موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

الفقهاء ومنهم شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) من التمسك بقاعدة نفي الضرر لثبوت خيار الغبن وحقّ الشفعة ، مع أنّ الضرر لا يكون في جميع موارد خيار الغبن ، بل النسبة بين الضرر وثبوت خيار الغبن هي العموم من وجه ، إذ قد يكون الخيار ثابتاً مع عدم تحقق الضرر ، كما إذا كان البيع مشتملاً على الغبن وقد غلت السلعة حين ظهور الغبن بما يتدارك به الغبن ، فلا يكون الحكم باللزوم في مثله موجباً للضرر على المشتري ، وقد لايكون الخيار ثابتاً مع تحقق الضرر ، كما إذا كان البيع غير مشتمل على الغبن ولكن تنزّلت السلعة من حيث القيمة السوقية ، وقد يجتمعان كما هو واضح. كما أنّ النسبة بين الضرر وثبوت حقّ الشفعة أيضاً عموم من وجه ، وقد تقدّمت أمثلة الافتراق والاجتماع (٢) ولا نعيد. فلأجل هذا الاستدلال توهّموا أنّ الضرر في المعاملات نوعي لا شخصي ، وقد عرفت أنّ الصحيح كون الضرر شخصياً في المعاملات أيضاً.

وليس المدرك لثبوت خيار الغبن وثبوت حقّ الشفعة هي قاعدة لا ضرر ، بل المدرك لثبوت حقّ الشفعة هي الروايات الخاصّة الدالة عليه في موارد مخصوصة ، ولذا لانقول بحقّ الشفعة إلاّفي هذه الموارد الخاصّة المنصوص عليها ، ككون المبيع من الأراضي والمساكن ، دون غيرها من الفروش والظروف وغيرها ، وكونه مشتركاً بين اثنين لا بين أكثر منهما ، وقد تقدّم أنّ ذكر حديث لا ضرر منضماً إلى قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة في رواية عقبة بن خالد إنّما هو من قبيل الجمع في الرواية لا الجمع في المروي (٣) ، ولو سلّم كونه من باب الجمع

__________________

(١) رسائل فقهية : ١١٤ ، فرائد الاصول ٢ : ٥٣٤

(٢) في ص ٦٠٤

(٣) تقدّم في ص ٦٠٤

٦٢١

في المروي فلا بدّ من حمله على الحكمة دون العلّة.

والمدرك لخيار الغبن هو تخلّف الشرط الارتكازي الثابت في المعاملات العقلائية من تساوي العوضين في المالية ، فانّ البناء الارتكازي من العقلاء ثابت على التحفظ على الهيولى والمالية عند تبديل الصور والتشخصات لأغراض وحوائج تدعوهم إليه ، فلو فرض نقصان أحد العوضين عن الآخر في المالية بحيث ينافي ويخالف هذا الشرط الارتكازي ، ثبت خيار تخلّف الشرط. نعم ، النقصان اليسير لا يوجب الخيار ، لكونه ثابتاً في غالب المعاملات المتعارفة. والتفصيل موكول إلى محلّه (١).

التنبيه الثالث

ذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) أنّ كثرة التخصيصات الواردة على قاعدة لا ضرر بالاجماع والنصوص الخاصّة موهنة للتمسك بها في غير الموارد المنصوص عليها والمنجبرة بعمل الأصحاب ، فانّ الأحكام المجعولة في باب الضمانات والحدود والديات والقصاص والتعزيرات كلّها ضررية ، وكذلك تشريع الخمس والزكاة والحج والجهاد ضرري ، مع كونها مجعولةً بالضرورة. ومن هذا القبيل الحكم بنجاسة الملاقي فيما كان مسقطاً لماليته ، كما في المرق أو منقصاً لها كما في الفرو ، مع أنّه ثابت بلا إشكال ، وكذا غيرها ممّا تأتي الاشارة إلى بعضها ، فما خرج من عموم القاعدة أكثر ممّا بقي تحتها ، وحيث إنّ تخصيص الأكثر

__________________

(١) مصباح الفقاهة ٦ : ٢٩٠ وما بعدها

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٣٧

٦٢٢

مستهجن في الكلام ، فلا مناص من الالتزام بأنّ الضرر المنفي في الحديث ضرر خاص غير شامل لهذه الموارد ، حتّى لا يلزم تخصيص الأكثر ، ولازم ذلك هو الالتزام بكون مدلول الحديث مجملاً غير قابل للاستدلال به [في] غير الموارد المنصوص عليها أو المنجبرة بعمل الأصحاب. هكذا ذكره الشيخ قدس‌سره ولنا في صحّة هذا الانجبار كلام مذكور في محلّه (١).

ثمّ أجاب عن ذلك بأ نّه يمكن أن يكون التخصيص في هذه الموارد بعنوان واحد جامع لجميعها ، ولا قبح في التخصيص بعنوان واحد ، ولو كان أفراده أكثر من الباقي تحت العام. وعليه فلا مانع من التمسك بعموم القاعدة عند الشك في التخصيص.

وردّ عليه في الكفاية (٢) بأ نّه لا فرق في استهجان تخصيص الأكثر بين أن يكون التخصيص بعنوان واحد يكون أفراده أكثر من الباقي تحت العام أو يكون بعناوين مختلفة.

ونحن نتكلّم أوّلاً في تحقيق هذه الكبرى أي استهجان تخصيص الأكثر ، ثمّ في تطبيقها على المقام ، فنقول : إنّ العموم المذكور في الكلام تارةً يكون من قبيل القضايا الخارجية ويكون الملحوظ في الكلام ثبوت الحكم للأفراد الخارجية ، فحينئذ لا إشكال في استهجان تخصيص الأكثر ، بلا فرق بين أن يكون التخصيص بعنوان واحد أو بعناوين مختلفة ، فلو قيل قتل جميع العسكر إلاّبني تميم ، وكان في العسكر من غير بني تميم رجل أو رجلان ، ففي الحقيقة كان المقتول رجلاً أو

__________________

(١) في ص ٢٨٠ ـ ٢٨١

(٢) [الظاهر أنّه من سهو القلم فانّ الرد مذكور في حاشية الآخوند قدس‌سره على الرسائل (دُرر الفوائد) : ٢٨٤]

٦٢٣

رجلين ، فلا إشكال في استهجان التعبير عن قتلهما بمثل قتل جميع العسكر إلاّ بني تميم ، وإن كان التخصيص بعنوان واحد مثل ما إذا كان التخصيص بعناوين مختلفة ، كما لو قيل : قتل جميع العسكر إلاّزيداً وإلاّ عمراً وإلاّ ... حتّى لا يبقى إلاّ رجل أو رجلان مثلاً.

واخرى : يكون العموم المذكور في الكلام بنحو القضايا الحقيقية ، ويكون الحكم ثابتاً للموضوع المقدّر بلا نظر إلى الأفراد الخارجية ، فلا يكون التخصيص حينئذ مستهجناً وإن بلغ أفراده ما بلغ ، لعدم لحاظ الأفراد الخارجية في ثبوت الحكم حتّى يكون الخارج أكثر من الباقي. وهذه هي القاعدة الكلّية لقبح تخصيص الأكثر.

وأمّا تطبيقها على المقام فالظاهر أنّ الحديث الشريف من القسم الأوّل ، أي من قبيل القضايا الخارجية ، فانّه ناظر إلى الأحكام التي بلّغها الله سبحانه إلى الناس بلسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأ نّه لم يجعل في هذه الأحكام ما يكون ضررياً ، فالحق مع صاحب الكفاية قدس‌سره في أنّه لا فرق في قُبح تخصيص الأكثر في المقام بين أن يكون التخصيص بعنوان واحد أو بعناوين مختلفة.

وأمّا الجواب عن أصل الاشكال : فهو أنّه ليس في المقام تخصيص إلاّفي موارد قليلة ، ونذكر أوّلاً موارد التخصيص ، ثمّ الجواب عمّا توهّم كونه تخصيصاً للقاعدة ، ليتّضح عدم ورود تخصيص الأكثر على القاعدة فنقول :

الأوّل من موارد التخصيص : هو الحكم بنجاسة الملاقي للنجس ، مع كونه مستلزماً للضرر على المالك ، كما لو وقعت فأرة في دهن أو مرق ، فالحكم بنجاستهما كما هو المنصوص (١) موجب للضرر على المالك ، وكذا غير الدهن

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٥ / أبواب الماء المضاف ب ٥

٦٢٤

والمرق ممّا كان الحكم بنجاسته موجباً لسقوطه عن المالية أو لنقصانها.

الثاني : وجوب الغسل على مريض أجنب نفسه عمداً ، وإن كان الغسل ضرراً عليه على ما ورد في النص (١) ، وإن كان المشهور أعرضوا عن هذا النص وحكموا بعدم وجوب الغسل على المريض على تقدير كونه ضرراً عليه ، فعلى القول بوجوب الغسل عملاً بالنص كان تخصيصاً للقاعدة.

الثالث : وجوب شراء ماء الوضوء ولو بأضعاف قيمته ، فانّه ضرر مالي عليه ، لكنّه منصوص (٢) ومستثنى من القاعدة.

هذه هي موارد التخصيص ، وأمّا غيرها ممّا ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٣) فليس فيه تخصيص للقاعدة.

أمّا باب الضمانات فليس مشمولاً لحديث لا ضرر من أوّل الأمر ، لكونه وارداً في مقام الامتنان ، والحكم بعدم الضمان موجب للضرر على المالك ، والحكم بالضمان موجب للضرر على المتلف ، فكلاهما منافيان للامتنان خارجان عن مدلول الحديث بلا حاجة إلى التخصيص ، والحكم بالضمان مستند إلى عموم أدلة الضمان من قاعدة الاتلاف أو اليد أو غيرهما ممّا هو مذكور في محلّه (٤) ، ولما ذكرناه من أنّ الحديث الامتناني لا يشمل كل مورد يكون منافياً للامتنان على أحد من الامّة ، قلنا في باب البيع (٥) بصحّة بيع المضطر وفساد بيع المكره

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٧٣ / أبواب التيمم ب ١٧

(٢) الوسائل ٣ : ٣٨٩ / أبواب التيمم ب ٢٦

(٣) [لا يخفى أنّ الشيخ قدس‌سره لم يذكر هذه الأمثلة وانّما تعرّض للبحث عموماً]

(٤) [ذكرت في موارد شتّى من فقه المكاسب منها : البحث عن قاعدة ما يضمن بصحيحه ... إلخ]

(٥) مصباح الفقاهة ٣ : ٢٩٣

٦٢٥

مع أنّ الاضطرار والاكراه كليهما مذكوران في حديث الرفع ، لأنّ رفع الحكم عن بيع المضطر منافٍ للامتنان عليه ، فلا يكون مشمولاً لحديث الرفع ، بخلاف بيع المكره فانّ الرفع فيه لا يكون منافياً للامتنان عليه ، بل يكون امتناناً عليه ، فيكون مشمولاً لحديث الرفع. وهذا هو الوجه في التفكيك بين بيع المضطر والمكره في الحكم بصحّة الأوّل وفساد الثاني.

وأمّا الأحكام المجعولة في الديات والحدود والقصاص والحج والجهاد ، فهي خارجة عن قاعدة لا ضرر بالتخصص لا بالتخصيص ، لأنّها من أوّل الأمر جعلت ضررية لمصالح فيها ، كما قال سبحانه وتعالى : «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ» (١) وحديث لا ضرر ناظر إلى العمومات والاطلاقات الدالة على التكاليف التي قد تكون ضررية وقد لا تكون ضررية ، ويقيدها بصورة عدم الضرر على المكلف ، فكل حكم جعل ضررياً بطبعه من أوّل الأمر لا يكون مشمولاً لحديث لا ضرر ، فلا يحتاج خروجه إلى التخصيص.

وأمّا الخمس فتشريعه لا يكون ضرراً على أحد ، لأنّ الشارع لم يعتبره مالكاً لمقدار الخمس ، حتّى يكون وجوب إخراجه ضرراً عليه ، بل اعتبره شريكاً مع السادة ، غاية الأمر أنّه يصدق عدم النفع أو قلّة النفع. وعدم النفع لا يكون ضرراً ، فمثله مثل الولد الذي مات أبوه وكان له أخ شريك معه في ميراث أبيه فانّه لا يصدق الضرر عليه. نعم ، في باب الزكاة يصدق الضرر لتعلّق الزكاة بما كان ملكاً له ، فانّه كان مالكاً للنصاب وبعد تمام الحول في زكاة الأنعام وزكاة النقدين يتعلّق الزكاة بملكه. وكذا الحال في زكاة الغلات فانّه

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٧٩

٦٢٦

مالك للزرع والثمر قبل تعلّق الزكاة ، فوجوب إخراجها ضرر عليه ، ولكنّه لا يكون مشمولاً لحديث لا ضرر ، لكونه مجعولاً بطبعه ضررياً من أوّل الأمر.

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ ما ذكر من الموارد تخصيصاً لقاعدة لا ضرر أمره دائر بين أن لا يكون فيه تخصيص أصلاً ، أو لا يلزم من التخصيص به تخصيص الأكثر ، فلا إشكال في التمسك بالقاعدة في غير الموارد المذكورة.

التنبيه الرابع

قد ذكرنا (١) أنّ دليل لا ضرر ناظر إلى العمومات والاطلاقات المثبتة للتكاليف ويقيّدها بصورة عدم الضرر ، إلاّأنّ النسبة بين دليل لا ضرر وبين كل واحد من الأدلة المثبتة للتكليف عموم من وجه ، فانّ مقتضى إطلاق دليل وجوب الوضوء مثلاً وجوبه حتّى في حال الضرر ، وإطلاق دليل لا ضرر ينفي وجوبه حال الضرر ، فالوضوء الضرري يكون مورد الاجتماع ، فيقع التعارض بينهما فيه ، فوقع الكلام بينهم في وجه تقديم دليل لا ضرر على الدليل المثبت للتكليف. وقد ذكروا للتقديم وجوهاً لا محصّل لها ، فلا نتعرّض لها وللكلام عليها فانّه بلا طائل.

والتحقيق في وجه التقديم : أنّ دليل لا ضرر حاكم على الأدلة المثبتة للتكاليف ، والدليل الحاكم يقدّم على الدليل المحكوم بلا ملاحظة النسبة بينهما وبلا ملاحظة الترجيحات الدلالية والسندية ، بل الدليل الحاكم بعد إحراز حجّيته يقدّم على المحكوم ، وإن كان أضعف منه دلالةً وسنداً ، فلنا في المقام دعويان ، الاولى : صغرويّة ، وهي أنّ دليل لا ضرر حاكم على العمومات

__________________

(١) في التنبيه السابق

٦٢٧

والاطلاقات المثبتة للتكاليف. والثانية : كبروية ، وهي أنّ كل دليل حاكم يقدّم على المحكوم بلا ملاحظة النسبة والترجيح بينهما.

أمّا الدعوى الاولى : فبيانها أنّ كل دليلين يكون بينهما تنافٍ إن لم يكن أحدهما ناظراً إلى الآخر ، بل كان التنافي بينهما لعدم إمكان الجمع بين مدلوليهما للتضاد أو التناقض ، والأوّل كما في أكرم العلماء ولا تكرم الفساق ، والثاني كما في أكرم العلماء ولا يجب إكرام الفساق ، بالنسبة إلى مادة الاجتماع ، فهذا هو التعارض ، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى قاعدة التعارض من تقديم الأقوى منهما دلالةً أو سنداً ، أو التخيير أو التساقط على اختلاف الموارد والمسالك ، والتفصيل موكول إلى محلّه ، وهو بحث التعادل والترجيح. وأمّا إن كان أحدهما ناظراً إلى الآخر فهو حاكم عليه ومبيّن للمراد منه.

ثمّ إنّ النظر إلى الآخر قد يكون بمدلوله المطابقي وبمفاد أعني وأردت ، وقد يكون بمدلوله الالتزامي.

والأوّل : إمّا أن يكون ناظراً إلى ظهور الدليل الآخر وجهة دلالته على المراد الجدي. وهذا القسم من الحكومة في الروايات نادر جداً ، حتّى ادّعى المحقق النائيني قدس‌سره عدم وجوده (١). لكن الحق وجوده في الروايات مع الندرة ، ومن ذلك قوله عليه‌السلام : إنّما عنيت بذلك الشك بين الثلاث والأربع (٢) بعد ما سئل عن قوله عليه‌السلام «الفقيه لا يعيد الصلاة». وإمّا أن يكون ناظراً إلى جهة صدور الدليل الآخر ، كما إذا ورد دليل ظاهر في بيان الحكم الواقعي ، ثمّ ورد دليل آخر على أنّ الدليل الأوّل إنّما صدر عن تقية لا لبيان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٠٦ ، فوائد الاصول ٤ : ٧١٠

(٢) الوسائل ٨ : ١٨٨ و ٢١٥ / أبواب الخلل ب ١ ح ٥ وب ٩ ح ٣ وفيهما «إنّما ذلك في الثلاث والأربع»

٦٢٨

الحكم الواقعي ، وهذا القسم من الحكومة كثير في الروايات كما يظهر عند المراجعة.

والثاني : أي ما يكون ناظراً إلى الدليل الآخر بمدلوله الالتزامي تارةً يكون ناظراً إلى عقد الوضع إمّا بالاثبات والتوسعة كما في النبوي «الطواف بالبيت صلاة» (١) أو بالنفي والتضييق كما في قوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» (٢) ففي الأوّل يجري جميع أحكام الصلاة في الطواف ، وفي الثاني لا يجري حكم الرِّبا في الرِّبا بين الوالد والولد. واخرى يكون ناظراً إلى عقد الحمل ، كدليل لا حرج بالنسبة إلى الأدلة المثبتة للتكاليف. وكذا دليل لا ضرر بالنسبة إلى الأدلة المثبتة للتكاليف ، فانّ دليل لا ضرر لا يكون ناظراً إلى عقد الوضع ، وأنّ الوضوء الضرري مثلاً ليس بوضوء ، بل ناظر إلى عقد الحمل ، وأنّ الوضوء الضرري ليس بواجب. وقد ظهر بما ذكرناه أنّ الدليل الحاكم من حيث كونه ناظراً إلى الدليل المحكوم ومفسّراً له يكون متأخراً عنه رتبة ، سواء كان من حيث الزمان متقدماً عليه أو متأخراً عنه.

هذه هي أقسام الحكومة ، والجامع بينها أنّ الدليل الحاكم الناظر إلى الدليل المحكوم هو الذي لو لم يكن الدليل المحكوم مجعولاً كان الحاكم لغواً ، فانّه منطبق على جميع الأقسام المذكورة فلاحظ.

وأمّا الدعوى الثانية : وهي أنّ كل حاكم يقدّم على المحكوم بلا ملاحظة النسبة والترجيح بينهما ، فبيانها : أنّ الدليل الحاكم إن كان ناظراً إلى عقد الوضع بالتوسعة أو التضييق ، فالوجه في تقديمه ظاهر ، لأنّ كل دليل مثبت للحكم لا يتكفل لبيان موضوعه ، فإذا ورد دليل كان مدلوله وجود الموضوع أو نفيه

__________________

(١) المستدرك ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢

(٢) تقدّم في ص ٦٠٩

٦٢٩

لايكون بينهما تنافٍ وتعارض أصلاً ، فانّ دليل حرمة الرِّبا مثلاً لا يكون متكفلاً لبيان تحقق الرِّبا ، بل مفاده حرمة الرِّبا على نحو القضيّة الحقيقية ، فاذا ورد في دليل آخر أنّه لا ربا بين الوالد والولد فلا منافاة بينهما ، فانّه ينفي ما لا يثبته الدليل الأوّل ، فيجب العمل بهما والحكم بحرمة الرِّبا ، وأ نّه لا ربا بين الوالد والولد.

وكذا الحال في التوسعة. ولا حاجة إلى إعادة الكلام.

وأمّا إن كان الدليل الحاكم ناظراً إلى جهة الصدور في الدليل المحكوم أو إلى عقد الحمل فيه ، فالوجه في تقديمه عليه أنّ حجّية الظهور وحجّية جهة الصدور ثابتتان بسيرة العقلاء ، فانّ بناء العقلاء قد استقرّ على كون الظاهر هو المراد الجدي ، وكون الداعي إلى التكلم هو بيان الحكم الواقعي ، ومورد هذا البناء وموضوعه هو الشك في المراد والشك في جهة الصدور ، وبعد ورود الدليل الدال على بيان المراد وجهة الصدور لا يبقى شكّ حتّى يعمل بالظهور أو جهة الصدور ، فيكون الدليل الحاكم مبيّناً للمراد من الدليل المحكوم ، ومبيّناً لجهة صدوره ، وبه يرتفع الشك ولم يبق مورد للعمل بأصالة الظهور أو بأصالة الجهة. وهذا هو السر في تقديم الحاكم على المحكوم ، من دون ملاحظة النسبة والترجيح بينهما بعد إحراز حجّية الحاكم. وهذا الكلام جارٍ في كل قرينة متصلة أو منفصلة مع ذيها فانّه تقدّم القرينة بعد إحراز قرينيتها على ظهور ذي القرينة وإن كان أقوى من ظهور القرينة.

التنبيه الخامس

أنّ لفظ الضرر المذكور في أدلة نفي الضرر موضوع للضرر الواقعي ، كما هو الحال في جميع الألفاظ ، ولهذا قلنا في محلّه إنّ مقتضى الأدلة ثبوت الأحكام للموضوعات الواقعية من دون تقييد بالعلم والجهل ، غاية الأمر أنّ الجاهل

٦٣٠

المستند في مخالفتها إلى الأمارة أو الأصل معذور غير مستحق للعقاب. وأمّا الأحكام فهي مشتركة بين العالم والجاهل (١) ، وعليه فيكون الميزان في رفع الحكم كونه ضررياً في الواقع ، سواء علم به المكلف أم لا. وقد استشكل بذلك في موردين :

الأوّل : تقييد الفقهاء خيار الغبن والعيب بما إذا جهل المغبون. وأمّا مع العلم بهما فلا يحكم بالخيار ، فيقال ما وجه هذا التقييد مع أنّ دليل لا ضرر ناظر إلى الضرر الواقعي ، بلا فرق بين العلم والجهل. ودعوى أنّه مع العلم هو أقدم على الضرر مدفوعة بأنّ إقدامه على الضرر غير مؤثر في لزوم البيع بعد كون الحكم الضرري منفياً في الشريعة ، وبعد كون اللزوم منفياً شرعاً لا فائدة في إقدامه على الضرر.

الثاني : تسالم الفقهاء على صحّة الطهارة المائية مع جهل المكلف بكونها ضررية ، مع أنّ مقتضى دليل لا ضرر عدم وجوبها حينئذ ، وكون الوظيفة هي الطهارة الترابية ، فيلزم الحكم ببطلان الطهارة المائية مع جهل المكلف بكونها ضررية ، ووجوب إعادة الصلاة الواقعة معها.

والجواب أمّا عن المورد الأوّل : فهو أنّ الاشكال فيه مبني على أنّ الدليل لثبوت خيار الغبن والعيب هو دليل نفي الضرر. وقد ذكرنا (٢) أنّ الدليل على ثبوت خيار الغبن تخلف الشرط الارتكازي ، باعتبار أنّ بناء العقلاء على التحفظ بالمالية عند تبديل الصور الشخصية ، فهذا شرط ضمني ارتكازي ، وبتخلّفه يثبت خيار تخلّف الشرط. وعليه فيكون الاقدام من المغبون مع علمه بالغبن

__________________

(١) تقدّم في ص ٣٠٧

(٢) في ص ٦٢٢

٦٣١

إسقاطاً للشرط المذكور فلا إشكال فيه. وأمّا خيار العيب فان كان الدليل عليه هو تخلّف الشرط الضمني ، بتقريب أنّ المعاملات العقلائية مبنية على أصالة السلامة في العوضين ، فإذا ظهر العيب كان له خيار تخلّف الشرط ، فيجري فيه الكلام السابق في خيار الغبن ولا حاجة إلى الاعادة. وإن كان الدليل عليه الأخبار الخاصّة (١) كما أنّ الأمر كذلك ، غاية الأمر أنّ الأخبار مشتملة على أمر آخر زائداً على الخيار وهو الأرش ، فهو مخيّر بين الفسخ والامضاء مع الأرش ، فالأمر أوضح لتقييد الخيار في الأخبار بصورة الجهل بالعيب.

وأمّا الجواب عن الاشكال في المورد الثاني : فذكر المحقق النائيني (٢) قدس‌سره أنّ مفاد حديث لا ضرر هو نفي الحكم الضرري في عالم التشريع.

والضرر الواقع في موارد الجهل لم ينشأ من الحكم الشرعي ليرفع بدليل لا ضرر ، وإنّما نشأ من جهل المكلف به خارجاً ، ومن ثمّ لو لم يكن الحكم ثابتاً في الواقع لوقع في الضرر أيضاً.

وفيه : أنّ الاعتبار في دليل نفي الضرر إنّما هو بكون الحكم بنفسه أو بمتعلقه ضررياً ، ولا ينظر إلى الضرر المتحقق في الخارج وأ نّه نشأ من أيّ سبب. ومن الظاهر أنّ الطهارة المائية مع كونها ضرريةً لو كانت واجبةً في الشريعة يصدق أنّ الحكم الضرري مجعول فيها من قبل الشارع ، وعليه فدليل نفي الضرر ينفي وجوبها.

والصحيح في الجواب أن يقال : إنّ دليل لا ضرر ورد في مقام الامتنان على الامّة الاسلامية ، فكل مورد يكون نفي الحكم فيه منافياً للامتنان لا يكون

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٢٩ / أبواب الخيار ب ١٦

(٢) منية الطالب ٣ : ٤١٠

٦٣٢

مشمولاً لدليل لا ضرر ، ومن المعلوم أنّ الحكم ببطلان الطهارة المائية الضررية الصادرة حال الجهل بكونها ضررية والأمر بالتيمم وباعادة العبادات الواقعة معها مخالف للامتنان ، فلا يشمله دليل لا ضرر ، بل الحكم بصحّة الطهارة المائية المذكورة وبصحّة العبادات الواقعة معها هو المطابق للامتنان.

ثمّ إنّ مجرد كون الوضوء الضرري مثلاً الصادر حال الجهل غير مشمول لدليل لا ضرر لا يكفي في الحكم بصحّته ، بل إثبات صحّته يحتاج إلى دليل من عموم أو إطلاق يشمله ، لأنّ عدم كونه مشمولاً لدليل لا ضرر عبارة عن عدم المانع من صحّته ، وعدم المانع لا يكفي في الحكم بالصحّة ، بل لا بدّ من إحراز المقتضي وشمول الأدلة ، وهذا يتوقف على أحد أمرين على سبيل منع الخلو ، الأوّل : أن لا يكون الاضرار بالنفس حراماً ما لم يبلغ حدّ التهلكة ، ولم يكن ممّا علم مبغوضيته في الشريعة المقدّسة كقطع بعض الأعضاء ونحوه. الثاني : أن لا يكون النهي المتعلق بالعنوان التوليدي سارياً إلى ما يتولد منه ، فانّ الاضرار بالنفس وإن فرض حرمته ، إلاّأنّ حرمته لا تسري بناءً على ذلك إلى الطهارة المائية التي يتولد منها الاضرار ، فلا مانع من الحكم بصحّتها وإن كان الاضرار المتولد منها حراماً. وأمّا إذا لم نقل بأحد الأمرين ، بأن قلنا بحرمة الاضرار بالنفس وبسراية الحرمة من الاضرار المسبّب من الطهارة المائية إلى السبب فتكون الطهارة المائية حينئذ حراماً ، وحرمتها مانعة عن اتصافها بالصحّة ، ولا يكون الجهل موجباً للتقرّب بما هو مبغوض واقعاً.

ولذا ذكرنا في بحث اجتماع الأمر والنهي أنّه بناءً على الامتناع وتقديم جانب النهي يحكم بفساد العبادة ولو في حال الجهل (١) وما ذكره الفقهاء من الحكم

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ : ٤٣٥ ، الدراسات ٢ : ١١٣

٦٣٣

بالصحّة في حال الجهل فهو إمّا مبني على جواز اجتماع الأمر والنهي ، فيكون المقام من باب التزاحم لا من باب التعارض ، ولا مانع من الحكم بصحّة أحد المتزاحمين في صورة عدم وصول الآخر إلى المكلف وجهله به (١) ، وإمّا ناشئ من الاشتباه في التطبيق والغفلة عن كون العمل مورداً لاجتماع الأمر والنهي (٢). ومن العجيب ما صدر عن المحقق النائيني قدس‌سره في رسالته العملية (٣) من الفتوى بصحّة الوضوء بماء مغصوب حال الجهل بالغصبية مع كونه ملتفتاً إلى كونه مورداً لاجتماع الأمر والنهي على ما تعرّض له في الاصول. والاجماع المدّعى في مفتاح الكرامة على صحّة الوضوء مع الجهل بالغصبية (٤) ممّا لا مجال للاعتماد عليه ، فانّه إجماع منقول معلوم المدرك.

وربّما يتوهّم في المقام : أنّه لا يمكن الحكم بصحّة الطهارة المائية ولو لم نقل بسراية الحرمة من المسبب إلى السبب ، إذ مع حرمة المسبب لا يمكن القول بوجوب السبب ، ولو لم نقل بحرمته لعدم إمكان اختلاف السبب والمسبب في الوجوب والحرمة ، بأن يكون السبب واجباً والمسبب حراماً ، فلا يمكن القول بوجوب الطهارة المائية الضررية مع حرمة الاضرار بالنفس.

ويدفعه : أنّ عدم إمكان اختلاف السبب والمسبب في الوجوب والحرمة ليس إلاّمن جهة استلزامه التكليف بما لا يطاق لعدم إمكان امتثال أحدهما إلاّ بمخالفة الآخر ، ولا مانع من أن يكون في السبب ملاك الوجوب ، وفي المسبب

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ : ٤٣٨ ـ ٤٣٩

(٢) ذهب إليه في حاشيته على أجود التقريرات ٢ : ١٦٤

(٣) العروة الوثقى (المحشّاة) ١ : ٤٠٥ المسألة ٤

(٤) مفتاح الكرامة ١ : ٣٠٣

٦٣٤

ملاك الحرمة ، غاية الأمر عدم فعلية كلا الحكمين ، لعدم قدرة المكلف على امتثالهما ، فيكون من باب التزاحم ، كما إذا توقف إنقاذ غريق على التصرف في ملك الغير ، فانّه يكون المسبب واجباً والسبب حراماً ـ عكس ما نحن فيه ـ ولا إشكال في تنجّز وجوب الانقاذ مع الجهل بحرمة التصرف حكماً أو موضوعاً ، كما لا إشكال في تنجّز حرمة التصرف مع الجهل بوجوب الانقاذ حكماً أو موضوعاً ، فكذلك الحال في المقام لا مانع من وجوب الطهارة المائية مع الجهل بالضرر.

وليس المقام من قبيل اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ليكون المورد من باب التعارض على القول بامتناع الاجتماع ، لأنّ التعارض على القول بامتناع الاجتماع إنّما هو فيما إذا لم يمكن الاجتماع في نفسه مع قطع النظر عن عدم قدرة المكلف على الامتثال ، وحينئذ فعلى القول بتقديم جانب الحرمة يكون العمل مبغوضاً في الواقع ، فلايمكن التقرّب به ، وبعد كونه غير مأمور به لا يمكن كشف وجود الملاك فيه كي يمكن القول بالصحّة لأجل وجود الملاك ، وإن لم يكن مأموراً به ، لأنّا لا نعلم وجود الملاك إلاّبالأمر المفقود على الفرض. والمقام ليس من هذا القبيل ، بل من باب التزاحم على التقريب المتقدم. فالصحيح أنّ الالتزام بأحد الأمرين المذكورين كافٍ في الحكم بصحّة الطهارة المائية مع الجهل بالضرر.

ولنقدّم الكلام في الأمر الثاني لكون البحث فيه مختصراً بالنسبة إلى الأمر الأوّل فنقول :

أمّا الكلام فيه من حيث الكُبرى : فقد تقدّم في بحث مقدّمة الواجب (١)

__________________

(١) الهداية في الاصول ٢ : ٧٧ ، الدراسات ١ : ٣٦١

٦٣٥

وملخّص ما ذكرناه هناك : أنّ العنوان التوليدي إن كان ينطبق على نفس ما يتولّد منه في نظر العرف ، فالحكم المتعلق بالعنوان التوليدي يتعلق بما يتولد منه ، لوحدة الوجود خارجاً. ولا عبرة بتعدد العنوان مع اتحاد الوجود خارجاً ، كالفعل الذي يتولّد منه الهتك مثلاً ، فانّ الهتك ينطبق على نفس هذا الفعل ، وهو فرد منه ، فلو كان الهتك حراماً تسري حرمته إلى الفعل لا محالة ، بل حرمته عين حرمة الفعل لاتحادهما خارجاً في نظر العرف.

وأمّا إن كان الفعل التوليدي مغايراً في الوجود مع ما يتولّد منه ، كالاحراق المتولد من الالقاء ، حيث إنّهما موجودان بوجودين ، ضرورة أنّ اللقاء مغاير للاحتراق وجوداً ، فايجاد اللقاء أي الالقاء مغاير لايجاد الاحتراق أي الاحراق ، لأنّ الايجاد والوجود متحدان ذاتاً ومختلفان اعتباراً ، فلا تسري حرمة الفعل التوليدي إلى ما يتولد منه ، والوجه فيه ظاهر بعد كونهما متغايرين من حيث الوجود.

وأمّا الكلام من حيث الصغرى : فهو أنّا قد ذكرنا في الدورة السابقة أنّ الضرر المتولد من الطهارة المائية من قبيل الأوّل ، ولكن التحقيق أنّه من قبيل الثاني ، لأنّ الضرر هو النقصان على ما ذكرناه سابقاً (١) ، كحدوث الحمى مثلاً ، وهو غير الطهارة المائية في الوجود ، وعليه فلا تسري حرمة الاضرار إلى الطهارة المائية ، وصحّ الحكم بصحّتها بلا احتياج إلى البحث عن الأمر الأوّل ، إلاّ أنّا نتكلّم فيه أيضاً تتميماً للبحث فنقول : ذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر أنّ الاضرار بالنفس كالاضرار بالغير محرّم بالأدلة العقلية والنقلية (٢). ولكن

__________________

(١) في ص ٦٠٥

(٢) رسائل فقهية : ١١٦

٦٣٦

التحقيق عدم ثبوت ذلك على إطلاقه ، أي في غير التهلكة وما هو مبغوض في الشريعة المقدّسة كقطع الأعضاء ونحوه ، فانّ العقل لا يرى محذوراً في إضرار الانسان بماله بأن يصرفه كيف يشاء بداعٍ من الدواعي العقلائية ما لم يبلغ حدّ الاسراف والتبذير ، ولا بنفسه بأن يتحمّل ما يضر ببدنه فيما إذا كان له غرض عقلائي ، بل جرت عليه سيرة العقلاء ، فانّهم يسافرون للتجارة مع تضررهم من الحرارة والبرودة بمقدار لو كان الحكم الشرعي موجباً لهذا المقدار من الضرر لكان الحكم المذكور مرفوعاً بقاعدة لا ضرر. وكذا النقل لم يدل على حرمة الاضرار بالنفس ، فانّ أقصى ما يمكن أن يستدل به لحرمة الاضرار بالنفس روايات نتكلّم فيها :

منها : الروايات الدالة على نفي الضرر والضرار. وقد عرفت الحال فيها ، فانّ الفقرة الاولى منها لا تدل على حرمة الاضرار بالغير فضلاً عن الاضرار بالنفس ، بل هي ناظرة إلى نفي الأحكام الضررية في عالم التشريع. والفقرة الثانية منها تدل على حرمة الاضرار بالغير بالأولوية على ما عرفت وجهها ولا تدل على حرمة الاضرار بالنفس بوجه كما تقدّم (١).

ومنها : ما رواه الكليني قدس‌سره في الكافي عن أبي عبدالله عليه‌السلام في حديث طويل من قوله عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى لم يحرّم ذلك على عباده وأحلّ لهم ما سواه رغبةً منه فيما حرّم عليهم ولا زهداً فيما أحلّ لهم ، ولكنّه خلق الخلق فعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم ، فأحلّه لهم وأباحه تفضّلاً منه عليهم به لمصلحتهم ، وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم ـ إلى أن قال

__________________

(١) في ص ٦٢٠

٦٣٧

(عليه‌السلام) ـ أمّا الميتة فانّه لا يُدمنها أحد إلاّضعف بدنه ونحل جسمه وذهبت قوّته ...» (١) فربّما يستدل بها لحرمة الاضرار بالنفس ، لكون الظاهر منها أنّ علّة حرمة المحرمات هي إضرارها ، فالحرمة تدور مداره.

ولكن التأمّل فيها يشهد بعدم دلالتها على حرمة الاضرار بالنفس ، فانّ المستفاد منها أنّ الحكمة في تحريم جملة من الأشياء كونها مضرةً بنوعها ، لا انّ الضرر موضوع للتحريم. والذي يدلّنا على هذا امور :

الأوّل : أنّ الضرر لو كان علّةً للتحريم يستفاد عدم حرمة الميتة من نفس هذه الرواية ، لأنّ المذكور فيها ترتب الضرر على إدمانها ، فلزم عدم حرمة الميتة من غير الادمان ، لأنّ العلّة المنصوصة كما توجب توسعة الحكم توجب تضييقه أيضاً ، فإذا ورد أنّ الخمر حرام لكونه مسكراً ، فالتعليل المذكور كما يدل على حرمة غير الخمر من المسكرات ، يدل على عدم حرمة الخمر إن لم يكن فيه سكر. وهذا من حيث القاعدة مع قطع النظر عن النص الخاص الدال على حرمة الخمر قليله وكثيره.

الثاني : أنّه لو كان الضرر علّةً للتحريم كانت الحرمة دائرة مدار الضرر ، فاذا انتفى الضرر في مورد انتفت الحرمة ، ولازم ذلك أن لا يحرم قليل من الميتة مثلاً بمقدار نقطع بعدم ترتب الضرر عليه ، مع أنّ ذلك خلاف الضرورة من الدين.

الثالث : أنّا نقطع بعدم كون الميتة بجميع أقسامها مضرّة للبدن ، فاذا ذبح حيوان إلى غير جهة القبلة ، فهل يحتمل أن يكون أكله مضرّاً بالبدن مع التعمّد في ذبحه إلى غير جهة القبلة ، وغير مضرّ مع عدم التعمد في ذلك ، أو يحتمل أن يكون مضرّاً في حال التمكن من الاستقبال وغير مضرّ في حال العجز عنه.

__________________

(١) الكافي ٦ : ٢٤٢ / ١ ، الوسائل ٢٤ : ٩٩ / أبواب الأطعمة المحرمة ب ١ ح ١

٦٣٨

الرابع : ما ورد في الروايات من ترتب الضرر على أكل جملة من الأشياء ، كتناول الجبن في النهار وإدمان أكل السمك وأكل التفاح الحامض إلى غير ذلك ممّا ورد في الأطعمة والأشربة ، فراجع أبواب الأطعمة والأشربة من الوسائل ، مع أنّه لا خلاف ولا إشكال في جواز أكلها.

ومن الروايات التي يمكن أن يستدل بها للمقام ما رواه في الوسائل في باب الأطعمة والأشربة عن تحف العقول (١) ، عن جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، بعد تقسيم ما أخرجته الأرض إلى ثلاثة أصناف ، من قوله عليه‌السلام : «فكل شيء من هذه الأشياء فيه غذاء للانسان ومنفعة وقوّة ، فحلال أكله ، وما كان منها فيه المضرة فحرام أكله إلاّفي حال التداوي ...» وفي باب الأطعمة والأشربة من المستدرك عن دعائم الاسلام مثله (٢) ، وفي المستدرك أيضاً عن فقه الرضا عليه‌السلام قريب منه مع الاختلاف في العبارة (٣).

والجواب عنها : أنّ ظاهرها تقسيم الحبوب والثمار والبقول إلى قسمين ، فما كان منها مضرّاً للانسان بنوعه فهو حرام إلاّفي حال التداوي ، وما كان منها نافعاً للانسان بنوعه فهو حلال ، أي أنّ الحكمة في حرمة بعض الأشياء هي كونه مضرّاً بحسب النوع ، والحكمة في حلية بعض الأشياء هي كونه ذا منفعة ومصلحة نوعية ، فلا دلالة لها على كون الحرمة دائرةً مدار الضرر. هذا مضافاً إلى ضعف الروايات المذكورة من حيث السند ، فانّا قد تعرّضنا في بحث

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٨٤ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٤٢ ح ١ ، تحف العقول : ٣٣٧

(٢) المستدرك ١٦ : ٣٦١ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٣٢ ح ١ ، دعائم الاسلام ٢ : ١٢٢ / ٤١٨

(٣) المستدرك ١٦ : ٣٣٣ / أبواب الأطعمة المباحة ب ١ ح ٢ ، فقه الرضا : ٣٤

٦٣٩

المكاسب (١) لعدم صحّة الاعتماد على روايات كتاب تحف العقول وروايات دعائم الاسلام. وأمّا فقه الرضا عليه‌السلام فلم يثبت كون ما فيه رواية فضلاً عن صحّة سنده ، ويحتمل كونه كتاب فتوى كما يظهر عند المراجعة.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام : عدم حرمة الاضرار بالنفس ، وصحّة ما ذهب إليه المشهور من الحكم بصحّة الطهارة المائية مع كون المكلف جاهلاً بكونها موجبةً للضرر. هذا كلّه فيما إذا كان المكلف جاهلاً بالضرر.

وأمّا مع العلم به فهل يحكم بصحّة الطهارة المائية أم بفسادها؟ أفتى السيّد قدس‌سره في العروة بالفساد ، وفصّل بين العلم بالضرر والعلم بالحرج ، فحكم بالفساد في الأوّل وبالصحّة في الثاني (٢). والمحشّون كذلك فيما رأيناه من الحواشي ، إلاّ المحقق النائيني (٣) قدس‌سره فاختار عدم الصحّة في المقامين ، وسنذكر الوجه لما ذكره والكلام فيه. فالأقوال في المسألة ثلاثة :

الأوّل : هو الحكم بصحّة الطهارة المائية مع العلم بالضرر والعلم بالحرج.

الثاني : هو الحكم بالفساد في المقامين كما اختاره المحقق النائيني قدس‌سره.

الثالث : هو التفصيل بين العلم بالضرر فيحكم بالفساد ، وبين العلم بالحرج فيحكم بالصحّة ، كما اختاره في العروة ، ولعلّه المشهور بين المتأخرين.

والأقوى هو القول الأوّل والحكم بالصحّة في المقامين ، لكن في خصوص الغسل والوضوء دون غيرهما من العبادات وأجزائها ، فانّه يحكم بالفساد في غير الوضوء والغسل ، مع العلم بالضرر والعلم بالحرج ، على ما سنشير إليه

__________________

(١) مصباح الفقاهة ١ : ٥ ، ١٢ ، ١٨

(٢) العروة الوثقى ١ : ٣٣٧ المسألة ١٨ [١٠٧٦]

(٣) العروة الوثقى (المحشّاة) ٢ : ١٧١ المسألة ١٨

٦٤٠