تاريخ مدينة دمشق - المقدمة

تاريخ مدينة دمشق - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٢

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تصدير (*)

أهمية التاريخ :

إذا كان التاريخ سردا لماضي الإنسانية ، وسجلا لمجرى الحوادث الذي يصنعه الأبطال والشعوب فإن التاريخ الكبير تاريخ دمشق لمحدث الشام ومؤرخها الحافظ ابن عساكر هو النور الساطع واللؤلؤة المضيئة بين كتب التاريخ. الذي يؤرخ لأعرق مدينة في التاريخ بل إنها جنة الأرض ومدينة العلم والفضل والحضارة أم الشام ، يشدّ إليها الرحال بما زخرت به من المدارس وحلقات العلم في كل فن وعلم ، وبما أنجبت من علماء وفرسان أعلام في كل حلبة من حلباتها.

لقد دأبت دار الفكر وديدنها منذ تأسيسها بعث أسفار التراث من شتى العلوم والفنون وإخراجها وبسطها للناس للاستفادة من كنوز الأجداد واستخلاص العبر منها.

ومنذ عشرين عاما وعند اطلاعنا على المجلد الذي حققه الاستاذ الدكتور شكري فيصل من تاريخ دمشق أثار لدينا حلما دفينا وأمنية من أعظم أمانينا ، فقد كنا نحلم بتحقيق وإخراج هذا الكتاب وفاء منا لهذه المدينة العظيمة الذي كان لها دور مميز في كل عصر من عصور التاريخ. فعرضنا على الدكتور رحمه‌الله أن نكمل الطريق معا بإحياء هذا الأثر التاريخي النفيس وذلك بتحقيق بقية أجزاء الكتاب الثمانين ، ولكن الدكتور رحمه‌الله أشفق علينا وقال : وأنى لنا ذلك؟! والكتاب بحر زخّار عميق الغور تقصر عن جمعه وإنجازه وتحقيقه همم الرجال لعدم اكتمال مخطوطاته في مكان واحد من جهة ، ولحاجته إلى سيل فياض لتغطية أعبائه المادية ونفقات إخراجه من جهة ثانية ، وهو بهذا يحتاج لرعاية دولة وليس لدار نشر؟

ولكن كما قال الشاعر العربي :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

__________________

(*) كلمة الناشر هذه هي تعريف بالكتاب ومؤلفه وليست دراسة لهما ولا مقدمة تحقيق.

٥

وقد استخرنا الله علام الغيوب فشرح صدرنا للتصدي للعمل الضخم فتوكلنا على الله لإنجاز هذا التاريخ العظيم ووضعه بين أيدي الناس هنيئا سلسا. فتتبعنا مخطوطاته شرقا وغربا فأتينا بها جاهدين. وكان مما أثار حماسنا أنه أثناء المؤتمر الذي عقد في دمشق بمناسبة مرور ٩٠٠ سنة على وفاة مصنفه الحافظ المحدث الثقة ابن عساكر ومن المناقشات التي دارت في المؤتمر لمسنا أنه لا أحد مهيأ لإنجاز هذا المشروع الكبير الذي بدأه المجمع العلمي العربي بدمشق منذ أربعين عاما ، ولم ينجزه لأسباب شتى.

ومصنف الكتاب الحافظ ابن عساكر سليل أسرة عربية اشتهرت بالعلم والفقه والحديث والقضاء والفتيا.

ولد هذا العالم الجليل في دمشق سنة (٤٩٩) ه وشبّ ونما في مناخها الصافي وترعرع في أحضان مدارسها وحلقات الإقراء والحديث الحافلة التي كانت تعقد في مسجد بني أمية ، وفي منارات أخرى للعلم والحديث والفقه كالمدرسة الغزالية (١) التي كان يتردد عليها ويأخذ عن أرباب العلم الذين كانوا يدرسون فيها فكان لكل ذلك أثر كبير في توجهه نحو العلم ونبوغه فيه.

ولكن وبعد وفاة أبيه وفي سنة (٥٢٠) عقد العزم على الرحلة إلى طلب العلم وشأنه في ذلك شأن كل العلماء الذين نبغوا وارتقوا مدارج العلم والمعرفة. فاتجه نحو العراق أولا ، ففيها من العلماء من يرحل إليه. وعاد إلى دمشق بعد سنة قاصدا الحج ، وفي مكة والمدينة ومنى ، سمع ممن لقي من العلماء ، وحدّث بمكة.

ثم عاد من مكة ميمّما شطر العراق ثانية فأقام في العراق خمس سنين ، في بغداد وسائر مدن العراق ، وكانت حافلة بشيوخ العلم ، كالموصل والرحبة والجزيرة وماردين والكوفة متنقلا بينها شمالا وجنوبا. وقد استمع إلى كبار المحدثين (ذكرهم في معجم شيوخه). وينهى رحلته العلمية هذه ويعود إلى بغداد ومنها إلى دمشق بعد أن استنفد ما عند علماء بغداد وشيوخها وضمّنه صدره وصحائفه.

وفي دمشق أخذ يستعد لرحلة جديدة في طلب الحديث ولكن هذه المرة إلى ما وراء بغداد ، إلى خراسان ففيها من مراكز الحديث والمحدثين ما يشد إليه الرحال أيضا ، وكان ذلك سنة (٥٢٩ ه‍).

__________________

(١) وهي راوية الشيخ نصر المقدسي أصلا ، وصارت تعرف فيما بعد بالغزالية نسبة إلى الإمام الغزالي. (طبقات السبكي ١١٢ ج ٣).

٦

يقول السمعاني الذي التقاه : دخل نيسابور قبلي بشهر ، سمعت منه معجمه والمجالسة للدينوري ، وقد شرع في تصنيف تاريخه ، تاريخ دمشق.

ثم قفل راجعا إلى بغداد ومنها إلى دمشق وكان ذلك سنة (٥٣٣) ثلاث وثلاثين وخمسمائة.

وها هو ذا قد بلغ قمة العلم وتبوأ مرتبة الحفاظ والمحدثين ، يقول : متى أروي ما سمعت؟! لكنه لا يجرؤ على ذلك قبل أن يأذن له شيوخه ، فقال له جدّه ، يحيى بن علي القرشي : اجلس إلى سارية من هذه السواري حتى نجلس إليك!

أما أعيان شيوخه ورؤساء البلد فكلهم قالوا له : من أحق بهذا منك؟!

قال الحافظ : فجلست في ذلك منذ ثلاث وثلاثين وخمسمائة.

وهنا تبدأ حقبة جديدة من حياة الحافظ تمتد أربعين عاما ينصرف فيها إلى الجمع والتصنيف والرواية والتأليف والمطالعة والتسميع ، ويشتهر أمره ويطير ذكره في الآفاق ، فيرحل إليه الطلبة كما رحل هو من قبل إلى شيوخه ، وتنتهي إليه الرئاسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة بالحديث متونا وأسانيد ، ويصبح إمام الحديث في عصره ، وفارسا في ميدانه.

ثم كان دخول نور الدين زنكي إلى دمشق عام (٥٤٩) وهو قائد الجهاد ضد الصليبيين. وهذه الحقبة من التاريخ نشط فيها العلم والجهاد في آن ، ورقي خبر ابن عساكر إلى نور الدين ، يقول الحافظ في خطبة كتابه : ورقي خبر جمعي له (أي لتاريخ دمشق) إلى الملك العادل ... وبلغني تشوقه إلى استنجازه والاستتمام فراجعت العمل به راجيا الظفر بالتمام.

وقد بنى له نور الدين دارا لتعليم الحديث سميت فيما بعد دار الحديث النورية وهي أول مدرسة أنشئت في الإسلام لتعليم الحديث وتولى التدريس فيها الحافظ ابن عساكر نفسه وابنه ثم بنو عساكر من بعدهما ، وكان نور الدين يحضر حلقات التدريس له فيها ، كما كان السلطان صلاح الدين يحضر مجلسه ودروسه أيضا.

وقد تخرج من المدرسة النورية هذه وأخذ عن شيوخها كبار العلماء والمؤرخين والمحدثين في القرنين السادس والسابع للهجرة ، كابن الأثير الجزري والمقدسي والمزي وابن كثير والنووي والذهبي والحسيني وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم.

وللحافظ مؤلفات كثيرة في الحديث ومؤلفات وفيرة في الفضائل ، فضائل الأشخاص

٧

وفضائل المدن وفضائل الأعمال وفضائل الشهور والأيام وفضل الجهاد وفضل كتابة القرآن وغيرها من الفضائل. كما له المعجم لمن سمع منه ، أو أجاز له ، ومعجم الشيوخ من النبلاء.

ومن مؤلفاته ووفرتها وتنوعها نجد أن ابن عساكر محدث ، حافظ ، ثبت ، ثقة أولا ، ومؤرخ ثانيا ، شأنه في ذلك شأن سائر المؤرخين المسلمين.

ولا جرم أن أكبر تآليفه وأكثرها ذيوعا وشمولا كتابه تاريخ دمشق.

وأهمية هذا التاريخ لا تكمن في أنه تاريخ لمدينة دمشق أحد أكبر معاقل الحضارة الإنسانية والعلوم الإسلامية عبر مختلف العصور فحسب ، بل إنه موسوعة حديثية وهو من أوسع المصادر في سير الرجال فمنه يمكن استخلاص كتب وأسفار عدة في موضوعات وعلوم وفنون شتى.

فالكتاب مرجع لعلماء الحديث لاحتوائه على الآلاف من الأحاديث النبوية والآثار.

والكتاب موسوعة في علم الرجال والجرح والتعديل ، فهو عند ما يترجم للرجال ويذكر سيرهم ويذكر مروياتهم فإنه يبين حالهم وعلى ما هم عليه من ضعف أو توثيق ، ويصحح أسماءهم إذا اقتضى الحال.

ويذكر سنة الوفاة للرجال ، وهو بهذا يحدّد طبقة الاسم المترجم له ، وفي هذا من الفائدة ما يدركه العاملون في حقل الرجال.

وهو عند ما يسرد الخبر خصوصا في الفضائل يسرد جميع الروايات بأسانيدها المتعلقة بالخبر ، يذكر ذلك وهو أعلم الناس بالأحاديث الضعيفة والموضوعة ، فكأنه بإيراده السند يخلي مسئوليته ويدع العهدة في نقل الأخبار على من نقلها ، وكأنه يريد أن يقول أيضا : إن كتابه لجميع طبقات الناس ، وإنه يريد أن يكون تاريخه مرآة تعكس حياة الناس ومعتقداتهم ومذاهبهم ونحلهم وآراءهم السياسية والاجتماعية ، فله النقل والعرض والسرد وللعقل التدقيق والتمحيص. وكأنه هنا يلتقي مع نظرية معاصرة في تدوين التاريخ لأرنولد توينبي التي تزعم «أن المؤرخين أميل إلى توضيح آراء الجماعات التي يعيشون في محيطها منهم إلى تصحيح الآراء».

والكتاب جمع أكبر عدد من رجال الثقافة الإسلامية وأعلام الحضارة العربية خصوصا ذوي الشأن منهم وحتى ترجم لمن كان قبل الإسلام أيضا.

والكتاب موسوعة في الأدب شعرا ونثرا ، فضلا عن كون الحافظ ابن عساكر نفسه

٨

شاعرا وأديبا وله قصيدة في مدح نور الدين بعد أن رفع عن أهل دمشق المطالبة بالخشب ، فيها :

لمّا سمحت لأهل الشام بالخشب

عوّضت مصر بما فيها من النّشب

وإن بذلت لفتح القدس محتسبا

للأجر جوزيت خيرا غير محتسب

ولست تعذر في ترك الجهاد وقد

أصبحت تملك من مصر إلى حلب

وكان يختم مجالسه بقطعة من شعره.

والحافظ ينقل من مصادر لم تصلنا ، فتاريخه وسيط بين عصرنا وعصر أسلافه وكثيرا ما ينقل علماء القرنين السادس والسابع عنه كابن الأثير في تاريخه الكامل ، والمزي في تهذيبه تهذيب الكمال ، والذهبي في تاريخه تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء ، وابن كثير في تاريخه البداية والنهاية.

وهو عند ما يؤرخ لمدينة دمشق تخصيصا لا يقتصر على الجانب التاريخي بل يتعدّاه إلى جغرافية المدينة لأنه أدرك بحس العالم وحس المؤرخ أنه لا انفصام بين التاريخ والجغرافيا ، فالجغرافيا هي المسرح التي تحدث عليه وقائع التاريخ وهي من أهم المؤثرات التي تؤثر في الإنسان وبالتالي في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية.

كما أن الموقع الجغرافي للمدينة الذي حباها الله به كان له أثر في دورها الحضاري عبر مختلف العصور.

وإذا كان تاريخ الطبري يعد أغنى المصادر عن تاريخ الفرس ، فإن تاريخ ابن عساكر أغنى المصادر عن تاريخ العرب المسلمين من نقطة الانطلاق الأولى وعلى امتداد الرقعة الجغرافية التي وصل إليها الإسلام خصوصا في الحقبات التاريخية التي كانت دمشق عاصمة الحياة العربية ، ومصدر القرار ، ومحجة وفود الجماعات والرجالات من الجزيرة والعراق وفارس وما وراء النهرين وأقصى الشرق ، ومصر وإفريقية وأطراف المحيط ، كما كانت مركز تجمع ومنطقة حشد وقاعدة عمليات للجيوش التي وصلت شرقا حتى حدود الصين وغربا حتى اجتازت المحيط وعبرت إلى إسبانيا وجنوب أوربة كما العمليات البحرية أيضا جنبا إلى جنب حتى أصبح حوض البحر الأبيض المتوسط بسواحله شرقا وغربا بحيرة عربية.

أليس من دمشق كانت تنطلق قوات الصوائف والشواتي لسد الثغور والدروب ورد غارات بيزنطة عن حدود الشام؟!

ومن دمشق أيضا انطلقت جحافل صلاح الدين لطرد الصليبين وتحرير القدس.

٩

كما لم تكن دمشق بمعزل عن الحياة والمشاركة فيها في كل العهود.

وتاريخ دمشق يقدم مادة غنية للذين يدرسون التاريخ الأندلسي.

ألم تنتقل الخلافة الأموية إلى الأندلس؟!

كل ذلك يؤكد أن تاريخ دمشق هو تاريخ حضاري للعالم العربي والإسلامي منذ ما قبل البعثة النبوية وحتى عصر المؤلف الذي يقف عند سنة ٥٧١ (١). وكأن الحافظ ابن عساكر أراد أن يؤرخ للعالم العربي والإسلامي على امتداد رقعته الجغرافية شرقا وغربا من خلال تلك المشكاة المشعة دمشق الشام فكان بتاريخه الكبير الموسوعي الفذ شيخ المؤرخين ومؤرخ الحفاظ والمحدثين.

ختاما من عصر الحافظ ابن عساكر وهو عصر الجهاد وعصر النهضة العلمية ومن خلال موسوعته تاريخ دمشق ندرك كيف استطاعت هذه الأمة تخطي محنتها بالصمود وبالقوة الحيوية الكامنة فيها وطرد الصليبيين وتحرير القدس ثالث الحرمين الشريفين ومحرك الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

ومع كل ما بذلناه من جهد وصبر وتحمل لإخراج هذه الموسوعة التاريخية العربية إلى الضوء نشعر بالتقصير ، وفرحتنا الكبرى تكتمل يوم يكتمل عقد هذا السفر العظيم بأجزائه الثمانين.

وجدير بنا أن نردد هنا ، وبعد تسعة قرون ، ما قاله الحافظ في خطبة كتابه يوم ألف تاريخه : فمن وقف فيه على تقصير أو خلل ، أو عثر فيه على تغيير أو زلل ، فليعذر أخاه متطولا ، وليصلح ما يحتاج إلى إصلاح متفضلا.

ونحن نردد وراءه :

وإن تجد عيبا فسدّ الخللا

فجلّ من لا عيب فيه وعلا

اللهم زدنا علما ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. واجعلنا ربنا خيرا مما يظنون واغفر لنا ما لا يعلمون ولا تؤاخذنا بما يقولون وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

بيروت ١٠ ذو القعدة ١٤١٥

١٠ نيسان ابريل ١٩٩٥

الناشر

دار الفكر

__________________

(١) بينما يقف تاريخ بغداد عند سنة ٤٦٣.

١٠

مقدمة التحقيق

قال الله تعالى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).

الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونؤمن به ونتوكل عليه ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد رسوله ونبيّه أرسله بالهدى ، وعلى آله وصحبه الذين ازداد بهم الحق إشراقا ، والخير انتظاما واتساقا. أما بعد.

ترجمة ابن عساكر

اسمه ومولده وحياته :

هو علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين ، أبو القاسم الدمشقي الشافعي ، المعروف بابن عساكر.

ولد في المحرم ، في أول الشهر ، سنة تسع وتسعين وأربعمائة ، في مدينة دمشق.

أخذ العلم والفقه منذ الحداثة بدمشق حيث عاش في بيت جليل ، وقد كان أبوه الحسن بن هبة الله شيخا صالحا (١) عدلا ، محبّا للعلم ، مقدّرا للعلماء ، مهتما بأمور الدين والفقه.

يقول د. صلاح الدين المنجد في مقدمة المجلدة الأولى من تاريخ ابن عساكر (٢) :

«كان للبيئة التي نشأ فيها الحافظ ابن عساكر أثر كبير في اتجاهه نحو العلم ونبوغه فيه ، فقد نبت في بيت قضاء وحديث وفقه ، وكان ألّاف هذا البيت من كبار علماء دمشق

__________________

(١) طبقات الشافعية للسبكي : ٧ / ٧٠.

(٢) تاريخ ابن عساكر المجلدة الأولى : ص ١١.

١١

وقضاتها (١) ، فما رأى ابن عساكر منذ نشأته غير العلماء ، وما وعى غير العلم.

وكان أخوه الأكبر صائن الدين هبة الله (٢) بن الحسن ، فقيها مفتيا محدثا ، قرأ القرآن بالروايات ، وتفقّه وبرع ورحل فسمع ، وقرأ الأصول والنحو ، وتقدّم ، وسمع الكثير ، وأعاد بالأمينية لشيخه أبي الحسن السلمي ، ودرّس ، وأفتى وكتب الكثير ، وكان إماما ثقة ثبتا ديّنا ورعا (٣).

سمع أبا القاسم النسيب ، وأبا طاهر الحنائي ، وأبا الحسن بن الموازيني ، وأبا علي بن نبهان ، وأبا علي بن مهدي ، وأبا الغنائم المهتدي بالله ، وأبا طالب الزينبي. ولد سنة ٤٨٨ ومات في شعبان سنة ٥٦٣.

وأما أخوه محمّد بن الحسن بن هبة ، أبو عبد الله ، كان قاضيا (٤) ، وقد نشر أولاده الستة العلم والحديث (٥).

وكانت أمه من بيت القرشي ، أبوها يحيى بن علي بن عبد العزيز ، القاضي الفقيه الكبير ، وكان عالما بالعربية ، ثقة ، حلو المحاضرة فصيحا (٦).

سمع عبد العزيز الكتّاني ، والحسن بن علي بن البري ، وحيدرة بن علي ، وعبد الرزّاق بن الفضيل ، وأبا القاسم بن أبي العلاء ، وارتحل إلى بغداد فسمع بها وتفقه على أبي بكر الشاشي ، وبدمشق على القاضي المروزي والفقيه نصر (٧). وقد سمع منه وروى عنه نافلته أبو القاسم بن عساكر.

وأما خاله أبو المعالي محمّد بن يحيى ، فقد سمع أبا القاسم بن أبي العلاء ، والحسن بن أبي الحديد ، والفقيه نصر المقدسي ، وأبا محمّد بن البري ، والقاضي الخلعي بمصر ، وعلي بن عبد الملك الدبيقي بعكا ، وحضر درس الفقيه نصر ، وتفقه به.

__________________

(١) أبوه الحسن كان قد صحب نصرا المقدسي وسمع منه ، انظر طبقات الشافعية للسبكي ٧ / ٧٠.

(٢) انظر ترجمته في طبقات السبكي ٧ / ٣٢٤ سير الأعلام ٢٠ / ٤٩٦ وفيات الأعيان ٢ / ٤٧٣ فوات الوفيات ٤ / ٢٣٥ النجوم الزاهرة ٥ / ٣٨٠ شذرات الذهب ٤ / ٢١٠.

(٣) طبقات الشافعية للسبكي ٧ / ٣٢٥ وسير الأعلام ٢٠ / ٤٩٦.

(٤) طبقات الشافعية للسبكي ٧ / ٧٠.

(٥) طبقات الشافعية للسبكي ٧ / ٧٠.

(٦) سير الأعلام ٢٠ / ٦٤.

(٧) سير الأعلام ٢٠ / ٦٣ ـ ٦٤ طبقات الشافعية للسبكي ٧ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥.

١٢

ناب عن أبيه في القضاء ، ثم استقل به ، وكان نزيها عفيفا صليبا في الحكم (١).

قال عنه السمعاني أنه كان محمودا ، حسن السيرة شفوقا وقورا ، حسن المنظر ، متوددا (٢).

روى عنه ابن أخته أبو القاسم بن عساكر.

وأمّا خاله الآخر سلطان بن يحيى ، زين القضاة ، أبو المكارم القرشي الدمشقي ، فقد روى عن أبي القاسم بن أبي العلاء ، ناب في القضاء عن أبيه ، ووعظ وأفتى (٣).

بدأ بتلقي علومه ودروسه باكرا ، وهو في سن صغيرة ، فقد سمعه أخوه الصائن سنة خمس وخمسمائة (٤) ، فقد كان في السادسة من عمره يومذاك ، فأخذ يسمع باعتناء أبيه وأخيه الصائن ، فسمع أبا القاسم النسيب ، وقوام بن زيد ، وسبيع بن قيراط ، وأبا طاهر الحنائي ، وأبا الحسن بن الموازيني (٥).

وراح يتردد إلى مجالسهم ويحضر حلقات تدريسهم.

يقول د. المنجد في مقدمة المجلدة الأولى (٦) :

فبيئة هذا شأنها .. فقد وجد فيها الحافظ ما ساعده على تفتّح ذكائه وإقباله على ما رغب فيه ، حتى غدا مؤرّخ الشام وحافظ العصر.

تفقه في حداثته بدمشق على الفقيه أبي الحسن علي بن المسلّم بن محمّد بن علي السلمي (٧) عمدة أهل الشام ومفتيهم ، وكان قد لازم الغزالي مدة مقامه بدمشق ، وقد نقل ابن عساكر عن الغزالي قوله في أبي الحسن السلمي : خلّفت بالشام شابا إن عاش كان له شأن ، فكان كما تفرّس فيه ، ودرّس بحلقة الغزالي مدة ، ثم ولي التدريس في المدرسة الأمينية (٨) في سنة أربع عشرة وخمسمائة ، وهي أول مدرسة للشافعية بنيت في دمشق.

__________________

(١) سير الأعلام ٢٠ / ١٣٨.

(٢) التحبير ٢ / ٢٥٠.

(٣) شذرات الذهب ٤ / ٩٥.

(٤) تذكرة الحفاظ ٤ / ١٣٢٨ سير الأعلام ٢٠ / ٥٥٤.

(٥) تذكرة الحفاظ ٤ / ١٣٢٨.

(٦) تاريخ ابن عساكر المجلدة الأولى ص ١٤.

(٧) انظر سير الأعلام ٢٠ / ٣٠.

(٨) الدارس للنعيمي ١ / ١٣٤.

١٣

وكان السلمي ثقة ثبتا عالما بالمذاهب والفرائض ، وكان ابن عساكر يتردد عليه ويحضر دروسه في المدرسة الأمينية ويستمع عليه.

رحلته الأولى : إلى بغداد :

وفي سنة ٥٢٠ ه‍ وكان قد بلغ الحادية والعشرين من عمره ، وكان قد استوفى قسطا مهما من العلم على شيوخه بدمشق ، وتنوعت معارفه ، واتجه نحو رواية الحديث حيث جمع من معرفة المتون والأسانيد وحفظ فأتقن ، وقرأ فتثبّت ، وتعب في ملاحقة المحدّثين والعلماء ، ولم يعد يقنعه ما حصل عليه في حلقات دمشق ومساجدها ومدارسها وعلمائها (١) ، عزم على طلب المزيد والوقوف على آراء مشاهير العلماء والفقهاء فقرر أن يرحل عن دمشق رغبة في طلب الحديث.

يقول د. المنجد في مقدمة المجلدة الأولى (٢) : وكانت الرحلة في طلب الحديث والاستماع إلى الشيوخ أمرا ذا شأن ، ولم يتخلف محدّث كبير عن الرحلة ليتم علمه ، ويتلقى الأسانيد العالية.

وكانت مراكز العلم منتشرة في طول العالم الإسلامي وعرضه ، والعلماء والفقهاء منتشرون في كافة الأصقاع ، ولكن الإشعاع كان ينتشر من مراكز استطاعت أن تستقطب أهل العلم والحديث والرواية ، واشتهرت فيها حلقات التدريس والنقاش في مراكزها العامة كالمدارس والمساجد ، وفي مراكزها الخاصة كمقرات إقامة الفقهاء والعلماء والمحدثين.

وكانت بغداد جنّة الأرض ، ومدينة السلام ، وقبة الإسلام ، ومجمع الرافدين ، وغرة البلاد ، وعين العراق ، ودار الخلافة ، ومجمع المحاسن والطيبات ، ومعدن الظرائف واللطائف ، وبها أرباب الغايات في كل فن وآحاد الدهر في كل نوع (٣).

ورغم تدني نفوذها السياسي إلى مستوى كبير ، فقد حافظت على دورها الاستقطابي والمحوري ، حيث بقيت المركز الأساس الذي يجذب طلبة الحديث ،

__________________

(١) تاريخ دمشق السيرة النبوية قسم ١ المقدمة ص : ه.

(٢) المجلدة الأولى من تاريخ دمشق : ص ١٦.

(٣) معجم البلدان : بغداد ١ / ٤٦١.

١٤

والفقه ، والعلوم ، ولم تستطع أي من المراكز الأخرى في مصر ، ومكة ، والمدينة ، وخراسان ، ونيسابور ، وأصبهان ، ومرو ، وهراة ، وسرخس ، وطوس ، أن تنال من أهمية بغداد ودورها.

وقد عرف عن أهل بغداد أنهم أرغب الناس في طلب الحديث ، وأشدهم حرصا عليه ، وأكثرهم كتبا له.

ويقول الخطيب (١) : وأهل بغداد موصوفون بحسن المعرفة ، والتثبّت في أخذ الحديث وآدابه وشدة الورع في روايته ، اشتهر ذلك عنهم وعرفوا به.

ورحل أبو القاسم بن عساكر إلى بغداد سنة ٥٢٠ ه‍ (٢) ، وذهب من بغداد إلى الحج سنة ٥٢١ ه‍ (٣) فسمع بمكة ومنى والمدينة ، وممن سمع بمكة : عبد الله بن محمّد المصري الملقّب بالغزّال بمكة ، وعبد الخلّاق بن عبد الواسع الهروي بمكة ، وحدّث بمكة ومنها قفل عائدا إلى بغداد.

ولما دخل بغداد أعجب به العراقيون ، وقالوا : ما رأينا مثله ، وقال شيخه أبو الفتح المختار بن عبد الحميد : قدم علينا هذا فلم نر مثله (٤).

وأقام ببغداد خمسة أعوام يحصّل العلم ، فسمع من هبة الله بن الحصين ، وعلي بن عبد الواحد الدينوري ، وقراتكين بن أسعد ، وأبي غالب بن البناء ، وهبة الله بن أحمد بن الطبر ، وأبي الحسن البارع ، وأحمد بن ملوك الورّاق ، والقاضي أبي بكر (٥).

وسمع بالكوفة الشريف أبا البركات عمر بن إبراهيم الزيدي ، وطوّف وجاب العراق ولقي المشايخ ، ثم عاد إلى بغداد فأقام بها يسمع الحديث (٦) ، ولزم به التفقّه

__________________

(١) تاريخ بغداد ١ / ٤٣.

(٢) اتفقت مصادر ترجمته على أن رحلته الأولى إلى بغداد كانت سنة ٥٢٠.

(٣) يقول د. المنجد في مقدمة المجلدة الأولى ص ١٧ : وأقام الحافظ في بغداد سنة واحدة ، ثم عاد إلى دمشق ولم يلبث أن عاد إليها يريد الحج عن طريقها ، لكنه لم يدعم قوله بأي حجة وبيّنة.

(٤) طبقات الشافعية للسبكي : ٧ / ٢١٧.

(٥) سير الأعلام ٢٠ / ٥٥٥ ، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي : ص ١٨٧.

(٦) المستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي : ص ١٨٧.

١٥

وسماع الدرس بالنظامية ، وقرأ الخلاف والنحو (١).

وكان ببغداد يسمى شعلة نار من توقده وذكائه وحسن إدراكه ، لم يجتمع في شيوخه ما اجتمع فيه (٢).

وعلى هذا النحو لازم ابن عساكر بغداد ، متتبعا العلماء والفقهاء وكبار المحدّثين ، مستمعا إليهم ، قارئا عليهم ، مكثرا في ملازمتهم ، حتى سنة خمس وعشرين وخمسمائة وقد استنفذ ما عند الشيوخ من أحاديث ، بالغ في طلبها منهم فأتقن حفظها ، وتلقى متونها وأسانيدها ، فقرر العودة إلى دمشق ، وفعلا عاد إلى دمشق سنة ٥٢٥ ه‍ ليسمع على شيوخها.

رحلته الثانية : إلى بلاد العجم :

وبقي أبو القاسم بن عساكر في دمشق مدة ملازما علمائها وفقهائها وكبار محدّثيها مكثفا الطلب منهم ، متعشقا لرواية الحديث عليهم ، حتى غدا حافظا فهما متقنا بصيرا بهذا الشأن ، لا يلحق شأوه ولا يشق غباره ، ولا كان له نظير في زمانه وهو بعد شاب في مقتبل العمر ، وبقي إلى سنة تسع وعشرين وخمسمائة حيث عزم على التوجّه إلى مراكز ازدهر فيها علم الحديث ، وانتشر فيها الفقهاء والعلماء والمحدّثون فكانت رحلته نحو الشرق ، نحو بلاد العجم ، فارتحل إليها وطاف في مراكزها ومدنها ، وبالغ في طلب الحديث فيها على كبار شيوخها ومحدّثيها ، فسمع بأصبهان ، ونيسابور ، ومرو ، وتبريز ، وميهنة ، وبيهق ، وخسروجرد ، وبسطام ، ودامغان ، والري ، وزنجان ، وهمذان ، وأسدآباذ ، وجيّ ، وهراة ، وبون ، وبغ ، وبوشنج ، وسرخس ، ونوقان ، وسمنان ، وأبهر ، ومرند ، وخويّ ، وجرباذقان ، ومشكان ، وروذراور ، وحلوان ، وأرجيش (٣).

وكان توجهه إلى بلاد خراسان على طريق أذربيجان ، والتقى بنيسابور بالسمعاني ، وفيه يقول : أبو القاسم كثير العلم غزير الفضل حافظ متقن ، ديّن ، خير ، حسن السمت ،

__________________

(١) مفتاح السعادة لبطاش كبرى زاده ٢ / ٣١٨ ، وابن الدمياطي : ص ١٨٧ ، وطبقات الشافعية للسبكي : ٧ / ٢١٧.

(٢) طبقات الشافعية للسبكي : ٧ / ٢١٨.

(٣) طبقات الشافعية للسبكي ٧ / ٢١٦.

١٦

جمع بين معرفة المتون والأسانيد ، صحيح القراءة ، متثبت محتاط ... إلى أن قال : جمع ما لم يجمعه غيره ، وأربى على أقرانه ، دخل نيسابور قبلي بشهر ، سمعت منه ، وسمع مني ، .. وكان قد شرع في التاريخ الكبير لدمشق ، ثم كانت كتبه تصل إليّ وأنفد جوابها (١).

وسمع بنيسابور أبا عبد الله الفراوي ولازمه فترة ، وفي ذلك يقول الفراوي : قدم ابن عساكر فقرأ عليّ ثلاثة أيّام فأكثر وأضجرني ، وآليت على نفسي أن أغلق بابي ، فلما أصبحنا قدم عليّ شخص فقال : أنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلت : مرحبا بك ، فقال ، قال لي في النوم : امض إلى الفراوي وقل له : قدم بلدكم رجل شامي أسمر اللون يطلب حديثي فلا تملّ منه (٢).

قال القزويني : فو الله ما كان الفراوي يقوم حتى يقوم الحافظ.

ولم تقتصر رحلته وطوافه في بلاد خراسان على الدرس والتلقّي والسماع ؛ إنما حدّث في أصبهان ونيسابور ، وسمع منه جماعة من الحفّاظ ممن هو أسن منه (٣).

ودامت رحلته في بلاد العجم أربع سنوات (٤) قضاها في ملازمة العلماء والفقهاء ، والمحدّثين ، متتبعا الحديث معتنيا بطرقه ورواته ورواياته وأسانيده ، فتعب في جمعه ، وبالغ في طلبه حتى أنه جمع ما لم يجمعه أحد.

وعاد إلى بغداد ومنها قفل إلى دمشق ، ويلخص أبو القاسم مشواره مع طلبه الحثيث للحديث بقوله :

وأنا الذي سافرت في طلب الهدى

سفرين بين فدافد وتنائف

وأنا الذي طوفت غير مدينة

من أصبهان إلى حدود الطائف

والشرق قد عاينت أكثر مدنه

بعد العراق وشامنا المتعارف

وجمعت في الأسفار كل نفيسة

ولقيت كل مخالف ومؤالف (٥)

__________________

(١) سير الأعلام : ٢٠ / ٥٦٧ ، تذكرة الحفّاظ : ٤ / ١٣٣٠.

(٢) تذكرة الحفّاظ : ٤ / ١٣٣٠ ، وتذكرة الحفّاظ للسبكي : ٧ / ٢١٩.

(٣) معجم الأدباء : ١٣ / ٧٦.

(٤) المجلدة الأولى من تاريخ دمشق ، المقدمة للدكتور المنجد : ص ٢٢.

(٥) الأبيات في كتابه تبيين كذب المفتري : ص ٤٣١.

١٧

هاتان الرحلتان إلى بلاد العجم وخراسان ومراكزها العلمية الكبيرة ، وإلى العراق وبلاد الحجاز ، سمحتا له بلقاء كبار الشيوخ وأعيان العلماء والفقهاء والمحدثين حيث سعى في التحصيل عليهم والإفادة منهم فحفظ وكتب الكثير ، وقد التقى بأكثر من ألف وثلاثمائة شيخ ، ومن النساء بضع وثمانين امرأة (١).

يقول الذهبي في سير الأعلام (٢) : وعدد شيوخه في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع ، وستة وأربعون شيخا أنشدوه ، وعن مائتين وتسعين شيخا بالإجازة ، الكل في معجمه ، وبضع وثمانون امرأة لهن معجم صغير سمعناه.

عودته إلى دمشق : مرحلة جديدة :

كان ابن أربع وثلاثين سنة لما عاد إلى دمشق ، وقرر الاستقرار فيها وذلك بعد أن حقّق قدرا عاليا من بناء شخصيته العلمية والفقهية ، وبعد أن ذاع صيته ، وانتشرت أخباره ، وتناقل العلماء أخبار فطنته وسعة حفظه وإتقانه ، وتردد اسمه في مختلف الآفاق.

قال أبو المواهب (٣) : لم أر مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة ، من لزوم الصلوات في الصفّ الأول إلّا من عذر ، والاعتكاف في شهر رمضان ، وعشر ذي الحجة ، وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك ، وبناء الدور ، قد أسقط ذلك عن نفسه ، وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عرضت عليه ، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا تأخذه في الله لومة لائم.

قال لي : لما عزمت على التحديث والله المطّلع أني ما حملني على ذلك حبّ الرئاسة والتقدّم ؛ بل قلت : متى أروي كل ما سمعت؟ وأي فائدة من كوني أخلفه صحائف؟ فاستخرت الله واستأذنت أعيان شيوخي ورؤساء البلد وطفت عليهم فكلهم قالوا : من أحقّ بهذا منك؟ فشرعت في ذلك منذ ثلاث وثلاثين وخمسمائة.

__________________

(١) معجم الأدباء : ١٣ / ٧٦ ، وتذكرة الحفّاظ : ٤ / ١٣٢٨.

(٢) سير الأعلام : ٢٠ / ٥٥٦.

(٣) تذكرة الحفّاظ : ٤ / ١٣٣٢.

١٨

هذه المرحلة في حياة ابن عساكر ، هي الأكثر سعة ورحابة ، وقد امتدت على مدى عمره وفيها انتهت إليه رئاسة المذهب ، وبات ـ كما يقول عنه ابن النجّار : إمام المحدثين في وقته ، ومن انتهت إليه الرئاسة في الحفظ والإتقان ، والمعرفة التامة بعلم الحديث ، والثقة والنبل ، وحسن التصنيف والتجويد (١) ، وأخذ بعد ما ملأته الثقة والاعتزاز بما حمله وحفظه ، أخذ يملي ويحدّث ويصنّف ، حيث كان بارعا في معرفة الحديث ومعرفة رجاله ، وهذا ما جعله ينصرف بكلّيته إلى الالتزام بما قرره من التحديث والرواية. فانتهت إليه الرئاسة كما أشرنا إلى ذلك قريبا.

يقول ولده بهاء الدين الحافظ أبو محمّد القاسم (٢) : قال لي أبي : لمّا حملت بي أمي رأت في منامها قائلا يقول لها : تلدين غلاما يكون له شأن ... فإن الله تعالى يبارك لك وللمسلمين فيه.

وصدّقت اليقظة منامها ، ونبهه السعد فأسهره الليالي في طلب العلم ، وغيره سهرها في الشهوات أو نامها ، وكان له الشأن العظيم والشأو الذي يجل عن التعظيم.

ثم انصرف إلى جمع والتصنيف ، والرواية والتأليف ، وهذا يتطلب إلى جانب التزامه بالقيام بواجباته العبادية ، تخليّا عن العمل لتحصيل الأملاك والمنافع وبناء الدور ، إلى المواظبة على طاعة الله ، وعدم التطلّع إلى أسباب الدنيا ، وإعراضه عن المناصب الدينية كالإمامة والخطابة بعد أن عرضتا عليه (٣) وانكبّ على التصنيف ، فصنّف التصانيف المفيدة ، وخرّج التخاريج ، وكان حسن الكلام على الأحاديث ، محظوظا في الجمع والتأليف (٤).

آثاره ومؤلفاته :

١ ـ إتحاف الزائر.

٢ ـ الاجتهاد في إقامة فرض الجهاد ، وهو أربعون حديثا.

__________________

(١) الطبقات الكبرى للشافعية للسبكي : ٧ / ٢١٨ ، والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد لابن الدمياطي : ص ١٨٦.

(٢) طبقات الشافعية للسبكي : ٧ / ٢١٨ ، وسير الأعلام : ٢٠ / ٥٦٢.

(٣) طبقات الشافعية للسبكي : ٧ / ٢١٨ ، تذكرة الحفّاظ : ٤ / ١٣٣٢.

(٤) وفيات الأعيان : ٣ / ٣١٠.

١٩

٣ ـ أربعون البلدان.

٤ ـ أربعون حديثا من أربعين شيخا من أربعين مدينة.

٥ ـ الأربعون الطوال في ثلاثة أجزاء.

٦ ـ أربعون المساواة.

٧ ـ أربعون المصافحات.

٨ ـ الأحاديث الخماسيات وأخبار ابن أبي الدنيا.

٩ ـ الأحاديث المتخيرة في فضائل العشرة في جزءين.

١٠ ـ أخبار أبي عمرو الأوزاعي (وفضائله ، عن معجم الأدباء).

١١ ـ الاشراف على معرفة الأطراف في الحديث ، أربعة مجلدات.

١٢ ـ أمالي في الحديث.

١٣ ـ التاريخ الكبير لدمشق ، مشهور ، في مجلدات (وهو كتابنا).

١٤ ـ تاريخ المزّة.

١٥ ـ التالي لحديث مالك العالي (١٩ جزءا).

١٦ ـ تبيان الوهم والتخليط الواقع في حديث الأطيط.

١٧ ـ تبيين الامتان بالأمر بالختان.

١٨ ـ تبيين كذب المفتري ، فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري.

١٩ ـ ثواب الصبر على المصاب بالولد.

٢٠ ـ جزء حديث الهبوط.

٢١ ـ جزء كفرسوسية (أحاديث جماعة من كفرسوسية).

٢٢ ـ الزهادة في بذل الشهادة في مجلد.

٢٣ ـ سباعيات في الحديث.

٢٤ ـ عوالي شعبة ، في مجلد (إجابة السؤال في أحاديث شعبة).

٢٥ ـ عوالي الثوري ، في مجلد.

٢٦ ـ عوالي مالك ، في الحديث خمسين جزءا.

٢٧ ـ غرائب مالك عشرة أجزاء.

٢٨ ـ فضل أصحاب الحديث.

٢٩ ـ فضل الجمرتين.

٢٠