أخبار الزّمان

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

أخبار الزّمان

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٩

وهي اليوم خمسة وثمانون كورة ، أسفل الارض خمسة وأربعون كورة ، والصعيد أربعون كورة.

وكان في كل كورة كاهن يدبر أمرها ، وصاحب حرب ، وأقام ملكا إحدى وسبعين سنة ، ومات من طاعون أصابه ، وقيل إنه سم في طعامه ، وعمل له ناووس في صحراء القبط ، وقيل في غربي قوص ، ودفن معه من المصاحف وأكاسير الصنعة المعمولة وتمثيل الذهب والجوهر ، ومن الذهب المضروب شئ كثير.

وقد كانت ماتت له قبل موته جارية كانت أحظى نسائه عنده ، وكان يحبها حبا شديدا ، فأمر بعمل صورتها في جميع الهياكل ، وعمل له تمثالها بذؤابتين من ذهب أسود ، وألبسه حلة من جوهر منظوم ، وجعلت جالسة على كرسي من ذهب ، وكانت تحمل بين يديه في كل موضع يجلس فيه ليتسلى بذلك عنها ، فدفنت تلك الصورة عند رجليه ، كأنما يخاطبها.

ولما فرغ من أمره جلس ابنه مناوس الملك بعد أبيه على سرير الملك فطلب الحكمة بعد ، مثل أبيه وأكرم أهلها ، وبذل الجوائز على الغرائب التي لم يتقدم عملها لمن تقدم قبله ، وأثبت كل ما عمل من ذلك في كتب تواريخهم ، وزبر على الحجارة في هياكلهم.

ومناوس أول من عبدالبقر ، وكان السبب في ذلك انه اعتل علة فيئس فيها من نفسه ، وأنه رأى في منامه روحانيا عظيما يخاطبه ويقول له : لا يخرجك من علتك إلا عبادتك البقر ، لان الطالع كان وقت حلولها ، فلك الثور ، وهو في صورة ثور بقرنين فأمر عند انتباهه ، فأخذوا ثورا أبلق حسن الصورة ، وعمل له مجلسا في قصره وسقفه قبة مذهبة ، وكان يبخره ويطيبه ويحسن علفه ، ووكل به سايسا من خدمه يقوم به وينظفه ويكنس

٢٠١

تحته ، وكان يتعبد له سرا من أهل مملكته فبرئ من علته وعاد إلى أحسن أحواله.

وقيل إنه أول من عملت له عجل مموهة بالذهب ، وعليها قباب من خشب مذهب ، وكانت تفرش بأحسن الفرش وتساق إلى موضع المتنزهات ، وقيل إنه عملت له في علته لانه كان لا يقدر على الركوب ، وكانت البقر تجره في العجلة فكان إذا مر بمكان نزه أقام به ، وان مر بمكان خرب أمر بعمارته.

وقيل انه نظر يوما إلى ثور من البقر التي تجره أبلق حسن الخلقة والقرنين ، فأمر بتوقيفه والتعريض منه ، وساقه بين يديه إلى موضع نزهته إعجابا به ، وجعل عليه حللا من حرير منسوج بالذهب ، فلما كان في بعض الايام خلا في موضع ، وقد تفرد عن عبيده سار إليه وسجد بين يديه.

فقال له : لو دام الملك على تربيتي واكرامي ، وتعبد لي كفيته مهمه على ما يريده ، وقويته في جميع أموره ، وأزلت عنه جميع علله.

فارتاع الملك لقوله ، وأمر بأن يغسل ويطيب ويكسى بالحرير المذهب ويوقف في الهيكل ، ووكل به من يخدمه في جميع أموره ويتعاهده بالمسح والتطييب وأمره بعبادته.

وأقام ذلك الثور يعبد مدة طويلة ، وافتتن الناس به ، وصار ذلك أصلا لعبادة البقر ، وبنى مواضع كثيرة في الصحراء والجبال وكنز فيها كنوزا كثيرة وأقام عليها أعلاما.

وبنى في صحراء الغرب مدينة يقال لها ديماس ، وأقام بها منارا ، وكنز حولها كنوزا ، ويقال ان هذه المدينة قائمة إلى الآن ، وان قوما جازوا بها من ناحية الغرب فسمعوا فيها عزف الجن ورأوا نيرانهم.

وفي بعض كتبهم أن ذلك الثور بعد مدة من عبادتهم له ، أمرهم أن يعملوا

٢٠٢

صورته من ذهب ويعملوه أجوف ، ويؤخذ من رأسه شعرات ومن ذنبه ، ويؤخذ من نحاتة قرنه وأظلافه ويجعل في ذلك التمثال ، وعرفهم أنه يلحق بعالمه ، وأن يجعلوا جسده في جرن من حجارة ، وينصب في الهيكل ، وينصب تمثاله عليه ، وزحل في شرفه والشمس ناظرة إليه من تثليث ، وأن ينقش في التمثال ، علامات صورة الكواكب السبعة ففعلوا ذلك.

وعملت الصورة من ذهب وكللت بأنواع الجوهر ، وأدخلت صنعتها سواد في بياض ، وجعل جسد الثور في الحدود التي حدها ، ونصب عليه التمثال فكان يخبرهم بالعجائب وبما يحدث وقتا بعد وقت ، ويجيبهم بكل ما يسألونه عنه.

وعظم أمر ذلك التمثال ونذرت له النذور وقربت له القرابين ، وقصده الناس من جميع أعمال مصر وما قرب منها ، فكان يخبرهم بما يريدون.

وأقام مناوس ملكا خمسا وثلاثين سنة ، وهلك من سل أصابه ، وعمل له ناووس تحت الجبل الغربي وجعل في جرن من حجارة.

وجعل وصيه من بعده ابنه مريدس الملك ، فجلس على سرير ملكه بعد أبيه وملك أحدى وعشرين سنة ، وكان مضعفا فلم يبن بنيانا ولا ينصب منارا ، ولا عملت في وقته أعجوبة ، فمات ودفن مع أبيه في جرن من رصاص.

وولي بعده اشمون الملك ، واشمون أخو قبطيم الملك وكان وحده من اشمون إلى منف ، وفي الشرق إلى البحر المالح إلى ما حاذي برقة الحمراء ، وهي آخر حد مصر ، وفي الصعيد إلى حدود اخميم.

وكان ينزل اشمون لانه سماها باسمه عند بنيانها ، ونقل إليها أهله وولده وطولها اثنا عشر ميلا في مثلها.

وأشمون أول من اتخذ الملاعب بالكرة والصولجان وغير ذلك ، وبنى

٢٠٣

القصور وغرس الاجنة وأقام المنائر ونصب الاعلام وبنى المدن وأكثر فيها من العجائب.

والقبط تزعم ان خبر اشمون كان أكثر الاخبار ذكرا وعجائبا وسحرا.

منها انه بنى مدينة في سفح الجبل سماها أفطراطس وجعل لها أربعة أبواب جعل على الشرقي صورة عقاب ، وعلى الغربي صورة ثور ، وعلى الجنوبي صورة كلب ، وعلى الشمالي صورة أسد.

وأسكن الكهنة بسحرهم في تلك الصور روحانية ، وكانت تنطق إذا قصدها القاصد الغريب ، ولا يقدر على الدخول إليها إلا بإذن الموكلين بها ، وجعل فيها شجرة تثمر كل لون من الفاكهة.

وجعل فيها منارا طوله ثمانون ذراعا ، على رأسه قبة تتلون كل يوم لونا حتى تمضي سبعة أيام بسبعة ألوان ، ثم تعود إلى اللون الاول.

وكانت تلك الالوان تكسو المدينة لونا شعاعيا ، وأجرى حول ذلك المنار ماء ساقه من النيل وجعل في ذلك الماء سمكا من كل لون.

وجعل حول المدينة طلسمات رؤسها رؤس القرود وأبدانها أبدان الناس ، كل منها لدفع مضرة واجتلاب منفعة.

ودفن تحت كل صنم من الاصنام المبنية الاربعة على أبوابها صنفا من الكنوز ولكل واحد منها قربان وبخور ، وكلام يوصل به إليه ، وأسكن فيها السحرة.

وبنى بالقرب منها مدينة تعرف في كتبهم ذات العجائب في وسطها قبة عليها أبدا مثل السحابة تمطر مطرا خفيفا شتاء وصيفا ، وتحت كل قبة مطهرة فيها ماء أخضر يتداوى به من كل داء فيبريه.

٢٠٤

وفي شرقها بربا لطيف له أربعة أبواب لكل باب منها عضادتان ، في كل عضادة منها صورة وجه كأنه يخاطب صاحبه ، وهو يكلمه بكلام يفهمه ، ويخبره بما حدث في يومه.

ومن دخل ذلك البربا على غير طهارة نفخا عليه فأصابته فظيعة لا تفارقة أبدا إلى أن يموت.

ويقال ان في وسطها ابدا مهبط نور كأنه عمود من اعتنقه لم يعزب عن نظره شئ من الروحانيات ، وسمع كلامهم ورأى ما يعملون.

وعلى كل باب من أبواب هذه المدينة صورة راهب في يده كالمصحف فيه علم من العلوم ، فمن أحب ذلك العلم أتى تلك الصورة فمسحها بيده وأمرها على صدره فيثبت ذلك العلم في صدره.

ويقال ان هاتين المدينتين سميتا على اسم هرمس وهو عطارد وإنهما إلى الآن على حالهما.

وحكي عن رجل أتى عبد العزيز بن مروان وهو والي مصر ، فعرفه انه رأى في صحراء الغرب وقد أوغل في طلب جمل له ضل ، فوقع إلى مدينة خراب وانه وجد منها شجرة عظيمة تحمل من كل صنف من الفاكهة ، وانه قد أكل منها وتزود ، فقال له رجل من القبط هذه إحدى مدن (١) هرمس وفيها كنوز كثيرة ، فوجه عبد العزيز جماعة من ثقاته ، ووجهه معهم ، وتزودوا زاد شهر ومشوا يطوفون تلك الصحارى زمانا ، فما وجدوا لها أثرا.

وكان اشمون أعدل ولد أبيه وأرغبهم في صنيعه ، وأحبهم في عمل يبقي ذكره وهو الذي بنى المجالس المصفحة بالزجاج الملون في وسط النيل.

__________________

(١) في ب : احدى مدينة.

٢٠٥

وتقول القبط إنه بنى سربا تحت الارض من أشمون إلى انصباب النيل ، وقيل إنه عمله لنسائه لانهن كن يمضين إلى هيكل الشمس ، وكان هذا السرب مبلط الارض ، والحيطان بالزجاج الملون العجيب.

وقيل إن أشمون كان أطول إخوته ملكا ، وقال أهل الاثر إن ملكه ثمانمائة سنة ، وإن قوم عاد انتزعوا الملك منه بعد ستمائة سنه من ملكه ، وأقاموا تسعين سنة ثم كرهوا البلد واستوبؤوه (١) فرحلوا عنه إلى الراهبة من طريق الحجاز إلى وادي القرى ، فعمروها واتخذوا المنازل والمصانع والقرى ، وسلط الله عليهم القر فأهلكهم.

وعاد ملك مصر إلى أشمون بعد خروجهم من البلد ، ويقال إنه عمل في وقته وزة من نحاس ، وكان الغريب إذا جاء ليدخل صاحت الوزة وصفقت بجناحيها فيعلم به أهل البلد ، فان أحبوا أدخلوه ، وإن أحبوا تركوه.

وكثرت الحيات في وقته فاحتال لها بحيلة كانوا يأخذونها بأيديهم ، ويعملون من شحومها ولحومها أدوية ودرياقات.

وهو أول من عمل النيروز بمصر ، يقيمون سبعة أيام يأكلون ويشربون إكراما للكواكب بزعمهم.

وفي زمانه بنيت البهنسا ، وأقام بها مطرانا ، وجعل فوقها مجلسا من زجاج أصفر وعليه قبة مذهبة ، وكانت الشمس إذا طلعت ألقت شعاعها على المدينة.

ويقال إنه ملكهم ثمانمائة سنة وثلاثين سنة ، ومات ودفن في احدى الاهرامات الصغار [القبلية] (٢).

__________________

(١) في ب : واستوزروه.

(٢) زيادة عن ق.

٢٠٦

وقيل بل عمل له طاووس في آخر أشمون ودفن معه مال كثير وعجائب كثيرة ومن الذخائر ما لا يحصى كثرة ، ودفنت معه أصنام الكواكب السبعة التي كانت في هيكله ، وعشرة آلاف سرج من ذهب وفضة وعشرة آلاف جام ونضار من ذهب وفضة ، وزجاج مسبوك وألف برنية من العقاقير المدبرة لقبول الاعمال ، وزبر على ذلك كله اسمه ومدة ملكه.

وخلف على الملك ابنه الشاد الملك ، فولي وهو غلام ابن خمس وأربعين سنة وكان متجبرا معجبا طماح العين ، فابتز امرأة من نساء أبيه ، فانكشف أمره وعرف خبره ، وكان أكبر همه اللهو واللعب ، فاجتمع إليه كل مله كان في ملكه وقصده كل من كان في يده شئ من أنواع الملاهي والملاعب ، وانفرد للعب بهم وترك النظر في أمور الناس.

وعمل قصورا من خشب عليها قباب منقوشة مموهة بالذهب ، وكان يحملها على المراكب في النيل ويتنزه فيه مع من يحب من نسائه وخدمه ومن يلهيه.

وعمل عليه الاروقة المذهبة وفرشها بأحسن الفرش وفاخره ، وكان يتنزه عليها وتجرها البقر ، ويقيم في نزهته شهورا لا يمر بموضع إلا أقام فيه ، وولد من السحر توليدا كثيرا واستنفذ أكثرها في خزائن أبيه ، وذهب خراجه في جرائد الملهين والنفقات في غير وجوهها ، فلما اسرف في ذلك اجتمع الناس إلى وزيره فأنكروا حاله عنده ، وسألوه مسألته والاشارة عليه بالاقلاع عما هو عليه ، فضمن لهم ذلك ، ثم فاوضه فيه وبين له ما يجب تبينه وحذره من العواقب اللاحقة من التفريط بما يكره فلم ينته ، وسلط أصحابه على الناس فأساؤا إليهم وأضروا بهم.

وخرج الملك ذات يوم إلى متنزه له قد صفح مجالسه بصفائح الذهب والفضة

٢٠٧

وغرائب الجوهر الملون ، وأجرى إليه المياه وغرس فيه نفيس الرياحين ، وفرشه بأصناف الفرش الملونة.

وكان إذا أحب ان يخلو بامرأة من نسائه خلى بها هناك ، وأنه في ذلك المتنزه ، وقد أقام فيه أياما إذ خرج غلام من بعض خدمه ، فأتى بعض التجار في حاجة له ، وكانت له خادم فأراد أخذها منه بغير ثمن فمنعه منها فوثب عليه يريد ضربه ، فاجتمعوا عليه وضربوه حتى أسالوا دمه وحمل وقيد.

واتصل خبره بالوزير وصاحب الجيش فركبا إلى الموضع وانكرا على الناس ما فعلوه وأسمعاهم فأغلظوا لهما وأسمعوهما ، فانصرفا مغضبين وقالا ما نرى ستر هذا عن الملك وعرفاه الخبر ، فلم يحفل بهما وأمر بالنداء في الناس من تعرضكم من خدم الملك وأصحابه فاقتلوه ، فحمد الناس أمره وشكروا فعله وتواصوا بالوثوب على أصحابه ، حتى إذا مضى لذلك اسبوع وجه إلى وزيره وصاحب جيشه أنه عزم أن يركب إلى صحراء الغرب يتصيد هناك ، وأمر أن يركب معه جيشه ، وأن يتزودوا لثلاثة ايام ففعلوا ، واجتمعوا إلى بابه فاستدعى الوزير ، وأسر إليه أنه يريد الانتقام من العامة ، وخرج الملك وجيشه في أحسن زي وهيئة وسار إلى موضع غير بعيد.

فلما اختلط الظلام رجع بالجيش حتى وافى باب المدينة ، وأمر أصحابه أن يضعوا أيديهم في الناس فقتلوا خلقا كثيرا ، وأمر بحرق الموضع الذي قتل فيه الغلام.

ثم أمر ان ينادى : هذا جزاء من أقدم على الملك من رعاياه وأصحاب مهنتهم من العامة وغيرهم ، فاستغاث الناس ، فأسر إلى وزيره ان يطرح نفسه بين يديه ويسأله فيهم ففعل فأمنهم ، وقال لهم ، من عاد منكم فقد أحل دمه

٢٠٨

فشكروا فعله وانصرفوا ورجع إلى ما كان عليه وأعظم.

واحتجب عن الناس واستحلت الهياكل والكهنة فأبغضه العامة والخاصة وابتغوا له الغوائل ، فاحتال عليه خاصته بطباخه وسقاته فسماه ، فمات وهو ابن مائة وعشرين سنة ، فكان ملكه خمسا وسبعين سنة.

وصار الملك بعده إلى ابنه صاصا ، وأكثر القبط تزعم ان صاصا هذا اخو الشاد وانه ابن مربيس الملك.

ولما جلس صاصا على سرير الملك دخل الناس عليه يهنئونه ، فوعدهم العدل فيهم وحسن النظر لهم ، وسكن منف ونفى الملهين وأهل المجالات وأهل الشر ومن كان يصحب أباه.

وأصلح الهياكل ورد الكهنة إلى مراتبهم ، وعمل بمنف عجائب كثيرة وطلسمات ، وأجرى فيها الانهار ، ونصب العقاب الذي كان عمل قبله على موضعه وشرف هيكله ودعى إليه.

وعمل بمنف مرآة يعرف بها زمان الخصب والجدب وما يحدث ببلده ، وبنى داخل الواحات مدائن ، وغرس فيها نخلا كثيرا ، ونصب غرب البحر اعلاما كثيرة ، وعمل خلف المقطم صنما يقال له صنم الحيلة ، فكان كل من أعجزه امر أتاه يسأله ، فيخبره ويبين له ما عزب عن معرفة منه.

وجعل على أطراف مصر أصحابا يرفعون له ما يجري في حدود أرضه ، وعمل على غربي النيل منابر إذا قصدهم قاصد يوقد عليها فيصل إليه الخبر من ليله أو من يومه ، وجعل على البحر المالح مثل ذلك ، ووكل بجمعها جماعة يحرسونها.

أخبار الزمان ـ م (١٤)

٢٠٩

وهو أول من اتخذها ، ويقال إنه بنى أكثر منف ، وكان له بنيان عظيم بالاسكندرية.

ولما ملك واستولى على البلد بأسره ، جمع إليه حكماء أهل بلده ونظر في النجوم وكان بها حاذقا ، ورأى أن بلده لابد له من أن يدخل إليه طوفان عظيم من نيلها فيكاد يغرقها ، ورأى أنه يحدث على يدي رجل يأتي من ناحية الشام.

فجمع كل فاعل بمصر وجهاتها وبنى في ألواح الاقصى مدينة ، جعل طول حصنها في الارتفاع خمسين ذراعا ، وأودعها جميع الحكم والاموال ، وهي المدينة التي وقع عليها موسى بن نصير في زمن بني أمية لما قلد المغرب ، لانه لما دخل مصر ، أخذ على الواح الاقصى بالنجوم وكان عنده علم منها.

فأقام سبعة أيام يسير في رمال بين سمت الغرب والجنوب ، إلى ان ظهرت له مدينة فيها حصن وأبواب حديد ، فرام أن يفتح بابا من أبوابها ، فأعياه ذلك لغلبة الرمل عليها ، وعلى ما حولها ، فأصعد إليها الناس ، فكل من صعد منهم وأشرف ، وثب داخلها لا يعلم كيف يقع ، ولا على ما يسقط ، ولا ما يصيب.

ولما لم يجد فيها حيلة تركها ومضى ، وقد فقد فيها جماعة من أصحابه ، وحرروا عرض حصنها عشرين ذراعا ، وهلك في طريقه منصرفا عنها جماعة من أصحابه ، ولم يسمع أن أحدا قبل موسى بن نصير ، ولا بعده وقع عليها.

وفي تلك الصحاري اكثر متنزهاتهم ومدائنهم العجيبة وكنوزهم العظيمة ، إلا أن الرمان غلبت عليها.

٢١٠

ولم يكن لمصر ملك ، الا وقد عمل للرمل طلسما يبعدها ويوقفها ، ثم تفسد طلسماتها على تقادم الايام ولا ينبغي لاحد أن ينكر كثرة بنيانهم ومدائنهم.

وما نصبوه من الاعلام العظام.

فقد كان للقوم بطش لم يكن لغيرهم ، وفيما يظهر من آثارهم بيان تحقيق ما يذكر عنهم.

من ذلك مثل هذه الاهرام والاعلام العظام المشهورة بالاسكندرية ، وفي صحراء الغرب عجائب باقية من ذلك ، وما لهم من الجبال المنحوتة التي جعلوا كنوزهم فوقها ، فلا يصل أحد إليها ، وكذلك الاودية المنحوتة ، ومثل ما بالصعيد من مدائنهم ، وما نقشوه عليها من حكمهم ، فانه لو تعاطى أحد من ملوك الارض أن يبني مثل الهرمين ، أو جميعهم ما تهيأ لهم ذلك ، وكذلك لو أرادوا أن ينقشوا ثوبا واحدا لطال عليهم الامر وتركوه.

وحكي عن قوم في ضياع الغرب ، أن عاملا من عمالهم عنق بهم ، فدخلوا في صحراء الغرب ، وحملوا معهم زادا إلى أن تصلح أمورهم ويرجعوا إلى منازلهم ، وكانوا على يوم وبعض آخر ، فدلجوا إلى جبل ، فوجدوا عيرا أهليا قد خرج من بعض شعابه ، فتبعه نفر منهم ، فأخرجه إلى مساكن وأشجار ونخل ومياه وناس ، فهم يسكنون تلك الناحية ، ويتناسلون ويزرعون ، ولا يطالبهم أحد بخراج.

وأخبروهم أنهم لم يدخلوا إلى ضياع الغرب ، فصاروا نحوهم بأهليهم ومواشيهم وجميع أموالهم ، فأقاموا مدة يطلبون الطريق فما وجدوه ، ولا عرفوه ، ولا وقفوا له على خبر ، ولا تأتى لهم لوصول إليهم ، فرجعوا آيسين على ما فاتهم من ذلك الموضع.

٢١١

وحكي أيضا عن آخرين انهم ضلوا في طريق الغرب ، فوقعوا إلى مدينة كثيرة الماء والشجر والناس والمواشي والنخل والزرع ، فأضافوهم وأكلوا عندهم وأباتوهم في دار فيها طاحونة يعمل فيها الخمر ، فشربوا معهم حتى سكروا وناموا ، فلما انتبهوا عند طلوع الشمس وجدوا أنفسهم في مدينة خراب ليس فيها أنيس ولا عمارة ، فارتاعوا وخرجوا على وجوههم كالهاربين ، وساروا يومهم على غير سمت حتى قرب المساء ، فظهرت لهم مدينة أكبر من الاولى ، وأعمر وأكثر أهلا ودوابا ونخلا وشجرا وزرعا ومواشي ، فأنسوا بها ، ونزلوا عندهم فأخبروهم بخبر المدينة الاولى.

فجعلوا يعجبون من ذلك ويضحكون منهم ، وإذا لبعض أهل المدينة وليمة فانطلقوا بهم إليها فأطعموهم بها ، وسقوهم وغنوهم بأصناف الملاهي ، وسألوهم عن أخبارهم ، فأخبروهم أنهم ضلوا عن الطريق في بعض هذه الصحاري ، فقالوا لهم الطريق بين أيديكم واضح ، ولا يمكن أن تغلطوا فيه فان أحببتم المسير وجهنا معكم ، من يوقفكم على سمت الطريق الكبير الذي يؤديكم إلى مكانكم ، وإن أحببتم أن تقيموا عندنا ، أرفدناكم وزوجناكم عندنا ، وكنتم أصهارنا وإخواننا ، فسروا بذلك من قولهم. فأجمع بعضهم على المقام معهم ، وأجمع أكثر من كان منهم له أهل وولد على أن يأخذ أهله وولده فيسير نحوهم قالوا فبتنا معهم خير مبيت ، ثم نمنا فلما كان في الغد انتبهنا فوجدنا أنفسنا في مدينة عظيمة خراب قد تشعث بعض حصونها ، وليس بها أحد من الناس إلا ان حولها نخلا كثيرا قد تساقط ثمرها ، وتكدس حولها. فلحقنا لذلك من الخوف والارتياع والوحشة ما كاد يتلفنا.

فخرجنا منها مفكرين فيما عايناه ، وإنا لنجد روائح الخمر معنا ومعاني السكر فينا ظاهرة ، فلم نزل نسير يومنا أجمع ، وليس بنا جوع ولا عطش ،

٢١٢

حتى إذا كان المساء وافينا راعيا يرعى غنما له ، فسألناه عن العمارة والطريق ، قال إن العمارة قريب منكم ، فإذا نحن بأنهار فيها الماء ، فنزلنا وشربنا منها وبتنا ثم أصبحنا ، فإذا نحن في غير موضعنا الذي كنا فيه ، وإذا معنا الناس والعمران ، وما مشينا إلا بعض يوم حتى دخلنا مدينة الاشمون في الصعيد ، فكنا نحدث الناس فلا يقبلون منا.

وهذه مدائن القوم الداخلة القديمة قد غلبت عليها الجن ، ومنها ما قد ستر عن العيون فلا يراه أحد.

وذكر بعض القبط ، أن رجلا من بني الكهنة الذين قتلهم الشاد سار إلى الافرنجة فذكر لملكهم كثرة كنوز مصر وعجائبها ، وضمن له أن يوصله إليها وإلى ملكها وأموالها ، ويدفع عنها طلسماتها حتى يبلغ جميع ما يريده ، ويعرفه مواضع الكنوز.

فعزم ملك الافرنجة على غزو مصر وجهاتها ، فلما اتصل بصاحب مصر أن ملك الافرنجة تجهز إليها ، عمد إلى جبل بين البحر المالح وشرقي النيل ، فأصعد إليه أكثر كنوزه ، وما كان في خزائنه ، وصفح ظاهرها بالرصاص.

وأمر فنحتوا جوانب الجبل إلى منتهى خمسين ذراعا ، وجعلوا في آخر المنحوت منه الصور البارزة خارجة في النحت بقدر ذراع ، وهو جبل مدور في جرمه إلا أنه رفيع السمك.

ثم انصرف الملك إلى مصر ، وتأهب بما قدر عليه ، واستظهر بما أمكنه ، وجعل ينتظر ملك الافرنجة.

وأن ملك الافرنجة حشد وجيش ما أمكنه وقصد مصر ، وكان لا يمر بشئ من عجائبها وطلاسمها وغرائب أعمالها ومناراتها إلا قدر عليه وغيره وأفسد ما صادف من أصنامها ، وذلك كله أمكنه بمعونة ذلك الكاهن.

٢١٣

حتى أتى الاسكندرية الاولى فعاث فيها وهدم كثيرا منها وغير معالمها ، إلى أن دخل النيل من ناحية رشيد ، وصعد إلى منف ، وأهل تلك البلاد يحاربونه وهو ينتهب ما مر عليه ، فوجد منفا ممتنعة بالطلسمات الشداد ، والمياه العميقة والسرادقات العالية فأقام عليها أياما كثيرة فحاربها طمعا أن يصل إليها ، فلم يقدر ورأى كثرة الناس عليها ، وأنهم كل يوم يزيدون وأصحابه ينقصون ، فاغتاظ على الكاهن وأراد قتله فلم يمكنه.

وفر إلى أهله فسيروه حتى أمر الكهان إلى أوله من الظهور فرجع إلى حاله (١) وهلك من أصحابه خلق كثير ، واجتمع أهل النواحي فقصدوا مراكبه ، فأحرقوا أكثرها فأجمع هو ومن معه على الهروب.

ولما علم أهل مصر بذلك الكاهن الذي كان معه ، انحشدوا إليه بما قدروا عليه من المراكب ، وظفروا بأكثر أصحابه فقتلوهم وغرقوا مراكبهم ، فكان أعظم مطالب ملكهم أن يخلص نفسه ، فأسرع الهرب في مركب استجاده لمثل ذلك الحال.

ففر وسلط الله على مراكبهم رياحا غرقت كثيرا منها ، فما عادوا إلى الافرنجة إلا وملكهم قد ثقل بالجراحات التي أصابته ، ورجع الناس إلى منازلهم وقرارهم ورجع الملك إلى مصر وترك ما كنزه في موضعه عتيدا له.

ويقال انه كان هناك إلى هذا الوقت ، ولم يزل بعد ذلك الوقت يغزو بلاد الروم ، وأهل الجزائر ، ويعيث فيها ويخربها ، فهابته الملوك.

وأقام ملكا سبعا وستين سنة ، وهلك ودفن بمنف في ناووسه الذي كان عمل له في وسط المدينة من تحت الارض ، وجعل الدخول إليه من خارج

__________________

(١) هكذا في الاصول ، ولم نغير فيها شيئا.

٢١٤

المدينة من الجهة الغربية ، وحمل إليه أموالا عظيمة ، وجواهر كثيرة وطلسمات وتماثيل كما فعل أجداده من قبله.

وكان فيه أربعة آلاف تمثال على صور شتى برية وبحرية ، وتمثال عقاب من جوهر أخضر عند رأسه ، وتمثال تنين أخضر من ذهب مسبوك عند رجليه ، وزبر عليه اسمه وسيرته وجميع أموره.

وعهد ابنه إلى بداونس الملك وهو أول من ملك الاجناد وصفا له ملك مصر وكان بداونس الملك محنكا مجربا ذا أيد وقوة ومعرفة بالامور ، فأظهر فيهم العدل ، واقام الهياكل ورد أهلها وأكرم الكهنة ، وزاد في ألطافهم ، وبنى بغربي منف بيتا عظيما للزهرة ، وزبر فيه كتبا كثيرة من العلوم وكساه الحرير وعمل عيدا كبيرا اجتمع اتليه جميع الاجناد.

وكان صنم الزهرة من اللازورد موشحا بذهب يبرق مسورا بسواري زبرجد أخضر ، وكان في صورة امرأة لها ضفيرتان من ذهب أسود مدبر ، وفي رجليها خلخالان من حجر أحمر كالياقوت ، ونعلان من ذهب ، وفي يدها قضيب مرجان وهي تشير بسبابتها كالمسلمة على من في الهيكل.

وجعل حذاءها من الجانب الآخر بقرة ذات قرنين وضرعين من نحاس أحمر مموه بالذهب موشحة بحجر اللازورد ووجه البقرة محاذ إلى وجه صنم الزهرة ، وجعلوا بينهما مطهرة من أخلاط الاجساد على عمود رخام مجزع فيها ماء مدبر بقوة من الزهرة يستشفى بها من كل داء ، وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة تنالوها في كل سبعة أيام.

وجعل فيها كراسي الكهنة مصفحة بالذهب والفضة ، وقرب فيها ألف رأس من الضأن والمعز والوحش والطير ، وكان يحضره يوم الزهرة ويطوف به ، وكان قد فرش الهيكل وستره ععن يمين الزهرة وشمالها.

٢١٥

وكان في أعلى قبة الهيكل صورة رجل راكب على فرس له جناحان ومعه حربة سنانها رأس إنسان معلق ، وبقي هذا الهيكل إلى زمان بخت نصر وهو الذي هدمه.

ويقال ان بداونس هو الذي حفر خليج بخارى (١) فارتفع له من الخراج في بلده مائة الف الف وخمسون الف الف.

وقصده بعض العمالقة غازيا له من الشام ، فلما سمع به جيش وخرج إليه ، ولقيه وهزمه ودخل فلسطين فقتل فيها وسبا خلقا كثيرا ، وسبا بعض حكمائها واسكنهم مصر فهابته الملوك.

وعلى راس ثلاثين سنة من ملكه طمع السودان من الزنج والنوبة في ارضه ، فهجموا على بعض الاطراف فعاثوا وافسدوا.

فأمر بجمع الجيوش من اعمال مصر ، وأعد المراكب ووجه قائدا من قواده يقال له بلوطس.

وفي ثلاثمائة ألف بين راكب وراجل ، واتبعه بقائد آخر في مثلها ووجه في البحر ثلاثمائة سفينة وجعل في كل سفينة كاهنا يعمل أعجوبة.

وسار هو في أثرهما فيمن بقي من الجيوش ، فلقوا جيوش السودان وكانوا زهاء الف الف فهزموهم وقتل اكثرهم ، فأسر منهم كثيرا ، وتبعهم الجيوش حتى وصلوا إلى أرض الفيلة من أرض الزنج فأخذوا منها عدة كثيرة ، وأخذ معها كثيرا من النمور والوحش وسيقت إلى مصر.

ونصب على حدوده منارات وزبروا عليها مسيرة وظهوره والوقت الذي غزا فيه السودان ، وذكر كل ما عمل في أيامه.

__________________

(١) هكذا في الاصول.

٢١٦

ولما انصرف إلى مصر واستقر بها ، اعتل ورأى رؤيا تدل على موته ، فعمل لنفسه ناووسا ونقل إليه من أصنام الكواكب كثيرا ، ومن الذهب والجوهر الملون والتماثيل الغريبة الصنعة والآلات والذخائر ما لا يعلم جودته وكثرته ، فلما هلك دفن فيه وزبر على بابه في الحجارة اسمه وتاريخ الوقت الذي مات فيه ، جعلت عليه طلاسم تمنع منه.

وكان قد عهد إلى ابنه بعده مماليك الملك ، وكان أديبا عاقلا كريما حسن الوجه مجربا مخالفا لابيه في عبادة الكواكب والبقر ، ويقال إنه موحد على دين قبطيم ومصرايم ، فكانت القبط تذمه بذلك.

وكان سببه فيما ذكر ، أنه رأى رؤيا فيما يراه النائم ، كأنه أتاه رجلان لهما أجنحة فاختطفاه واحتملاه إلى الفلك ، وأوقفاه حذاء شيخ أسود أبيض الرأس واللحية ، فقال له هل تعرفني؟ فدخلته منه روعة لحداثته ، وكان سنه نيفا وثلاثين سنة ، فقال له : ما أعرفك ، فقال له أنا بشر ، يعني رجلا ، فقال قد عرفتك ، قال أنت إلا هي ، فقال إنك وإن كنت تدعوني إلها فاني مربوب ملك ، وإلهي وإلهك الذي خلق السموات والارض وخلقني وخلقك ، قال : فأين هو؟ قال : في العلو الاعلى ، [تعالى] لا تلحقه الظنون ولا تراه العيون ، ولا يشبهه شئ ، وهو الذي جعلنا سببا لا قامة العالم الاسفل وتدبيره ، قال : كيف نعمل إذا؟ قال : تضمر في نفسك ربوبيته وتخلص وحدانيته تعترف بأزليته ، ثم أمر الرجلين فانزلاه إلى موضعه ، فاستيقظ مذعورا وهو على فراشه.

فدعا رأس الكهنة فقص عليه رؤياه ، فقال له : عاهدتك أن لا تتخذ الاصنام آلهة فانها لا تضر ولا تنفع ، قال فمن أعبد؟ قال : الله الذي خلق السموات والارض وخلق جميع ما فيها من أموال وغيرها.

٢١٧

قال وكيف أقدر على رد نفوس العالم عما هم عليه؟ قال اعقد على ذلك نيتك ، وأخلص ضميرك وصف به قلبك ، وإذا غبت عن عيون الناس وانفردت فاعمل ما أمكنك ، ودم للناس في الظاهر على ما كان عليه جدودك ، فقبل الملك ذلك القول منه واعتقده وعمل به.

فكان يحضر للهيكل ويسجد للصنم ، منحرفا عنه بقلبه مبغضا له كافرا به ، وهو يضمر أن سجوده لله عزوجل.

واستعمل كثرة الغزوات وموالاة الاسفار والجولان في البلاد ، وكل ذلك لتطول غيبته عن مصر ويبعد عن الهيكل.

وقال بعض أهل مصر إن الله أيده بملك من الملائكة يعضده ويرشده ، وربما أتاه في نومه فأمره ونهاه ، وأخبره بما يريد معرفته ، فأمر الناس عند ذلك باتخاذ كل جادة من الخيل وكل جيد وجميل من السلاح ، وأعد الزاد ، واتخذ في بحر المغرب مائتي سفينة.

وخرج في جيش عظيم في البر وفي البحر ، فلقيه جموع البربر فهزمهم وقتل أكثرهم.

وبلغ أفريقية ، واستأصل أكثرها ، وخرج منها ، وكان لا يمر بأمة إلا أبادها إلى أن غزا من ناحية الاندلس يريد الافرنجة.

وكان بها ملك عظيم يقال له افريوس ، فحشد إليه من كل النواحي ، فأقام يحاربه شهرا ثم طلب صلحه ، وأهدى إليه هدايا كثيرة ، فقبل ذلك منه وسار عنه ودعا الامم المتصلة بالبحر الاخضر فأطاعوه ، ومر بأمة لها حوافر ولهم قرون صغار ، ولهم شعور كشعور الذئبة ، ولهم أنياب دلف بارزة من أفواههم ، فقاتلوهم قتالا شديدا حتى اثخنهم ، فنفروا عنه إلى غيران لهم مظلمة ، فلم يمكن لهم دخولها عليهم.

٢١٨

والقبط تزعم أنه رأى سبعين أعجوبة سنذكر منها بعد هذا ، وعمل على البحر أعلاما وزبر عليها اسمه ، وخرب مدن البربر حيث كانت ، وألجأهم إلى قرون الجبال ، ورجع فتلقاه أهل مصر بصنوف اللهو والطيب والرياحين ، وفرشوا له الطرق ، ودخل قصره موفورا ظاهرا ، وأخرج إليه ابنه ، وكان ولد له من بعده فسر به وابتهج وكمل فرحه ، واتصل خبره بالملوك فهابوه ، وحملوا إليه الهدايا من كل جهة.

وبلغه ن قوما من البربر والسحرة لهم تماثيل وبخورات عجيبة يضلون بها ، وتخاييل وهم في مدينة لهم يقال لها قرمودة في المغرب من أرض مصر ، وقد ملكوا عليهم امرأة منهم ساحرة يقال لها سطا.

واتصل به كثرة أذاهم للناس ، فعزاهم حتى إذا قرب منهم ستروا عنهم مدينتهم وسحروه ، فلم يرها وطمسوا مياههم ، فلم يعرفها ، فهلك كثير من أصحابه عطشا ، فلم يجد لهم حيلة في الوصول إليهم ، فزال عنهم ثم صعد إلى ناحية الجنوب.

ثم رجع إليهم على غير الطريق الذي سار إليهم عليها أولا ، فمر بهم بهيكل كانوا يحضرونه في بعض أعيادهم ، فأمر بهدمه فهدم بعضه ، وسقط منه موضع على جماعة من أصحابه ممن تولى هدمه فأهلكهم ، فلما رأى ذلك تركهم وانصرف عنهم ، وخرجوا إلى هيكلهم فبنوه وأصلحوا ما فسد منه وحرسوه بطلسمات محكمة ، ونصبوا في قبته صنما من نحاس مذهب.

وكان إذا قصدهم أحد صاح الصنم صياحا عظيما منكرا يرعب منه كل ذي روح ويبهت ، فيخرجون إليه فيصطلمونه.

وكانت ملكتهم أحذق منهم بالسحر فقالوا لها نعمل الحيلة في افساد

٢١٩

مصر وإيذاء أهلها؟ فقالت لهم نعم ، فقالوا أنت أقدر منا ، فاعملي فيها ما رأيتيه.

فعملت لهم أدوية سحرت فيها النيل ودفعتها إلى بعضهم ، وأمرتهم أن يمضوا بها إلى مصر ، والزرع في حقله على أن تؤخذ فيطرحون منها في النيل في أعلى مصر ، ويغرق بعضهم على أقطار مصر ، وحيث زروعهم الكثيرة ، فيفرقونها في كل جهة ، قليل غبار في كل جهة.

فلما فعلوا ذلك فاض النيل في غير وقته وزاد على المعهود ، وأقام الماء طويلا على مزارعهم ، وأفسد زروعهم وغلاتهم ، وكثر فيه التماسيح والضفادع وكثرت العلل في الناس وانبثت فيهم الثعابين والعقارب.

فأحضر الملك الكهنة والحكماء ، وقال لهم أخبروني عن هذه الحوادث التي حدثت في بلادنا ، ولم تذكروه في الطالع الذي وضعتموه لهذه السنة ، فكنا نتأهب لها.

فاجتمعوا في دار الكهنة ، ونظروا وبحثوا حتى علموا أنهم أوتوا من قبل ناحية المغرب ، وأن امرأة عملته وألقته في النيل ، وفرقته على الجهات.

فعلم الملك أنه من قبل تلك الساحرة ، فقال لهم أجهدوا أنفسكم في هلاكها فقد بلغت فيكم من أذائها.

فاجتمعوا إلى الهيكل الذي فيه صور الكواكب وسألوه أن يحضر معهم فلم يمكنه الخلاف ، فلما أمسى لبس مسحا ، وفرش رمادا ، واستقبل مصلاه ، وأقبل على الدعاء والابتهال والتضرع إلى الله تعالى ، وقال : يا رب أنت إله الآلهة وملك الملوك ، وخالق الكل ، ولا يكون شئ مما دق وجل إلا بأمرك وحولك ، أسألك بجميع فضائلك وآياتك وأسمائك أن تكفينا أمر هؤلاء القوم.

٢٢٠