تنزيه الأنبياء

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

تنزيه الأنبياء

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٦

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما هو أهله ومستحقه ، وصلى الله على خيرته من خلقه ، على عباده محمد وآله الابرار الطاهرين ، الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. سألت احسن الله توفيقك ، إملاء كتاب في تنزيه الانبياء والائمة عليهم السلام عن الذنوب والقبائح كلها ، ما سمي منها كبيرة أو صغيرة والرد على من خالف في ذلك ، على اختلافهم وضروب مذاهبهم وأنا اجيب إلى ما سألت على ضيق الوقت ، وتشعب الفكر ، وأبتدئ بذكر الخلاف في هذا الباب ، ثم بالدلالة على مذهب الصحيح من جملة ما اذكره من المذاهب ، ثم بتأويل ما تعلق به المخالف من الآيات والاخبار ، التي اشتبه عليه وجهها ، وظن انها تقتضي وقوع كبيرة أو صغيرة من الانبياء والائمة عليهم السلام ، ومن الله تعالى استمد المعونة والتوفيق ، واياه اسأل التأييد والتسديد. بيان الخلاف في نزاهة الانبياء عن الذنوب : اختلف الناس في الانبياء عليهم السلام. فقالت الشيعة الامامية ، لا يجوز عليهم شئ من المعاصي والذنوب كبيرا كان أو صغيرا ، لا قبل النبوة ولا بعدها ، ويقولون في الائمة مثل ذلك ، وجوز اصحاب الحديث والحشوية على الانبياء الكبائر قبل

٢

النبوة ، ومنهم من جوزها في حال النبوة سوى الكذب فيما يتعلق باداء الشريعة ، ومنهم من جوزها كذلك في حال النبوة بشرط الاستسرار دون الاعلان ، ومنهم من جوزها على الاحوال كلها ، ومنعت المعتزلة. من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الانبياء عليهم السلام قبل النبوة وفي حالها ، وجوزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغاير ، ثم اختلفوا فمنهم من جوز على النبي صلى الله عليه وسلم الاقدام على المعصية الصغيرة على سبيل العمد ، ومنهم من منع من ذلك وقال انهم لا يقدمون على الذنوب التي يعلمونها ذنوبا ، بل على سبيل التأويل. وحكي عن النظام ، وجعفر بن مبشر ، وجماعة ممن تبعهما ، ان ذنوبهم لا تكون إلا على سبيل السهو والغفلة ، وانهم مؤاخذون بذلك ، وان كان موضوعا من أممهم لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم. وجوزوا كلهم ومن قدمنا ذكره من الحشوية وأصحاب الحديث على الائمة الكبائر والصغائر ، إلا انهم يقولون ان بوقوع الكبيرة من الامام تفسد إمامته ويجب عزله والاستبدال به. واعلم ان الخلاف بيننا وبين المعتزلة. في تجويزهم الصغاير على الانبياء صلوات الله عليهم يكاد يسقط عند التحقيق لانهم انما يجوزون من الذنوب ما لا يستقر له استحقاق عقاب ، وإنما يكون حظه نقص الثواب على اختلافهم أيضا في ذلك ، لان أبا علي الجبائي يقول : ان الصغيرة يسقط عقابها بغير موازنة ، فكأنهم معترفون بأنه لا يقع منهم ما يستحقون به الذم والعقاب. وهذه موافقة للشيعة في المعنى ، لان الشيعة إنما تنفي عن الانبياء عليهم السلام جميع المعاصي من حيث كان كل شئ منها يستحق به فاعله الذم والعقاب ، لان الاحباط باطل عندهم ، وإذا بطل الاحباط فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب ، وإذا كان استحقاق الذم والعقاب منفيا عن الانبياء عليهم السلام وجب ان تنتفي عنهم ساير الذنوب ، ويصير الخلاف بين الشيعة والمعتزلة متعلقا بالاحباط ، فإذا بطل الاحباط فلابد من الاتفاق على ان شيئا

٣

من المعاصي لا يقع من الانبياء (ع) من حيث يلزمهم استحقاق الذم والعقاب ، لكنه يجوز ان نتكلم في هذه المسألة على سبيل التقدير ونفرض ان الامر في الصغائر والكبائر على ما تقوله المعتزلة ، ومتى فرضنا ذلك لم نجوز ايضا عليهم الصغائر لما سنذكره ونبينه انشاء الله تعالى. تنزيه الانبياء كافة عن الصغائر والكبائر : (واعلم) ان جميع ما تنزه الانبياء عليهم السلام عنه ، ونمنع من وقوعه منهم من يستند إلى دلالة العلم المعجز إما بنفسه أو بواسطة ، وتفسير هذه الجملة ، ان العلم المعجز إذا كان واقعا موقع التصديق لمدعي النبوة والرسالة ، وجاريا مجرى قوله تعالى له : صدقت في انك رسولي ومؤد عني. فلابد من ان يكون هذا المعجز مانعا من كذبه على الله سبحانه في ما يؤديه عنه ، لانه تعالى لا يجوز أن يصدق الكذاب ، لان تصديق الكذاب قبيح ، الجبائي : هو محمد بن عبد الوهاب الجبائي يكنى بأبي علي وهو من أئمة المعتزلة ورئيس علماء الكلام في عصره ، وإليه تنسب الطائفة الجبائية. كما قلنا ان الكذب قبيح ، فأما الكذب في غير ما يؤديه عن الله وسائر الكبائر فانما دل المعجز على نفيها ، من حيث كان دالا على وجوب اتباع الرسول وتصديقه فيما يؤديه ، وقبوله منه ، لان الغرض في بعثة الانبياء عليهم السلام ، تصديقهم بالاعلام ، المعجز هو أن يمتثل ما يأتون به ، فما قدح في الامتثال والقبول واثر فيهما ، يجب أن يمنع المعجز منه ، فلهذا قلنا : انه يدل على نفي الكذب والكبائر عنهم في غير ما يؤدونه بواسطة ، وفي الاول يدل بنفسه ، فإن قيل : لم يبق إلا أن تدلوا على ان تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والامتثال ، قلنا : لا شبهة في أن من نجوز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه الاقدام على الذنوب ، لا تكون أنفسنا ساكنة إلى قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلى من لا نجوز عليه شيئا من ذلك ، وهذا هو معنى قولنا ان وقوع الكبائر منفر عن القبول ، والمرجع فيما ينفر ومالا ينفر إلى العادات واعتبار ما تقتضيه ، وليس ذلك مما يستخرج بالادلة والقياس ، ومن رجع إلى العادة علم ما ذكرناه ، وأنه من أقوى ما ينفر عن قبول القول ، فان حظ الكبائر في هذا الباب لم يزد على حد السخف والمجون والخلاعة ولم ينقص منه. فإن قيل : أو ليس

٤

قد جوز كثير من الناس على الانبياء عليهم السلام الكبائر مع انهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرايع ، وهذا ينقض قولكم ان الكبائر منفرة. قلنا : هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه ، لانا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق ، وان لا يقع امتثال الامر جملة. وإنما أردنا ما فسرناه من ان سكون النفس إلى قبول قول من يجوز ذلك عليه لا يكون على حد سكونها إلى من لا يجوز ذلك عليه ، وإنا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول. كما إنا مع الامان من الكبائر نكون أقرب إلى قبول القول. وقد يقرب من الشئ ما لا يحصل الشئ عنده ، كما يبعد عنه ما لا يرتفع عنده ، ألا ترى أن عبوس الداعي للناس إلى طعامه وتضجره وتبرمه منفر في العادة عن حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ، ولا يخرجه من ان يكون منفرا ، وكذلك طلاقة وجهه واستبشاره وتبسمه يقرب من حضور دعوته وتناول طعامه ، وقد يرتفع الحضور مع ما ذكرناه ولا يخرجه من ان يكون مقربا ، فدل على ان المعتبر في باب المنفر والمقرب ما ذكرناه دون وقوع الفعل المنفر عنه أو ارتفاعه ، فان قيل : فهذا يقتضي ان الكبائر لا تقع منهم في حال النبوة ، فمن أين انها لا تقع منهم قبل النبوة ، وقد زال حكمها بالنبوة المسقطة للعقاب والذم ، ولم يبق وجه يقتضي التنفير. قلنا : الطريقة في الامرين واحدة ، لانا نعلم ان من يجوز عليه الكفر والكبائر في حال من الاحوال وان تاب منهما ، لا يكون حال الواعظ لنا الداعي إلى الله تعالى ونحن نعرفه مقارفا للكبائر مرتكبا لعظيم الذنوب ، وان كان قد فارق جميع ذلك وتاب منه عندنا ، وفي نفسونا كحال من لم نعهد منه إلا النزاهة والطهارة ، ومعلوم ضرورة الفرق بين هذين الرجلين فيما يقتضي السكون والنفور ، ولهذا كثيرا

٥

ما يعير الناس. وخرج من استحقاق العقاب بها لا نسكن إلى قبول قوله ، كسكوننا إلى من لا يجوز ذلك عليه في حال من الاحوال ولا على وجه من الوجوه. ولهذا من يعهدون منه القبائح المتقدمة بها وإن وقعت التوبة منها ، ويجعلون ذلك عيبا ونقصا وقادحا ومؤثرا. وليس إذا كان تجويز الكبائر قبل النبوة منخفضا عن تجويزها في حال النبوة ، وناقصا عن رتبته في باب التنفير ، وجب ان لا يكون فيه شئ من التنفير ، لان الشيئين قد يشتركان في التنفير ، وإن كان احدهما أقوى من صاحبه. ألا ترى ان كثير السخف والمجون والاستمرار عليهما والانهماك فيهما منفر لا محالة ، وان القليل من السخف الذي لا يقع إلا في الاحيان والاوقات المتباعدة منفر أيضا ، وان فارق الاول في قوة النفير ولم يخرجه نقصانه في هذا الباب من الاول من ان يكون منفرا في نفسه. فإن قيل : فمن أين قلتم ان الصغائر لا تجوز على الانبياء في حال النبوة وقبلها؟ قلنا : الطريقة في نفي الصغائر في الحالتين هي الطريقة في نفي الكبائر في الحالتين عند التأمل ، لانا كما نعلم ان من يجوز كونه فاعلا لكبيرة متقدمة قد تاب منها واقلع عنها ولم يبق معه شئ من استحقاق عقابها وذمها ، لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من لا يجوز عليه ذلك. وكذلك نعلم ان من يجوز عليه الصغائر من الانبياء (ع) أن يكون مقدما على القبائح مرتكبا للمعاصي في حال نبوته أو قبلها ، وان وقعت مكفرة لا يكون سكوننا إليه كسكوننا إلى من نأمن منه كل القبائح ولا نجوز عليه فعل شئ منها. فاما الاعتذار في تجويز الصغائر بأن العقاب والذم عنها ساقطان فليس بشئ ، لانه لا معتبر في باب التنفير بالذم والعقاب حتى يكون التنفير واقعا عليهما ، ألا ترى ان كثيرا من المباحات منفر ولا ذم عليه ولا عقاب وكثيرا من الخلق والهيئات منفر وهو خارج عن باب الذم. على ان هذا القول يوجب على قائله تجويز الكبائر عليهم قبل البعثة ، لان التوبة والاقلاع قد ازالا الذم والعقاب اللذين يقف التنفير على هذا القول عليهما. فإن قيل : كيف تنفر الصغاير وإنما حظها تقليل الثواب وتنقيصه؟ لانها

٦

بكونها صغائر قد خرجت من اقتضاء الذم والعقاب ، ومعلوم أن قلة الثواب غير منفرة. ألا ترون ان كثيرا من الانبياء عليهم السلام قد يتركون كثيرا من النوافل مما لو فعلوه لاستحقوا كثيرا من الثواب ، ولا يكون ذلك منفرا عنهم. قلنا : ان الصغاير لم تكن منفرة من حيث قلة الثواب معها ، بل انما كانت كذلك من حيث كانت قبائح ومعاصي لله تعالى ، وقد بينا أن الملجأ في باب المنفر إلى العادة والشاهد. وقد دللنا على انهما يقتضيان بتنفير جميع الذنوب والقبائح على الوجه الذي بيناه. وبعد : فإن الصغاير في هذا الباب بخلاف الامتناع من النوافل ، لانها تنقص ثوابا مستحقا ثابتا. وترك النوافل ليس كذلك. وفرق واضح في العادة بين الانحطاط عن رتبة ثبتت واستحقت ، وبين قوتها. وان لا تكون حاصلة جملة. ألا ترى ان من ولى ولاية جليلة وارتقى إلى رتبة عالية ، يؤثر في حالة العزل عن تلك الولاية والهبوط عن تلك الرتبة ، ولا يكون حاله هذه كحاله لو لم ينل تلك الولاية ولا ارتقى إلى تلك الرتبة. وهذا الكلام الذي ذكرناه يبطل قول من جوز على الانبياء عليهم السلام الصغائر على اختلاف مذاهبهم في تجويز ذلك عليهم على سبيل العمد أو التأويل. إلا ان أبا علي الجبائي ومن وافقه في قوله ان ذنوب الانبياء لا تكون عمدا ، وإنما يقدمون عليها تأويلا ، ويمثل لذلك بقصة آدم (ع) ، فإنه نهي عن جنس الشجرة دون عينها فتأول فظن ان النهي يتناول العين ، فلم يقدم على المعصية مع العلم بأنها معصية قد ناقض ، فإنه إنما ذهب إلى هذا المذهب تنزيها للانبياء عليهم السلام ، واعتقادا ان تعمد المعصية مع العلم يوجب كبرها ، فنزهه عن معصية وأضاف إليه معصيتين ، لانه مخطئ على مذهبه في الاعراض عن تأمل مقتضى النهي ، وهل يتناول الجنس أو العين لان ذلك واجب عليه ومخطئ في التناول من الشجرة ، وهاتان معصيتان. وبعد : فإن تعمد المعصية ليس يجب ان يكون مقتضيا لكبرها لا محالة ، لانها لا يمتنع أن يكون مع التعمد لصاحبها من الخوف والوجل

٧

ما يوجب صغرها ، ويمنع من كبرها. وليس له ان يقول ان النظر فيما كلفه من الامتناع من الجنس أو النوع لم يكن واجبا عليه ، لان ذلك ان لم يكن واجبا عليه فكيف يكون مكلفا ، وكيف يكون تناوله معصية؟ ولابد على هذا من ان يخطر الله تعالى بباله ما يقتضي وجوب النظر في ذلك عليه. وإذا وجب عليه النظر ولم يفعله فقد تعمد الاخلال بالواجب ، ولا فرق في باب التنفير بين الاقدام على المعصية والاخلال بالواجب. فإذا جاز عنده ان يتعمد الاخلال بالواجب ولا يكون منه كبيرا ، جاز ان يتعمد منه نفس التناول ولا يكون منه كبيرا. فأما ما حكيناه عن النظام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما ، من ان ذنوب الانبياء عليهم السلام تقع منهم على سبيل السهو والغفلة ، وأنهم مع ذلك مؤاخذون بها ، فليس بشئ ، لان السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من ان يكون ذنبا مؤاخذا به ، ولهذا لا يصح مؤاخذة المجنون والنائم. وحصول السهو في أنه مؤثر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والادلة ، فلو جاز ان يخالف حال الانبياء في صحة تكليفهم مع السهو ، جاز ان يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه وهذا واضح ، فأما الطريق الذي به يعلم ان الائمة عليهم السلام لا يجوز عليهم الكبائر في حال الامامة ، فهو أن الامام انما احتيج إليه لجهة معلومة ، وهي ان يكون المكلفون عند وجوده ابعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب على ما دللنا عليه في غير موضع ، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة. فيه. وموجبة وجود امام يكون اماما له ، والكلام في امامته كالكلام فيه ، وهذا يؤدي إلى وجود ما لا نهاية له من الائمة وهو باطل أو الانتهاء إلى امام معصوم وهو المطلوب. ومما يدل ايضا على ان الكبائر لا تجوز عليهم ، ان قولهم قد ثبت أنه حجة في الشرع كقول الانبياء (ع) ، بل يجوز ان ينتهي الحال إلى أن الحق لا يعرف إلا من جهتهم ، ولا يكون الطريق إليه إلا من أقوالهم على ما بيناه

٨

في مواضع كثيرة ، وإذا ثبت هذا جملة جروا مجرى الانبياء (ع) فيما يجوز عليهم ومالا يجوز ، فإذا كنا قد بينا ان الكبائر والصغائر لا يجوزان على الانبياء (ع) قبل النبوة ولا بعدها ، لما في ذلك من التنفير عن قبول اقوالهم ، ولما في تنزيههم عن ذلك من السكون إليهم ، فكذلك يجب أن يكون الائمة عليهم السلام منزهين عن الكبائر والصغائر قبل الامامة وبعدها ، لان الحال واحدة. وإذ قد قدمنا ما أردنا تقديمه في هذا الباب فنحن نبتدئ بذكر الكلام على ما تعلقوا به من جواز الكبائر على الانبياء (ع) من الكتاب.

في تنزيه آدم عليه السلام

(مسألة) فمما تعلقوا به قوله تعالى في قصة آدم (ع) : (وعصى آدم ربه فغوى). قالوا وهذا تصريح بوقوع المعصية التي لا تكون إلا قبيحة ، وأكده بقوله فغوى ، وهذا تصريح بوقوع المعصية ، والغي ضد الرشد. (الجواب) : يقال لهم أما المعصية فهى مخالفة الامر ، والامر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالمندوب معا ، فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه السلام مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة ، ويكون بمواقعتها تاركا نفلا وفضلا وغير فاعل قبيحا ، وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا كما يسمى بذلك تارك الواجب. فإن تسمية من خالف ما أمر به سواه كان واجبا أو نفلا بأنه عاص ظاهرة ، ولهذا يقولون أمرت فلانا بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني ، وإن لم يكن ما أمره به واجبا ، وأما قوله (فغوى) ، فمعناه انه خاب ، لانا نعلم انه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم. فإذا خالف الامر ولم يصر إلى ما ندب إليه ، فقد خاب لا محالة ، من حيث انه لم يصر إلى الثواب الذى كان يستحق بالامتناع ، ولا شبهة في أن لفظ غوى يحتمل الخيبة. قال الشاعر : فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره؟ ومن يغو لا يعدم على الغي لائما فإن قيل : كيف يجوز أن يكون ترك الندب

٩

معصية؟ أو ليس هذا يوجب ان توصف الانبياء (ع) بأنهم عصاة في كل حال ، وأنهم لا ينفكون من المعصية لانهم لا يكادون ينفكون من ترك الندب؟ قلنا : وصف تارك الندب بانه عاص توسع وتجوز والمجاز لا يقاس عليه ولا يعدى به عن موضعه. ولو قيل انه حقيقة في فاعل القبيح وتارك الاولى والافضل ، ولم يجز إطلاقه أيضا في الانبياء (ع) إلا مع التقييد لان استعماله قد كثر في القبائح ، فإطلاقه بغير تقييد موهم ، لكنا نقول : ان أردت بوصفهم بأنهم عصاة أنهم فعلوا القبايح فلا يجوز ذلك ، وان أردت انهم تركوا ما لو فعلوه استحقوا الثواب وكان أولى فهم كذلك. فإن قيل : فأي معنى لقوله تعالى : (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) وأي معنى لقوله تعالى : (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم) فكيف تقبل توبة من لم يذنب؟ ام كيف يتوب من لم يفعل القبيح؟ قلنا : أما التوبة في اللغة : الرجوع ، ويستعمل في واحد منا وفى القديم تعالى. والثانى ان التوبة عندنا وعلى أصولنا فغير موجبة لا سقاط العقاب ، وإنما يسقط الله تعالى العقاب عندها تفضلا ، والذى توجبه التوبة وتؤثره هو استحقاق الثواب ، فقبولها على هذا الوجه انما هو ضمان الثواب عليها. فمعنى قوله تعالى : (تاب عليه) انه قبل توبته وضمن له ثوابها ، ولابد لمن ذهب إلى ان معصية آدم عليه السلام صغيرة من هذا الجواب ، لانه إذا قيل له كيف تقبل توبته وتغفر له معصيته؟ قد وقعت في الاصل مكفرة لا يستحق عليها شيئا من العقاب ، لم يكن له بد من الرجوع إلى ما ذكرناه ، والتوبة قد تحسن ان تقع ممن لا يعهد من نفسه قبيحا على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والرجوع إليه ، ويكون وجه حسنها في هذا الموضع إستحقاق الثواب بها أو كونها لفظا ، كما يحسن أن تقع ممن يقطع على انه غير مستحق للعقاب ، وأن التوبة لا تؤثر في اسقاط شئ يستحقه من العقاب ، ولهذا جوزوا التوبة من الصغائر وإن لم

١٠

تكن مؤثرة في اسقاط ذم ولا عقاب. فان قيل : الظاهر من القرآن بخلاف ما ذكرتموه ، لانه اخبر ان آدم عليه السلام منهي عن أكل الشجرة بقوله : (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) وبقوله : (ألم انهكما عن تلكما الشجرة)؟ وهذا يوجب بأنه (ع) عصى بأن فعل منهيا عنه ولم يعص بان ترك مأمورا به. قلنا : أما النهي والامر معا فليسا يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال ولا اشتراك ، وقد يؤمر عندنا بلفظ النهي وينهى بلفظ الامر ، فإنما يكون النهي نهيا بكراهة المنهي عنه. فإذا قال تعالى : ولا تقربا هذه الشجرة ، ولم يكره قربها ، لم يكن في الحقيقة ناهيا ، كما أنه تعالى لما قال : (اعملوا ما شئتم وإذا حللتم فاصطادوا) ، ولم يرد ذلك ، لم يكن أمرا. فإذا كان قد صح قوله (ولا تقربا هذه الشجرة) إرادة لترك التناول ، فيجب ان يكون هذا القول أمرا ، وإنما سماه منهيا عنه ، ويسمى أمره له بأنه نهي من حيث كان فيه معنى النهي ، لان النهي ترغيبا في الامتناع من الفعل ، وتزهيدا في الفعل نفسه. ولما كان الامر ترغيبا في الفعل المأمور به وتزهيدا في تركه ، جاز ان يسمى نهيا. وقد يتداخل هذان الوصفان في الشاهد فيقول احدنا قد أمرت فلانا بأن لا يلقى الامير ، وإنما يريد أنه نهاه عن لقائه ، ويقول نهيتك عن هجر زيد وإنما معناه امرتك بمواصلته ، فإن قيل ألا جعلتم النهي منقسما إلى منهي قبيح ومنهي غير قبيح ، بل يكون تركه أفضل من فعله ، كما جعلتم الامر منقسما إلى واجب وغير واجب. قلنا الفرق بين الامرين ظاهر ، لان انقسام المأمور به في الشاهد إلى واجب وغير واجب غير مدفوع ، ولا خاف ، وليس يمكن أحد أن يدفع ان في الافعال الحسنة التي يستحق بها المدح والثواب ما له صفة الوجوب ، وفيها ما لا يكون كذلك. فإذا كان الواجب مشاركا للندب في تناول الارادة له واستحقاق الثواب والمدح به ، فليس يفارقه إلا بكراهة الترك. لان الواجب تركه مكروه والنفل ليس كذلك. فلو جعلنا

١١

الكراهة تتعلق بالقبيح وغير القبيح من الحكيم تعالى ، وكذلك النهي. كما جعلنا الامر منه يتعلق بالواجب وغير الواجب ، لارتفع الفرق بين الواجب والندب مع ثبوت الفصل بينهما في العقول ، فان قيل : فما معنى حكايته تعالى عنهما قولهما : (ربنا ظلمنا انفسنا) وقوله تعالى : (فتكونا من الظالمين). قلنا : معناه أنا نقصنا انفسنا وبخسناها ما كنا نستحقه من الثواب بفعل ما أريد منا من الطاعة ، وحرمناها الفايدة الجليلة من التعظيم من ذلك الثواب ، وإن لم يكن مستحقا قبل ان يفعل الطاعة التي يستحق بها ، فهو في حكم المستحق ، فيجوز ان يوصف بذلك من فوت نفسه بأنه ظالم لها ، كما يوصف من فوت نفسه المنافع المستحقة. وهذا معنى قوله تعالى : (فتكونا من الظالمين). فإن قيل فإذا لم تقع من آدم عليه السلام على قولكم معصية ، فلم أخرج من الجنة على سبيل العقوبة وسلب لباسه على هذا الوجه؟ ولولا أن الاخراج من الجنة وسلب اللباس على سبيل الجزاء على الذنب ، كما قال الله تعالى : (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما) وقال تعالى في موضع آخر : (فأخرجهما مما كانا فيه)؟. قلنا : نفس الاخراج من الجنة لا يكون عقابا ، لان سلب اللذات والمنافع ليس بعقوبة ، وإنما العقوبة هي الضرب والالم الواقعان على سبيل الاستخفاف والاهانة. وكذلك نزع اللباس وابداء السوأة. فلو كانت هذه الامور مما يجوز ان تكون عقابا ويجوز ان يكون غيره لصرفناها عن باب العقاب إلى غيره ، بدلالة ان العقاب لا يجوز ان يستحقه الانبياء عليهم السلام. فإذا فعلنا ذلك فيما يجوز أن يكون واقعا على سبيل العقوبة ، فهو اولى فيما لا يجوز أن يكون كذلك ، فان قيل فما وجه ذلك ان لم تكن عقوبة؟. قلنا : لا يمتنع ان يكون الله تعالى علم ان المصلحة تقتضي تبقية آدم عليه السلام في الجنة وتكليفه فيها متى لم يتناول من الشجرة ، فمتى تناول منها تغيرت الحال في المصلحة وصار اخراجه عنها وتكليفه في دار

١٢

غيرها هو المصلحة. وكذلك القول في سلب اللباس حتى يكون نزعه بعد التناول من الشجرة هو المصلحة كما كانت المصلحة في تبقيته قبل ذلك ، وإنما وصف إبليس بأنه مخرج لهما من الجنة من حيث وسوس اليهما وزين عندهما الفعل الذي يكون عنده الاخراج ، وإن لم يكن على سبيل الجزاء عليه لكنه يتعلق به تعلق الشرط في مصلحته ، وكذلك وصف بأنه مبدئ لسوأتهما من حيث اغواهما ، حتى اقدما على ما سبق في علم الله تعالى بأن اللباس معه ينزع عنهما ، ولابد لمن ذهب إلى ان معصية آدم عليه السلام صغيرة لا يستحق بها العقاب من مثل هذا التأويل ، وكيف يجوز ان يعاقب الله تعالى نبيه بالاخراج من الجنة أو غيره من العقاب ، والعقاب لابد من ان يكون مقرونا بالاستخفاف والاهانة ، وكيف يكون من تعبدنا الله فيه بنهاية التعظيم والتبجيل مستحقا منا ومنه تعالى الاستخفاف والاهانة : وأي نفس تسكن إلى مستخف بقدره مهان موبخ مبكت؟ وما يجيز مثل ذلك على الانبياء (ع) إلا من لا يعرف حقوقهم ولا يعلم ما تقضيه منازلهم. حول ايحاء ابليس لحواء بتسمية ولدها عبد الحارث : (مسألة) فان قال قائل فما قولكم في قوله تعالى (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما اثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما اتاهما فتعالى الله عما يشركون) أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضى وقوع المعصية من آدم (ع) لانه لم يتقدم من يجوز صرف هذه الكناية في جميع الكلام إليه إلا ذكر آدم (ع) وزوجته ، لان النفس الواحدة هي آدم وزوجها المخلوق منها هي حواء. فالظاهر على ما ترون ينبي عما ذكرناه ، على انه قد روي في الحديث أن إبليس لعنه الله تعالى ، لما ان حملت حواء عرض لها وكانت ممن لا يعيش لها ولد. فقال لها احببت ان يعيش ولدك فسميه عبد الحارث ، وكان أبليس قد سمي الحارث ، فلما ولدت

١٣

سمت ولدها بهذه التسمية. فلهذا قال تعالى : (جعلا له شركاء فيما اتاهما). (الجواب) : يقال له قد علمنا ان الدلالة العقلية التي قدمناها في باب أن الانبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر والشرك والمعاصي غير محتملة ، ولا يصح دخول المجاز فيها. والكلام في الجملة يصح فيه الاحتمال وضروب المجاز ، فلابد من بناء المحتمل على ما لا يحتمل ، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية على سبيل التفصيل ، لكنا نعلم في الجملة ان تأويلها مطابق لدلالة العقل. وقد قيل في تأويل هذه الآية ما يطابق دليل العقل ومما يشهد له اللغة وجوه. (منها) ان الكناية في قوله سبحانه : (جعلا له شركاء فيما آتاهما) غير راجعة إلى آدم (ع) وحواء ، بل إلى الذكور والاناث من أولادهما ، أو إلى جنسين ممن اشترك من نسلهما. وان كانت الكناية الاولى تتعلق بهما ويكون تقدير الكلام : فلما آتى الله آدم وحواء الولد الصالح الذي تمنياه وطلباه جعل كفار أولادهما ذلك مضافا إلى غير الله تعالى. ويقوي هذا التأويل قوله سبحانه : (فتعالى الله عما يشركون). وهذا ينبئ على ان المراد بالتثنية ما أردناه من الجنسين أو النوعين ، وليس يجب من حيث كانت الكناية المتقدمة راجعة إلى آدم (ع) وحواء ، أن يكون جميع ما في الكلام راجعا اليهما ، لان الفصيح قد ينتقل من خطاب مخاطب إلى خطاب غيره ، ومن كناية إلى خلافها. قال الله تعالى : (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله) فانصرف من مخاطبة الرسول صلى الله عليه وآله إلى مخاطبة المرسل إليهم ، ثم قال : (وتعزروه وتوقروه) يعني الرسول ، ثم قال (وتسبحوه) يعني مرسل الرسول. فالكلام واحد متصل بعضه ببعض والكناية مختلفة كما ترى. وقال الهذلي : يا لهف نفسي كأن جدة خالد وبياض وجهك للتراب الاعفر ولم يقل بياض وجهه. وقال كثير : أسيئ بنا أو أحسني لا ملومة؟ لدينا ولا مقلية ان تقلت فخاطب ثم ترك الخطاب. وقال الآخر : فدى لك ناقتي وجميع أهلي؟ ومالي

١٤

انه منه أتاني ولم يقل منك أتاني. فإن قيل ، كيف يكنى عمن لم يتقدم له ذكر؟. قلنا : لا يمتنع ذلك ، قال الله تعالى : (حتى توارت بالحجاب) ولم يتقدم للشمس ذكر ، وقال الشاعر : لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بي الصدر ولم يتقدم للنفس ذكر. والشواهد على هذا المعنى كثيرة جدا على انه قد تقدم ذكر ولد آدم (ع) ، وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى : (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) ومعلوم ان المراد بذلك جميع ولد آدم عليه السلام. وتقدم أيضا ذكرهم في قوله تعالى : (فلما أتاهما صالحا) لان المعنى أنه لما أتاهما ولدا صالحا. والمراد بذلك الجنس ، وإن كان اللفظ لفظ وحدة. وإذا تقدم مذكوران وعقبا بأمر لا يليق بأحدهما ، وجب أن يضاف إلى من يليق به. والشرك لا يليق بآدم عليه السلام ، فيجب ان ننفيه عنه ، وإن تقدم ذكره وهو يليق بكفار ولده ونسله فيجب ان نعلقه بهم. (ومنها) ما ذكره أبو مسلم محمد بن بحر الاصفهاني ، فإنه يحمل الآية على ان الكناية في جميعها غير متعلقة بآدم (ع) وحواء ، فيجعل الهاء في (تغشيها) والكناية في (دعوا الله ربهما) و (اتاهما صالحا) راجعين إلى من اشرك. ولم يتعلق بآدم (ع) من الخطاب إلا قوله تعالى : (خلقكم من نفس واحدة) قال : والاشارة في قوله : (خلقكم من نفس واحدة) إلى الخلق عامة. وكذلك قوله : (وجعل منها زوجها) ثم خص منها بعضهم ، كما قال الله تعالى : (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) فخطاب الجماعة بالتسيير ، ثم خص راكب البحر. وكذلك هذه الآية أخبرت عن جملة أمر البشر بأنهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها ، وهما آدم وحواء. ثم عاد الذكر إلى الذي سأل الله تعالى ما سأل فلما أعطاه إياه ، أدعى له الشركاء في عطيته. قال وجايز أن يكون عنى بقوله : (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) المشركين خصوصا ، إذا كان كل بني آدم مخلوقا من نفس واحدة وزوجها ، ويكون المعنى في قوله تعالى : (خلقكم من نفس واحدة)

١٥

وهذا قد يجئ كثيرا في القرآن وفي كلام العرب. قال الله تعالى : (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) والمعنى فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وهذا الوجه يقارب الوجه الاول في المعنى وان خالفه في الترتيب. (ومنها) ان تكون الهاء في قوله : (جعلا له شركاء) راجعة إلى الولد لا إلى الله تعالى ، ويكون المعنى انهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح ، فشركا بين الطلبتين. ويجري هذا القول مجرى قول القائل : طلبت مني درهما فلما أعطيتك شركته بآخر ، أي طلبت آخر مضافا إليه. فعلى هذا الوجه لا يمتنع ان تكون الكناية من أول الكلام إلى آخره راجعة إلى آدم وحواء عليهما السلام. فان قيل : فأي معنى على هذا الوجه لقوله : (فتعالى الله عما يشركون) وكيف يتعالى الله عن ان يطلب منه ولد بعد آخر. (قلنا) لم ينزه الله تعالى نفسه عن هذا الاشراك ، وإنما نزهها عن الاشراك به ، وليس يمتنع ان ينقطع هذا الكلام عن حكم الاول ، ويكون غير متعلق به ، لانه تعالى قال : (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) فنزه نفسه تعالى عن هذا الشرك دون ما تقدم ، وليس يمتنع انقطاع اللفظ في الحكم عما يتصل به في الصورة ، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، لان من عادة العرب ان يراعوا الالفاظ اكثر من مراعاة المعاني ، فكأنه تعالى لما قال جعلا له شركاء فيما اتاهما ، وأراد الاشتراك في طلب الولد ، جاء بقوله تعالى عما يشركون على مطابقة اللفظ الاول ، وان كان الثاني راجعا إلى الله تعالى ، لانه يتعالى عن اتخاذ الولد وما اشبهه. ومثله قول النبي قد سئل عن العقيقة فقال : «لا أحب العقوقة ، ومن شاء منكم ان يعق عن ولده فليفعل». فطابق اللفظ وان أختلف المعنيان وهذا كثير في كلامهم. فاما ما يدعي في هذا الباب من الحديث فلا يلتفت

١٦

إليه ، لان الاخبار يجب ان تبنى على أدلة العقول ، ولا تقبل في خلال ما تقتضيه أدلة العقول. ولهذا لا تقبل أخبار الجبر والتشبيه ، ونردها أو نتأولها ان كان لها مخرج سهل. وكل هذا لو لم يكن الخبر الوارد مطعونا على سنده مقدوحا في طريقه ، فإن هذا الخبر يرويه قتادة عن الحسن عن سمرة وهو منقطع ، لان الحسن لم يسمع من سمرة شيئا في قول البغداديين. وقد يدخل الوهن على هذا الحديث من وجه آخر ، لان الحسن نفسه يقول بخلاف هذه الرواية فيما رواه خلف بن سالم عن اسحاق بن يوسف عن عوف عن الحسن في قوله تعالى : (فلما أتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما أتاهما) قال هم المشركون. وبازاء هذا الحديث ما روي عن سعيد بن جبير وعكرمة والحسن وغيرهم ، من ان الشرك غير منسوب إلى آدم وزوجته عليهما السلام وان المراد به غيرهما وهذه جملة واضحة.

تنزيه نوح عليه السلام

(مسألة) فان سأل سائل عن قوله تعالى : (ونادى نوح ربه فقال رب ان أبني من اهلي وان وعدك الحق وأنت احكم الحاكمين قال يا نوح أنه ليس من أهلك انه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم اني اعظك ان تكون من الجاهلين) فقال : ظاهر قوله تعالى انه ليس من أهلك ، فيه تكذيب ، لقوله عليه السلام ان ابني من أهلي. وإذا كان النبي (ع) لا يجوز عليه الكذب فما الوجه في ذلك؟ قيل له في هذه الآية وجوه ، كل واحد منها صحيح مطابق لادلة العقل. (أولها) أن نفيه لان يكون من أهله لم يتناول فيه نفي النسب ، وإنما نفى ان يكون من أهله الذين وعده الله تعالى بنجاتهم ، لانه عزوجل كان وعد نوحا عليه السلام بأن ينجي اهله في قوله : (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك إلا من سبق عليه القول) فاستثنى من اهله من اراد اهلاكه بالغرق. ويدل على

١٧

صحة هذا التأويل قول نوح عليه السلام : ان ابني من اهلي وان وعدك الحق. وعلى هذا الوجه يتطابق الخبران ولا يتنافيان. وقد روي هذا التأويل بعينه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين. (والوجه الثاني) ان يكون المراد من قوله تعالى : (ليس من اهلك) أي انه ليس على دينك ، وأراد انه كان كافرا مخالفا لابيه ، فكأن كفره اخرجه من ان يكون له أحكام أهله. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى على سبيل التعليل : (انه عمل غير صالح) فتبين انه انما خرج عن احكام اهله بكفره وقبيح عمله. وقد حكي هذا الوجه أيضا عن جماعة من اهل التأويل. (والوجه الثالث) انه لم يكن ابنه على الحقيقة ، وإنما ولد على فراشه. فقال (ع) ان ابني على ظاهر الامر. فأعلمه الله تعالى ان الامر بخلاف الظاهر ، ونبهه على خيانة امرأته ، وليس في ذلك تكذيب خبره ، لانه انما اخبر عن ظنه وعما يقتضيه الحكم الشرعي ، فاخبره الله تعالى بالغيب الذي لا يعلمه غيره. وقد روي هذا الوجه عن الحسن ومجاهد وابن جريج. وفي هذا الوجه بعد ، إذ فيه منافاة للقرآن لانه تعالى قال : (ونادى نوح ابنه) فأطلق عليه اسم النبوة. ولانه تعالى أيضا استثناه من جملة أهله بقوله تعالى : (واهلك إلا من سبق عليه القول). ولان الانبياء عليهم السلام يجب ان ينزهوا عن هذه الحال لانها تعبير وتشيين ونقص في القدر ، وقد جنبهم الله تعالى ما دون ذلك تعظيما لهم وتوقيرا ونفيا لكل ما ينفر عن القبول منهم. وقد حمل ابن عباس قوة ما ذكرناه من الدلالة على ان تأويل قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط ، فخانتاهما ، أن الخيانة لم تكن منهما بالزنا ، بل كانت احداهما تخبر الناس بأنه مجنون ، والاخرى تدل على الاضياف. والوجهان الاولان هما المعتمدان في الآية ، فإن قيل اليس قد قال جماعة من المفسرين ان الهاء في قوله تعالى : (انه عمل غير صالح) راجعة إلى السؤال؟ والمعنى ان سؤالك إياي ما ليس لك به علم عمل غير

١٨

صالح ، لانه قد وقع من نوح (ع) السؤال والرغبة في قوله : رب إن ابني من اهلي وان وعدك الحق ، ومعنى ذلك نجه كما نجيته. قلنا ليس يجب ان تكون الهاء في قوله ان عمل غير صالح ، راجعة إلى السؤال بل إلى الابن يكون تقدير الكلام : ان ابنك ذو عمل غير صالح ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ويشهد لصحة هذا التأويل ، قول الخنساء : ما ام سقب على بو تطيف به * قد ساعدتها على التحنان اظئار ترتع ما رتعت حتى إذا ذكرت * فانما هي اقبال وادبار وإنما اراد انها ذات إقبال وذات إدبار ، وقد قال قوم في هذا الوجه : ان المعنى في قوله : إنه عمل غير صالح ، أن اصله عمل غير صالح من حيث ولد على فراشه وليس بإبنه. وهذا جواب من يرى انه لم يكن ابنه على الحقيقة. والذي اخترناه خلاف ذلك ، وقد قرئت هذه الآية بنصب اللام وكسر الميم ونصب غير ، ومع هذه القراءة لا شبهة في رجوع معنى الكلام إلى الابن دون سؤال نوح (ع) ، وقد ضعف قوم هذه القراءة فقالوا : كان يجب ان يقول انه عمل عملا غير صالح ، لان العرب لا تكاد تقول هو يعمل غير حسن ، حتى يقولوا عملا غير حسن. وليس هذا الوجه بضعيف ، لان من مذهبهم الظاهر أقامة الصفة مقام الموصوف عند انكشاف المعنى وزوال اللبس. فيقول القائل : قد فعلت صوابا وقلت حسنا ، بمعنى فعلت فعلا صوابا وقلت قولا حسنا. وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي؟. ايها القائل غير الصواب؟ أخر النصح واقلل عتابي وقال أيضا : وكم من قتيل ما يباء به دم * ومن علق رهنا إذا لفه الدما ومن مالي عينيه من شئ غيره * إذا راح نحو الحمرة البيض كالدما أرادوكم من انسان قتيل. وقال رجل من بجيلة : كم من ضعيف العقل منتكث القوى * ما ان له نقض ولا ابرام أرادكم من انسان ضعيف العقل والقوى. فإن قيل : لو كان الامر على ما ذكرتم فلم قال الله تعالى : (فلا تسألني ما ليس لك به علم اني أعظك ان تكون من الجاهلين) فكيف قال نوح عليه السلام من بعد : (رب اني أعوذ بك ان اسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين). قلنا ليس يمتنع أن يكون نوح (ع) نهى عن سؤال ما ليس له

١٩

به علم ، وإن لم يقع منه ، وان يكون هو (ع) تعوذ من ذلك ، وان لم يواقعه. ألا ترى أن نبينا صلى الله عليه وآله قد نهى عن الشرك والكفر ، وإن لم يقعا منه ، في قوله تعالى : (لئن أشركت ليحبطن عملك). وانما سأل نوح عليه السلام نجاة ابنه باشتراط المصلحة لا على سبيل القطع. فلما بين الله تعالى ان المصلحة في غير نجاته ، لم يكن ذلك خارجا عما تضمنه السؤال. فأما قوله تعالى : (اني اعظك ان تكون من الجاهلين) ، فمعناه لئلا تكون منهم. ولا شك في ان وعظه تعالى هو الذي يصرفه عن الجهل وينزهه عن فعله. وهذا كله واضح.

تنزيه ابراهيم عليه السلام

فإن قال قائل : فما معنى قوله تعالى حاكيا عن ابراهيم عليه السلام : (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا احب الآفلين. فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الظالمين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما افلت قال يا قوم اني برئ مما تشركون) أو ليس ظاهر هذه الآية يقتضي انه عليه السلام كان يعتقد في وقت من الاوقات الالهية للكواكب ، وهذا مما قلتم انه لا يجوز على الانبياء عليهم السلام. (الجواب) : قيل له في هذه الآية جوابان : احدهما ان ابراهيم عليه السلام انما قال ذلك في زمان مهلة النظر ، وعند كمال عقله وحضور ما يوجب عليه النظر بقلبه وتحريك الدواعي على الفكر والتأمل له ، لان ابراهيم (ع) لم يخلق عارفا بالله تعالى ، وإنما اكتسب المعرفة لما اكمل الله تعالى عقله وخوفه من ترك النظر بالخواطر والدواعي ، فلما رأى الكواكب : وقد روي في التفسير أنه رأى الزهرة واعظمه ما رآها عليه من النور وعجيب الخلق ، وقد كان قومه يعبدون الكواكب ويزعمون انها آلهة. قال هذا ربي على سبيل الفكر والتأمل لذلك ، فلما غابت وأفلت وعلم ان الافول لا يجوز على الاله ، علم انها محدثة متغيرة منتقلة. وكذلك

٢٠