موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

ماء ليمنع به فضل كلاء» (١). وما رواه عقبة بن خالد أيضاً عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال عليه‌السلام : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار» (٢) وكذا رواها القاضي نعمان المصري في كتاب دعائم الاسلام (٣).

الثاني : ما زيد فيه على الجملتين كلمة «على مؤمن» كما في حديث ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في قضيّة سمرة بن جندب (٤).

الثالث : ما زيد فيه على الجملتين كلمة «في الاسلام» ، كما في رواية الفقيه في باب ميراث أهل الملل (٥) ، وقد حكيت بهذه الزيادة عن تذكرة العلاّمة قدس‌سره مرسلة (٦) ، وكذلك عن كتاب مجمع البحرين (٧) هذا كلّه من طرق الخاصّة. وأمّا العامّة فرووها بطرق متعددة كلّها بلا زيادة (٨) ، إلاّرواية ابن

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٢٠ / كتاب إحياء الموات ب ٧ ح ٢

(٢) الوسائل ٢٥ : ٣٩٩ / كتاب الشفعة ب ٥ ح ١

(٣) رواه في الدعائم بلفظ «لا ضرر ولا إضرار» ورواه عنه في المستدرك بلفظ «لا ضرر ولا ضرار». دعائم الاسلام ٢ : ٤٩٩ / ح ١٧٨١ و ٥٠٤ / ح ١٨٠٥ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ١١٨ / كتاب إحياء الموات ب ٩ ح ١ و ٢

(٤) الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ / كتاب إحياء الموات ب ١٢ ح ٤

(٥) الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ح ٧٧٧ وفيه : لا ضرر ولا إضرار ، الوسائل ٢٦ : ١٤ / أبواب موانع الارث ب ١ ح ١٠

(٦) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٢٢ / خيار الغبن

(٧) مجمع البحرين ٣ : ٣٧٣ مادّة ضرر

(٨) سنن ابن ماجه ٢ : ٧٨٤ / ح ٢٣٤٠ و ٢٣٤١ ، سنن الدارقطني ٤ : ٢٢٧ / ح ٨٣ ـ ٨٥ ، مسند أحمد ٦ : ٤٤٦ و ٤٤٧ / ح ٢٢٢٧٢

٦٠١

الأثير في النهاية ، ففيها زيادة لفظ «في الاسلام» (١).

ثمّ اعلم أنّه لا معارضة بين الروايات من جهة الزيادة والنقيصة ، لصدور هاتين الجملتين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في موارد متعددة فيحتمل صدورها بوجوه مختلفة ، نعم قد اختلفت الروايات في قصّة سمرة بن جندب مع كونها قصّة واحدة ، فلا محالة تكون الروايات الواردة في خصوص هذه القصّة متعارضة ، فقد رويت تارةً بلا ذكر الجملتين كما في رواية الفقيه عن الصيقل الحذّاء (٢) ، واخرى مع ذكرهما بلا زيادة شيء آخر ، كما في رواية ابن بكير المتقدمة عن زرارة (٣) وثالثةً بزيادة كلمة «على مؤمن» كما في رواية ابن مسكان المتقدمة عن زرارة (٤) والترجيح لرواية ابن مسكان المشتملة على الزيادة ، لأنّ احتمال الغفلة في الزيادة أبعد من احتمالها في النقيصة ، فيؤخذ بالزيادة.

فتلخّص ممّا ذكرناه : أنّ هاتين الجملتين قد وصلت إلينا بالحجّة بلا زيادة ، ومع زيادة «على مؤمن» كما في رواية ابن مسكان ، ومع زيادة «في الاسلام» كما في رواية الفقيه ، والقول بأنّ رواية الفقيه مرسلة لم يعلم انجبارها ، لاحتمال أن يكون عمل الأصحاب بغيرها من الروايات ، فلم تثبت كلمة «في الاسلام» مدفوع بأنّ الارسال إنّما يكون فيما إذا كان التعبير بلفظ روي ونحوه. وأمّا إذا كان بلفظ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مثلاً كما فيما نحن فيه ، فالظاهر كون

__________________

(١) النهاية لابن أثير ٣ : ٨١ مادّة ضرر

(٢) الفقيه ٣ : ٧٧ / ح ٢٠٨ ، الوسائل ٢٥ : ٤٢٧ / كتاب إحياء الموات ب ١٢ ح ١ [ومن الظاهر أنّ الصيقل الحذاء من سهو القلم فانّ الصحيح الحسن الصيقل عن أبي عبيدة الحذّاء]

(٣) في ص ٦٠٠ الهامش (٤)

(٤) في ص ٦٠١ الهامش (٤)

٦٠٢

الرواية ثابتة عند الراوي ، وإلاّ فلا يجوز له الاخبار البتي بقوله : قال. فتعبير الصدوق قدس‌سره في الفقيه بقوله : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يدل على أنّه ثبت عنده صدور هذا القول منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بطريق صحيح ، وإلاّ لم يعبّر بمثل هذا التعبير ، فيعامل مع هذا النحو من المراسيل معاملة المسانيد.

هذا ما ذكرناه في الدورة السابقة ، لكنّ الانصاف عدم حجّية مثل هذه المرسلة أيضاً ، لأنّ غاية ما يدل عليه هذا النحو من التعبير صحّة الخبر عند الصدوق. وأمّا صحّته عندنا فلم تثبت ، لاختلاف المباني في حجّية الخبر ، فانّ بعضهم قائل بحجّية خصوص خبر العادل مع ما في معنى العدالة من الاختلاف ، حتّى قال بعضهم العدالة هي شهادة أنّ لا إله إلاّالله وأنّ محمّداً رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عدم ظهور الفسق. وبعضهم قائل بحجّية خبر الثقة ، كما هو التحقيق. وبعضهم لا يرى جواز العمل إلاّبالخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة العلمية ، فمع وجود هذا الاختلاف في حجّية الخبر كيف يكون اعتماد أحد على خبر مستلزماً لحجّيته عند غيره.

وبالجملة : كون الخبر حجّةً عند الصدوق قدس‌سره لا يثبت حجّيته عندنا ، ولذا لا يمكن الاعتماد على جميع الروايات الموجودة في الفقيه ، بل لا بدّ من النظر في حال الرواة لتحصيل الاطمئنان بوثاقتهم ، مع أنّ الصدوق قدس‌سره ذكر في أوّل كتاب الفقيه : إنِّي لا أذكر في هذا الكتاب إلاّما هو حجّة عندي وكذا ذكر الكليني قدس‌سره في كتاب الكافي مثل ما ذكره الصدوق قدس‌سره في الفقيه ، ومن الواضح أنّه لا يمكننا العمل بجميع ما في الكافي ، بل لا بدّ من الفحص وتحصيل الاطمئنان بوثاقة الراوي.

فتحصّل : أنّ زيادة لفظ «في الاسلام» لم تثبت لنا بطريق معتبر. نعم ،

٦٠٣

الزيادة المذكورة موجودة في رواية ابن الأثير في النهاية (١) ، ولكنّه من العامّة ، فلا يصحّ الاعتماد عليها كما هو واضح.

ثمّ إنّ ذكر الجملتين في إحدى روايتي عقبة بن خالد (٢) منضماً إلى قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة ، وفي الاخرى منضماً إلى نهيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل البادية عن منع فضل الماء ، وإن أمكن في مقام الثبوت أن يكون من باب الجمع في المروي ، بأن كان ذكرهما منضماً إلى الحكم بالشفعة وإلى النهي عن منع فضل الماء في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن يكون من باب الجمع في الرواية ، بأن كانت الجملتان في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مورد ، وحكمه بالشفعة في مورد آخر ، ونهيه عن منع فضل الماء في مورد ثالث ، وجمعها الراوي عند النقل كما هو دأبهم في نقل الروايات ، وكثيراً ما يتّفق في نقل الفتاوى أيضاً ، إلاّأنّ الظاهر هو الثاني ، فانّ مقام الاثبات لا يساعد الأوّل ، والشاهد عليه في الرواية الاولى أمران :

الأوّل : أنّ بين موارد ثبوت حقّ الشفعة وتضرر الشريك بالبيع عموماً من وجه ، فربّما يتضرر الشريك ولا يكون له حقّ الشفعة ، كما إذا كان الشركاء أكثر من اثنين ، وقد يثبت حقّ الشفعة بلا ترتب ضرر على أحد الشريكين ببيع الآخر ، كما إذا كان الشريك البائع مؤذياً وكان المشتري ورعاً بارّاً محسناً إلى شريكه ، وربّما يجتمعان كما هو واضح ، فإذن لا يصح إدراج الحكم بثبوت حقّ الشفعة تحت كبرى قاعدة لا ضرر.

__________________

(١) النهاية لابن أثير ٣ : ٨١ مادّة ضرر

(٢) تقدّمتا في ص ٦٠١ الهامش (١) و (٢)

٦٠٤

الثاني : أنّ مفاد لا ضرر ـ على ما سيجيء بيانه (١) ـ إنّما هو نفي الحكم الضرري أو نفي الموضوع الضرري ، بأن يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على اختلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية قدس‌سرهما والضرر في مورد ثبوت حقّ الشفعة إنّما يأتي من قبل بيع الشريك حصّته ، فلو كان ذلك مورداً لقاعدة لا ضرر لزم الحكم ببطلان البيع ، ولو كان الضرر ناشئاً من لزوم البيع لزم الحكم بثبوت الخيار ، بأن يردّ المبيع إلى البائع. وأمّا جعل حقّ الشفعة لجبران الضرر وتداركه ، بأن ينقل المبيع إلى ملكه فليس مستفاداً من أدلة نفي الضرر ، فانّها لا تدل على جعل حكم يتدارك به الضرر ، غايتها نفي الحكم الضرري على ما سيجيء بيانه قريباً إن شاء الله تعالى.

وأمّا الرواية الثانية : فالشاهد فيها أيضاً أمران : الأوّل : أنّ الضرر لا ينطبق على منع المالك فضل ماله عن الغير ، إذ من الواضح أنّ منع المالك غيره عن الانتفاع بماله لا يعدّ ضرراً على الغير ، غايته عدم الانتفاع به. وسيجيء (٢) أنّ عدم الانتفاع لا يعدّ ضرراً. الثاني : أنّ النهي في هذا المورد تنزيهي قطعاً ، لعدم حرمة منع فضل المال عن الغير بالضرورة ، فلا يندرج تحت كبرى قاعدة لا ضرر بجميع معانيها.

الجهة الثانية : في فقه الحديث ومعناه ، إنّ في هاتين الجملتين ثلاث كلمات : ضرر ، وضرار ، وكلمة لا ، فلنشرح كل واحدة ليعلم المراد التركيبي منها :

أمّا الضرر : فهو اسم مصدر من ضرّ يضرّ ضرّاً ، ويقابله المنفعة لا النفع كما في الكفاية (٣) ، لأنّ النفع مصدر لا اسم مصدر ، ومقابله الضر لا الضرر ، كما في قوله تعالى : «لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» (٤) والفرق بين المصدر

__________________

(١) في ص ٦١١ و ٦١٥

(٢) في الجهة الثانية

(٣) كفاية الاصول : ٣٨١

(٤) الرعد ١٣ : ١٦

٦٠٥

واسمه واضح ، فانّ معنى المصدر نفس الفعل الصادر من الفاعل ، ومعنى اسم المصدر هو الحاصل من المعنى المصدري. ومادّة الضرر تستعمل متعدية إذا كانت مجردة ، فيقال : ضرّه ويضرّه. وأمّا إن كانت من باب الإفعال فتستعمل متعدية بالباء ، فيقال : أضرّ به ولا يقال أضرّه.

وأمّا معنى الضرر فهو النقص في المال ، كما إذا خسر التاجر في تجارته ، أو في العرض كما إذا حدث شيء أوجب هتكه مثلاً ، أو في البدن بالكيفية كما إذا أكل شيئاً فصار مريضاً ، أو بالكمّية كما إذا قطع يده مثلاً. والمنفعة هي الزيادة من حيث المال كما إذا ربح التاجر في تجارته ، أو من حيث العرض كما إذا حدث شيء أوجب تعظيمه ، أو من حيث البدن كما إذا أكل المريض دواءً فعوفي منه.

وبينهما واسطة ، كما إذا لم يربح التاجر في تجارته ولم يخسر ، فلم يتحقق منفعة ولا ضرر. فظهر أنّ التقابل بينهما من تقابل التضاد لا من تقابل العدم والملكة على ما في الكفاية (١).

وأمّا الضرار : فيمكن أن يكون مصدراً للفعل المجرد كالقيام ، ويمكن أن يكون مصدر باب المفاعلة ، لكن الظاهر هو الثاني ، إذ لو كان مصدر المجرد لزم التكرار في الكلام بحسب المعنى بلا موجب ، ويكون بمنزلة قوله : لا ضرر ولا ضرر. مع انّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّك رجل مضار» (٢) في قصّة سمرة ابن جندب يؤيّد كونه مصدر باب المفاعلة.

ثمّ إنّ المعروف بين الصرفيين والنحويين بل المسلّم عندهم أنّ باب المفاعلة فعل للاثنين ، لكنّ التتبع في موارد الاستعمالات يشهد بخلاف ذلك ، وأوّل من

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٨١

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ / كتاب إحياء الموات ب ١٢ ح ٤

٦٠٦

تنبّه لهذا الاشتباه المسلّم هو بعض الأعاظم من مشايخنا المحققين قدس‌سرهم (١) والذي يشهد به التتبع أنّ هيئة المفاعلة وضعت لقيام الفاعل مقام إيجاد المادة وكون الفاعل بصدد إيجاد الفعل. وأقوى شاهد على ذلك هي الآيات الشريفة القرآنية : فمنها قوله تعالى : «يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ» (٢) فذكر سبحانه وتعالى أنّ المنافقين بصدد إيجاد الخدعة ، ولكن لا تقع خدعتهم إلاّعلى أنفسهم ، ومن ثمّ عبّر في الجملة الاولى بهيئة المفاعلة ، لأنّ الله تعالى لا يكون مخدوعاً بخدعتهم ، لأنّ المخدوع ملزوم للجهل ، وتعالى الله عنه علواً كبيراً. وعبّر في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرد ، لوقوع ضرر خدعتهم على أنفسهم لا محالة.

ومنها قوله تعالى : «إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ...» (٣) ووجه الدلالة واضح لا حاجة إلى البيان. والشواهد على ما ذكرناه في هيئة المفاعلة كثيرة في الآيات الشريفة جداً ، ومن تتبع يجد صدق ما ذكرناه ، فانّ بعض مشايخنا المتقدِّم ذكره قد تتبع لاستفادة هذا المطلب من أوّل القرآن إلى آخره. هذا ما يرجع إلى معنى لفظي الضرر والضرار.

وأمّا كلمة لا الداخلة عليهما في الجملتين : فهي لنفي الجنس ، وتوضيح المراد منها وبيان مفادها في المقام يتوقف على ذكر موارد استعمال الجمل المنفية بها في

__________________

(١) وهو المرحوم العلاّمة المحقق الشيخ محمّد حسين الاصفهاني الكمپاني (طاب ثراه). راجع نهاية الدراية ٤ : ٤٣٧

(٢) البقرة ٢ : ٩

(٣) التوبة ٩ : ١١١

٦٠٧

الأحكام الشرعية ، وفي مقام التشريع ، وهي على أقسام :

فمنها : ما تكون الجملة مستعملة في مقام الاخبار عن عدم تحقق شيء كنايةً عن مبغوضيته فيكون الكلام نفياً اريد به النهي ، والسر في صحّة هذا الاستعمال هو ما ذكرناه في مبحث الأوامر (١) من أنّ الاخبار عن عدم شيء كالاخبار عن وجوده ، فكما صحّ الاخبار عن وجود شيء في مقام الأمر به ، بمعنى أنّ المؤمن الممتثل يفعل كذا ، كقول الفقهاء يعيد الصلاة أو أعاد الصلاة ، كذلك صحّ الاخبار عن عدم وجود شيء في مقام النهي عنه بالعناية المذكورة أي بمعنى أنّ المؤمن لا يفعل كذا. وقد وقع هذا الاستعمال في الآيات والروايات.

أمّا الآيات فكقوله تعالى : «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ» (٢). وأمّا الروايات فكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا غش بين المسلمين» (٣).

فظهر بما ذكرناه أنّه لا وجه لانكار صاحب الكفاية قدس‌سره تعاهد هذا النحو من الاستعمال للتركيب المشتمل على كلمة «لا» التي لنفي الجنس (٤).

ومنها : ما تكون الجملة فيه مستعملة أيضاً في مقام الاخبار عن عدم تحقق شيء في الخارج ، لكن لا بمعنى عدم التحقق مطلقاً ، بل بمعنى عدم وجود الطبيعة في ضمن فرد خاص أو حصّة خاصّة ، بمعنى أنّ الطبيعة غير منطبقة على هذا الفرد أو على هذه الحصّة. والمقصود نفي الحكم الثابت للطبيعة عن

__________________

(١) لاحظ محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٨٣

(٢) البقرة ٢ : ١٩٧

(٣) كنز العمال ٤ : ٦٠ و ١٥٨ / ح ٩٥١١ و ٩٩٧٠

(٤) كفاية الاصول : ٣٨٢

٦٠٨

الفرد أو عن الحصّة ، كقوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا غيبة لمن ألقى جلباب الحياء» (٢) وقوله عليه‌السلام : «لا سهو للإمام مع حفظ من خلفه» (٣) ، فانّ المقصود نفي حرمة الرِّبا بين الوالد والولد ، ونفي حرمة الغيبة في المورد المذكور ونفي حكم الشك مع حفظ المأموم ، فانّ المراد من السهو في هذه الرواية وغيرها هو الشك على ما ذكر في محلّه (٤). وهذا هو الذي يعبّر عنه بنفي الحكم بلسان نفي الموضوع. وظهر أنّه لا بدّ في هذا الاستعمال من ثبوت حكم إلزامي أو غيره ، تكليفي أو وضعي في الشريعة المقدّسة لنفس الطبيعة ، ليكون هذا الدليل نافياً له عن الفرد أو عن الحصّة بلسان نفي الموضوع. هذا فيما إذا كان النفي حقيقياً ، وأمّا إذا كان النفي ادّعائياً فلا يترتب عليه إلاّنفي الآثار المرغوبة المعبّر عنه بنفي الكمال ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا صلاة لجار المسجد إلاّفي مسجده» (٥).

ومنها : ما تكون الجملة فيه مستعملةً في نفي شيء في الشريعة المقدّسة الاسلامية ، فتارةً تكون مستعملة في نفي موضوع من الموضوعات في الشريعة

__________________

(١) لم نجد هذا النص في مصادر الحديث المتداولة والموجود فيها : «ليس بين الرجل وولده رِبا». الوسائل ١٨ : ١٣٥ / أبواب الرِّبا ب ٧ ح ١ ، ٣

(٢) مستدرك الوسائل ٨ : ٤٦١ / أبواب أحكام العشرة ب ٩٣ ح ٤. وفيه : «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له»

(٣) لم نجد هذا النص في مصادر الحديث المتداولة والموجود فيها : «ليس على الإمام سهو إذا حفظ عليه من خلفه» الوسائل ٨ : ٢٤١ / أبواب الخلل ب ٢٤ ح ٨

(٤) ذكر في موارد منها : شرح العروة الوثقى ١٩ : ٤٥

(٥) الوسائل ٥ : ١٩٤ / أبواب أحكام المساجد ب ٢ ح ١

٦٠٩

المقدّسة فيستفاد منه نفي الحكم الثابت له في الشرائع السابقة أو في العرف كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا رهبانية في الاسلام» (١) فانّ الرهبانية كانت مشروعة في الامم السابقة ، فنفيها في الاسلام كناية عن نفي تشريعها. وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا مناجشة في الاسلام» (٢) فانّ الازدياد في ثمن السلعة من غير إرادة شرائها كان متعارفاً عند العرف فنفاه الشارع. والمقصود نفي تشريعها ، ومن هذا الباب قوله عليه‌السلام : «لا قياس في الدين» (٣) فانّ حجّية القياس كانت مرتكزة عند العامّة فنفاها بنفيه. وبالجملة : الحكم المنفي في هذا القسم هو ما كان ثابتاً للموضوع في الشرائع السابقة أو في سيرة العرف ، بلا فرق بين أن يكون إلزامياً أو غير إلزامي ، تكليفياً أو وضعياً.

واخرى تكون الجملة مستعملةً في نفي نفس الحكم الشرعي ابتداءً ، كما في قوله تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (٤) فانّ ثبوت الحرج في الشريعة إنّما هو بجعل حكم حرجي ، فنفيه في الشريعة إنّما هو بعدم جعل حكم يلزم من امتثاله الحرج على المكلف.

إذا عرفت ما ذكرناه من موارد استعمال كلمة «لا» النافية للجنس ، فلنرجع إلى استظهار المراد من الحديث الشريف ، وما يستفاد منها بحسب خصوصية

__________________

(١) المستدرك ١٤ : ١٥٥ / أبواب مقدّمات النكاح ب ٢ ح ٢

(٢) كنز العمال ٤ : ٣٨٣ / ح ١١٠٢٥

(٣) لم نجد هذا النص في مصادر الحديث المتداولة والموجود فيها : «لا رأي في الدين» و «ليس في دين الله قياس» ونحوهما ، راجع الوسائل ٢٧ : ٣٥ / أبواب صفات القاضي ب ٦ ح ٣٤ و ٣٧

(٤) الحج ٢٢ : ٧٨

٦١٠

المقام ، فقد ذكر له احتمالات أربعة :

الأوّل : أن يكون الكلام نفياً اريد به النهي بمنزلة قوله تعالى : «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ» على ما تقدّم بيانه (١). وعلى هذا فمفاد الجملتين حرمة الاضرار بالغير ، وحرمة القيام مقام الاضرار. واختار هذا الاحتمال شيخنا الشريعة الاصفهاني قدس‌سره (٢) وأصرّ عليه.

وهذا الاحتمال وإن كان ممكناً في نفسه ، إلاّ أنّه لا يمكن الالتزام به في المقام.

أمّا بناءً على اشتمال الرواية على كلمة «في الاسلام» كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير (٣) فظاهر ، لأنّ هذا القيد كاشف عن أنّ المراد هو النفي في مقام التشريع ، لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر. وأمّا بناءً على عدم ثبوت اشتمالها عليها كما هو الصحيح لكون رواية الفقيه مرسلةً غير منجبرة ، ورواية ابن الأثير للعامّة ، فلأنّ حمل النفي على النهي يتوقف على وجود قرينة صارفة عن ظهور الجملة في كونها خبرية كما هي ثابتة في قوله تعالى : «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ» فانّ العلم بوجود هذه الامور في الخارج مع العلم بعدم جواز الكذب على الله (سبحانه وتعالى) قرينة قطعية على إرادة النهي. وأمّا المقام فلا موجب لرفع اليد عن الظهور وحمل النفي على النهي ، لامكان حمل القضيّة على الخبرية على ما سنذكره قريباً (٤) إن شاء الله تعالى.

الثاني : أن يكون المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على ما تقدّم

__________________

(١) في ص ٦٠٨

(٢) قاعدة لا ضرر : ٢٥

(٣) راجع ص ٦٠٢

(٤) في ص ٦١٥

٦١١

بيانه (١) ، كما في قوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» (٢) ، فانّ الرِّبا بمعنى الزيادة موجود بينهما ، إنّما المقصود نفي الحرمة. وعليه فيكون مفاد الجملتين أنّ الأحكام الثابتة لموضوعاتها ـ حال عدم الضرر ـ منفية عنها إذا كانت تلك الموضوعات ضررية ، فانّ الوضوء إذا كان ضررياً ينفى عنه الوجوب.

واختار هذا الاحتمال صاحب الكفاية قدس‌سره (٣).

وهذا الاحتمال أيضاً ممّا لا يمكن الالتزام به في المقام ، وإن كان الاستعمال المذكور صحيحاً في نفسه ، كما ذكرناه في الأمثلة المتقدمة ، وذلك لأنّ المنفي في المقام هو عنوان الضرر ، والضرر ليس عنواناً للفعل الموجب للضرر ، بل مسبب عنه ومترتب عليه ، فلو كان النفي نفياً للحكم بلسان نفي موضوعه ، لزم أن يكون المنفي في المقام الحكم الثابت لنفس الضرر ، لا الحكم المترتب على الفعل الضرري ، فيلزم نفي حرمة الاضرار بالغير بلسان نفي الاضرار ، وهو خلاف المقصود ، فانّ المقصود حرمة الاضرار بالغير.

هذا مضافاً إلى أنّ الضرر بالنسبة إلى الحكم المترتب عليه موضوع ، فهو مقتضٍ له ، فكيف يعقل أن يكون مانعاً عنه. نعم ، لو كان المنفي في المقام هو الفعل الضرري أمكن القول بأنّ المراد نفي حكم هذا الفعل بلسان نفي الموضوع كالوضوء الضرري مثلاً ، فما هو المنفي في المقام لا يمكن الالتزام بنفي حكمه بلسان نفي الموضوع ، وما يمكن الالتزام بنفي حكمه بلسان نفي الموضوع لا يكون منفياً في المقام.

__________________

(١) في ص ٦٠٨ ـ ٦٠٩

(٢) تقدّم في ص ٦٠٩

(٣) كفاية الاصول : ٣٨١

٦١٢

وبالجملة : نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنّما يكون فيما إذا كان دليل بعمومه أو إطلاقه شاملاً لمورد الضرر ، ليكون دليل النفي ناظراً إلى نفي شموله لمورد الضرر بلسان نفي انطباق الموضوع عليه. وأمّا إذا كان المنفي عنوان الضرر فلا معنى لنفي الحكم الثابت له بعنوانه وهو الحرمة لما ذكرناه.

وربّما يقال ـ كما في الكفاية (١) ـ إنّ رفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع إنّما يكون رفعاً للحكم المتعلق بالفعل الصادر حال الخطأ والنسيان ، بلسان رفع الموضوع ، مع أنّ المرفوع في ظاهر الحديث هو نفس الخطأ والنسيان ، فليكن المقام كذلك ، وعليه فالمنفي هو حكم الفعل الضرري بلسان نفي الموضوع.

وفيه أوّلاً : أنّ الالتزام بنفي الحكم عن الفعل الصادر حال الخطأ والنسيان في حديث الرفع إنّما هو للقرينة القطعية ، باعتبار أنّ رفع الخطأ والنسيان تكويناً مستلزم للكذب ، لوجودهما بالوجدان ، ورفع الحكم المتعلق بنفس الخطأ والنسيان مستلزم للخلف والمحال ، فانّ الموضوع هو المقتضي للحكم فكيف يعقل أن يكون رافعاً له ، فلا مناص من الحمل على رفع الحكم المتعلق بالفعل الصادر حال الخطأ والنسيان. وهذا بخلاف المقام إذ يمكن فيه تعلّق النفي بنفس الضرر في مقام التشريع ، ليكون مفاده نفي جعل الحكم الضرري على ما سيجيء بيانه قريباً (٢) إن شاء الله تعالى.

وثانياً : أنّ نسبة الخطأ والنسيان إلى الفعل هي نسبة العلّة إلى المعلول ، فيصح أن يكون النفي نفياً للمعلول بنفي علّته ، فيكون المراد أنّ الفعل الصادر حال الخطأ والنسيان كأ نّه لم يصدر في الخارج أصلاً فيرتفع حكمه لا محالة ،

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٤١

(٢) في ص ٦١٥

٦١٣

بخلاف الضرر فانّه معلول للفعل ومترتب عليه في الخارج ، ولم يعهد في الاستعمالات المتعارفة أن يكون النفي في الكلام متعلقاً بالمعلول وقد اريد به نفي العلّة ليترتب عليه نفي الحكم المتعلق بالعلّة. ولو سلّم صحّة هذا الاستعمال فلا ينبغي الشك في كونه خلاف الظاهر جداً ، فلا يصار إليه إلاّبالقرينة القطعية.

وثالثاً : أنّ الرفع المتعلق بالخطأ والنسيان في حديث الرفع يمكن أن يكون من قبيل القسم الثالث من أقسام استعمالات لا النافية للجنس ، فيكون المنفي حينئذ الحكم الثابت لهما في الشرائع السابقة ، كما يشهد به قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امّتي» (١) فانّه ظاهر في اختصاص الرفع بهذه الشريعة ، ولازمه ثبوت الحكم في الشرائع السابقة ، ولا تكون المؤاخذة على الخطأ والنسيان منافيةً للعدل ، حتّى تستنكر في الشرائع السابقة أيضاً ، فانّ المؤاخذة على عدم التحفظ عن الخطأ والنسيان بأن يكتب شيئاً أو يضع مقابل وجهه شيئاً مثلاً كي لا يخطئ ولا ينسى ، لا ينافي العدل. نعم ، إذا صدر الخطأ أو النسيان بغير اختياره بحيث لا يمكنه التحفظ عنهما لا تصحّ المؤاخذة عليهما حينئذ لا محالة.

وعليه فلا وجه لقياس المقام برفع الخطأ والنسيان في حديث الرفع ، لعدم كون الرفع رفعاً للحكم بلسان نفي الموضوع ، بل يكون رفعاً للآثار التي كانت للخطأ والنسيان في الشرائع السابقة (٢).

__________________

(١) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١

(٢) هكذا ذكر سيّدنا الاستاذ العلاّمة (دام ظلّه العالي) وفي ذهني القاصر أنّ الآثار الثابتة في الشرائع السابقة أيضاً كانت للفعل الصادر حال الخطأ والنسيان ، لا لنفس الخطأ والنسيان ، فيرجع الأمر إلى نفي تلك الآثار في هذه الشريعة المقدّسة بلسان نفي الموضوع فلاحظ

٦١٤

الثالث : أن يكون المراد نفي الضرر غير المتدارك ، ولازمه ثبوت التدارك في موارد الضرر بأمر من الشارع ، فانّ الضرر المتدارك لا يكون ضرراً حقيقة.

وهذا الوجه أبعد الوجوه ، إذ يرد عليه أوّلاً : أنّ التقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل.

وثانياً : أنّ التدارك الموجب لانتفاء الضرر ـ على تقدير التسليم ـ إنّما هو التدارك الخارجي التكويني لا التشريعي ، فمن خسر مالاً ثمّ ربح بمقداره صحّ أن يقال ـ ولو بالمسامحة ـ أنّه لم يتضرر. وأمّا حكم الشارع بالتدارك ، فلا يوجب ارتفاع الضرر خارجاً ، فمن سرق ماله متضرر بالوجدان ، مع حكم الشارع بوجوب ردّه عليه.

وثالثاً : أنّ كل ضرر خارجي ليس ممّا حكم الشارع بتداركه تكليفاً أو وضعاً ، فانّه لو تضرر تاجر باستيراد تاجر آخر لا يجب عليه تداركه ، مع كون التاجر الثاني هو الموجب للضرر على التاجر الأوّل ، فضلاً عمّا إذا تضرر شخص من دون أن يكون أحد موجباً للضرر عليه ، كمن احترقت داره مثلاً ، فا نّه لا يجب على جاره ولا على غيره تدارك ضرره. نعم ، لو كان الاضرار باتلاف المال وجب تداركه على المتلف ، لكن لا بدليل لا ضرر ، بل بقاعدة الاتلاف من أنّه من أتلف مال الغير فهو له ضامن.

الرابع : ما أفاده شيخنا الأنصاري قدس‌سره من أنّ المراد نفي الحكم الناشئ من قبله الضرر ، فيكون الضرر عنواناً للحكم لكونه معلولاً له في مقام الامتثال ، فكل حكم موجب لوقوع العبد المطيع في الضرر فهو مرتفع في عالم التشريع. وأمّا العبد العاصي فهو لا يتضرر بجعل أيّ حكم من الأحكام لعدم امتثاله. وبالجملة : مفاد نفي الضرر في عالم التشريع هو نفي الحكم الضرري ، كما

٦١٥

أنّ مفاد نفي الحرج في عالم التشريع هو نفي الحكم الحرجي (١).

وهذا هو الصحيح ، ولا يرد عليه شيء ممّا كان يرد على الوجوه المتقدمة ، فيكون الحديث الشريف دالاًّ على نفي جعل الحكم الضرري ، سواء كان الضرر ناشئاً من نفس الحكم كلزوم البيع المشتمل على الغبن ، أو ناشئاً من متعلقه كالوضوء الموجب للضرر ، فاللزوم مرتفع في الأوّل والوجوب في الثاني.

الجهة الثالثة : في انطباق قاعدة نفي الضرر على ما ذكر في قصّة سمرة بن جندب ، فربّما يقال بعدم انطباقها عليه ، لأنّ الضرر في تلك القضيّة لم يكن إلاّ في دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذان. وأمّا بقاء عذقه في البستان فما كان يترتب عليه ضرر أصلاً ، ومع ذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع العذق ، فالكبرى المذكورة فيها لا تنطبق على المورد ، فكيف يمكن الاستدلال بها في غيره.

وأجاب عنه المحقق النائيني قدس‌سره (٢) بما حاصله : أنّ دخول سمرة على الأنصاري بغير استئذان إذا كان ضررياً ، فكما يرتفع هذا الضرر بمنعه عن الدخول بغير استئذان ، كذلك يرتفع برفع علّته وهي ثبوت حق لسمرة في إبقاء عذقه في البستان ، فلأجل كون المعلول ضررياً رفعت علّته ، كما إذا كانت المقدمة ضررية ، فانّه كما ينتفي وجوب المقدمة كذلك ينتفي وجوب ذي المقدمة ، فإذا كان على المكلف غسل ولم يكن الغسل بنفسه موجباً للضرر عليه ، ولكن كانت مقدمته كالمشي إلى الحمام مثلاً ضررياً ، فلا إشكال في رفع وجوب ذي المقدمة وهو الغسل ، كرفع وجوب المقدمة وهي المشي إلى الحمام ، فلا مانع من

__________________

(١) رسائل فقهية : ١١٤ و ١١٦ ، فرائد الاصول ٢ : ٥٣٤ (باختلاف يسير في المضمون)

(٢) منية الطالب ٣ : ٣٩٨

٦١٦

سقوط حق سمرة استناداً إلى نفي الضرر ، لكون معلوله ضررياً وهو الدخول بغير استئذان.

وفيه : أن كون المعلول ضررياً لا يوجب إلاّارتفاع نفسه ، فانّ رفع علّته بلا موجب ، فإذا كانت إطاعة الزوج في عمل من الأعمال ضرراً على الزوجة لا يرتفع به إلاّوجوب الاطاعة في ذلك العمل. وأمّا الزوجية التي هي السبب في وجوب الاطاعة فلا مقتضي لارتفاعها. وكذا إذا اضطرّ أحد إلى شرب النجس فالمرتفع بالاضطرار إنّما هو الحرمة دون نجاسته التي هي علّة الحرمة وهكذا. وقياس المقام بكون المقدمة ضررية الموجبة لارتفاع وجوب ذي المقدمة مع الفارق ، لأنّ كون المقدمة ضررية يستلزم كون ذي المقدمة أيضاً ضررياً ، لأنّ الاتيان بذي المقدمة يتوقف على الاتيان بالمقدمة على ما هو معنى المقدمية ، فضررية المقدمة توجب ضررية ذيها لا محالة ، فارتفاع وجوب ذي المقدمة إنّما هو لكونه بنفسه ضررياً ، فانّ المشي إلى الحمام لو كان ضررياً كان الغسل بنفسه ضررياً مع فرض توقفه على المشي إلى الحمام ، فكيف يقاس المقام به.

وأجاب شيخنا الأنصاري قدس‌سره بأ نّا لا ندري كيفية انطباق الكبرى على المورد ، والجهل بها لا يضر بالاستدلال بالكبرى الكلّية فيما علم انطباقها عليه (١).

وما ذكره وإن كان صحيحاً في نفسه ، إلاّأنّ المقام ليس كذلك أي مجهول الانطباق على المورد ، بل معلوم الانطباق عليه ، فانّ ما يستفاد من الرواية الواردة في قصّة سمرة أمران : أحدهما : عدم جواز دخول سمرة على الأنصاري

__________________

(١) رسائل فقهية : ١١١

٦١٧

بغير استئذان. ثانيهما : حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع العذق. والاشكال المذكور مبني على أن يكون الحكم الثاني بخصوصه أو منضماً إلى الأوّل مستنداً إلى نفي الضرر ، وأمّا إن كان المستند إليه خصوص الحكم الأوّل ، وكان الحكم الثاني الناشئ من ولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله على أموال الامّة وأنفسهم ، دفعاً لمادّة الفساد أو تأديباً له لقيامه معه صلى‌الله‌عليه‌وآله مقام العناد واللجاج ، كما يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اقلعها وارم بها وجهه» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمرة : «فاغرسها حيث شئت» (٢) مع أنّ الظاهر والله العالم سقوط العذق بعد القلع عن الاثمار ، وعدم الانتفاع بغرسه في مكان آخر.

فهذان الكلامان ظاهران في غضبه صلى‌الله‌عليه‌وآله على سمرة وكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقام التأديب ، كما هو في محلّه لمعاملته معه صلى‌الله‌عليه‌وآله معاملة المعاند التارك للدنيا والآخرة والاطاعة والأدب معاً كما يظهر من مراجعة القضيّة بتفصيلها.

فتلخّص : أنّ حكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع العذق لم يكن مستنداً إلى قاعدة نفي الضرر ، فالاشكال مندفع من أصله.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل

أنّه بناءً على ما ذكرناه ـ من أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ضرر» ناظر إلى نفي تشريع الحكم الضرري ـ يختص النفي بجعل حكم إلزامي من الوجوب

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٤٢٧ و ٤٢٨ / كتاب إحياء الموات ب ١٢ ح ١ و ٣ (باختلاف يسير)

(٢) المصدر السابق ح ٤

٦١٨

والحرمة ، فانّه هو الذي يكون العبد ملزماً في امتثاله ، فعلى تقدير كونه ضررياً كان وقوع العبد في الضرر مستنداً إلى الشارع بجعله الحكم الضرري. وأمّا الترخيص في شيء يكون موجباً للضرر على نفس المكلف أو على غيره ، فلا يكون مشمولاً لدليل نفي الضرر ، لأنّ الترخيص في شيء لا يلزم المكلف في ارتكابه حتّى يكون الترخيص ضررياً ، بل العبد باختياره وإرادته يرتكبه ، فيكون الضرر مستنداً إليه لا إلى الترخيص المجعول من قبل الشارع.

وبالجملة : نفي الضرر في الحديث الشريف ـ على ما ذكرناه من المعنى ـ ليس إلاّ كنفي الحرج المستفاد من أدلة نفي الحرج ، فكما أنّ المنفي بها هو الحكم الالزامي الموجب لوقوع المكلف في الحرج دون الترخيصي ، إذ الترخيص في شيء حرجي لا يكون سبباً لوقوع العبد في الحرج ، فكذا في المقام بلا فرق بينهما ، فلا يستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ضرر» حرمة الاضرار بالغير ولا حرمة الاضرار بالنفس ، وإن كان الأوّل ثابتاً بالأدلة الخاصّة ، بل يمكن استفادته من الفقرة الثانية في نفس هذا الحديث ، وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا ضرار» بتقريب أنّ المراد من النفي في هذه الفقرة هو النهي ، كما في قوله تعالى «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ» (١).

وذلك لأنّ الضرار أمر خارجي وهو كون الشخص في مقام الاضرار بالغير ، فلا معنى لنفيه تشريعاً ، كما لا يصح حمله على الإخبار عن عدم تحقق الاضرار في الخارج ، للزوم الكذب ، فلا محالة يكون المراد منه النهي عن كون الشخص في مقام الاضرار بالغير ، فيدل على حرمة الاضرار بالغير بالأولوية القطعية.

ولا يلزم من حمل النفي على النهي في هذه الفقرة التفكيك بين الفقرتين ، لأنّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٩٧

٦١٩

المعنى في كلتيهما هو النفي ، غاية الأمر كون النفي في الفقرة الاولى حقيقياً ، وفي الفقرة الثانية ادّعائياً على ما تقدّم بيانه. وهذا نظير ما ذكرناه في حديث الرفع من أنّ الرفع بالنسبة إلى ما لا يعلمون حقيقي وبالنسبة إلى الخطأ والنسيان وغيرهما من الفقرات مجازي (١). وأمّا الثاني وهو الاضرار بالنفس فلا يستفاد حرمته من الفقرة الثانية أيضاً ، لأنّ الضرار وغيره ممّا هو من هذا الباب كالقتال والجدال لا يصدق إلاّمع الغير لا مع النفس.

التنبيه الثاني

أنّ الضرر كسائر العناوين الكلّية المأخوذة في موضوعات الأحكام المتوقف ثبوت الحكم فعلاً على تحقق مصداقها خارجاً ، ومن المعلوم أنّ الضرر لايكون من الامور المتأصلة التي لايفترق الحال فيها بالاضافة إلى شخص دون شخص ، بل من الامور الاضافية التي يمكن تحقّقها بالنسبة إلى شخص دون شخص ، كما في الوضوء فانّه يمكن أن يكون الوضوء ضرراً على شخص دون آخر ، فوجوبه منفي بالنسبة إلى المتضرر به دون غيره ، فما كان مشتهراً في زمان من أنّ الضرر في العبادات شخصي ، وفي المعاملات نوعي لا يرجع إلى محصّل ، بل الصحيح أنّ الضرر في المعاملات أيضاً شخصي ، لما ذكرناه من أنّ فعلية الحكم المجعول تابعة لتحقق الموضوع. ولا يظهر وجه للتفكيك بين العبادات والمعاملات في ذلك.

وكأنّ الوجه في وقوعهم في هذا التوهّم هو ما وقع في كلام جماعة من أكابر

__________________

(١) [تقدّم في ص ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ما يرتبط بالمقام لكنّه اختار خلاف ما هنا]

٦٢٠