موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية ، أو على ترك جميع الأطراف في الشبهة التحريمية ، أو كان فيه ضرر أو حرج على المكلف ـ لا يكون العلم الاجمالي فيها منجّزاً ، إذ لا يكون امتثال الحكم الواقعي حينئذ لازماً ، لعدم التمكّن منه ، أو لكونه ضرراً أو حرحاً ، ومع عدم لزوم امتثاله لا مانع من جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ، بلا فرق بين قلّتها وكثرتها أيضاً.

فإذا قلنا إنّ الشبهة غير المحصورة لا يكون العلم الاجمالي منجّزاً فيها ، كان مرادنا هو هذا المعنى ، ولا مناقشة في الاصطلاح ، وكم فرق بينها وبين الشبهة المحصورة ، بمعنى كون الحكم الواقعي في أطراف أمكن امتثاله بلا لزوم حرج أو ضرر ، فانّه يحكم العقل حينئذ بلزوم امتثاله كما عرفت ، ومعه لا يمكن جعل الحكم الظاهري فيها كما تقدّم.

فتحصّل : أنّ جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي غير ممكن بحسب مقام الثبوت ، فلا تصل النوبة إلى البحث عن مقام الاثبات وشمول أدلة الاصول لأطراف العلم الاجمالي وعدمه ، إذ بعد حكم العقل باستحالة جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي لو فرض شمول الأدلة لها ، لا بدّ من رفع اليد عن ظاهرها لأجل قرينة قطعية عقلية.

ثمّ إنّا لو تنزّلنا عن ذلك ، وقلنا بامكان جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي ، يقع الكلام في :

المبحث الثالث : وشمول أدلة الاصول العملية لأطراف العلم الاجمالي وعدمه.

وقد منع شيخنا الأعظم الأنصاري (١) قدس‌سره عن ذلك ، بدعوى المناقضة بين صدر الروايات وذيلها ، لأنّ مقتضى إطلاق الصدر في مثل قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٠٤ و ٤٠٥

٨١

«كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» (١) هو جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ، وثبوت الحكم الظاهري ، إذ كل واحد من الأطراف مشكوك فيه مع قطع النظر عن الآخر ، ومقتضى إطلاق العلم في ذيله الذي جعل غايةً للحكم الظاهري هو عدم جريان الأصل وعدم ثبوت الحكم الظاهري ، فتلزم المناقضة بين الصدر والذيل ، لأنّ الموجبة الكلّية يناقضها السلب الجزئي ، فلا بدّ من رفع اليد عن أحد الاطلاقين ، وحيث إنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر ، فلا محالة تكون الروايات مجملة من هذه الجهة. ثمّ استشكل على نفسه بأنّ كلمة «بعينه» المذكورة في بعض الروايات تشهد بأنّ المراد من العلم في ذيل هذه الروايات هو خصوص العلم التفصيلي ، لا الأعم منه ومن العلم الاجمالي.

وأجاب عنه بأ نّه يمكن أن يكون ذكر هذه الكلمة لتأكيد العلم لا لتمييز المعلوم ليكون مفادها العلم التفصيلي. هذا ملخص كلامه قدس‌سره.

وفيه أوّلاً : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في بحث الاستصحاب (٢) : من أنّه على تقدير تسليم إجمال هذه الروايات المذيّلة بذكر الغاية ، لا مانع من التمسك بالروايات التي ليس فيها هذا الذيل ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع ما لايعلمون» (٣) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الناس في سعة ما لايعلمون» (٤) وإجمال دليل فيه الغاية المذكورة لا يسري إلى غيره ممّا ليس فيه الذيل المذكور.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤

(٢) كفاية الاصول : ٤٣٢

(٣) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١

(٤) الوسائل ١٨ : ٢٠ / أبواب مقدّمات الحدود ب ١٢ ح ٤ وفيه : «ما لم يعلموا» بدل «ما لا يعلمون»

٨٢

وثانياً : أنّ العلم المأخوذ في الغاية في هذه الأخبار ظاهر عرفاً في خصوص ما يكون منافياً للشك رافعاً له ، بأن يكون متعلقاً بعين ما تعلّق به الشك ، وكذا الحال في مثل قوله عليه‌السلام : «ولكن انقضه بيقين آخر» (١) فانّ الظاهر منه تعلّق اليقين الآخر بعين ما تعلّق به الشك ليكون نقضاً له ، وكذا الحال في أدلة البراءة من قوله عليه‌السلام : «حتّى تعلم أو تعرف أنّه حرام» ومن الواضح أنّ العلم الاجمالي لا يكون رافعاً للشك في كل واحد من الأطراف ، لعدم تعلقه بما تعلق به الشك ، فانّه تعلق بعنوان جامع بينهما ، وهو عنوان أحدهما. وعليه فالغاية لا تشمل العلم الاجمالي فيكون إطلاق الصدر محكّماً.

وثالثاً : أنّ ما أفاده ـ من أنّ كلمة «بعينه» لتأكيد العلم لا لتمييز المعلوم ـ لو سلّم في رواية مسعدة بن صدقة من قوله عليه‌السلام «كل شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» (٢) لا يتم في رواية عبدالله بن سنان من قوله عليه‌السلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه» (٣) فانّ مفاده معرفة الحرام بعينه ، ومعرفة الحرام بعينه ظاهر عرفاً في تمييزه عن غيره ، ولا سيّما مع ذكر كلمة «منه» وظهور معرفة الحرام من الشيء بعينه في تمييز الحرام عن غيره غير قابل للانكار ، فتكون الغاية ظاهرةً في خصوص العلم التفصيلي. بخلاف الجملة الاولى ، فانّ مفادها معرفة أنّه حرام بعينه ، أي معرفة الحرمة ، فيمكن أن تكون كلمة «بعينه» تأكيداً للمعرفة.

ولا يخفى الفرق بحسب المفهوم العرفي بين معرفة أنّ الشيء حرام بعينه ، ومعرفة الحرام من الشيء بعينه.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١ (باختلاف لفظي يسير)

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤

(٣) المصدر السابق ح ١

٨٣

ورابعاً : أنّ لازم ما ذكره من قصور الأدلة عن الشمول لأطراف العلم الاجمالي عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ، ولو لم يكن العلم الاجمالي منجّزاً ، لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، أو لكون الامتثال حرجياً أو ضررياً ، مع أنّه قدس‌سره لا يلتزم بذلك قطعاً. وأمّا على ما ذكرناه (١) من أنّ المانع من جريان الأصل في اطراف العلم الاجمالي ثبوتي من جهة تنجيز العلم الاجمالي التكليف الواقعي ، ولزوم اجتماع الضدّين في مقام الامتثال ، فلا محذور في جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي في فرض خروج بعضها عن محل الابتلاء أو كون الامتثال حرجياً أو ضررياً ، إذ العلم الاجمالي حينئذ لا يكون منجّزاً ولا يحكم العقل بلزوم امتثال الحكم الواقعي ، لعدم القدرة عليه ، أو لاستلزامه الحرج أو الضرر ، فلا يلزم اجتماع الضدّين في مقام الامتثال ، فلا مانع من جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي.

فتحصّل : أنّ الوجه في عدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي هو المانع الثبوتي على ما ذكرناه ، لا قصور الأدلة في مقام الاثبات. هذا تمام كلامنا في المقام الأوّل والبحث عن ثبوت التكليف بالعلم الاجمالي.

وأمّا المقام الثاني : وهو البحث عن سقوط التكليف بالعلم الاجمالي بعد ثبوته. فتحقيق القول فيه يقتضي التكلم في جهتين :

الجهة الاولى : في البحث عن كفاية الامتثال الاجمالي وعدمها ، مع عدم تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي.

ولا ينبغي الشك في الكفاية لحكم العقل والشرع بحسن الاحتياط في هذا الحال وإن استلزم التكرار ، بلا فرق بين التوصليات والتعبديات ، وبلا فرق بين

__________________

(١) في ص ٧٩ ـ ٨٠

٨٤

موارد تنجّز الواقع كما في أطراف العلم الاجمالي ، وبين موارد عدم تنجّزه كما في الشبهة البدوية الحكمية أو الموضوعية ، بلا فرق بين ما قبل الفحص وما بعده ، إذ المفروض عدم تمكن الوصول إلى الواقع ولو بعد الفحص ، فانّ الامتثال الاجمالي في جميع هذه الصور هو غاية ما يتمكن منه العبد في مقام امتثال أمر المولى ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف.

الجهة الثانية : في البحث عن كفاية الامتثال الاجمالي مع تمكن المكلف من الامتثال التفصيلي ، ويقع الكلام تارةً في التوصليات. واخرى في التعبديات.

أمّا التوصليات ، فلا شك أيضاً في كفاية الامتثال الاجمالي فيها ، لأنّ الغرض فيها مجرد حصول المأمور به في الخارج كيف ما اتّفق ، وباتيان جميع المحتملات يتحقق المأمور به لا محالة ، فإذا علم أحد بأ نّه مديون بدرهم إمّا لزيد أو لعمرو وأعطى درهماً لزيد ودرهماً لعمرو ، حصل له العلم بالفراغ.

ويلحق بالتوصليات الوضعيات ، كالطهارة والنجاسة ، فلو غسل المتنجس بمائعين طاهرين يعلم إجمالاً بكون أحدهما ماءً مطلقاً والآخر مضافاً طهر بلا إشكال. وكذا العقود والايقاعات ، فان احتاط المكلف وجمع بين إنشاءات متعددة يعلم إجمالاً بصحّة أحدها ، يكفي في حصول المنشأ لا محالة ، وإن لم يتميز عنده السبب المؤثر.

هذا ، ولكن استشكل شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) في الاحتياط في العقود والايقاعات باستلزامه الاخلال بالجزم المعتبر في الانشاء ، إذ الترديد ينافي الجزم ، ولذا لا يصحّ التعليق في الانشائيات إجماعاً.

__________________

(١) لاحظ الجزء الثالث من المكاسب : ١٧٣ (مبحث التنجيز في العقد)

٨٥

وهذا الاشكال ممّا لا يرجع إلى محصّل ، لما ذكرناه في محلّه (١) من أنّ المراد بالجزم المعتبر في الانشاء هو الجزم بالاعتبار النفساني من قبل المنشئ ، بأن يكون جازماً بالاعتبار من قبل نفسه لا متردداً فيه ، والتعليق في الانشاء يوجب الترديد من قبل نفس المنشئ في اعتباره النفساني ، فإذا قال : وهبتك هذا المال إن كنت ابن زيد مثلاً ، لم يتحقق الاعتبار منه ، إذ علّقه على أمر لا يدري حصوله ، فهو لا يدري أنّه تحقق منه الاعتبار النفساني أم لا. وهذا هو الترديد المنافي لقصد الانشاء إجماعاً.

وأمّا التردد في أنّ السبب الممضى شرعاً هو هذا أو ذاك ـ كما في موارد الاحتياط في العقود والايقاعات ـ فلا إشكال فيه ، إذ لا ترديد في الانشاء الصادر من المنشئ بل هو جازم به ، غاية الأمر كونه متردداً في أنّ السبب الممضى شرعاً هذا أو ذاك ، فيجمع بينهما.

وبالجملة : التردد في الحكم الشرعي لا ينافي الجزم المعتبر في الانشاء ، بل العلم بعدم إمضاء الشارع لا ينافي الانشاء ، إذ الانشاء اعتبار من قبل نفس المنشئ ولا ربط له بامضاء الشارع ، فلو أوقع الوالد معاملةً ربويةً مع ولده مع العلم بعدم إمضاء الشارع حين الانشاء ، ثمّ انكشف إمضاء الشارع ، يحكم بصحّة المعاملة المذكورة ، وكذا يحكم بصحّة معاملة الكفّار على تقدير اجتماع الشرائط ، مع أنّهم لا يلتزمون بالشرع وإمضاء الشارع أصلاً. فإذا كان الانشاء ممّا لا ينافيه الجزم بعدم إمضاء الشارع ، فكيف ينافيه التردد في إمضاء الشارع.

فالتحقيق : أنّ الاحتياط في العقود والايقاعات ممّا لا ينبغي الاشكال فيه.

وأمّا التعبديات : فمع عدم تنجّز الواقع ، كما في الشبهة البدوية الحكمية بعد

__________________

(١) لاحظ مصباح الفقاهة ٣ : ٥٨ وما بعدها (مبحث التنجيز في العقود)

٨٦

الفحص ، والشبهة الموضوعية مطلقاً ، فلا إشكال في الاحتياط فيها أيضاً ، بل يمكن أن يقال : إنّ هذا الامتثال الاجمالي مع ترخيص المولى بتركه أرقى من الامتثال التفصيلي في موارد يكون التكليف فيها منجّزاً.

وأمّا مع تنجّز الواقع عليه ، كما في موارد العلم الاجمالي ، بل في الشبهة البدوية الحكمية قبل الفحص ، فالاحتياط فيه تارةً يستلزم التكرار ، واخرى لايستلزمه.

وعلى التقديرين إمّا أن يكون التكليف المعلوم بالاجمال أو المشكوك فيه استقلالياً ، أو يكون ضمنياً. وما لا يستلزم التكرار إمّا أن يكون أصل الطلب فيه معلوماً في الجملة وإنّما الشك في الخصوصية من الوجوب والاستحباب ، وإمّا أن لا يكون كذلك ، لاحتمال الاباحة. فهنا مسائل :

المسألة الاولى : فيما إذا لم يكن الاحتياط مستلزماً للتكرار ، مع كون التكليف استقلالياً ، وكان أصل الطلب معلوماً في الجملة ، كما إذا شكّ في وجوب غسل الجمعة واستحبابه.

والظاهر أنّه لا مانع من الاحتياط فيه والاتيان بما يحتمل الوجوب بداعي الأمر المحرز وجوده على الاجمال ، ولايكون هناك ما يوجب المنع عن الاحتياط إلاّ توهم اعتبار قصد الوجه والتمييز ، وهو مدفوع بالاطلاق إن كان لدليل العبادة إطلاق لفظي ، وإلاّ فالمرجع هي البراءة. هذا على القول بأنّ اعتبار قصد القربة وما يرجع إليه من قصد الوجه والتمييز شرعي ، ويمكن أخذه في متعلق الأمر ، كما هو الصحيح على ما تقدّم بيانه في بحث التعبدي والتوصلي (١).

وأمّا على القول بأنّ اعتباره عقلي لعدم إمكان أخذه في متعلق الأمر شرعاً ،

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥١٩ وما بعدها ، وكذا ص ٥٣٥ وما بعدها

٨٧

كما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) فمجرد عدم التنبيه من الشارع على اعتباره يكشف عن عدم اعتباره ، إذ على تقدير اعتباره كان على الشارع التنبيه عليه ولو بعنوان الإخبار بالجملة الاسمية ، لكونه ممّا يغفل عنه نوع المكلفين.

واستدلّ القائل بالاعتبار بوجهين :

الوجه الأوّل : الاجماع المدعى في كلمات المتكلمين.

وفيه : أنّه اجماع منقول لا يصحّ الاعتماد عليه. مضافاً إلى عدم كونه إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه‌السلام لاحتمال أن يكون الوجه في اعتباره عند المجمعين هو :

الوجه الثاني : وهو أنّ حسن الأفعال وقبحها إنّما يكون بالعناوين القصدية ، بمعنى أنّه إن كان الفعل حسناً بعنوان خاص يعتبر في حسنه الاتيان به مع قصد هذا العنوان ، وإلاّ فلا يتصف بالحسن ، فانّ ضرب اليتيم إنّما كان حسناً إذا قصد به التأديب ، وإلاّ فلا يكون حسناً وإن ترتب عليه التأديب خارجاً. ففي المقام يحتمل أن يكون حسن الفعل منوطاً بعنوان خاص لا يعرفه المكلف ولا يميّزه ، فلا بدّ من الاتيان به مع إشارة إجمالية إلى ذلك العنوان ، بأن يأتي به بعنوان الوجوب أو الندب ، فانّه عنوان إجمالي لكل ما له دخل في حسن الفعل ، فلا بدّ من التمييز وقصد الوجه.

وفيه أوّلاً : أنّ اعتبار قصد عنوان خاص غير محتمل ، إذ الواجب بحكم العقل هو امتثال أمر المولى باتيان ما تعلّق به الأمر ، وكل ما توهم دخله في المأمور به يدفع بالأصل اللفظي أو الأصل العملي ، أو بعدم التنبيه على ما تقدّمت الاشارة إليه.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٧٢

٨٨

وثانياً : أنّه لا تنحصر الاشارة الاجمالية إلى ذلك العنوان الخاص بقصد الوجه ، بل يمكن الاشارة إليه بقصد الأمر ، فانّه محرز على الفرض وإن لم يعلم الخصوصية ، فلا وجه لاعتبار الوجه والتمييز في المأمور به.

المسألة الثانية : هي المسألة الاولى مع كون التكليف المحتمل ضمنياً ، كما إذا شكّ في أنّ السورة مثلاً جزء واجب للصلاة أو مستحب ، ولا مانع من الاحتياط فيها ، بأن يؤتى بها بداعي الأمر ، وإن لم تعلم خصوصيته من الوجوب أو الاستحباب ، بل الاحتياط في هذه المسألة أولى بالجواز من الاحتياط في المسألة الاولى ، إذ ما توهم كونه مانعاً عن الاحتياط من اعتبار قصد الوجه على تقدير تماميته مختص بالواجبات الاستقلالية ، ولا يجري في الواجبات الضمنية ، إذ مدركه أمران على ما عرفت :

أحدهما : الاجماع المنقول وهو غير متحقق في الواجبات الضمنية ، لأنّ المشهور عدم اعتباره فيها.

ثانيهما : احتمال دخل عنوان خاص في حسن المأمور به. وهذا أيضاً غير جارٍ في الأجزاء ، إذ ليس لكل جزء حسن مستقل ليحتمل دخل عنوان خاص فيه ، فلا حاجة إلى قصد الوجه في كل جزء جزء ، بل يكفي قصد الوجه في مجموع العمل.

المسألة الثالثة : هي المسألة الاولى مع عدم كون التكليف معلوماً أصلاً ، بأن يكون الأمر دائراً بين الوجوب والاباحة. وربّما يمنع من الاحتياط فيها لوجهين :

الوجه الأوّل : ما تقدّم في المسألة الاولى من اعتبار قصد الوجه المانع من الاحتياط. ولا يجري هنا ما ذكرناه في المسألة الاولى من إمكان الاشارة إلى عنوان له دخل في حسن العمل بقصد الأمر ، لعدم إحراز الأمر في المقام ، بخلاف

٨٩

المسألة الاولى.

إلاّ أنّه يكفي في الجواب عنه ما ذكرناه أوّلاً من أنّ قصد عنوان خاص وقصد الوجه ممّا لا دليل على اعتباره ، واحتماله مدفوع بالأصل اللفظي أو الأصل العملي أو بعدم التنبيه عليه على ما تقدّم بيانه.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) قدس‌سره من أنّ العقل يحكم بأ نّه يعتبر في تحقق الاطاعة أن يكون العبد منبعثاً نحو العمل من بعث المولى لا عن احتمال بعثه ، فالامتثال الاحتمالي يكون في طول الامتثال اليقيني بحكم العقل ، فلا مجال للاحتياط مع التمكن من العلم بالواقع تفصيلاً على ما هو المفروض.

وعلى تقدير عدم استقلال العقل بذلك لا أقل من الشك في اعتباره ، لعدم استقلاله بعدمه ، فيكون المرجع قاعدة الاشتغال ، لأنّ الشك متعلق بمرحلة الامتثال وسقوط التكليف ، فكان مورداً للاشتغال لا البراءة.

وفيه : أنّ الاطاعة ليست إلاّعبارة عن الاتيان بما أمر به المولى بجميع قيوده مضافاً إلى المولى ، وقد ذكرنا مراراً أنّ حكم العقل عبارة عن إدراكه ، فهو يدرك حسن الاطاعة ، وأ نّها موجبة لاستحقاق الثواب ، وتركها موجب لاستحقاق العقاب ، وليس له أن يحكم باعتبار شيء في متعلق أمر المولى مع عدم كونه مأخوذاً فيه شرعاً ، إذ العقل ليس مشرّعاً يزيد شيئاً في المأمور به أو ينقص منه ، فلنا جزم بأ نّه لا يعتبر في الطاعة إلاّالاتيان بما أمر به المولى بجميع قيوده مضافاً إليه. وأمّا كون الانبعاث من بعث المولى لا عن احتماله فغير معتبر فيها جزماً.

ومع التنزل والشك كان المرجع هو البراءة لا الاشتغال على ما هو الصحيح

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٧٩ ـ ٨٢ ، فوائد الاصول ٣ : ٧٢ ـ ٧٤

٩٠

في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. هذا على القول بكون قصد القربة وما يرجع إليه معتبراً شرعاً واختاره المحقق النائيني (١) قدس‌سره.

وأمّا على القول بكونه عقلياً ، كما هو المختار لصاحب الكفاية (٢) قدس‌سره فالشك في اعتبار شيء يرجع إلى قصد القربة وإن لم يكن مجرى للبراءة ، إلاّ أنّه يستكشف عدم اعتباره من عدم البيان ، لكونه ممّا يغفل عنه نوع المكلفين ، فعلى تقدير الاعتبار كان على المولى البيان والتنبيه عليه ، فمع عدم البيان يستكشف عدم اعتباره لا محالة.

فتحصّل : أنّ الصحيح في هذه المسألة أيضاً كفاية الامتثال الاجمالي والاتيان بما يحتمل وجوبه رجاء ، كما هو المشهور.

وممّا ذكرنا ظهر الحال في موارد احتمال تكليف ضمني ، وأ نّه لا مانع من الاحتياط والاتيان بما يحتمل كونه جزءاً للمأمور به رجاءً ، سواء علم رجحانه إجمالاً كما تقدّم (٣) أو لم يعلم كما هو الآن محلّ الكلام. نعم ، لا بدّ من عدم احتمال المانعية ، إذ لو دار الأمر بين كون شيء شرطاً للمأمور به أو مانعاً عنه ، كان الاحتياط فيه مستلزماً للتكرار وخرج عن الفرض ، كما أنّ محل كلامنا في التكليف الاستقلالي إنّما هو فيما إذا لم يحتمل الحرمة ، إذ مع احتمال الحرمة لايمكن الاحتياط وخرج عن الفرض. هذا كلّه فيما إذا لم يكن الاحتياط مستلزماً للتكرار.

وأمّا إذا كان مستلزماً له كما في دوران الأمر بين القصر والتمام ، فربّما يستشكل في جواز الاحتياط فيه وعمدة ما ذكروا في وجه الاشكال أمران :

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٧٣ ـ ١٧٦ ، فوائد الاصول ١ : ١٦١ و ١٦٢

(٢) كفاية الاصول : ٧٢

(٣) في المسألة الثانية ص ٨٩

٩١

الأوّل : أنّ التكرار لعب بأمر المولى ، فلا يصدق عليه الامتثال.

وأجاب عنه في الكفاية (١) أوّلاً : بأ نّه يمكن أن يكون التكرار ناشئاً من غرض عقلائي ، فلا يكون لعباً وعبثاً.

وهذا الجواب غير وافٍ بدفع الاشكال ، لأنّ اللعب إن سرى إلى نفس الامتثال لا يجدي كونه بغرض عقلائي ، إذ الكلام في العبادة المتوقفة على قصد القربة ، ولا يجدي في صحّتها مطلق اشتمالها على غرض عقلائي ، بل لا بدّ من صدورها عن قصد التقرب ، واللعب لا يوجب القرب ، فلا يصحّ التقرب به.

وثانياً : بأنّ اللعب على تقدير تسليمه إنّما هو في كيفية الامتثال ، أي في كيفية إحراز الامتثال لا في نفس الامتثال. وبعبارة اخرى واضحة : أنّ الاتيان بما ليس بمأمور به وإن كان لعباً ، إلاّأنّ الاتيان بما هو مصداق للمأمور به ليس لعباً ، ومن الظاهر أنّ ضمّ اللعب إليه لا يوجب كونه لعباً.

وهذا هو الجواب الصحيح.

الثاني : ما تقدّم ذكره من المحقق النائيني قدس‌سره من أنّ الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني ، لأنّ الطاعة يعتبر فيها كون الانبعاث من بعث المولى بحكم العقل على ما تقدّم بيانه (٢).

وفيه أوّلاً : ما تقدّم من أنّ العقل ليس بمشرّع ، ولا يحكم إلاّبلزوم الطاعة ، ولا يعتبر في صدق الطاعة إلاّالاتيان بما أمر به المولى مضافاً إليه ، فكون الانبعاث من بعث المولى ممّا نجزم بعدم اعتباره ، ومع فرض الشك في اعتباره

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٤

(٢) تقدّم في ص ٩٠

٩٢

يرجع إلى البراءة على ما تقدّم بيانه (١).

وثانياً : أنّ هذه الكُبرى على تقدير تسليمها لا تنطبق على المقام ، إذ التكليف معلوم على الفرض ، فيكون الانبعاث نحو كل من العملين عن البعث اليقيني لا الاحتمالي ، غاية الأمر أنّه لا تمييز حال الاتيان ، وهو أجنبي عن كون الانبعاث عن احتمال التكليف.

وبالجملة : الامتثال في المقام يقيني لا احتمالي ، غاية الأمر كونه إجمالياً لا تفصيلياً ، وكم فرق بين الامتثال الاجمالي والامتثال الاحتمالي. نعم ، هذه الكبرى على تقدير تسليمها تفيد في الحكم بعدم جواز الاحتياط في المسألة السابقة ، وهي ما إذا لم يكن أصل التكليف محرزاً ، بل كان مجرّد الاحتمال ، بخلاف المقام. نعم ، لو كان المكلف قاصداً للاتيان ببعض المحتملات فقط ، كان انبعاثه عن احتمال التكليف ، فعلى تقدير تمامية الكبرى المذكورة ، كان العمل فاسداً ولو مع مصادفة الواقع. وأمّا على ما ذكرناه من عدم تماميتها ، فلا إشكال فيه على تقدير المصادفة. نعم ، هو مستحق للعقاب من جهة التجري والاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للتكليف المعلوم مع تمكنه من الامتثال اليقيني.

هذا كلّه في فرض التمكن من الامتثال التفصيلي العلمي. وأمّا إذا لم يتمكن منه ودار الأمر بين الاحتياط والامتثال التفصيلي الظنّي ، فإن كان الظن ممّا قام على اعتباره دليل خاص المعبّر عنه بالظن الخاص ، فهو كالعلم التفصيلي ، إذ الحجّة المعتبرة علم بالتعبد وإن لم تكن علماً بالوجدان. فإن قلنا بجواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي ، كما هو الصحيح ، نقول به

__________________

(١) تقدّم في ص ٩٠ ـ ٩١

٩٣

مع التمكن من الامتثال التفصيلي الظنّي أيضاً. وإن قلنا بعدم جوازه لكون الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني ، كما عليه المحقق النائيني قدس‌سره في بعض الصور على ما تقدّم بيانه ، نقول بعدم جوازه مع التمكن من الامتثال التفصيلي الظنّي أيضاً.

وبالجملة : الظن المعتبر علم تعبداً ، فيجري فيه جميع ما ذكرناه في العلم الوجداني. ولا فرق بينهما إلاّفي أنّه مع العلم الوجداني بالواقع لم يبق مجال للاحتياط ، إذ العلم الوجداني لا يجتمع مع احتمال الخلاف حتّى يحتاط ، بخلاف الظن المعتبر ، فانّه لا ينافي احتمال الخلاف ، ومعه لا مانع من الاحتياط ، بل يكون الاحتياط في مثل هذه الموارد ممّا لم يلزمه الشارع بادراك الواقع من أرقى مراتب العبودية والانقياد.

نعم ، وقع الكلام بين الأعلام في جواز تقديم المحتمل على المظنون في صورة الاحتياط ، فقد يقال بعدم جوازه ، واختاره المحقق النائيني قدس‌سره جرياً على مبناه من كون الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني ، وذكر المحقق النائيني قدس‌سره أنّ هذا ـ أي عدم جواز تقديم المحتمل على المظنون ـ هو الوجه في الخلاف الواقع بين شيخنا الأنصاري قدس‌سره والسيّد الشيرازي الكبير قدس‌سره في دوران الأمر بين القصر والتمام لمن سافر إلى أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع في يومه ، فاختار الشيخ قدس‌سره تقديم التمام على القصر عند الاحتياط ، واختار السيّد قدس‌سره تقديم القصر على التمام ، فهما بعد الاتفاق على الكُبرى ـ وهي لزوم تقديم المظنون على المحتمل عند الاحتياط ـ اختلفا في الصغرى فاستظهر الشيخ قدس‌سره من الأدلة وجوب التمام ، فاختار تقديمه على القصر عند الاحتياط ، واستظهر السيّد قدس‌سره منها وجوب القصر فقال بتقديمه على التمام (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٨٤ ، فوائد الاصول ٣ : ٧١ و ٧٢

٩٤

هذا ، والصحيح عدم لزوم تقديم المظنون على المحتمل ولو قلنا بأنّ الامتثال الاحتمالي في طول الامتثال اليقيني ، وأنّ العقل يحكم بأ نّه مع التمكن لا بدّ من أن يكون الانبعاث عن البعث الجزمي لا عن البعث الاحتمالي ، وذلك لأنّ الاتيان بالمظنون يكون بداعي الأمر الجزمي الثابت باليقين التعبدي ، سواء قدّم على المحتمل أو أخّر عنه ، والاتيان بالمحتمل يكون بداعي احتمال البعث ، بلا فرق بين التقديم والتأخير ، فالكبرى الكلّية المذكورة في كلام المحقق النائيني قدس‌سره على تقدير تسليمها لا تنطبق على المقام ، ولا تفيد لزوم تقديم المظنون على المحتمل. هذا كلّه في جواز الاحتياط مع التمكن من الظن الخاص.

وأمّا إذا لم يتمكن منه ودار الأمر بين الاحتياط والعمل بالظن الانسدادي المعبّر عنه بالظن المطلق ، فهل يجوز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي أو يتعين عليه الامتثال التفصيلي الظنّي؟

ولا يخفى أنّ هذا البحث إنّما هو على تقدير عدم جواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي ، أو التمكن من الامتثال بالظن الخاص ، فعلى هذا التقدير يقع الكلام في أنّ الظن المطلق كالظن الخاص في عدم جواز الاحتياط مع التمكن منه أو لا؟

وأمّا على تقدير الالتزام بجواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال بالعلم التفصيلي أو بالظن الخاص ، فلا يبقى مجال للبحث عن جواز الاحتياط مع التمكن من الامتثال بالظن المطلق ، إذ الظن المطلق لا يكون أرقى من العلم الوجداني والظن الخاص يقيناً.

إذا عرفت ذلك فنقول : ظاهر كلام الشيخ (١) قدس‌سره جواز الاحتياط

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٧١ و ٧٢

٩٥

والاكتفاء بالامتثال الاجمالي ، حتّى أنّه تعجب ممّن يعمل بالطرق والأمارات من باب الظن المطلق ، ثمّ يذهب إلى تقديم الامتثال الظنّي على الاحتياط.

والتحقيق في المقام : هو التفصيل بين الكشف والحكومة ، إذ القول بالكشف مبني على بطلان الاحتياط وكونه غير مرضي عند الشارع ، إمّا للاجماع أو لكونه منافياً لقصد الوجه المعتبر في العبادات ، فانّه بعد الالتزام ببطلان الاحتياط وتمامية سائر المقدمات يستكشف أنّ الشارع قد جعل لنا حجّة في تعيين أحكامه ، ثمّ العقل يعيّن تلك الحجّة بالسبر والتقسيم في الظن ، لكونه أقرب إلى الواقع من الشك والوهم ، وعليه فلا مجال للاحتياط مع التمكن من الامتثال بالظن المطلق ، إذ قد اخذ في مقدمات [دليل حجّية] الظن بطلان الاحتياط على الفرض ، وإلاّ لا يستكشف كون الظن حجّة شرعية ، لاحتمال اكتفاء الشارع بما يحكم به العقل من وجوب الاحتياط ، مع العلم الاجمالي بالواجبات والمحرمات.

هذا بخلاف القول بالحكومة ، فانّه مبني على عدم وجوب الاحتياط ، إمّا لعدم التمكن منه أو لاستلزامه الحرج ، فانّه عليه لا يستكشف كون الظن حجّةً شرعيةً ، بل العقل يحكم بتضييق دائرة الاحتياط في المظنونات دون الموهومات والمشكوكات. وعليه فلا مانع من الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الاجمالي مع التمكّن من الامتثال بالظن المطلق.

وبالجملة : الاختلاف في كون نتيجة الانسداد هو الكشف أو الحكومة إنّما ينشأ من الاختلاف في كيفية ترتيب المقدّمات ، فان اخذ في مقدّمات دليل الانسداد عدم جواز الاحتياط ، كانت النتيجة بضميمة سائر المقدّمات هو الكشف ، وعليه فلا مجال للامتثال الاجمالي مع فرض التمكن من الامتثال

٩٦

بالظن المطلق. وإن جعل من مقدّمات الانسداد عدم وجوب الاحتياط كانت النتيجة هي الحكومة ، وعليه فلا مانع من الاحتياط مع التمكن من الامتثال الظنّي بالظن المطلق.

فتحصّل أنّ تعجب الشيخ قدس‌سره وقع في محلّه على الحكومة دون الكشف ، هذا تمام كلامنا في بحث القطع.

٩٧
٩٨

مباحث الظّن

٩٩
١٠٠