الإمام على عليه السلام في آراء الخلفاء

الشيخ مهدي فقيه إيماني

الإمام على عليه السلام في آراء الخلفاء

المؤلف:

الشيخ مهدي فقيه إيماني


المترجم: يحيى كمالي البحراني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-50-9
الصفحات: ٢٢٣

وما برح أن جاء علي عليه السلام ياسل عن النبي صلى الله عليه واله فلم يدخله أنس وعذره ، فرجع علي ثانية وثالثة وأنس يمنعه والنبي صلى الله عليه واله ما زال ينتظر دخول أحب الخلق إلى الله ليأكل معه الطير ويرى ان الله قد استجاب دعاءه في علي عليه السلام (١).

٢ ـ روى العلامة الاديب والمؤرخ ابن عبد ربه الاندلسي ـ المتوفى ٣٢٨ ـ وكذلك روى المحدث الكبير الشيخ الصدوق ـ المتوفى ٣٨١ ه‍ ـ ان المأمون أمر رئيس وزرائه وقاضي القضاة يحيى بن اكثم أن يجمع له أربعين عالما من علماء أهل السنة في بلاط الخلافة العباسية ليناظرهم في موضوع الخلافة بعد النبي صلى الله عليه واله وأحقية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام للخلافة.

فغدا ابن أكثم والعلماء على المأمون في صبيحة الغد وناظرهم المأمون في ذلك الموضوع محتجا ومستندا على أفضلية أمير المؤمنين علي عليه السلام بالايات والاحاديث النبوية ـ الصحيحة التي نقلها واعترف بها أئمة الحديث عند أهل السنة ـ بشان الامام علي عليه السلام. وبعد الحوار والمناظرة التي دامت ساعات واحتج عليهم المأمون في بيان أفضلية الامام علي عليه السلام وأحقيته وأولويته للخلافة على غيره خاصة الخليفتين الاولين ، أذعن جميع العلماء الاربعون بذلك واعترفوا بعدم صحة خلافة غير علي عليه السلام وان خلافتهم باطلة.

وإليك نص الاحتجاج نقلناه من العقد الفريد فاقرأه وتامله (٢).

__________________

(١) ومن اراد زيادة الاطلاع والالمام بالاسانيد والمصادر الحديثية والتاريخية لحديث الطير المشوي فليراجع المجلدات الثمان من موصوعة عبقات الانوار تأليف العلامة مير حامد حسين اللكهنوي ومقدمتنا المفصلة على الطبعة التي طبعتها مؤسسة الامام المهدي عليه السلام.

(٢) أخي القارئ لا يخفى عليك ان المؤلف العلامة الشيخ مهدي فقيه الايماني حفظه الله قد اكتفى في هذا الكتاب بنقل حديث الطائر واحتجاج المأمون به من أصل الحوار ، ولكننا لما شاهدنا ان هذا الحوار يكتنز في ثناياه حقائق اخرى واعترافات ارتاينا أن نقله برمته لتكون الفائدة اشمل.

١٨١

احتجاج المأمون على الفقهاء في فضل علي عليه السلام

إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد : بعث إلي يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئذ قاضي القضاة ، فقال : إن أمير المؤمنين أمرني أن احضر معي غدا ـ مع الفجر ـ أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه ما يقال له ويحسن الجواب ، فسموا من تظنونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين. فسمينا له عدة ، وذكر هو عدة ، حتى تم العدد الذي أراد ، وكتب تسمية القوم ، وأمر بالبكور في السحر ، وبعث الى من لم يحضر فأمره بذلك.

فغدونا عليه قبل طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينتظرنا ، فركب وركبنا معه ، حتى صرنا إلى الباب ، فإذا بخادم واقف ، فلما نظر إلينا قال : يا أبا محمد ، أمير المؤمنين ينتظرك ، فادخلنا ، فأمرنا بالصلاة ، فاخذنا فيها ، فلم نستتمها حتى خرج الرسول فقال : ادخلوا ، فدخلنا ، فإذا أمير المؤمنين جالس على فراشه وعليه سواده وطيلسانه والطويلة وعمامته. فوقفنا وسلمنا ، فرد السلام ، وأمرنا بالجلوس. فلما استقر بنا المجلس تحدر عن فراشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته ، ثم أقبل علينا فقال : إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك ، وأما الخف فمنع من خلعه علة ، من قد عرفها منكم فقد عرفها ، وم لم يعرفها فساعرفه بها ، ومد رجله. ثم قال انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالسكم. قال ـ إسحاق ـ : فامسكنا.

فقال لنا يحيى : انتهوا إلى ما أمركم به أمير المؤمنين. فتعجبنا فنزعنا أخفافنا

__________________

واننا قد بد أنا في بحث مستقل في شرح وبيان هذا الخبر الماموني والاستدراك عليه ، وأرجو من العلي القدير أن ينجز لنا مقدمات طبعه وذلك لما فيه الكثير من الحقائق العلوية التي دأب بعض المتعصبين والناصبين العداء لامير المؤمنين علي عليه السلام على إخفائها والتعتيم عليها. ومثله التوفيق وعليه التكلان. (المعرب).

١٨٢

وطيالسنا وقلانسنا ورجعنا. فلما استقر بنا المجلس قال ـ المأمون ـ : إنما بعثت اليكم معشر القوم في المناظرة ، فمن كان به شئ من الاخبثين (١) لم ينتفع بنفسه ولم يفقه ما يقول : فمن أراد منكم الخلاء فهناك ، وأشار بيده ، فدعونا له. ثم ألقى مسالة من الفقه ، فقال : يا أبا محمد ، قل وليقل القوم من بعدك.

فاجابه يحيى ، ثم الذي يلي يحيى ، ثم الذي يليه ، حتى أجاب آخرنا في العلة وعلة العلة ، وهو مطرق لا يتكلم.

حتى إذا انقطع الكلام التفت الى يحيى فقال : يا أبا محمد ، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم يزل يرد على كل واحد منا مقالته ويخطئ بعضنا ويصوب بعضنا حتى أتى على آخرنا. ثم قال : إني لم أبعث فيكم لهذا ، ولكنني أحببت أن أنبئكم أن أمير المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه ، ودينه الذي يدين الله به.

قلنا : فليفعل أمير المؤمنين وفقه الله.

فقال : إن أمير المؤمنين يدين الله على أن علي بن أبي طالب خير خلق الله بعد رسوله صلى الله عليه واله ، وأولى الناس بالخلافة.

قال إسحاق : قلت : يا أمير المؤمنين ، إن فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة.

فقال ـ المأمون ـ : يا إسحاق ، اختر إن شئت أن أسالك وإن شئت أن تسال.

قال إسحاق : فاغتنمتها منه ، فقلت : بل أسالك يا أمير المؤمنين.

قال : سل.

__________________

(١) الاخبثان : البول والغائط. وفي بعض الاصول :» الخبيثين ". وفي ن : «الحقنتين».

١٨٣

قلت : من أين قال أمير المؤمنين إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهم بالخلافة بعده؟ قال : يا إسحاق ، خبرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يقال فلان أفضل من فلان؟ قلت : بالاعمال الصالحة.

قال : صدقت.

قال : فاخبرني عمن صاحبه على عهد رسول الله صلى الله عليه واله ، ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله بافضل من عمل الفاضل على عهد رسول الله ، أيلحق به؟ قال ـ اسحاق ـ : فاطرقت.

فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل نعم ، فانك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة.

قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، لا يلحق المفضول على عهد رسول الله صلى الله عليه واله الفاضل أبدا.

قال : يا إسحاق ، فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل علي بن أبي طالب.

فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر ، فان رأيت فضائل أبي بكر تشاكل فضائل علي فقل إنه أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله ما روي لك من فضائل أبي بكر وعمر ، فان وجدت لهما من الفضائل ما لعلي وحده فقل إنهما أفضل منه.

لا والله ، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فان وجدتها مثل فضائل علي فقل إنهم أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس إلى فضائله العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه واله بالجنة ، فان وجدتها تشاكل فضائله فقل انهم أفضل منه.

ثم قال : يا إسحاق ، أي الاعمال كانت يوم بعث الله رسوله؟

١٨٤

قلت : الاخلاص بالشهادة.

قال : أليس السبق إلى الاسلام؟

قلت : نعم.

قال : اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول : (والسابقون السابقون أولئك المقربون) (١) إنما عنى من سبق إلى الاسلام ، فهل علمت أحدا سبق عليا إلى الاسلام؟

قلت : يا أمير المؤمنين ، إن عليا أسلم وهو حديث السن لا يجوز عليه الحكم ، وأبو بكر أسلم وهو مستكمل يجوز عليه الحكم.

قال : أخبرني أيهما أسلم قبل؟ ثم انا ظرك من بعده في الحداثة والكمال.

قلت : علي أسلم قبل أبي بكر على هذا الشريطة.

فقال : نعم ، فاخبرني عن إسلام علي حين أسلم لا يخلو من أن يكون رسول الله صلى الله عليه واله دعاه إلى الاسلام أو يكون الهاما من الله؟ قال ـ إسحاق ـ : فاطرقت.

فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل إلهاما فتقدمه على رسول الله صلى الله عليه واله ، لان رسول الله صلى الله عليه واله لم يعرف الاسلام حتى أتاه جبريل عن الله تعالى.

قلت : أجل ، بل دعاه رسول الله صلى الله عليه واله إلى الاسلام.

قال : يا إسحاق ، فهل يخلو رسول الله صلى الله عليه واله حين دعاه إلى الاسلام من أن يكون دعاه بامر الله أو تكلف ذلك من نفسه؟

قال ـ اسحاق ـ : فاطرقت.

فقال : يا إسحاق ، لا تنسب رسول الله إلى التكلف ، فان الله يقول : (وما أنا

__________________

(١) الواقعة : ١٠.

١٨٥

من المتكلفين) (١).

قلت : أجل يا أمير المؤمنين ، بل دعاه بامر الله.

قال : فهل من صفة الجبار جل ذكره أن يكلف رسله دعاء من لا يجوز عليه حكم؟

قلت : أعوذ بالله!

فقال : أفتراه في قياس قولك ـ يا إسحاق ـ إن عليا اسلم صبيا لا يجوز عليه الحكم ، وقد كلف رسول الله صلى الله عليه واله دعاء الصبيان إلى ما لا يطيقونه ، فهو يدعوهم الساعة ويرتدون بعد ساعة ، فلا يجب عليهم في ارتدادهم شئ ، ولا يجوز عليهم حكم الرسول صلى الله عليه واله ، أترى هذا جائزا عندك أن تنسبه إلى الله عز وجل (٢)؟

قلت : أعوذ بالله.

قال : يا إسحاق ، فاراك إنما قصدت لفضيلة فضل بها رسول الله صلى الله عليه واله عليا على هذا الخلق أبانه بها منهم ليعرف (٣) مكانه وفضله ولو كان الله تبارك وتعالى أمره بدعاء الصبيان لدعاهم كما دعا عليا؟

قلت : بلى.

قال : فهل بلغك أن الرسول صلى الله عليه واله دعا أحدا من الصبيان من أهله وقرابته ، لئلا تقول إن عليا ابن عمه؟

قلت : لا أعلم ، ولا أدري فعل أو لم يفعل.

قال : يا إسحاق ، أرأيت ما لم تدره ولم تعلمه هل تسال عنه؟

__________________

(١) ص : ٨٦.

(٢) والذي في سائر النسخ : «رسول الله صلى الله عليه واله».

(٣) في بعض النسخ : «ليعرفوا فضله».

١٨٦

قلت : لا.

قال : فدع ما قد وضعه الله عنا وعنك.

ثم قال : أي الاعمال كانت أفضل بعد السبق إلى الاسلام؟

قلت : الجهاد في سبيل الله.

قال صدقت ، فهل تجد لاحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله ما تجد لعلي في الجهاد؟

قلت : في أي وقت؟

قال : في أي الاوقات شئت؟

قلت : بدر.

قال : لا اريد غيرها ، فهل تجد لاحد إلا دون ما تجد لعلي يوم بدر ، أخبرني كم قتلى بدر؟

قلت : نيف وستون رجلا من المشركين.

قال : فكم قتل علي وحده؟

قلت : لا أدري.

قال : ثلاثة وعشرين أو اثنين وعشرين ، والاربعون لسائر الناس.

قلت : يا أمير المؤمنين ، كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه واله في عريشه.

قال : يصنع ماذا؟

قلت : يدبر.

قال : ويحك! يدبر دون رسول الله أو معه شريكا أم افتقارا من رسول الله صلى الله عليه واله إلى رأيه؟ أي الثلاث أحب إليك؟

قلت : أعوذ بالله أن يدبر أبو بكر دون رسول الله صلى الله عليه واله ، أو أن يكون معه شريكا ، أو أن يكون برسول الله صلى الله عليه واله افتقار إلى رأيه.

١٨٧

قال : فما الفضيلة بالعريش إذا كان الامر كذلك؟ أليس من ضرب بسيفه بين يدي رسول الله أفضل ممن هو جالس؟

قلت : يا أمير المؤمنين ، كل الجيش كان مجاهدا.

قال : صدقت ، كل مجاهد ، ولكن الضارب بالسيف المحامي عن رسول الله صلى الله عليه واله وعن الجالس أفضل من الجالس ، أما قرأت في كتاب الله : (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله باموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين باموالهم وبانفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (١).

قلت : وكان أبو بكر وعمر مجاهدين.

قال : فهل كان لابي بكر وعمر فضل على من لم لم يشهد ذلك المشهد؟

قلت : نعم.

قال : فكذلك سبق الباذل نفسه فضل أبي بكر وعمر.

قلت : أجل.

قال : يا إسحاق ، هل تقرأ القرآن؟

قلت : نعم.

قال : اقرأ علي : (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) (٢). فقرأت منها حتى بلغت : (يشربون من كاس كان مزاجها كافورا) الى قوله : (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) (٣).

قال : على رسلك ، فيمن أنزلت هذه الايات؟

__________________

(١) النساء : ٩٥.

(٢) الانسان : ١.

(٣) الانسان : ٥ ـ ٨.

١٨٨

قلت : في علي.

قال : فهل بلغك أن عليا حين أطعم المسكين واليتيم والاسير قال : إنما نطعمكم لوجه الله؟

قلت : أجل.

قال : وهل سمعت الله وصف في كتابه أحدا بمثل ما وصف به عليا؟

قلت : لا.

قال : صدقت ، لان الله جل ثناؤه عرف سيرته. يا إسحاق ، ألست تشهد أن العشرة في الجنة؟

قلت : بلى ، يا أمير المؤمنين.

قال : أرأيت لو أن رجلا قال : والله ما أدري هذا الحديث صحيح أم لا ، ولا أدري ان كان رسول الله قاله أم لم يقله ، أكان عندك كافرا؟

قلت : أعوذ بالله.

قال : أرأيت لو أنه قال : ما أدري هذه السورة من كتاب الله أم لا ، أكان كافرا؟

قلت : نعم.

قال : يا إسحاق ، أرى بينهما فرقا ، يا إسحاق ، أتروي الحديث؟

قلت : نعم.

قال : فهل تعرف حديث الطير؟

قلت : نعم.

قال : فحدثني به.

قال ـ اسحاق ـ : فحدثته الحديث.

فقال : يا إسحاق ، إني كنت أكلمك وأنا أظنك غير معاند للحق ، فاما الان فقد

١٨٩

بان لي عنادك ، إنك توفق أن هذا الحديث صحيح؟

قلت : نعم ، رواه من لا يمكنني رده.

قال : أفرأيت أن من أيقن أن هذا الحديث صحيح ، ثم زعم أن أحدا أفضل من علي ، لا يخلو من إحدى ثلاثة :

١ ـ من أن تكون دعوة رسول الله صلى الله عليه واله عنده مردودة عليه.

٢ ـ أو أن يقول : إن الله عز وجل عرف الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه.

٣ ـ أو أن يقال : إن الله عز وجل لم يعرف الفاضل من المفضول.

فاي الثلاثة أحب إليك أن تقول؟

ـ قال اسحاق ـ : فاطرقت.

ثم قال : يا إسحاق ، لا تقل منها شيئا ، فانك إن قلت منها شيئا استتبتك ، وإن كان للحديث عندك تأويل غير هذه الثلاثة الاوجه فقله.

قلت : لا أعلم ، وإن لابي بكر فضلا.

قال : أجل ، لو لا أن له فضلا لما قيل إن عليا أفضل منه ، فما فضله الذي قصدت إليه الساعة؟

قلت : قول الله عز وجل : (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (١) ، فنسبه إلى صحبته.

قال : يا إسحاق ، أما إني لا أحملك على الوعر من طريقك ، إني وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضى عنه كافرا ، وهو قوله : (فقال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي

__________________

(١) التوبة : ٤٠.

١٩٠

ولا أشرك بربي أحدا) (١).

قلت : إن ذلك صاحب كان كافرا ، وأبو بكر مؤمن.

قال : فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة من رضيه كافرا جاز أن ينسب إلى صحبته نبيه مؤمنا ، وليس بافضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث.

قلت : يا أمير المؤمنين ، إن قدر الاية عظيم ، إن الله يقول : (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا).

قال : يا إسحاق ، تابى الان إلا أن أخرجك إلى الاستقصاء عليك ، أخبرني عن حزن أبي بكر ، أكان رضا أم سخطا؟

قلت : إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله صلى الله عليه واله خوفا عليه ، وغما أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه واله شئ من المكروه.

قال : ليس هذا جوابي ، إنما كان جوابي أن تقول : رضا أم سخط؟

قلت : بل رضا لله.

قال : فكان الله جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهى عن رضا الله عز وجل وعن طاعته.

قلت : أعوذ بالله.

قال : أو ليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضى الله عنه رضا الله؟

قلت : بلى.

قال : أو لم تجد أن القرآن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه واله قال له : «لا تحزن» نهيا له عن الحزن.

قلت : أعوذ بالله.

__________________

(١) الكهف : ٣٧ ـ ٣٨.

١٩١

قال : يا إسحاق ، إن مذهبي الرفق بك لعل الله يردك إلى الحق ويعدل بل عن الباطل لكثرة ما تستعيذ به. وحدثني عن قول الله : (فانزل الله سكينته عليه) من عنى بذلك رسول الله أم أبا بكر؟

قلت : بل رسول الله.

قال : صدقت.

قال : فحدثني عن قول الله عز وجل : (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) إلى قوله : (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) أتعلم من المؤمنون الذين أراد الله في هذا الموضع؟ قلت : لا أدري ، يا أمير المؤمنين.

قال : الناس جميعا انهزموا يوم حنين ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه واله إلا سبعة نفر من بني هاشم : علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله ، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله ، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله من جراح القوم شئ ، حتى أعطى الله لرسوله الظفر ، فالمؤمنون في هذا الموضع علي خاصة ، ثم من حضره من بني هاشم.

قال : فمن أفضل : من كان مع رسول الله صلى الله عليه واله في ذلك الوقت ، أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعا لينزلها عليه؟

قلت : بل من أنزلت عليه السكينة؟

قال : يا إسحاق ، من أفضل : من كان معه في الغار أم من نام على فراشه ووقاه بنفسه ، حتى تم لرسول الله صلى الله عليه واله ما أراد من الهجرة؟ إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يامر عليا بالنوم على فراشه وأن بقي رسول الله صلى الله عليه واله بنفسه ، فأمره رسول الله صلى الله عليه واله بذلك. فبكى علي رضى الله عنه ، فقال له رسول الله : ما يبكيك يا علي أجزعا من

١٩٢

الموت؟

قال ـ علي عليه السلام ـ : لا والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، ولكن خوفا عليك ، أفتسلم يا رسول الله؟ قال : نعم.

قال : سمعا وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله. ثم أتى مضجعه واضطجع ، وتسجى بثوبه. وجاء المشركون من قريش فحفوا به ، لا يشكون أنه رسول الله صلى الله عليه واله ، وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه ، وعلي يسمع ما القوم فيه من تلف نفسه ، ولم يدعه ذلك الى الجزع كما جزع صاحبه في الغار ، ولم يزل علي صابرا محتسبا. فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح فلما أصبح قام ، فنظر القوم إليه فقالوا : أين محمد؟ قال : وما علمي بمحمد أين هو؟ قالوا : فلا نراك إلا كنت مغررا بنفسك منذ ليلتنا ، فلم يزل علي أفضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتى قبضه الله إليه.

يا إسحاق : هل تروي حديث الولاية؟ قلت : نعم ، يا أمير المؤمنين.

قال : أروه.

ـ قال اسحاق ـ : ففعلت.

قال : يا إسحاق ، أرأيت هذا الحديث ، هل أوجب على أبي بكر وعمر ما لم يوجب لهما عليه؟

قلت : إن الناس ذكروا أن الحديث إنما كان بسبب زيد بن حارثة لشئ جرى بينه وبين علي ، وأنكر ولاء علي ، فقال رسول الله صلى الله عليه واله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه.

١٩٣

قال : وفي أي موضع قال هذا؟ أليس بعد منصرفه من حجة الوداع؟

قلت : أجل.

قال : فان قتل زيد بن حارثة قبل الغدير (١) ، كيف رضيت لنفسك بهذا؟ أخبرني لو رأيت ابنا لك قد أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي أيها الناس ، فاعلموا ذلك. أكنت منكرا عليه تعريفه الناس ما لا ينكرون ولا يجهلون؟

فقلت : اللهم نعم.

قال : يا إسحاق ، أفتنزه ابنك عما لا تنزه عنه رسول الله صلى الله عليه واله ، ويحكم؟ ـ يا اسحاق ـ : لا تجعلوا فقهاءكم أربابكم إن الله جل ذكره قال في كتابه : (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) (٢) ولم يصلوا لهم ولا صاموا ولا زعموا أنهم أرباب ، ولكن أمروهم فاطاعوا أمرهم.

يا إسحاق ، أتروي حديث : أنت مني بمنزلة هارون من موسى؟

قلت : نعم يا أمير المؤمنين ، قد سمعته وسمعت من صححه وجحده.

قال : فمن أوثق عندك : من سمعت منه فصححه ، أو من جحده؟

قلت : من صححه.

قال : فهل يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه واله مزح بهذا القول؟

قلت : أعوذ بالله.

قال : فقال قولا لا معنى له ، فلا يوقف عليه؟

قلت : أعوذ بالله.

__________________

(١) يريد : غدير خم ، وهو بين مكة والمدينة ، وبينه وبين الجحفة ميلان وكانت في السنة العاشرة من الهجرة. وكان مقتل زيد بن حارثة في غزوة مؤتة في السنة السابعة من الهجرة.

(٢) التوبة : ٣١.

١٩٤

قال : أفعا تعلم أن هارون كان أخا موسى لابيه وامه؟

قلت : بلى.

قال : فعلي أخو رسول الله لابيه وامه؟

قلت : لا.

قال : أو ليس هارون كان نبيا وعلي غير نبي؟

قلت : بلى.

قال : فهذان الحالان معدومان في علي وقد كانا في هارون.

يا إسحاق ، فما معنى قوله : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»؟

قلت له : إنما أراد أن يطيب بذلك نفس علي لما قال المنافقون إنه خلفه استثقالا له.

قال : فاراد أن يطيب نفسه بقول لا معنى له؟ قال إسحاق : فاطرقت.

قال : يا إسحاق ، له معنى في كتاب الله بين.

قلت : وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال : قوله عز وجل حكاية عن موسى إنه قال لاخيه هارون : (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (١).

قلت : يا أمير المؤمنين ، إن موسى عليه السلام خلف هارون عليه السلام في قومه وهو حي ، ومضى إلى ربه ، وأن رسول الله صلى الله عليه واله خلف عليا كذلك حين خرج إلى غزاته.

قال : كلا ليس كما قلت. أخبرني عن موسى حين خلف هارون عليه السلام ، هل

__________________

(١) الاعراف : ١٤٢.

١٩٥

كان معه حين ذهب إلى ربه أحد من أصحابه أو أحد من بني إسرائيل؟

قلت : لا.

قال : أو ليس استخلفه على جماعتهم؟

قلت : نعم.

قال : فاخبرني عن رسول الله صلى الله عليه واله حين خرج إلى غزاته ، هل خلف إلا الضعفاء والنساء ، والصبيان؟ فانى يكون مثل ذلك؟ وله عندي تأويل آخر من كتاب الله يدل على استخلافه إياه لا يقدر أحد أن يحتج فيه ، ولا أعلم أحدا احتج به ، وأرجو أن يكون توفيقا من الله.

قلت : وما هو يا أمير المؤمنين؟

قال : قوله عز وجل حين حكى عن موسى عليه السلام قوله : (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا) (١) : فانت مني يا علي بمنزلة هارون من موسى ، وزيري من أهلي ، وأخي أشد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبح الله كثيرا ، ونذكره كثيرا ، فهل يقدر أحد أن يدخل في هذا شيئا غير هذا؟ ولم يكن ليبطل قول النبي صلى الله عليه واله وأن يكون لا معنى له.

قال ـ اسحاق ـ : فطال المجلس وارتفع النهار.

فقال يحيى بن أكثم القاضي : يا أمير المؤمنين ، قد أوضحت الحق لمن أراد الله به بالخير ، وأثبت ما لا يقدر أحد أن يدفعه.

قال إسحاق : فاقبل علينا وقال : ما تقولون؟

فقلنا : كلنا نقول أمير المؤمنين أعزه الله.

__________________

(١) طه : ٢٩ ـ ٣٥.

١٩٦

فقال : والله لو لا أن رسول الله صلى الله عليه واله قال : «اقبلوا القول من الناس» ما كنت لاقبل منكم القول. اللهم قد نصحت لهم القول ، اللهم إني قد أخرجت الامر من عنقي ، اللهم إني أدينك بالتقرب إليك بحب علي وولايته. (١)

وأخيرا نود أن نشير في خاتمة الكتاب إلى أن هناك العديد من المرويات والاعترافات الصريحة المنقولة عن لسان الخلفاء بحق أمير المؤمنين عليه السلام ، ولكنا ـ نظرا لضيق الوقت وخوفا من الاطالة ـ اكتفينا بالمهم منها ، وما غايتنا إلا إتمام الحجة والبرهان (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) (٢) والحمد لله رب العالمين.

__________________

(١) العقد الفريد ٥ : ٩٢ ـ ١٠١ ، عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ٢ : ١٨٥ ـ ٢٠٠ باختلاف يسير.

(٢) الانعام : ١٤٩.

١٩٧
١٩٨

المحتويات

١٩٩
٢٠٠