تنزيه الأنبياء

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]

تنزيه الأنبياء

المؤلف:

علي بن الحسين الموسوي العلوي [ الشريف المرتضى علم الهدى ]


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٦

يجوز ان يقال انه ظلم نفسه من حيث نقصها ذلك الثواب ، وليس يمتنع ان يكون يونس عليه السلام أراد هذا المعنى لانه لا محالة قد ترك كثيرا من المندوب ، فان استيفاء جميع الندب يتعذر ، وهذا اولى مما ذكره من جوز الصغائر على الانبياء عليهم السلام ، لانهم يدعون ان خروجه كان بغير اذن من الله تعالى له. فكان قبيحا صغيرا ، وليس ذلك بواجب على ما ظنوه ، لان ظاهر القرآن لا يقتضيه. وانما اوقعهم في هذه الشبهة قوله (اني كنت من الظالمين). وقد بينا وجه ذلك وانه ليس بواجب ان يكون خبرا عن المعصية ، وليس لهم ان يقولوا كيف يسمى من ترك النفل بأنه ظالم؟ وذلك انا قد بينا وجه هذه التسمية في اللغة وان كان اطلاق اللفظة في العرف لا يقتضيه. وعلى من سأل عن ذلك مثله إذا قيل له كيف يسمي كل من قبل معصية بأنه ظالم؟ وإنما الظلم المعروف هو الضرر المحض الموصل إلى الغير؟ فإذا قالوا ان في المعصية معنى الظلم وان لم يكن ضررا يوصل إلى الغير من حيث نقصت ثواب فاعلها. قلنا : وهذا المعنى يصح في الندب ، على ان يجري ما يستحق من الثواب مجرى المستحق ، وبعد فإن أبا علي الجبائي وكل من وافقه في الامتناع من القول بالموازنة في الاحباط لا يمكنه ان يجيب بهذا الجواب ، فعلى أي وجه يا ليت شعري يجعل معصية يونس (ع) ظلما. وليس فيها من معنى الظلم شئ. وأما قوله تعالى : (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت) فليس على ما ظنه الجهال من انه (ع) ثقل عليه اعباء النبوة لضيق خلقه. فقذفها ، وانما الصحيح أن يونس لم يقو على الصبر على تلك المحنة التي ابتلاه الله تعالى بها وعرضه لنزولها به لغاية الثواب فشكى إلى الله تعالى منها وسأله الفرج والخلاص ، ولو صبر لكان أفضل. فأراد الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله افضل المنازل وأعلاها.

١٠١

عيسى عليه السلام

فان قيل فما معنى قوله تعالى : (واذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي ألهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي ان اقول ما ليس لي بحق ان كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك إنك انت علام الغيوب) وليس يخلو من ان يكون عيسى عليه السلام ممن قال ذلك ، أو يجوز ان يقوله. وهذا خلاف ما تذهبون إليه في الانبياء عليهم السلام. أو يكون ممن لم يقل ذلك ولا يجوز ان يقوله فلا معنى لاستفهامه تعالى منه وتقريره ، ثم أي معنى في قوله ولا اعلم ما في نفسك؟ وهذه اللفظة لا تكاد تستعمل في الله تعالى. (الجواب) : قلنا : ان قوله تعالى (أأنت قلت للناس) ليس باستفهام على الحقيقة وان كان خارجا مخرج الاستفهام ، والمراد به تقريع من ادعى ذلك عليه من النصارى وتوبيخهم وتأنيبهم وتكذيبهم ، وهذا يجري مجرى قول احدنا لغيره افعلت كذا وكذا؟ وهو يعلم انه لم يفعله ويكون مراده تقريع من ادعى ذلك عليه ، وليقع الانكار والجحود ممن خوطب بذلك فيبكت من ادعاه عليه. وفيه وجه آخر : وهو أنه تعالى. اراد بهذا القول تعريف عيسى عليه السلام ان قوما قد اعتقدوا فيه وفي أمه انهما إلهان ، لانه ممكن ان يكون عيسى (ع) لم يعرف ذلك إلا في تلك الحال. ونظيره في التعارف ان يرسل الرجل رسولا إلى قوم فيبلغ الرسول رسالته ويفارق القوم فيخالفونه بعده ويبدلون ما اتى به وهو لا يعلم ، ويعلم المرسل له ذلك ، فإذا أحب أن يعلمه مخالفة القوم له جاز ان يقول له أأنت أمرتهم بكذا وكذا على سبيل الاخبار له بما صنعوا. بيان معنى النفس في اللغة : فأما قوله (ع) : تعلم ما في نفسي ولا اعلم ما في نفسك ، فإن لفظة النفس تنقسم في اللغة إلى معان مختلفة. فالنفس نفس الانسان أو غيره من الحيوان ، وهي التي إذا فقدها خرج عن كونه حياء. ومنه قوله تعالى :

١٠٢

(كل نفس ذائقة الموت) والنفس ايضا ذات الشئ الذي يخبر عنه كقولهم : فعل ذلك فلان نفسه ، إذا تولى فعله. واعطى كذا وكذا بنفسه. والنفس ايضا الانفة ، كقولهم : ليس لفلان نفس ، أي لا أنفة له. والنفس ايضا الارادة ، يقولون نفس فلان في كذا وكذا اي ارادته. قال الشاعر : فنفسان نفس قالت ائت ابن بجدل * تجد فرجا من كل غم تهابها ونفس تقول اجهد بحال ولا تكن * كخاضبة لم يغن شيئا خضابها ومنه أن رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد لم احجج قط إلا ولي نفسان ، فنفس تقول لي احجج ، ونفس تقول لي تزوج. فقال الحسن : انما النفس واحدة ، ولكن هم يقول احجج ، وهم يقول لك تزوجل وامره بالحج. وقال الممزق العبدي : ألا من لعين قد نآها حميمها * وأرقها بعد المنام همومها فباتت له نفسان شتى همومها * فنفس تعزيها ونفس تلومها والنفس ايضا العين التي تصيب الانسان ، يقال أصابت فلانا نفس أي عين. وروي ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان يرقي فيقول : «بسم الله ارقيك والله يشفيك من كل داء هو فيك من عين عائن ونفس نافس وحسد حاسد». وقال ابن الاعرابي : النفوس التي تصيب الناس بالنفس. وذكر رجلا فقال : كان والله حسودا نفوسا كذوبا. وقال عبدالله بن قيس في الرقيات : يتقي أهلها النفوس عليها * فعلى نحرها الرقى والتميم والنفس أيضا من الدباغ مقدار الدبغة ، يقال اعطني نفسا من الدباغ أي قدر ما ادبغ به مرة. والنفس ايضا الغيب ، يقول القائل : اني لا اعلم نفس فلان ، أي غيبه. وهذا هو تأويل قوله : (وتعلم ما في نفسي ، ولا اعلم ما في نفسك). أي تعلم غيبي وما عندي ، ولا اعلم غيبك وما عندك. وقيل ان النفس ايضا العقوبة ، من قولهم : احذرك نفسي اي عقوبتي. وبعض المفسرين حمل قوله تعالى : (ويحذركم الله نفسه) على هذا المعنى. كأنه قال : يحذركم الله عقوبته. روي ذلك عن ابن عباس والحسن. وآخرون قالوا : معنى الآية ويحذركم الله اياه. فان قيل : فما وجه تسمية

١٠٣

الغيب بأنه نفس؟. قلنا : لا يمتنع ان يكون الوجه في ذلك ان نفس الانسان لما كانت خفية الموضع الذي يودعه سرها ، انزل ما يكتمه ويجهد في سره منزلتها فقيل فيه انه نفس مبالغة في وصفه بالكتمان والخفاء. وانما حسن ان يقول مخبرا عن نبيه (ع) (ولا اعلم ما في نفسك) من حيث تقدم قوله (تعلم ما في نفسي) ليزدوج الكلام. فلهذا لا يحسن ابتداء ان يقول انا لا اعلم ما في نفس الله تعالى ، وان حسن على الوجه الاول. ولهذا نظائر في الكلام مشهورة. حول تفويضه الامر لله تعالى : (مسألة) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى حاكيا عن عيسى (ع) : (ان تعذبهم فانهم عبادك ، وان تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم) وكيف يجوز هذا المعنى مع علمه (ع) بأنه تعالى لا يغفر للكفار؟. (الجواب) : قلنا : المعنى بهذا الكلام تفويض الامر إلى مالكه وتسليمه إلى مديره ، والتبري من أن يكون إليه شئ من أمور قومه. وعلى هذا يقول أحدنا إذا أراد ان يتبرأ من تدبير امر من الامور ويسلم منه ويفوض امره إلى غيره ، يقول : هذا الامر لا مدخل لي فيه فإن شئت ان تفعله ، وان شئت ان تتركه ، مع علمه وقطعه على ان أحد الامرين لابد ان يكون منه. وانما حسن منه ذلك لما أخرج كلامه مخرج التفويض والتسليم. وقد روي عن الحسن انه قال : معنى الآية ان تعذبهم فبإقامتهم على كفرهم ، وان تغفر لهم فبتوبة كانت منهم. فكأنه اشترط التوبة وان لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام. فان قيل : فلم لم يقل وان تغفر لهم فانك انت الغفور الرحيم؟ فهو اليق في الكلام ومعناه من العزيز الحكيم؟. قلنا : هذا سؤال من لم يعرف معنى الآية ، لان الكلام لم يخرج مخرج مسألة غفران ، فيليق بما ذكر في السؤال. وانما ورد على معنى تسليم الامر إلى مالكه. فلو قيل فانك انت الغفور الرحيم ، لاوهم الدعاء لهم بالمغفرة. ولم يقصد ذلك بالكلام. على ان قوله «العزيز الحكيم» ابلغ في المعنى وأشد استيفاء من «الغفور الرحيم» وذلك ان الغفران والرحمة قد يكونان حكمة وصوابا ،

١٠٤

ويكونا بخلاف ذلك. فهما بالاطلاق لا يدلان على الحكمة والحسن. والوصف بالعزيز الحكيم يشتمل على معنى الغفران والرحمة ، وإذا كانا صوابين. ويزيد عليهما باستيفاء معان كثيرة ، لان العزيز هو المنيع القادر الذي لا يذل ولا يضام ، وهذا المعنى لا يفهم من الغفور الرحيم البتة. وأما الحكيم فهو الذي يضع الاشياء مواضعها ويصيب بها اغراضها ، ولا يفعل إلا الحسن الجميل. فالمغفرة والرحمة إذا اقضتهما الحكمة دخلتا في قوله العزيز الحكيم. وزاد معنى هذه اللفظة عليهما من حيث اقتضاء وصفه بالحكمة في سائر افعاله ، وانما طعن بهذا الكلام من الملحدين من لا معرفة له بمعاني الكلام. وإلا فبين ما تضمنه القرآن من اللفظة وبين ما ذكروه فرق ظاهر في البلاغة واستيفاء المعاني والاشتمال عليها:

في تنزيه سيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وآله

(مسألة) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : (ووجدك ضالا فهدى) أو ليس هذا يقتضي اطلاقه الضلال عن الدين؟ وذلك مما لا يجوز عندكم قبل النبوة ولا بعدها؟ (الجواب) : قلنا في معنى هذه الآية أجوبة : (اولها) : انه اراد : وجدك ضالا عن النبوة فهداك إليها ، أو عن شريعة الاسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق ، وبارشاده صلى الله عليه وآله إلى ما ذكرناه اعظم النعم عليه. والكلام في الآية خارج مخرج الامتنان والتذكير بالنعم ، وليس لاحد ان يقول ان الظاهر بخلاف ذلك ، لانه لابد في الظاهر من تقدير محذوف يتعلق به الضلال ، لان الضلال هو الذهاب والانصراف فلا بد من امر يكون منصرفا عنه. فمن ذهب إلى انه أراد الذهاب عن الدين فلا بد له من ان يقدر هذه اللفظة ثم يحذفها ليتعلق بها لفظ الضلال ، وليس هو بذلك اولى منا فيما قدرناه وحذفناه. (وثانيها) : أن يكون اراد الضلال عن المعيشة وطريق

١٠٥

الكسب. يقال للرجل الذي لا يهتدي طريق معيشته ووجه مكسبه : هو ضال لا يدري ما يصنع ولا اين يذهب. فامتن الله تعالى عليه بأن رزقه وأغناه وكفاه. (وثالثها) : ان يكون أراد ووجدك ضالا بين مكة والمدينة عند الهجرة فهداك وسلمك من اعدائك. وهذا الوجه قريب لولا ان السورة مكية وهي متقدمة للهجرة إلى المدينة ، اللهم إلا ان يحمل قوله تعالى «ووجدك» على انه سيجدك على مذهب العرب في حمل الماضي على معنى المستقبل فيكون له وجه. (ورابعها) : ان يكون اراد بقوله «ووجدك ضالا فهدى» أي مضلولا عنه في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك وارشدهم إلى فضلك. وهذا له نظير في الاستعمال. يقال : فلان ضال في قومه وبين اهله إذا كان مضلولا عنه. (وخامسها) : أنه روي في قراءة هذه الآية الرفع «ألم يجدك يتيم فآوى ووجدك ضال فهدى» على ان اليتيم وجده وكذلك الضال ، وهذا الوجه ضعيف لان القراءة غير معروفة ، ولان هذا الكلام يسمج ويفسد اكثر معانيه. تنزيه سيدنا محمد (ع) عن مدح آلهة قريش : (مسألة) : فإن قال فما معنى قوله تعالى : (وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى القى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم) أو ليس قد روي في ذلك ان رسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى تولي قومه عنه شق عليه ما هم عليه من المباعدة والمنافرة ، وتمنى في نفسه ان يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبينهم ، وتمكن حب ذلك في قلبه ، فلما أنزل الله تعالى عليه (والنجم إذا هوى) وتلاها عليهم ، القى الشيطان على لسانه لما كان تمكن في نفسه من محبة مقاربتهم تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجي ، فلما سمعت قريش ذلك سرت به واعجبهم ما زكى به الهتهم ، حتى انتهى إلى السجدة فسجد المؤمنون وسجد ايضا المشركون لما سمعوا من ذكر الهتهم بما اعجبهم ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد إلا

١٠٦

الوليد بن المغيرة فإنه كان شيخا كبيرا لايستطيع السجود ، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها ثم تفرق الناس من المسجد وقريش مسرورة بما سمعت. واتى جبرائيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله معاتبا على ذلك ، فحزن له حزنا شديدا. فانزل الله تعالى عليه معزيا له ومسليا (وما ارسلنا من قبلك) الآية. (الجواب) : قلنا أما الآية فلا دلالة في ظاهرها على هذه الخرافة التي قصوها وليس يقتضي الظاهر الا احد أمرين ، اما ان يريد بالتمني التلاوة كما قال حسان بن ثابت : تمنى كتاب الله اول ليله * وآخره لاقى حمام المقادر أو اريد بالتمني تمني القلب. فان أراد التلاوة ، كان المراد من ارسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤديه إلى قومه حرفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا ، كما فعلت اليهود في الكذب على نبيهم ، فأضاف ذلك إلى الشيطان لانه يقع بوسوسته وغروره. ثم بين ان الله تعالى يزيل ذلك ويدحضه بظهور حجته وينسخه ويحسم مادة الشبهة به. وانما خرجت الآية على هذا الوجه مخرج التسلية له صلى الله عليه وآله لما ذكب المشركون عليه ، واضافوا إلى تلاوته مدح الهتهم ما لم يكن فيها. وأن كان المراد تمني القلب ، فالوجه في الآية ان الشيطان متى تمنى النبي عليه السلام بقلبه بعض ما يتمناه من الامور ، يوسوس إليه بالباطل ويحدثه بالمعاصي ويغريه بها ويدعوه إليها. وأن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان وعصيانه وترك اسماع غروره. وأما الاحاديث المروية في هذا الباب فلا يلتفت إليها من حيث تضمنت ما قد نزهت العقول الرسل عليهم السلام عنه. هذا لو لم يكن في أنفسها مطعونة ضعيفة عند اصحاب الحديث بما يستغني عن ذكره. وكيف يجيز ذلك على النبي صلى الله عليه وآله من يسمع الله تعالى يقول : (كذلك لنثبت به فؤادك يعني القرآن. وقوله تعالى : (ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم

١٠٧

لقطعنا منه الوتين). وقوله تعالى : (سنقرئك فلا تنسى). على ان من يجيز السهو على الانبياء عليهم السلام يجب ان لا يجيز ما تضمنته هذه الرواية المنكرة لما فيها من غاية التنفير عن النبي صلى الله عليه وآله لان الله تعالى قد جنب نبيه من الامور الخارجة عن باب المعاصي ، كالغلظة والفظاظة وقول الشعر وغير ذلك مما هو دون مدح الاصنام المعبودة دون الله تعالى. على أنه لا يخلو صلى الله عليه وآله وحوشى مما قذف به من ان يكون تعمد ما حكوه ، وفعله قاصدا أو فعله ساهيا ولا حاجة بنا إلى ابطال القصد في هذا الباب والعمد لظهوره ، وإن كان فعله ساهيا فالساهي لا يجوز ان يقع منه مثل هذه الالفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقها ، ثم لمعنى ما تقدمها من الكلام. لانا نعلم ضرورة ان من كان ساهيا لو أنشد قصيدة لما جاز ان يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها وفي معنى البيت الذي تقدمه وعلى الوجه الذي يقتضيه فائدته ، وهو مع ذلك يظن أنه من القصيدة التي ينشدها. وهذا ظاهر في بطلان هذه الدعوى على النبي صلى الله عليه وآله على ان الموحى إليه من الله النازل بالوحي وتلاوة القرآن جبرائيل (ع) ، وكيف يجوز السهو عليه. على ان بعض أهل العلم قد قال يمكن ان يكون وجه التباس الامر أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما تلا هذه السورة في ناد غاص بأهله وكان أكثر الحاضرين من قريش المشركين ، فانتهي إلى قوله تعالى : (أفرأيتم اللات والعزى) وعلم في قرب مكانه منه من قريش أنه سيورد بعدها ما يسوأهم به فيهن ، قال كالمعارض له والراد عليه : (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجي) فظن كثير ممن حضر أن ذلك من قوله صلى الله عليه وآله. واشتبه علهيم الامر لانهم كانوا يلغطون عند قراءته صلى الله عليه وآله ، ويكثر كلامهم وضجاجهم طلبا لتغليطه واخفاء قراءته. ويمكن ان يكون هذا ايضا في الصلاة ، لانهم كانوا يقربون منه في حال صلاته عند الكعبة ، ويسمعون

١٠٨

قراءته ويلغون فيها. وقيل ايضا انه صلى الله عليه وآله كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات واتى بكلام على سبيل الحجاج لهم ، فلما تلا افرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى قال تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى على سبيل الانكار عليهم ، وأن الامر بخلاف ما ظنوه من ذلك. وليس يمتنع ان يكون هذا في الصلاة لان الكلام في الصلاة حينئذ كان مباحا. وانما نسخ من بعد ، وقيل ان المراد بالغرانيق الملائكة. وقد جاء مثل ذلك في بعض الحديث فتوهم المشركون انه يريد آلهتهم. وقيل ان ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فتلاه الرسول صلى الله عليه وآله ، فلما ظن المشركون ان المراد به آلهتهم نسخت تلاوته. وكل هذا يطابق ما ذكرناه من تأويل قوله : (إذا تمنى القى الشيطان في امنيته) لان بغرور الشيطان ووسوسته اضيف إلى تلاوته صلى الله عليه وآله ما لم يرده بها. وكل هذا واضح بحمد الله تعالى. تنزيه سيدنا محمد عن معاتبة الله له : (مسألة) : فإن قيل فما تأويل قوله تعالى : (واذ تقول للذي انعم الله عليه وأنعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله احق ان تخشاه) أو ليس هذا عتابا له صلى الله عليه وآله من حيث اضمر ما كان ينبغي ان يظهره وراقب من لا يجب ان يراقبه فما الوجه في ذلك؟. (الجواب) : قلنا : وجه هذه الآية معروف وهو ان الله تعالى لما أراد نسخ ما كان عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعي ، والدعي هو الذي كان احدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه إلى نفسه على طريق البنوة ، وكان من عادتهم ان يحرموا على انفسهم نكاح ازواج ادعيائهم كما يحرمون نكاح ازواج ابنائهم ، فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وآله ان زيد بن حارثة وهو دعي رسول الله صلى الله عليه وآله سيأتيه مطلقا زوجته ، وأمره ان يتزوجها بعد فراق زيد لها ليكون ذلك ناسخا لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها ، فلما حضر زيد مخاصما زوجته عازما على طلاقها ، أشفق

١٠٩

الرسول من ان يمسك عن وعظه وتذكيره لا سيما وقد كان يتصرف على امره وتدبيره ، فرجف المنافقون به إذا تزوج المرأة يقذفونه بما قد نزهه الله تعالى عنه فقال له (امسك عليك زوجك) تبرؤا مما ذكرناه وتنزها ، واخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه لها لينتهي إلى امر الله تعالى فيها. ويشهد بصحة هذا التأويل قوله تعالى : (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج ادعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان امر الله مفعولا) فدل على ان العلة في أمره في نكاحها ما ذكرناه من نسخ السنة المتقدمة. فإن قيل العتاب باق على كل حال لانه قد كان ينبغي ان يظهر ما أظهره ويخشى الله ولا يخشى الناس. قلنا : أكثر ما في الآية إذا سلمنا نهاية الاقتراح فيها ان يكون صلى الله عليه وآله فعل ما غيره اولى منه ، وليس ان يكون صلى الله عليه وآله بترك الاولى عاصيا. وليس يمتنع على هذا الوجه ان يكون صبره على قذف المنافقين اهانته بقولهم افضل واكثر ثوابا ، فيكون ابداء ما في نفسه اولى من اخفائه على انه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي العتاب ، ولا ترك الاولى. وأما اخباره بأنه (اخفى ما الله مبديه) فلا شئ فيه من الشبهة ، وانما هو خير محض. وأما قوله (وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه) ففيه أدنى شبهة ، وإن كان الظاهر لا يقتضي عند التحقيق ترك الافضل ، لانه اخبر أنه يخشى الناس وان الله أحق بالخشية ، ولم يخبر انك لم تفعل إلا حق وعدلت إلى الادون ، ولو كان في الظاهر بعض الشبهة لوجب ان نتركه ونعدل عنه للقاطع من الادلة. وقد قيل ان زيد بن حارثة لما خاصم زوجته زينب بنت جحش وهي ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وأشرف على طلاقها اضمر رسول الله صلى الله عليه وآله انه ان طلقها زيد تزوجها من حيث كانت ابنة عمته. وكان يجب ضمها إلى نفسه كما يجب احدنا ضم قراباته إليه ، حتى لا ينالهم بؤس ولا ضرر. فاخبر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله والناس بما كان يضمره من ايثار ضمها

١١٠

إلى نفسه ليكون ظاهر الانبياء صلى الله عليه وآله وباطنهم سواء. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله للانصار يوم فتح مكة وقد جاء عثمان بعبدالله بن أبي سرح وسأله ان يرضى عنه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قبل ذلك قد هدر دمه فأمر بقتله ، فلما رأى عثمان استحي من رده ونكس طويلا ليقتله بعض المؤمنين فلم يفعل المؤمنون ذلك انتظارا منهم لامر رسول الله صلى الله عليه وآله مجددا ، فقال للانصار : أما كان فيكم رجل يقوم إليه فيقتله؟ فقال له عباد بن بشر : يا رسول الله صلى الله عليه وآله ان عيني ما زالت في عينك انتظارا ان تومئ الي فاقتله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : الانبياء صلى الله عليه وآله لا يكون لهم خائنة أعين. وهذا الوجه يقارب الاول في المعنى. فان قيل : فما المانع مما وردت به الرواية من ان رسول الله صلى الله عليه وآله رأى في بعض الاحوال زينب بنت جحش فهواها فلما ان حضر زيد لطلاقها اخفى في نفسه عزمه على نكاحها بعده وهواه لها ، أو ليس الشهوة عندكم التي قد تكون عشقا على بعض الوجوه من فعل الله تعالى وأن العباد يقدرون عليها؟ وعلى هذا الوجه يمكنكم انكار ما تضمنه السؤال. قلنا : لم ننكر ما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة أن فعل الشهوة يتعلق بفعل العباد وأنها معصية قبيحة ، بل من جهة أن عشق الانبياء عليهم السلام لمن ليس يحل لهم من النساء منفر عنهم وحاط من مرتبتهم ومنزلتهم ، وهذا مما لا شبهة فيه ، وليس كل شئ يجب ان يجتنبه الانبياء صلى الله عليه وآله مقصورا على افعالهم. الا ترى ان الله تعالى قد جنبهم الفظاظة والغلظة والعجلة ، وكل ذلك ليس من فعلهم ، وأوجبنا ايضا ان يجتنبوا الامراض المنفرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها ، وكل ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم. وكيف يذهب على عاقل ان عشق الرجل زوجة غيره منفر عنه معدود في جملة معائبه ومثالبه ، ونحن نعلم انه لو عرف بهذه الحال بعض الامناء والشهود لكان

١١١

ذلك قادحا في عدالته وخافضا في منزلته ، وما يؤثر في منزلة احدنا اولى من ان يؤثر في منازل من طهره الله وعصمه وأكمله وأعلى منزلته. وهذا بين لمن تدبره. تنزيه سيدنا محمد عن معاتبته في الاسرى : (مسألة) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم). وقوله : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) أو ليس هذا يقتضي عتابه على استبقاء الاسارى وأخذ عرض الدنيا عوض عن قتلهم؟. (الجواب) : قلنا ليس في ظاهر الآية ما يدل على انه صلى الله عليه وآله عوتب في شأن الاسارى ، بل لو قيل ان الظاهر يقتضي توجه الآية إلى غيره لكان اولى ، لان قوله تعالى : (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) ، وقوله تعالى : (ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم) ، لا شك أنه لغيره ، فيجب ان يكون المعاتب سواه. والقصة في هذا الباب معروفة والرواية بها متظافرة ، لان الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله بأن يأمر اصحابه بأن يثخنوا في قتل اعدائهم بقوله تعالى : (فاضروا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان) وبلغ النبي صلى الله عليه وآله ذلك إلى أصحابه فخالفوه ، وأسروا يوم بدر جماعة من المشركين طمعا في الفداء ، فأنكر الله تعالى ذلك عليهم وبين ان الذي أمر به سواه. فإن قيل : فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله خارجا عن العتاب فما معنى قوله تعالى : (ما كان لنبي ان يكون له اسرى)؟ قلنا : الوجه في ذلك لان الاصحاب انما اسروهم ليكونوا في يده صلى الله عليه وآله. فهم اسراؤه على الحقيقة ومضافون إليه ، وإن كان لم يأمرهم بأسرهم بل أمر بخلافه. فان قيل : افما شاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وقت الاسر فكيف لم ينههم عنه؟. قلنا : ليس يجب ان يكون عليه السلام مشاهدا لحال الاسر ، لانه كان على ما وردت به الرواية يوم بدر جالسا في العريش ، ولما تباعد أصحابه عنه اسروا من اسروه من المشركين

١١٢

بغير علمه صلى الله عليه وآله فإن قيل : فما بال النبي صلى الله عليه وآله لم يأمر بقتل الاسارى لما صاروا في يده وان كان خارجا من المعصية وموجب العتاب ، أو ليس لما استشار اصحابه فأشار عليه ابو بكر باستبقائهم وعمر باستيصالهم رجع إلى رأي ابي بكر ، حتى روي أن العتاب كان من اجل ذلك؟. قلنا : أما الوجه في أنه عليه السلام لم يقتلهم فظاهر ، لانه غير ممتنع ان تكن المصلحة في قتلهم وهم محاربون ، وان يكون القتل أولى من الاسر ، فإذا اسروا تغيرت المصلحة وكان استبقاؤهم اولى ، والنبي صلى الله عليه وآله لم يعمل براي ابي بكر إلا بعد ان وافق ذلك ما نزل به الوحي عليه. وإذا كان القرآن لا يدل بظاهر ولا فحوى على وقوع معصية منه صلى الله عليه وآله في هذا الباب فالرواية الشاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها. وبعد : فلسنا ندري من اي وجه تضاف المعصية إليه صلى الله عليه وآله في هذا الباب ، لانه لا يخلو من ان يكون أوحى إليه صلى الله عليه وآله في باب الاسارى بأن يقتلهم ، أو لم يوح إليه فيه بشئ ، ووكل ذلك إلى اجتهاده ومشورة اصحابه ، فإن كان الاول فليس يجوز ان يخالف ما اوحي إليه ، ولم يقل احد ايضا في هذا الباب أنه صلى الله عليه وآله خالف النص في باب الاسارى ، وإنما يدعى عليه انه فعل ما كان الصواب عند الله خلافه ، وكيف يكون قتلهم منصوصا عليه بعد الاسر وهو يشاور فيه الاصحاب ويسمع فيه المختلف من الاقوال وليس لاحد ان يقول إذا جاز أن يشاور في قتلهم واستحيائهم ، وعنده نص بالاستحياء ، فهلا جاز ان يشاور وعنده نص في القتل ، وذلك أنه لا يمتنع ان يكون أمر بالمشاورة قبل ان ينص له على أحد الامرين ، ثم أمر بما وافق احدى المشورتين فاتبعه. وهذا لا يمكن المخالف ان يقول مثله ، وان كان لم يوح إليه في باب الاسارى شئ ووكل إلى اجتهاده ومشورة اصحابه ، فما باله يعاتب وقد فعل ما أداه إليه الاجتهاد والمشاورة ، وأي لوم على من فعل الواجب ولم يخرج عنه ، وهذا يدل على ان من

١١٣

اضاف إليه المعصية قد ضل عن وجه الصواب. تنزيه سيدنا محمد عن المعاتبة في امر المتخلفين : (مسألة) : فإن قيل فما وجه قوله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله لما استأذنه قوم في التخلف عن الخروج معه إلى الجهاد فأذن لهم : (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) أو ليس العفو لا يكون الا عن الذنب؟ وقوله (لم اذنت) ظاهر في العتاب لانه من اخص الفاظ العتاب؟. (الجواب) : قلنا أما قوله تعالى (عفى الله عنك) فليس يقتضي وقوع معصية ولا غفران عقاب ، ولا يمتنع ان يكون المقصود به التعظيم والملاطفة في المخاطبة. لان احدنا قد يقول لغيره إذا خاطبه : أرأيت رحمك الله وغفر الله لك. وهو لا يقصد إلى الاستصفاح له عن عقاب ذنوبه ، بل ربما لم يخطر بباله ان له ذنبا. وانما الغرض الاجمالي في المخاطبة واستعمال ما قد صار في العادة علما على تعظيم المخاطب وتوقيره. وأما قوله تعالى : (لم أذنت لهم) فظاهره الاستفهام والمراد به التقريع واستخراج ذكر علة اذنه ، وليس بواجب حمل ذلك على العتاب ، لان احدنا قد يقول لغيره ، لم فعلت كذا وكذا. تارة معاتبا وأخرى مستفهما ، وتارة مقررا. فليس هذه اللفظة خاصة للعتاب والانكار. وأكثر ما يقتضيه وغاية ما يمكن ان يدعى فيها ان تكون دالة على انه صلى الله عليه وآله ترك الاولى والافضل ، وقد بينا ان ترك الاولى ليس بذنب ، وان كان الثواب ينقص معه. فإن الانبياء عليهم السلام يجوز ان يتركوا كثيرا من النوافل. وقد يقول احدنا لغيره إذا ترك الندب : لم تركت الافضل ولم عدلت عن الاولى؟ ولا يقتضي ذلك انكارا ولا قبيحا. تنزيه سيدنا محمد عن الوزر : (مسألة) : فإن قيل فما معنى قوله تعالى : (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك) أو ليس هذا صريحا في وقوع المعاصي منه صلى الله عليه وآله؟. (الجواب) : قلنا أما الوزر في أصل اللغة فهو الثقل ، وانما سميت الذنوب بأنها اوزارا لانها تثقل كاسبها وحاملها. فإذا كان أصل الوزر ما ذكرناه ، فكل شئ اثقل الانسان وغمه وكده وجهده

١١٤

جاز ان يسمى وزرا ، تشبيها بالوزر الذي هو الثقل الحقيقي. وليس يمتنع ان يكون الوزر في الآية انما أراد به غمه صلى الله عليه وآله وهمه بما كان عليه قومه من الشرك ، وأنه كان هو وأصحابه بينهم مستضعفا مقهورا. فكل ذلك مما يتعب الفكر ويكد النفس. فلما أن أعلى الله كلمته ونشر دعوته وبسط يده خاطبه بهذا الخطاب تذكيرا له بمواقع النعمة عليه ، ليقابله بالشكر والثناء والحمد. ويقوي هذا التأويل قوله تعالى : (ورفعنا لك ذكرك) وقوله عز وجل : (فإن مع العسر يسرا ان مع العسر يسرا) والعسر بالشدائد والغموم اشبه ، وكذلك اليسر بتفريج الكرب وإزالة الهموم والغموم اشبه. فإن قيل : هذا التأويل يبطله ان هذه السورة مكية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وهو في الحال الذي ذكرتم انها تغمه من ضعف الكلمة وشدة الخوف من الاعداء ، وقبل ان يعلي الله كلمة المسلمين على المشركين ، فلا وجه لما ذكرتموه. قلنا : عن هذا السؤال جوابان : أحدهما انه تعالى لما بشره بأنه يعلي دينه على الدين كله ويظهره عليه ويشفى صلى الله عليه وآله من اعدائه وغيظه ، وغيظ المؤمنين به ، كان بذلك وضعا عنه ثقل غمه بما كان يلحقه من قومه ، ومطيبا لنفسه ومبدلا عسره يسرا ، لانه يثق بأن وعد الله تعالى حق ما يخلف ، فامتن الله تعالى عليه بنعمة سبقت الامتنان وتقدمته. والجواب الآخر : ان يكون اللفظ وان كان ظاهره الماضي ، فالمراد به الاستقبال. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والاستعمال. قال الله تعالى : (ونادى اصحاب النار اصحاب الجنة) وقوله تعالى : (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) ، إلى غير ذلك مما شهرته تغني عن ذكره. تنزيه سيدنا محمد عن الذنب : (مسألة) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أو ليس هذا صريحا في أن له صلى الله عليه وآله ذنوبا وان كانت مغفورة. (الجواب) : قلنا أما من نفى عنه صلى الله عليه وآله صغائر الذنوب مضافا إلى كبائرها ، فله عن هذه الآية اجوبة نحن نذكرها ونبين صحيحها من سقيمها

١١٥

منها : انه أراد تعالى باضافة الذنب إليه ذنب ابيه آدم عليه السلام. وحسنت هذه الاضافة لاتصال القربى ، وعفوه لذلك ، من حيث اقسم آدم على الله تعالى به ، فأبر قسمه ، فهذا المتقدم. والذنب المتأخر هو ذنب شيعته وشيعة أخيه عليه السلام. وهذا الجواب يعترضه ان صاحبه نفى عن نبي ذنبا واضافه إلى آخر. والسؤال عليه فيمن اضافه إليه كالسؤال فيمن نفاه عنه. ويمكن إذا اردنا نصرة هذا الجواب ان نجعل الذنوب كلها لامته صلى الله عليه وآله ، ويكون ذكر التقدم والتأخر انما أراد به ما تقدم زمانه وما تأخر ، كما يقول القائل مؤكدا : «قد غفرت لك ما قدمت وما أخرت وصفحت عن السالف والآنف من ذنوبك». ولاضافه ذنوب أمته إليه وجه في الاستعمال معروف لان القائل قد يقول لمن حضره من بني تميم أو غيرهم من القبائل انتم فعلتم كذا وكذا وقلتم فلانا وان كان الحاضرون ما شهدوا ذلك ولا فعلوه وحسنت الاضافة للاتصال والتسبب ولا سبب اوكد مما بين الرسول صلى الله عليه وآله وامته فقد يجوز توسعا وتجوزا ان تضاف ذنوبهم إليه (ومنها) انه سمى ترك الندب ذنبا وحسن ذلك لانه صلى الله عليه وآله ممن لا يخالف الاوامر الا هذا الضرب من الخلاف ولعظم منزلته وقدره فجاز ان يسمي بالذنب منه ما إذا وقع من غيره لم يسم ذنبا وهذا الوجه يضعفه على بعد هذه التسمية انه لا يكون معنى لقوله انني اغفر ذنبك ولا وجه في معنى الغفران يليق بالعدول عن الندب (عن الذنب). ومنها : ان القول خرج مخرج التعظيم وحسن الخطاب كما قلناه في قوله تعالى : (عفا الله عنك لم أذنت لهم). وهذا ليس بشئ لان العادة قد جرت فيما يخرج هذا المخرج من الالفاظ أن يجري مجرى الدعاء ، مثل قولهم : غفر الله لك ، وليغفر الله لك ، وما أشبه ذلك. ولفظ الآية بخلاف هذا لان المغفره جرت فيها مجرى الجزاء والغرض في الفتح. وقد كنا ذكرنا في هذه الآية وجها اخترناه وهو أشبه بالظاهر مما تقدم ، وهو أن يكون المراد بقوله

١١٦

ما تقدم من ذنبك الذنوب إليك ، لان الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا ، ألا ترى أنهم يقولون : أعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى الفاعل ، وأعجبني ضرب زيد عمرا إذا أضافوه إلى المفعول. ومعنى المغفرة على هذا التأويل هي الازالة والفسخ والنسخ لاحكام أعدائه من المشركين عليه ، وذنوبهم إليه في منعهم إياه عن مكة وصدهم له عن المسجد الحرام. وهذا التأويل يطابق ظاهر الكلام حتى تكون المغفرة غرضا في الفتح ووجها له. وإلا فإذا أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله : (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) معنى معقول ، لان المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح ، إذ ليست غرضا فيه. وأما قوله تعالى : (ما تقدم من ذنبك وما تأخر) ، فلا يمتنع ان يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح لك ولقومك وما تأخر ، وليس لاحد ان يقول ان سورة الفتح نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله بين مكة والمدينة وقد انصرف من الحديبية. وقال قوم من المفسرين : ان الفتح اراد به فتح خيبر ، لانه كان تاليا لتلك الحال ، وقال آخرون : بل أراد به أنا قضينا لك في الحديبية قضاء حسنا. فكيف يقولون ما لم يقله أحد من أن المراد بالآية فتح مكة ، والسورة قد نزلت قبل ذلك بمدة طويلة ، وذلك ان السورة وان كانت نزلت في الوقت الذي ذكر وهو قبل فتح مكة ، فغير ممتنع ان يريد بقوله تعالى (انا فتحنا لك فتحا مبينا) فتح مكة. ويكون ذلك على طريق البشارة له والحكم بأنه سيدخل مكة وينصره الله على اهلها ، ولهذا نظائر في القرآن ، والكلام كثير. ومما يقوي أن الفتح في السورة أراد به فتح مكة قوله تعالى : (لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا) فالفتح القريب ههنا هو فتح خيبر. وأما حمل الفتح على القضاء الذي قضاه في الحديبية فهو خلاف الظاهر. ومقتضى الآيه لان الفتح بالاطلاق الظاهر

١١٧

منه الظفر والنصر. ويشهد بأن المراد بالآية ما ذكرناه قوله تعالى : (وينصرك الله نصرا عزيزا). فإن قيل : ليس يعرف اضافة المصدر إلى المفعول إلا إذا كان المصدر متعديا بنفسه ، مثل قولهم : اعجبني ضرب زيد عمرا. واضافة مصدر غير متعد إلى مفعوله غير معروفة. قلنا : هذا تحكم في اللسان وعلى أهله لانهم في كتب العربية كلها اطلقوا ان المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول معا ، ولم يستثنوا متعديا من غيره ، ولو كان بينهما فرق لبينوه وفصلوه كما فعلوا في غيره وليس قلة الاستعمال معتبرة في هذا الباب لان الكلام إذا كان له أصل في العربية استعمل عليه ، وان كان قليل الاستعمال. وبعد فإن ذنبهم ههنا إليه انما هو صدهم له عن المسجد الحرام ومنعهم اياه عن دخوله ، فمعنى الذنب متعد ، وإذا كان معنى المصدر متعديا جاز أن يجري ما يتعدى بلفظه ، فإن من عادتهم ان يحملوا الكلام تارة على معناه وأخرى على لفظه ، ألا ترى إلى قول الشاعر : جئني بمثل بني بدر لقومهم * أو مثل اخوة منظور بن سيار فاعمل الكلام على المعنى دون اللفظ ، لانه لو أعمله على اللفظ دون المعنى لقال : أو مثل : بالجر ، لكنه لما كان معنى ، جئني احضر ، أو هات قوما مثلهم. حسن ان يقول أو مثل بالفتح ، وقال الشاعر : درست وغير آيهن مع البلى * الا رواكد جمرهن هباء ومشجج اما سوار قذى له * فبدا وغيب سارة المعزاء فقال : ومشجج بالرفع اعمالا للمعنى ، لانه لما كان معنى قوله الا رواكد أنهن باقيات ثابتات عطف على ذلك المشجج بالرفع. ولو اجرى الكلام على لفظه لنصب المعطوف به أو امثله هذا المعنى كثير. وفيما ذكرناه كفاية بمشيئة الله تعالى. تنزيه سيدنا محمد عن المعاتبة في أمر الاعمى : (مسألة) : فإن قيل : أليس قد عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله في إعراضه عن ابن ام مكتوم لما جاءه واقبل على غيره بقوله : (عبس وتولى أن جاءه الاعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى). وهذا ايسر ما فيه ان يكون صغيرا. (الجواب) : قلنا : أما ظاهر الآية

١١٨

فغير دال على توجهها إلى النبي صلى الله عليه وآله ولا فيها ما يدل على أنه خطاب له ، بل هي خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه. وفيها ما يدل عند التأمل على ان المعني بها غير النبي صلى الله عليه وآله لانه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي صلى الله عليه وآله في قرآن ولا خبر مع الاعداء المنابذين ، فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثم وصفه بأنه يتصدى للاغنياء ويتلهى عن الفقراء ، وهذا مما لا يوصف به نبينا عليه السلام من يعرفه ، فليس هذا مشبها مع اخلاقه الواسعة وتحننه على قومه وتعطفه ، وكيف يقول له وما عليك الا يزكى وهو صلى الله عليه وآله مبعوث للدعاء والتنبيه ، وكيف لا يكون ذلك عليه. وكان هذا القول اغراء بترك الحرص على ايمان قومه. وقد قيل ان هذه السورة نزلت في رجل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ، ونحن وان شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي ان نشك إلى أنها لم يعن بها النبي ، واي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم والاقبال على الاغنياء الكافرين والتصدي لهم ، وقد نزه الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله عما هو دون هذا في التنفير بكثير. تنزيه محمد (ع) عن الشرك : (مسألة) : فإن قيل : فما معنى قوله تعالى مخاطبا لنبيه : (لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) وكيف يوجه هذا الخطاب إلى من لا يجوز عليه الشرك ولا شي ء من المعاصي. (الجواب) : قد قيل في هذه الآية ان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله والمراد به أمته ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : نزل القرآن بإياك اعني واسمعي يا جارة. ومثل ذلك قوله تعالى (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن واحصوا العدة) فدل قوله تعالى فطلقوهن على ان الخطاب توجه إلى غيره. وجواب آخر : ان هذا خبر يتضمن الوعيد ، وليس يمتنع ان يتوعد الله تعالى على العموم. وعلى سبيل الخصوص من يعلم أنه لا يقع منه ما تناوله الوعيد ، لكنه لابد من ان يكون مقدورا له وجائزا بمعنى الصحة

١١٩

لا بمعنى الشك ، ولهذا يجعل جميع وعيد القرآن عاما لمن يقع منه ما تناوله الوعيد ، ولمن علم الله تعالى أنه لا يقع منه. وليس قوله تعالى (لئن اشركت ليحبطن عملك) على سبيل التقدير والشرط بأكثر من قوله تعالى : (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) لان استحالة وجود ثان معه تعالى : إذا لم يمنع من تقدير ذلك ، وبيان حكمه كأولى ان يسوغ تقدير وقوع الشرك الذي هو مقدور لكن ، وبيان حكمه. والشيعة لها في هذه الآية جواب تنفرد به وهو أن النبي لما نص على امير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بالامامة في ابتداء الامر جاءه قوم من قريش فقالوا له : يا رسول الله صلى الله عليه وآله ان الناس قريبوا عهد بالاسلام لا يرضون ان تكون النبوة فيك والامامة في ابن عمك علي بن ابي طالب. فلو عدلت به إلى غيره لكان اولى. فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه علي. فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك تعالى فأشرك معه في الخلافة رجلا من قريش تركن الناس إليه ، ليتم لك امرك ولا يخالف الناس عليك. فنزلت الآية والمعنى فيها لئن اشركت مع علي في الامامة غيره ليحبطن عملك ، وعلى هذا التأويل. فالسؤال قائم لانه إذا كان قد علم الله تعالى انه صلى الله عليه وآله لا يفعل ذلك ولا يخالف امره لعصمته ، فما الوجه في الوعيد؟ فلابد من الرجوع إلى ما ذكرناه. تنزيه سيدنا محمد (ع) عن الذنب : (مسألة) : فإن قيل : فما وجه قوله تعالى : (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة ازواجك والله غفور رحيم) أو ليس ظاهر هذا الخطاب يتضمن العتاب؟ والعتاب لا يكون إلا على ذنب كبير أو صغير. (الجواب) : قلنا ليس في ظاهر الآية ما يقتضي عتابا وكيف يعاتبه الله تعالى على ما ليس بذنب ، لان تحريم الرجل بعض نسائه لسبب أو لغير سبب ليس بقبيح ولا داخل في جملة الذنوب ، واكثر ما فيه انه مباح. ولا يمتنع ان يكون قوله تعالى : (لم تحرم ما احل الله

١٢٠