيه فان أقر بدمه ، سألته الحجة وان أنكر ، نظرنا في أمرنا قال نعم فكتب [ معاوية ] إلى علي عليه‌السلام.

__________________

(١) البقرة : ٤٢.

(٢) وقعة صفين / ١٥٠.

٢٥١

أما بعد ، فان الله اختار بعلمه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعله الامين على وحيه ورسولا إلى خلقه ، واختار له من المسلمين أعوانا ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الاسلام ، كان افضلهم اسلاماً وانصحهم لله ولرسوله خليفته وخليفة خليفته والخليفة الثالث المظلوم ، عثمان بن عفان فكلهم حسدت وعلى كلهم بغيت. عرفنا ذلك في نظرك الشزر وقولك الهجر وتنفسك الصعداء في ابطائك بالبيعة عن الخلفاء ، في كل ذلك تقادكما يقاد الجمل المخشوش (١) حتى تبايع وأنت كاره ، ولم تكن لأحد منهم اشد حسداً منك لابن عمك عثمان بن عفان وكان احقهم ان لا تفعل ذلك به لقرابته وصهره فهجنت محاسنه وقطعت رحمه واظهرت له العداوة حتى ضربت إليه الابل من الآفاق ، وندبت إليه الخيل العراب (٢) ، فشهر عليه السلاح في حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تسمع الواعية في داره فلم ترد عليه بقول ولا فعل ، واقسم ان لو قمت مقاماً واحداً ، تنهى الناس عنه ما عدل بك احد (٣) ، ولمحي عنك عيب ما كنت تقرف به واخرى ، أربت (٤) بها عند اولياء عثمان وانصاره ، إيواؤك قتلته. فهم يدك وعضدك وانصارك وقد ذكر لى أنك تنتفى من دمه ، فان كنت صادقاً فادفع الي قتلته ثم نحن اسرع الناس اليك اجابة ، وإلا فانه ليس لك ولا لأصحابك عندنا إلا السيوف ، ووالله الذي لا إله غيره ، لنطلبن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل حتى نقتلهم به أو تلحق ارواحنا بالله تعالى (٥) : فاخذ أبو مسلم الخولاني كتابه

__________________

(١) المخشوش : الذي جعل في عظم انفه الخشاش وهو بالكسر ، عويد يجعل في انف البعير يشد به الزمام ليكون اسرع في انقياده.

(٢) خيل عراب أو إبل عراب : كرائم سالمة من الهجنة.

(٣) عدل فلانا بفلان يسوى بينهما ـ المعجم الوسيط ـ المستعمل في المتن على صيغة المجهول من هذه الباب.

(٤) أرب فلان بالشيء : كلف به ولزمه ـ المعجم الوسيط.

(٥) وقعة صفين ـ لنصر بن مزاحم ص ٨٧.

٢٥٢

وذهب به مع نفر من قراء الشام حتى دخلوا على علي عليه‌السلام فاوصلوا إليه كتاب معاوية ، فلما قرأه ، كتب جوابه :

أما بعد ، فإن أخا خولان أتاني منك بكتاب تذكر فيه محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والحمد لله الذي صدق له الوعد ومكن له في البلاد وأظهره على أهل عداوته والشنآن من قومه الذين البوا (١) عليه العرب وهم قومه الادنى فالادنى إلا قليلا ممن عصمه الله. ذكرت إن الله اختار له من المسلمين أعوانا ، أفضلهم زعمت في الاسلام وانصحهم لله ولرسوله خليفته وخليفة خليفته لعمري ان مكانهما في الاسلام لعظيم وان المصاب بهما مجرح لجليل. جزاهما الله تعالى بأحسن ما عملا وسعيا وذكرت عثمان في الفضل ثالثا فان يكن محسنا فسيلقى ربا شكوراً ، يضاعف [ له ] الحسنات ، ويجزى الثواب الجسيم ، وان يك مسيئاً ، فسيلقى رباً لا يتعاظمه ذنب يغفره ، ولعمري ، اني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الاسلام ، كنا أهل البيت أول من آمن وصدق بما ارسل به فاراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الافاعيل وامسكوا منا (٢) المادة وقطعوا منا الميرة (٣) ومنعونا الماء العذب واحلونا الخوف واضطرونا إلى جبل وعر (٤) وكتبوا بينهم كتاباً أن لا يواكلونا ولا يشاربونا ولا يبايعونا ولا يناكحونا ولا نأمن فيهم حتى ندفع إليهم نبينا فيقتلوه ويمثلوا به ، فحج الناس كفاراً ونحن نحج مؤمنين ، اكبر ذلك أبوك وأنت فعزم الله على منعه والذب عن حوزته ، فمؤمننا يرجو الثواب ، وكافرنا يحامي عن الاصل ، وانا أول أهل بيتي اسلاماً معه ومن أسلم بعدنا أهل البيت من قريش فحليف ممنوع وذو عشيرة تحامي عنه ، ثم

__________________

(١) ألب القوم : جمعهم ـ المعجم الوسيط.

(٢) في المخطوطات : عنا.

(٣) الميرة بالكسر : ما يجلب من الطعام.

(٤) الوعر : المكان المخيف الوحش ـ المكان الصلب ضد السهل.

٢٥٣

أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتال المشركين ، فكان يقدم أهل بيته إلى حر الأسنة والسيوف حتى قتل عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب يوم بدر وقتل حمزة يوم أُحد وقتل جعفر بمؤتة وزيد بن حارثة وأسلم الناس نبيهم يوم حنين غير العباس عمه ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه ، وأراد من لو شئت يا معاوية ، ذكرت اسمه ، مثل الذي أرادوا من الشهادة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غيره إلا أن آجالا أجلت ومنية أخرت. والله ولي الاحسان إليهم والمنان على أهل بيتى بما اسلفوا من الصالحات وقد أنزل الله تعالى في كتابه فضلهم يوم حنين فقال : « فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين » (١) وانما عنانا بذلك دون غيرنا فتذكر في الفضل غيرنا وتدعنا فلم لا تذكر فيه من استشهد في الله ورسوله منا؟ وما ذاك إلا لحسدك إيانا وبغيك علينا ، كما ان تلك عادتك فينا فهل سمعت يا معاوية بأهل بيت نبي في سالف الأمم ، اصبر على الضراء واللأواء (٢) وحين البأس والمواطين الكريهة من هؤلاء النفر الذين عددتهم من أهل بيتي؟ وفي المهاجرين والانصار خير كثير. جزاهم الله بأحسن اعمالهم ، وذكرت يا معاوية حسدي الخلفاء وبغيى عليهم فمعاذ الله من الحسد والبغي ، بل أنا المحسود المبغي عليه فاما الابطاء عنهم والنكرة لأمرهم فانى لست أعتذر إلى الناس منه ان الله تعالى لما قبض محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله اختلف الناس فقالت قريش : منا الامير ، وقالت الانصار : منا الامير ، فقالت قريش : ان محمدا منا ونحن أحق بالامر منكم ، فعرفت الانصار ذلك فسلموا إليهم الامر والسلطان ، فاستحقتها قريش بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فان يكن هذا هكذا فان اولى الناس بمحمد ، أولاهم بها وإلا فان الانصار أعظم الناس سهماً في الإسلام ولا أرى أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا وللانصار ظلموا بل قد عرفت أن حقي ، هو

__________________

(١) الفتح : ٢٦.

(٢) اللأواء : الشدة وضيق المعيشة ـ النهاية.

٢٥٤

المأخوذ. فقد تركته لهما ، اما عدلا واما صلحاً غير حرجين ولا متبوعين واما ما ذكرت من أمر عثمان فانه فعل ما قد علمت ورأيت من الحدث وفعل الناس ما قد رأيت من التعيير وقد علمت يا معاوية اني كنت من أمر عثمان في عزلة يسعني من ذلك ما وسع أصحاب محمد (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله الا أن تتجنى فتجن ما بدا لك ، ولعمري لقد ايفنت ما دم عثمان عندي ولا قبلى ولا أنت وليه وان دونك لاولياء ولكن الدنيا آثرت ولها كدحت وأنت بعثمان تربصت وقد استنصرك في حياته فما نصرت وأما ما ذكرت من دفع قتلة عثمان اليك فانه لا يسعني دفعهم اليك ولا إلى غيرك لأنهم محتجون في دم عثمان بان عثمان قد قتل منهم ، قبل قتلهم اياه فهم متأولون في ذلك ومحتجون فيه [ فاما ما ذكرت من انك تطلبهم في البر والبحر فاقسم بالله لئن لم تنته وتنزع عن سفهك يابن آكلة الاكباد لتجدنهم يطلبونك ولا يكلفونك طلبهم وكان أبوك أتاني حين ولى الناس أبا بكر فقال : أنت أحق الناس بهذا الأمر منهم كلهم بعد محمد وانا يدك على من شئت فابسط يدك ، أبايعك فانت أعز العرب دعوة فكرهت ذلك ، كراهة للفرقة وشق عصى الامة ، لقرب عهدهم بالكفر والارتداد فان كنت تعرف من حقى ما كان أبوك يعرفه أصبت رشدك وان لم تفعل ، استعنت بالله عليك ونعم المستعان وعليه توكلت واليه انيب ] (٢).

روى انه قال للخولاني : يا أبا مسلم من معاوية حتى أدفع إليه قتلة عثمان؟ إنما عليه أن يبايعني كما بايعني المهاجرون والانصار ، ثم يجتمع أولياء عثمان ويقتص لهم الامام من قتلة والدهم ، ويحكم بما أمر الله به ، ولكن معاوية لا يجد ما يستغوى به الناس غير هذا ، ولعمري لو وجدت سبيلا

__________________

(١) في [ و ] : يمنعنى ما يمنع اصحاب محمد.

(٢) وقعة صفين / ٨٨ وما بين المعقوفتين في [ ر ] تقديم وتأخير وما في المتن على ترتيب [ و ].

٢٥٥

إلى الاقادة منهم في حكم الله تعالى ما اخذتني في [ أهل ] مصر لابن « أروى » (١) هوادة.

فلما وصل كتابه إلى معاوية وأتاه أبو مسلم بالحجج ، قال معاوية : لست انكر كل ما قال في فضائل نفسه وأهل بيته غير انه لا يقنعني إلا أن يدفع الي قتلة عثمان ، فخرج أبو مسلم في جماعة كثيرة حتى لحق بعلي رضي الله عنه.

وقال علي عليه‌السلام : إني لا اتعجب من معاوية وبغضه وحسده ولكن أتعجب من النعمان بن بشير وعبد الله بن عامر بن كريز وقد رأوا منزلتي عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل يقول :

أسأت إذ أحسنت ظنى بكم

والحزم سوء الظن بالناس

من أحسن الظن باعدائـه

تجرع الهم بانفاس

وكتب معاوية إلى علي عليه‌السلام مع رجل من السكاسك يقال له عبد الله بن عقبة وكان من ناقلة العراق (٢) فكتب :

أما بعد ، فاني أظنك ان لو علمت ان الحرب تبلغ بك ما بلغت وعلمنا لم نجبها بعضنا على بعض وإن كنا قد غلبنا على عقولنا ، فقد بقي منها ما تندم على ما مضى ونصلح به ما بقى وقد كنت سألتك الشام ، على أن لا تلزمني (٣) لك طاعة ولا بيعة فأبيت ذلك علي (٤) فأعطاني الله ما منعت وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ولا أخاف من القتل إلا ما تخاف ، وقد والله رقت الاجناد وذهبت الرجال ونحن بنو

__________________

(١) ابن اروى : اسم آخر لعثمان ، كان ينادى به ، وإروى ، هي امه وهي بنت كريز بن عبدالشمس ـ راجع اسد الغابة ٥ / ٣٩١.

(٢) وفي [ و ] وكتب معاوية الباغي الطاغي إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٣) في الأصلين : « على ان تلومني » بدل « تلزمني » وهو تصحيف.

(٤) في [ و ] : وقد كنت سألتك الشام على ان يكون مني لك طاعة ولا بيعة ...

٢٥٦

عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلا فضل لا يستذل به عزيز ولا يسترق به حر والسلام (١)

فلما انتهى كتاب معاوية إلى علي ، قرأه قال : العجب لمعاوية وكتابه إلي ، ثم دعا عبد الله بن أبي رافع كاتبه فقال : اكتب إلى معاوية : أما بعد فقد جاءني كتابك ، تذكر فيه : انك لو علمت وعلمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجبها (٢) بعضنا على بعض وأنا واياك منها في غاية لم نبلغها بعد.

فاما طلبك مني الشام فاني لم اكن لاعطيك اليوم ما منعتك أمس ، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فإنك لست على الشك أمضى مني على اليقين وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة ، وأما قولك ؛ انا بنو عبد مناف ، ليس لبعضنا على بعض فضل فكذلك نحن ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا المحق كالمبطل ، وفي أيدينا فضل النبوة التي بها قتلنا الحر العزيز وبعنا الحر الذليل (٣).

فلما أتى معاوية كتاب علي عليه‌السلام ، كتمه عمراً أياماً ثم دعاه بعد ذلك فاقرأ الكتاب فشمت به عمرو ولم يكن أحد من قريش أشد تعظيما لعلي عليه‌السلام من عمرو بعد يوم لقيه عمرو فيما كان اشاربه على معاوية.

وكتب معاوية إلى ابن عباس ومكان يجيبه بقول لين ، وذلك قبل أن تعظم الحرب. فلما قتل أهل الشام ، قال معاوية ان ابن عباس ، رجل قرشي واني كاتب إليه في عداوة بني هاشم بني امية ومخوفه عواقب هذه الحرب ، لعله يكف عنا فكتب إليه : أما بعد ، فانكم يا معشر بني هشام لستم إلى أحد

__________________

(١) وقعة صفين لنصر بن مزاحم / ٤٧٠.

(٢) في وقعة صفين. « لم يجنها ».

(٣) وقعة صفين / ٤٧٠ ـ ٤٧١.

٢٥٧

بالمساءة أسرع منكم إلى أنصار ابن عفان حتى انكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما دمه واستعظامهما ما نيل منه فان يك ذلك لسلطان بني أمية فقد ورثها عدى وتيم واظهرتم العارفة وقد وقع من الامر ما قد ترى واكلت هذه الحرب بعضها من بعض حتى استوينا فيها فما اطمعكم فينا ، اطمعنا فيكم وما آيسكم منا ، آيسنا منكم وقد رجونا غير الذي كان وخشينا دون ما وقع ولستم بملاقينا اليوم باحد من حد أمس ولا غداً بأحد من حد اليوم وقد منعنا بما كان من ملك الشام ومنعتم بما كان منكم وابقوا على قريش فانما بقي من رجالنا ستة : رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز فاما اللذان بالشام فانا وعمرو وأما اللذان بالعراق فأنت وعلي وأما اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر ، و[ اثنان ] من الستة ناصبان لك واخران واقفان عليك وأنت رأس هذا الجمع اليوم وغدا ولو بايع الناس لك بعد عثمان ، كنا اليك أسرع [ اجابة ] منا إلى علي. في كلام كثير كتب به إليه (١).

فلما انتهى الكتاب إلى ابن عباس ، استضحك ثم قال : حتى متى يخطب إلى عقلي وحتى متى احجم (٢) على ما في نفسي. فكتب إليه.

أما بعد ، فاما ما ذكرت من سرعتنا اليك بالمساءة والى انصار ابن عفان وسلطان بني امية ، فلعمري لقد ادركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره ، حتى صرت إلى ما صرت إليه وبيني وبينك في ذلك ابن عمك واخو عثمان ، الوليد بن عقبة (٣) واما طلحة والزبير فطلبا الملك ونقضا البيعة فقاتلهما على النكث.

واما قولك : انه لم يبق من قريش غير ستة فما اكثر رجالهما واحسن بقيتها

__________________

(١) وقعة صفين / ٤١٤.

(٢) في وقعة صفين :.. متى أجمجم .. ، والجمجمة : ان لا يبين كلامه من غير عيّ ـ لسان العرب.

(٣) هو اخوه لامه.

٢٥٨

وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ولم يخذلنا إلا من خذلك واما اغراؤك ايانا بعدي وتيم فأبوبكر وعمر خير من عثمان كما ان عثمان خير منك وقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده واما قولك اما انه لو بايع الناس لي لاستقامت لي ، فقد بايع الناس عليا عليه‌السلام وهو خير منى فلم تستقم له ، وانما الخلافة لمن كان في الشورى فما أنت والخلافة يا معاوية وأنت طليق وابن طليق ، وابن رأس الاحزاب وابن آكلة الأكباد ، فلما انتهى الكتاب إلى معاوية قال هذا عملي بنفسي لا والله لا اكتب إليه كتابا سنة (١).

وكتب معاوية بن ابي سفيان إلى قيس بن سعد بن عبادة اما بعد ، فانك يهودي وابن يهودي ان ظفر الفريقان اليك عزلك واستبدل بك وان ظفر أبغضهما اليك نكل بك وقتلك وقد كان أبوك وتر قوسه ورمى غرضه واكثر الحز واخطأ المفصل فخذله قومه وادركه يومه حتى مات بحوران (٢) طريداً (٣).

فكتب إليه قيس : اما بعد ، فانما أنت وثن ابن وثن ، دخلت في الاسلام كرهاً وخرجت منه طوعاً لم يقدم ايمانك ولم يحدث نفاقك وقد كان أبي وتر قوسه ورمى غرضه فشعب به من لم يبلغ عقبه ، ولا شق غباره ونحن انصار الدين الذي منه خرجت واعداء الدين الذي فيه دخلت (٤).

الفصل الرابع

في بيان قتال الخوارج وهم المارقون

٢٤١ ـ أخبرنا الشيخ الزاهد أبو الحسين علي بن أحمد العاصمي ، أخبرنا

__________________

(١) وقعة صفين / ٤١٥.

(٢) حوران ، بالفتح : كورة واسعة من اعمال دمشق في القبلة ، ذات قرى كثيره ومزارع ، قصبتها بصري ومنها اذرعا وزرع ، وحوران ايضاً ماء بنجد ـ مراصد الاطلاع.

(٣) و (٤) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١٦ / ٤٣.

٢٥٩

القاضي الامام شيخ القضاة اسماعيل بن أحمد الواعظ ، أخبرنا والدي شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك « ره » ، أخبرني أبو عبد الله بن جعفر الاصبهاني ، حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا القاسم بن الفضل ، حدثنا أبو نصر ، عن أبي سعيد : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قل : تكون فرقة بين طائفتين من امتى تمرق بينهما مارقة يقتلها اولى الطائفتين بالحق (١) رواه مسلم في الصحيح.

٢٤٢ ـ وبهذا الأسناد عن أحمد بن الحسين هذا ، أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو محمد المزني ، أخبرنا علي بن محمد بن عيسى ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرني شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمان : ان أبا سعيد الخدري قال : بينا نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقسم قسما ، أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم ، فقال : يا رسول الله اعدل ، فقال : ويحك ومن يعدل إذا لم اعدل ، لقد خبت وخسرت ان لم اكن اعدل ، فقال عمر بن الخطاب : يارسول الله إئذن لى في ضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : دعه فان له اصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته ، وصيامه مع صيامه ، يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافته فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء قد سبق الفرث والدم ، آيتهم رجل اسود وإحدى ثدييه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة (٢) تدردر (٣) يخرجون على خير فرقة من الناس.

قال أبو سعيد : فاشهد أني سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) صحيح مسلم الجزء الثالث كتاب الزكاة ص ١١٣ ـ كنز العمال ١١ / ٢٠٢ و ١٩٦ ـ فردوس الاخبار ٢ / ٦٣ ، ح / ٣٣٥٨ صحيح أبي داود ٤ / ٢١٧ ـ ح ٤٦٦٧ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ / ٢٦٧.

(٢) في [ و ] ـ البيضة.

(٣) تدردر : أصله ـ تتدردر ، معناه : تضطرب وتذهب وتجيء. النهاية.

٢٦٠