موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

حاصلاً من غير الكتاب والسنّة ، لأنّ الحجّية ذاتية للقطع ، فيستحيل المنع عن العمل به ، لاستلزامه التناقض واقعاً أو في نظر القاطع.

إلاّأنّ العلاّمة النائيني (١) قدس‌سره التزم بامكان المنع عنه بمعنىً لا يرجع إلى المنع عن العمل بالقطع ، ليردّ بأنّ حجّية القطع ذاتية لا يمكن المنع عن العمل به ، بل بمعنى يرجع إلى تقييد الحكم بعدم كونه مقطوعاً به من غير الكتاب والسنّة ، فيكون التصرف من الشارع في المقطوع به لا في القطع ليكون منافياً لحجّيته الذاتية ، وذكر لتقريب مراده في المقام مقدّمات ثلاث :

المقدّمة الاولى : أنّه لا يمكن أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، لاستلزامه الدور ، لأنّ القطع طريق إلى متعلقه بالذات ، فالقطع بحكم متوقف على تحقق الحكم ، توقف الانكشاف على المنكشف ، ولا مناص من أن يكون الحكم في رتبة سابقة على تعلّق القطع به ، ليتعلق به القطع ويكشف عنه ، وإذا فرض أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ، كان الحكم متوقفاً عليه توقف الحكم على موضوعه ، وهذا هو الدور الواضح.

المقدّمة الثانية : ما ذكره في بحث التعبدي والتوصلي من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق ، لأنّ التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة ، فكل مورد لايكون قابلاً للتقييد لايكون قابلاً للاطلاق ، فلا يكون هناك تقييد ولا إطلاق.

ونتيجة هاتين المقدّمتين : أنّ الأحكام الشرعية الأوّلية مهملة بالقياس إلى علم المكلف بها وجهله ، لأنّ تقييدها بالعلم بها غير ممكن بمقتضى المقدمة الاولى ، وإطلاقها بالنسبة إلى العلم والجهل أيضاً غير ممكن بمقتضى المقدمة الثانية ، فتكون مهملة لا محالة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٧ ـ ١٩ ، راجع أيضاً ص ٧٢ ـ ٧٤

٦١

المقدّمة الثالثة : أنّه مع ذلك كان الاهمال في مقام الثبوت غير معقول ، لأنّ الملاك إمّا أن يكون في جعل الحكم لخصوص العالم به ، فلا بدّ من تقييده به.

وإمّا أن يكون في الأعم منه ، فلا بدّ من تعميمه ، وحيث إنّ تقييد الحكم بالعلم به في نفس دليله غير ممكن ، وكذا تعميمه ، فلا بدّ من تتميمه بجعل ثانوي يعبّر عنه بمتمم الجعل ، فامّا أن يقيّد بالعلم وسمّاه بنتيجة التقييد ، أو يعمم وسمّاه بنتيجة الاطلاق ، فالجعل الأوّل متعلق بنفس الحكم بنحو الاهمال. والجعل الثاني يبيّن اختصاصه بالعالم أو شموله للجاهل أيضاً. وهذا لا يكون مستلزماً للدور أصلاً.

ثمّ إنّه في كل مورد ثبت فيه تخصيص الحكم بالعالم به ـ كما في موارد وجوب الجهر والاخفات ، ووجوب التقصير في الصلاة ـ نلتزم فيه بنتيجة التقييد ، بمقتضى ما دلّ على كفاية الجهر في مورد الاخفات وبالعكس مع الجهل ، وكفاية التمام في موضع القصر كذلك ، وكل مورد لم يثبت فيه ذلك نقول فيه بنتيجة الاطلاق ، للعمومات الدالة على اشتراك العالم والجاهل في التكليف.

فتحصّل : أنّ تقييد الحكم بالقطع ـ الحاصل من سبب خاص أو بعدم كونه مقطوعاً به من طريق خاص ـ ممّا لا مانع منه بمتمم الجعل ، فالمنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ـ على هذا النحو ـ بمكان من الامكان ، ففي مقام الثبوت لا محذور فيه ، إلاّأنّ مقام الاثبات غير تام ، لعدم تمامية ما ذكره الأخباريون من الأدلة على المنع من العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة.

وبالجملة : المنع عن العمل بالقطع بهذا المعنى الراجع إلى تقييد المقطوع به ممكن ، إلاّ أنّه لم يدل على وقوعه دليل إلاّفي موارد قليلة ، كالقطع الحاصل من القياس على ما يظهر من رواية أبان. انتهى ملخص كلامه زيد في علوّ مقامه.

٦٢

أقول : أمّا ما ذكره من المقدمة الاولى ، فهو تام ، لما عرفت في بيان أقسام القطع الموضوعي (١) ، فلا حاجة إلى الاعادة.

وأمّا ما ذكره في المقدمة الثانية ، من أنّ استحالة التقييد تستلزم استحالة الاطلاق ، فهو غير تام لما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي (٢). وقد أشبعنا الكلام فيه هناك بما لا مزيد عليه. وملخّصه : أنّ التقابل بين التقييد والاطلاق وإن كان من تقابل العدم والملكة (٣) ـ كما ذكره قدس‌سره ـ لأنّ الاطلاق عبارة عن عدم التقييد فيما كان قابلاً له ، إلاّ أنّه لا يعتبر في تقابل العدم والملكة القابلية في كل مورد بشخصه ، بل تكفي القابلية في الجملة ، ألا ترى أنّ الانسان غير قابل للاتصاف بالقدرة على الطيران مثلاً ، ومع ذلك صحّ اتّصافه بالعجز عنه ، فيقال : إنّ الانسان عاجز عن الطيران ، وليس ذلك إلاّلكفاية القابلية في الجملة ، وأنّ الانسان قابل للاتصاف بالقدرة في الجملة ، وبالنسبة إلى بعض الأشياء وإن لم يكن قابلاً للاتصاف بالقدرة على خصوص الطيران ، وكذا الانسان غير متصف بالعلم بذات الواجب تعالى ، مع أنّه متّصف بالجهل به ، وليس ذلك إلاّلأجل كفاية القابلية في الجملة ، فانّ الانسان قابل للاتصاف بالعلم بالنسبة إلى بعض الأشياء ، وإن كان غير قابل للاتصاف بالعلم بذاته تعالى وتقدّس. وعليه فاستحالة التقييد بشيء تستلزم ضرورية الاطلاق أو التقييد بضدّه ، كما أنّ استحالة الجهل له تعالى تستلزم ضرورية العلم له ، فاستحالة تقييد الحكم بقيد تقتضي ضرورية الاطلاق أو التقييد بضده ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في بحث التعبدي والتوصلي.

__________________

(١) في ص ٤٧

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٢٧ ـ ٥٣٥

(٣) [هذا الأمر مذكور في المحاضرات على سبيل الفرض والتنزّل فلاحظ]

٦٣

ففي المقام حيث إنّ تقييد الحكم بالعلم به مستحيل لما عرفت من استلزامه الدور ، وتقييده بالجهل به أيضاً محال ، لعين ذلك المحذور ، فيكون مطلقاً بالنسبة إلى العلم والجهل لا محالة في الجعل الأوّلي ، بلا حاجة إلى متمم الجعل. وإذا كان كذلك وقطع به المكلف يستحيل منعه عن العمل بقطعه ، لاستلزامه اجتماع الضدّين اعتقاداً مطلقاً ، ومطلقاً في صورة الاصابة.

وقد ظهر بما ذكرناه فساد ما ذكره من صحّة أخذ القطع بالحكم في موضوعه شرطاً أو مانعاً بتتميم الجعل ، لأنّه متوقف على كون الجعل الأوّلي بنحو الاهمال ، وقد عرفت كونه بنحو الاطلاق.

وأمّا ما ذكره من أنّ العلم مأخوذ في الحكم في موارد الجهر والاخفات والقصر والتمام ، ففيه أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ غاية ما يستفاد من الأدلة هو إجزاء أحدهما عن الآخر ، وإجزاء التمام عن القصر عند الجهل بالحكم ، لا اختصاص الحكم بالعالم ، فانّ اجتزاء الشارع ـ في مقام الامتثال بالجهر في موضع الاخفات أو العكس ـ لا يدل على اختصاص الحكم بالعالم ، ويدل عليه أنّ العنوان المذكور في الرواية هو الجهر فيما ينبغي فيه الاخفات أو الاخفات فيما ينبغي فيه الجهر (١). وهذا التعبير ظاهر في ثبوت الحكم الأوّلي للجاهل أيضاً. ويؤيّده : تسالم الفقهاء على أنّ الجاهل بالحكمين مستحق للعقاب عند المخالفة فيما إذا كان جهله عن تقصير ، فانّه على تقدير اختصاص الحكم بالعالم لا معنى لكون الجاهل مستحقاً للعقاب.

وأمّا ما ذكره من ثبوت المنع عن العمل بالقطع الحاصل من القياس برواية أبان (٢) ، ففيه :

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١

(٢) الوسائل ٢٩ : ٣٥٢ / أبواب ديات الأعضاء ب ٤٤ ح ١

٦٤

أوّلاً : أنّ رواية أبان ضعيفة السند ، فلا يصحّ الاعتماد عليها (١).

وثانياً : أنّه لا دلالة لها على كونه قاطعاً بالحكم. نعم ، يظهر منها كونه مطمئناً به ، حيث قال : «إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ، ونقول الذي جاء به شيطان».

وثالثاً : أنّه ليس فيها دلالة على المنع عن العمل بالقطع على تقدير حصوله لأبان ، فانّ الإمام عليه‌السلام قد أزال قطعه ببيان الواقع ، وأنّ قطعه مخالف له ، وذلك يتّفق كثيراً في المحاورات العرفية أيضاً ، فربّما يحصل القطع بشيء لأحد ويرى صاحبه أنّ قطعه مخالف للواقع ، فيبيّن له الواقع ، ويذكر الدليل عليه ، ليزول قطعه ـ أي جهله المركب ـ لا للمنع عن العمل بالقطع على تقدير بقائه.

فتحصّل : أنّ ما ذكره شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره ـ وتبعه أكثر من تأخّر عنه ـ من استحالة المنع عن العمل بالقطع متين جداً. نعم ، الخوض في المطالب العقلية لاستنباط الأحكام الشرعية مرغوب عنه ، وعليه فلا يكون معذوراً لو حصل له القطع بالأحكام الشرعية من المقدمات العقلية ، على تقدير كون قطعه مخالفاً للواقع ، لتقصيره في المقدمات.

ولا يخفى أنّه بعدما ثبتت استحالة المنع عن العمل بالقطع ثبوتاً ، لا حاجة إلى البحث عن مقام الاثبات ودلالة الأدلة الشرعية ، كما هو ظاهر.

بقي الكلام في فروع توهم فيها المنع عن العمل بالقطع. وحيث إنّ القطع ممّا لا يمكن المنع عن العمل به ـ على ما تقدّم الكلام فيه ـ فلا بدّ من التعرّض لتلك الفروع ودفع التوهم المذكور :

__________________

(١) [سند الرواية معتبر فلاحظ]

٦٥

الفرع الأوّل : ما إذا كان لأحد درهم عند الودعي ، وللآخر درهمان عنده ، فسرق أحد الدراهم ، فقد ورد النص أنّه يعطى لصاحب الدرهمين درهم ونصف ، ولصاحب الدرهم نصف (١). فقد يقال : إنّ الحكم بالتنصيف مخالف للعلم الاجمالي بأنّ تمام هذا الدرهم لأحدهما ، فالتنصيف موجب لاعطاء النصف لغير مالكه ، ثمّ لو انتقل النصفان إلى ثالث بهبة ونحوها ، فاشترى بمجموعهما جارية ، يعلم تفصيلاً بعدم دخولها في ملكه ، لكون بعض الثمن ملك الغير ، فالحكم بجواز وطئها مخالف للعلم التفصيلي.

وربّما يقال في دفع الاشكال : إنّ الحكم المذكور في النص موافق للقاعدة ، لأنّ الامتزاج موجب للشركة القهرية ، فيكون كل منهما شريكاً في كل جزء جزء من الدراهم الثلاثة ، فما سرق يكون لهما لا لأحدهما.

وفيه أوّلاً : أنّ المقام أجنبي عن باب الامتزاج ، إذ الامتزاج الموجب للشركة القهرية إنّما هو فيما إذا كان الامتزاج موجباً لوحدة المالين في نظر العرف فصار الممتزجان واحداً في نظر العرف ، بلا فرق في ذلك بين أن يكونا مختلفين في الجنس ـ كما إذا امتزج الماء والحليب مثلاً ـ أو متحدين في الجنس ، كما إذا امتزج الحليب بالحليب. والمقام ليس من هذا القبيل ، كما هو ظاهر.

وثانياً : أنّ لازم ذلك هو الحكم باعطاء ثلث الدرهمين وهو ثلثا درهم لصاحب الدرهم ، واعطاء ثلثي الدرهمين وهو درهم وثلث لصاحب الدرهمين ، والمفروض أنّ الحكم المنصوص على خلاف ذلك ، وهو الحكم باعطاء ربع الدرهمين ـ وهو النصف ـ لصاحب الدرهم وإعطاء ثلاثة أرباع الدرهمين ـ أي درهم ونصف ـ لصاحب الدرهمين.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٤٥٢ / كتاب الصلح ب ١٢ ح ١ وفيه بدل الدرهم «الدينار»

٦٦

والتحقيق أن يقال : إنّ الحكم بتنصيف الدرهم في الفرع المذكور ليس مخالفاً للقطع بالحكم الشرعي ، غاية الأمر أنّ الشارع قد حكم بالتصرف في مال الغير ، والشارع له الولاية على الأموال والأنفس ، بل هو المالك الحقيقي ، وقد حكم بجواز التصرف في بعض الموارد مع العلم التفصيلي بكونه مال الغير ، كما في حقّ المارّة ، وحكم الشارع بتنصيف الدرهم إمّا أن يكون من باب الصلح القهري ، بمعنى أنّ الشارع ملّك نصف الدرهم لغير مالكه حسماً لمادّة النزاع بمقتضى ولايته على الأموال والأنفس ، فيدخل أحد النصفين في ملك الغير بالتعبد الشرعي ، فلا مخالفة للعلم الاجمالي ، ولا للعلم التفصيلي. ولا بأس بتصرف شخص ثالث في مجموع النصفين باشتراء الجارية بهما ، إذ قد انتقل إليه كل من النصفين من مالكه الواقعي ، فلا تكون هناك مخالفة للعلم التفصيلي.

وإمّا أن يكون من باب قاعدة العدل والانصاف التي هي من القواعد العقلائية ، وقد أمضاها الشارع في جملة من الموارد ، كما إذا تداعى شخصان في مال ، وكان تحت يدهما ، أو أقام كل واحد منهما البيّنة ، أو لم يتمكنا من البيّنة وحلفا أو نكلا ، فيحكم بتنصيف المال بينهما في جميع هذه الصور ، وهذه القاعدة مبنية على تقديم الموافقة القطعية ـ في الجملة مع المخالفة القطعية كذلك ـ على الموافقة الاحتمالية في تمام المال ، فانّه لو اعطي تمام المال في هذه الموارد لأحدهما للقرعة مثلاً ، احتمل وصول تمام المال إلى مالكه ، ويحتمل عدم وصول شيء منه إليه ، بخلاف التنصيف ، فانّه عليه يعلم وصول بعض المال إلى مالكه جزماً ، ولا يصل إليه بعضه الآخر كذلك ، فيكون التنصيف مقدمة لوصول بعض المال إلى مالكه ، ويكون من قبيل صرف مقدار من المال مقدمةً لايصاله إلى مالكه الغائب حسبة ، إلاّ أنّه من باب المقدمة الوجودية ، والمقام من باب المقدمة العلمية.

٦٧

وعلى هذا يكون أحدهما مالكاً للنصف واقعاً ، والآخر مالكاً للنصف الآخر ظاهراً ، فان قلنا بكفاية الملكية الظاهرية في جواز تصرف الغير ممّن انتقل إليه مجموع النصفين ، فلا بأس بالتصرف في المجموع واشتراء الجارية به ، وإن لم نقل بها ـ كما هو الظاهر ـ فنلتزم بعدم جواز التصرف في مجموع النصفين لشخص ثالث ، وبعدم صحّة اشتراء الجارية به. وليس في ذلك مخالفة للنص ، إذ النص مشتمل على التنصيف ، ولم يتعرض لجواز التصرف فيهما لشخص ثالث.

الفرع الثاني : ما لو اختلف المتبايعان في المثمن أو الثمن بعد الاتفاق على وقوع البيع ، وليفرض الاختلاف في المتباينين لا في الأقل والأكثر ، إذ على تقدير الاختلاف في الأقل والأكثر كما لو ادّعى البائع أنّ الثمن عشرة دنانير وادّعى المشتري كونه خمسة دنانير ، فقد ورد النص على أنّه مع بقاء العين يقدّم قول البائع ، ومع تلفها يقدّم قدم المشتري (١).

وهذا الفرض خارج عن محل البحث ، فانّ الكلام فيما إذا كان الأمر دائراً بين المتباينين ، كما لو ادّعى البائع أنّ الثمن خمسة دنانير ، وادّعى المشتري كونه عشرة دراهم ، أو ادّعى البائع أنّ المبيع عبد ، وادّعى المشتري كونه جارية ، ففي مثل ذلك إن أقام أحدهما البيّنة يحكم له ، وإلاّ فإن حلف أحدهما ونكل الآخر ، يقدّم قوله ، وإن تحالفا يحكم بالانفساخ ورجوع كل من الثمن والمثمن إلى مالكه الأوّل ، فيقال : إنّ الحكم بردّ المثمن إلى البائع في المثال الأوّل مخالف للعلم التفصيلي بأ نّه ملك للمشتري سواء كان ثمنه خمسة دنانير أو عشرة دراهم ، وكذا الحكم بردّ الثمن إلى المشتري في المثال الثاني مخالف للعلم بكونه ملكاً للبائع ، سواء كان ثمناً للعبد أو الجارية ، ثمّ لو انتقل العبد والجارية معاً إلى ثالث

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٥٩ / أبواب أحكام العقود ب ١١ ح ١

٦٨

أفتوا بجواز تصرّفه فيهما ، مع أنّه يعلم بعدم انتقال أحدهما إليه من مالكه الواقعي ، وهو المشتري.

والجواب : أنّه إن قلنا بأنّ التحالف موجب للانفساخ واقعاً بالتعبد الشرعي كما هو ليس ببعيد ، فينفسخ البيع واقعاً ، ويرجع كل من العوضين إلى ملك مالكه الأوّل ، ويكون التحالف نظير تلف العين قبل القبض. وعليه فلا مخالفة للعلم الاجمالي أو التفصيلي ولا مانع من التصرف في الثمن والمثمن ، ولا في العبد والجارية لشخص ثالث.

وإن قلنا بأنّ التحالف لا يوجب الانفساخ واقعاً ، بل الانفساخ ظاهري لرفع الخصومة وقطع المنازعة ، فليس هناك إلاّالعلم بكون المال ملك الغير ، فإن دلّ دليل على جواز التصرف فيه لثالث ، كان المورد ممّا رخّص الشارع في تصرّف مال الغير فيه ، ولا إشكال فيه كما تقدّم (١) ، وإن لم يدل عليه دليل نلتزم بعدم جواز التصرف فيه.

الفرع الثالث : ما لو اختلف المتداعيان في سبب الانتقال بعد الاتفاق على أصله ، كما لو قال أحدهما : بعتك الجارية ، وقال الآخر : وهبتني إيّاها ، فتردّ الجارية بعد التحالف إلى مالكها الأوّل ، مع العلم التفصيلي بخروجها عن ملكه.

والجواب : أنّه إن كانت الهبة جائزة كان ادعاء البيع وإنكار الهبة من الواهب رجوعاً عنها ، لأنّ إنكار الهبة يدل بالالتزام على الرجوع عنها ، نظير إنكار الوكالة ، فانّه أيضاً يعدّ فسخاً لها. وعليه فتصير الجارية بمجرد إنكار الهبة ملكاً لمالكها الأوّل ، فليس هناك علم بالمخالفة. وأمّا لو كانت الهبة لازمة ، كما إذا كانت لذي رحم يجري في المقام ما ذكرناه في الفرع السابق : من أنّه إن

__________________

(١) في الفرع الأوّل

٦٩

قلنا بأنّ التحالف يوجب انفساخ العقد واقعاً ، سواء كان في الواقع بيعاً أو هبة ، فينفسخ العقد ، وترجع الجارية إلى ملك مالكها الأوّل ، فلا مخالفة للعلم الاجمالي أو التفصيلي.

وإن لم نقل بذلك وقلنا إنّ الانفساخ ظاهري لرفع الخصومة ، فجواز التصرف فيها تابع للدليل ، فان دلّ عليه دليل كان ممّا رخّص فيه الشارع في التصرف في مال الغير ، وإلاّ نلتزم بعدم جواز التصرف. وعلى كلا التقديرين لا مخالفة للعلم الاجمالي أو التفصيلي.

الفرع الرابع : ما لو وجد المني في ثوب مشترك بين شخصين ، فذكروا أنّه يجوز اقتداء أحدهما بالآخر ، مع أنّه يعلم ببطلان صلاته إمّا لجنابة نفسه أو لجنابة إمامه ، وذكروا أيضاً أنّه يجوز لثالث الاقتداء بهما في صلاة واحدة مع أنّه يعلم ببطلان صلاته إمّا لجنابة الإمام الأوّل أو الإمام الثاني ، وكذا يجوز له الاقتداء بهما في صلاتين مترتبتين ، كما إذا اقتدى بأحدهما في صلاة الظهر وبالآخر في صلاة العصر ، مع أنّه يعلم تفصيلاً ببطلان صلاة العصر إمّا لجنابة الإمام أو لفوات الترتيب ، وكذا يجوز الاقتداء بهما في صلاتين غير مترتبتين ، مع أنّه يعلم إجمالاً ببطلان إحدى الصلاتين ، فالحكم بجواز الاقتداء في جميع هذه الفروع مخالف للعلم الاجمالي أو التفصيلي.

والجواب : أنّ الحكم بجواز الائتمام في هذه الفروض ليس ممّا ورد فيه نص ، فلا بدّ من البحث فيه من حيث القاعدة ، ومحلّه الفقه بحث صلاة الجماعة (١). فإن قلنا بأنّ صحّة صلاة الإمام بنظره كافية لجواز الائتمام ولو لم تكن صحيحة في نظر المأموم ، جاز الاقتداء في جميع هذه الفروض ، ولا علم للمأموم ببطلان

__________________

(١) شرح العروة ١٧ : ٢٩٨

٧٠

صلاته ولو مع علمه تفصيلاً ببطلان صلاة الإمام ، كما لو علم المأموم بأنّ الإمام محدث ولكن الإمام لم يعلم بذلك فصلّى عالماً بالطهارة أو مستصحباً لها ، فيجوز له الاقتداء به وصحّت صلاته مع العلم التفصيلي ببطلان صلاة الإمام ، فكيف الحال في موارد العلم الاجمالي. وإن لم نقل بذلك واعتبرنا في جواز الاقتداء صحّة صلاة الإمام بنظر المأموم أيضاً ، فنلتزم بعدم جواز الاقتداء في جميع هذه الفروض عملاً بالقاعدة مع عدم ورود نص على جواز الاقتداء كما تقدّم.

الفرع الخامس : ما لو أقرّ أحد بعين لشخص ، ثمّ أقرّبها لشخص آخر ، فيحكم باعطاء العين للمقرّ له الأوّل ، وإعطاء بدلها من المثل أو القيمة للثاني ، وقد يجتمع العين والبدل عند شخص آخر ، فهو يعلم إجمالاً بحرمة التصرف في أحدهما ، ولو اشترى بهما شيئاً يعلم تفصيلاً بعدم جواز التصرف فيه ، لكون بعض ثمنه ملكاً للغير ، فلم يدخل المثمن في ملكه.

ويظهر الجواب في هذا الفرع ممّا ذكرناه في الفروع السابقة ، فانّ الحكم المذكور ممّا لم يرد فيه نص خاص ، وإنّما هو بمقتضى القاعدة ، باعتبار أنّ الاقرار الأوّل يوجب إعطاء العين للمقر له الأوّل بمقتضى قاعدة الاقرار ، فيحكم بكونها له ظاهراً ، وبمقتضى الاقرار الثاني يحكم بأنّ العين كانت ملكاً للمقر له الثاني ، وحيث إنّه أتلفها باقراره الأوّل فيحكم عليه بالضمان ، لقاعدة الاتلاف ، فيجوز التصرف لكل منهما في العين والبدل ، لأنّه قد ثبتت ملكية كل منهما بالأمارة الشرعية وهي الاقرار.

وأمّا من اجتمع عنده العين والبدل ، فان قلنا بأنّ الملكية الظاهرية لأحد موضوع لجواز تصرف الآخر واقعاً ، فلا إشكال في جواز تصرّفه فيهما ، إذ ليس له علم إجمالي بحرمة التصرف في أحدهما ، وكذا المال المشترى بهما لعدم العلم بالحرمة أيضاً. وإن لم نقل بذلك كما هو الصحيح ، لعدم الدليل على أنّ

٧١

الملكية الظاهرية لأحد موضوع لجواز التصرف لغيره واقعاً ، فنلتزم بعدم جواز التصرف في كلا المالين ، للعلم الاجمالي بحرمة التصرف في أحدهما ، وكذا فيما اشترى بهما عملاً بالقاعدة ، مع عدم ورود دليل خاص يدل على الجواز من آية أو رواية.

الفرع السادس : حكم بعض بجواز الارتكاب في الشبهة المحصورة ، فانّه مخالف للعلم الاجمالي بوجود الحرام في بعض الأطراف.

والجواب : أنّ عنوان المحصور ممّا لم يرد في الأدلة الشرعية ، وإنّما هو اصطلاح المتأخرين من الفقهاء ، والحكم دائر مدار تنجيز العلم الاجمالي ، فان قلنا بأنّ العلم الاجمالي منجّز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية فقط ، نلتزم بجواز الارتكاب في بعض الأطراف دون الجميع ، حتّى لا ينتهي الأمر إلى المخالفة القطعية ، وإن قلنا بأنّ العلم الاجمالي منجّز حتّى بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، نلتزم بعدم جواز الارتكاب في شيء من الأطراف تحصيلاً للموافقة القطعية ، إلاّأن يطرأ عنوان رافع للحكم الواقعي ، كما إذا كان الاجتناب عن الجميع غير مقدور أو حرجياً.

وبالجملة : الحكم في المقام يدور مدار القاعدة ، ولم يرد فيه نص خاص ليكون مفاده مخالفاً للعلم الاجمالي أو التفصيلي.

هذا تمام الكلام في هذه الفروع ، وملخّص القول : أنّه بعد ما ثبتت استحالة المنع عن العمل بالقطع على ما تقدّم بيانه (١) لا يمكن الالتزام بحكم مخالف للقطع في مورد من الموارد.

__________________

(١) في أوائل هذا البحث

٧٢

الكلام في العلم الاجمالي

ويقع البحث في مقامين :

المقام الأوّل : في ثبوت التكليف وتنجّزه بالعلم الاجمالي وعدمه.

المقام الثاني : في سقوط التكليف بالامتثال الاجمالي وعدمه ـ بعد الفراغ عن ثبوته ـ مع إمكان الامتثال التفصيلي ، كما إذا كان المكلف متمكناً من تعيين تكليفه بأ نّه القصر أو التمام ، فيجمع بينهما ، أو كان متمكناً من تعيين القبلة فلم يعيّن ويأتي بصلاتين إلى جهتين يعلم إجمالاً بكون إحداهما إلى القبلة.

أمّا المقام الأوّل : فيقع البحث فيه في جهتين :

الجهة الاولى : في تنجيز العلم الاجمالي بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، بمعنى عدم إمكان الرجوع إلى الأصل في شيء من أطرافه ، فيجب الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية ، ويجب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية.

الجهة الثانية : في تنجيز العلم الاجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، بمعنى عدم جواز الرجوع إلى الأصل في مجموع الأطراف ، وإن جاز الرجوع إليه في البعض ، فلا يجوز ترك المجموع في الشبهة الوجوبية وارتكاب المجموع في الشبهة التحريمية ، وإن جاز ترك البعض في الاولى وارتكاب البعض في الثانية.

وحيث إنّ البحث عن الجهة الاولى يناسب مبحث البراءة ، إذ البحث فيها إنّما هو عن جواز ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية ، وعن جواز ارتكاب البعض في الشبهة التحريمية ، وليس في بعض الأطراف إلاّاحتمال التكليف ، كما

٧٣

هو الحال في الشبهة البدوية المبحوث عنها في مبحث البراءة ، فالبحث عنها موكول إلى مبحث البراءة (١).

أمّا البحث عن الجهة الثانية : فهو المناسب للمقام ، إذ البحث فيها إنّما هو عن جواز ترك مجموع الأطراف في الشبهة الوجوبية ، وجواز ارتكاب المجموع في الشبهة التحريمية ، وثبوت التكليف في مجموع الأطراف معلوم ، فيكون البحث راجعاً إلى حجّية القطع فيما إذا كان متعلقه مردداً بين أمرين أو امور المعبّر عنه بالعلم الاجمالي ، فيقع الكلام فعلاً في الجهة الثانية.

وليعلم أوّلاً : أنّ البحث في كل من الجهتين مبتنٍ على أحد طرفي الترديد في الجهة الاخرى ، بيان ذلك : أنّ البحث في الجهة الاولى إنّما هو عن وجوب الموافقة القطعية وعدمه. وهذا البحث مبني على أن نقول في الجهة الثانية بحرمة المخالفة القطعية ، إذ على القول بعدم حرمة المخالفة القطعية وجواز ترك تمام الأطراف في الشبهة الوجوبية ، وجواز ارتكاب تمام الأطراف في الشبهة التحريمية ، لم يبق مجال للبحث عن وجوب الموافقة القطعية ، بمعنى وجوب الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية ، ووجوب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية ، كما هو ظاهر.

وكذا الحال في الجهة الثانية ، فانّ البحث فيها إنّما هو عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها. وهذا البحث مبني على أن نقول في الجهة الاولى بعدم وجوب الموافقة القطعية ، إذ على القول بوجوب الموافقة القطعية ، ووجوب الاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية ووجوب الاجتناب عن جميع الأطراف في الشبهة التحريمية ، لا يبقى مجال للبحث عن حرمة المخالفة القطعية وعدمها. ولهذا

__________________

(١) يأتي في ص ٤٠٣ وما بعدها

٧٤

لا يكون البحث في إحدى الجهتين مغنياً عن البحث في الجهة الاخرى. وحيث إنّ المناسب للمقام هو البحث عن الجهة الثانية لما عرفت ، فيقع الكلام فعلاً فيها ، ولا بدّ من التكلم في مباحث ثلاثة :

المبحث الأوّل : في أنّ العقل الحاكم بالاستقلال في باب الاطاعة والعصيان هل يفرّق بين العلم التفصيلي والاجمالي في تنجيز التكليف ، أم لا؟

وبعبارة اخرى : هل المأخوذ في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى هو وصول التكليف بالعلم التفصيلي ، أو الأعم منه ومن العلم الاجمالي؟

وبعبارة ثالثة : هل العقل يرى العلم الاجمالي بياناً كالعلم التفصيلي كي لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أم لا؟

المبحث الثاني : في أنّه بعد الفراغ عن كونه بياناً ، هل يمكن للشارع أن يرخّص في المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف في الشبهة التحريمية ، وترك الجميع في الشبهة الوجوبية ، أم لا؟

المبحث الثالث : في وقوع ذلك ، والبحث عن شمول أدلة الاصول العملية الشرعية لجميع أطراف العلم الاجمالي وعدمه ، بعد الفراغ عن الامكان.

أمّا المبحث الأوّل : فربّما يقال إنّه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى أن يكون المكلف عالماً بالمخالفة حين العمل ، لأنّ القبيح هو عصيان المولى ، ولا يتحقق العصيان إلاّمع العلم بالمخالفة حين العمل. والمقام ليس كذلك ، إذ لا علم له بالمخالفة حين ارتكاب كل واحد من الأطراف ، لاحتمال أن يكون التكليف في الطرف الآخر ، غاية الأمر أنّه بعد ارتكاب جميع الأطراف يحصل له العلم بالمخالفة ، وتحصيل العلم بالمخالفة ليس حراماً ، ولذا لو ارتكب المكلف ما هو مشكوك الحرمة بالشك البدوي تمسكاً بأصالة البراءة ، لا مانع

٧٥

له بعد ذلك من تحصيل العلم بحرمة ما فعله بالسؤال من المعصوم عليه‌السلام أو بالجفر والرمل وغير ذلك. هذا غاية ما قيل في وجه جواز المخالفة القطعية.

ولكنّه بمعزل عن التحقيق ، إذ لا يعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة إلاّ وصول التكليف من حيث الكبرى والصغرى. وأمّا تمييز متعلق التكليف عن غيره فغير لازم ، فإذا وصل التكليف إلى العبد من حيث الكبرى ، بمعنى علمه بحرمة شرب الخمر مثلاً ، ومن حيث الصغرى ، بمعنى علمه بتحقق الخمر خارجاً ، فقد تمّ البيان ولا يكون العقاب على المخالفة حينئذ عقاباً بلا بيان. وتردد الخمر بين مائعين لا دخل له في موضوع حكم العقل بقبح المخالفة ، والشاهد هو الوجدان ومراجعة العقلاء ، فانّا لا نرى فرقاً في الحكم بالقبح بين ما إذا عرف العبد ابن المولى بشخصه فقتله ، وما إذا علمه إجمالاً بين عدّة أشخاص فقتلهم جميعاً.

وبالجملة : المعتبر في حكم العقل بقبح المخالفة هو وصول التكليف ، وأمّا تمييز المكلف به ، فلا دخل له في الحكم المذكور أصلاً. ولذلك لا ريب في حكم العقل بقبح المخالفة بارتكاب جميع الأطراف دفعةً ، كما إذا نظر إلى امرأتين يعلم بحرمة النظر إلى إحداهما مع أنّ متعلق التكليف غير مميّز.

أمّا المبحث الثاني : فذهب صاحب الكفاية (١) قدس‌سره إلى إمكان جعل الترخيص في جميع أطراف العلم الاجمالي ، بدعوى أنّ الحكم الواقعي لم ينكشف به تمام الانكشاف ، فمرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة. بل ادّعى وقوعه كما في الشبهة غير المحصورة ، وذكر أنّه لا مضادّة بين الحكم الظاهري والواقعي ، إذ لو كانت بينهما مضادّة لما أمكن جعل الحكم الظاهري في الشبهات غير المحصورة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٢

٧٦

بل في الشبهة البدوية ، لاستلزامه احتمال الجمع بين الضدّين ، ومن الواضح استحالة احتمال الجمع بين الضدّين كالقطع به ، إذ الجمع بينهما محال ، والمحال مقطوع العدم دائماً. فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي في المقام ، ضرورة عدم الفرق بين الموارد في المضادة بين التكليف الالزامي الواقعي وجعل الترخيص. هذا ملخص كلامه في المقام.

وما ذكرناه هنا مبني على ما ذكره في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، من أنّ الحكم الواقعي ليس فعلياً من جميع الجهات مع عدم العلم به ، فلا منافاة بينه وبين الحكم الظاهري ، لعدم كونهما في مرتبة واحدة (١). وعلى هذا الأساس التزم في المقام بامكان جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي بالتكليف الالزامي من الوجوب أو الحرمة ، إذ عليه لا منافاة بين الحكم المعلوم بالاجمال وبين الترخيص ، لعدم كون المعلوم بالاجمال فعلياً من جميع الجهات ، لعدم انكشافه تمام الانكشاف.

ولكن البناء المذكور ممّا لا أساس له ، لأنّ العلم لا دخل له في فعلية الحكم ، وإنّما هو شرط لتنجزه وقد ذكرنا غير مرّة (٢) أنّه ليس للحكم إلاّمرتبتان : إحداهما مرتبة الجعل والاخرى مرتبة الفعلية. والاولى عبارة عن إنشاء الحكم للموضوع المقدّر وجوده على نحو القضيّة الحقيقية ، كما في قوله تعالى «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» (٣) والثانية عبارة عن فعلية الحكم بتحقق موضوعه خارجاً ، كما إذا صار المكلف مستطيعاً ، بلا دخل للعلم به

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٨

(٢) كما في ص ٤٩

(٣) آل عمران ٣ : ٩٧

٧٧

أصلاً ، غاية الأمر أنّ العلم دخيل في تنجز التكليف ، فلا يصحّ العقاب على المخالفة إلاّمع العلم بالتكليف.

وبالجملة : فعليّة الحكم تابعة لفعلية موضوعه ، وليس العلم مأخوذاً في موضوعه كي تكون فعليته متوقفة عليه ، لما دلّ عليه الدليل من اشتراك التكليف بين العالم والجاهل مضافاً إلى ما تقدّم (١) من عدم إمكان أخذ العلم بالحكم في موضوعه.

فتحصّل : أنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره لا يفيد في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، ولا في إثبات إمكان الترخيص في أطراف العلم الاجمالي ، لكونه مبنياً على كون العلم دخيلاً في فعلية الحكم ، وقد ظهر بما ذكرناه عدم دخله في فعلية الحكم أصلاً. والصحيح عدم إمكان جعل الترخيص في أطراف العلم الاجمالي ، ولا يقاس المقام بجعل الحكم الظاهري في الشبهة البدوية. وتحقيق ذلك يقتضي التكلم في وجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بمقدار يتّضح به عدم صحّة قياس المقام به ، وتفصيله موكول إلى محلّه (٢).

فنقول : إنّ الأحكام الشرعية لا مضادة بينها في أنفسها ، إذ الحكم ليس إلاّ الاعتبار ، أي اعتبار شيء في ذمة المكلف من الفعل أو الترك. ومن الواضح عدم التنافي بين الامور الاعتبارية ، وكذا لا تنافي بين إبرازها بالألفاظ ، بأن يقول المولى : افعل كذا ولا تفعل كذا ، كما هو ظاهر.

إنّما التنافي بينها في موردين : الأوّل : في المبدأ. الثاني : في المنتهى. والمراد

__________________

(١) في ص ٤٧

(٢) في ص ١٢٥ وما بعدها

٧٨

بالمبدأ ما يعبّر عنه بعلّة الحكم مسامحةً من المصلحة والمفسدة ، كما عليه الإمامية والمعتزلة ، أو الشوق والكراهة ، كما عليه الأشاعرة المنكرين لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. والمراد من المنتهى مقام الامتثال.

أمّا التنافي من حيث المبدأ ، فلأ نّه يلزم من اجتماع الحكمين كالوجوب والحرمة مثلاً اجتماع المصلحة والمفسدة في المتعلق بلا كسر وانكسار ، وهو من اجتماع الضدّين ، ولا إشكال في استحالته ، وكذا الحال في اجتماع الوجوب والترخيص أو اجتماع الحرمة والترخيص ، فانّه يلزم وجود المصلحة الملزمة وعدم وجودها في شيء واحد ، أو وجود المفسدة الملزمة وعدم وجودها ، وهو من اجتماع النقيضين المحال.

أمّا التنافي بين الأحكام من حيث المنتهى وهو مقام الامتثال ، فلعدم تمكن المكلف من امتثال كلا الحكمين كما هو ظاهر ، فيقع التنافي والتضاد في حكم العقل بلزوم الامتثال.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّه لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري في الشبهات البدوية أصلاً ، لا من ناحية المبدأ ولا من ناحية المنتهى.

أمّا من ناحية المبدأ ، فلأنّ المصلحة في الحكم الظاهري إنّما تكون في نفس الحكم لا في متعلقه كما في الحكم الواقعي ، سواء كان الحكم الظاهري ترخيصياً لمجرد التسهيل على المكلف ، أو إلزامياً لغرض آخر من الأغراض ، فلا يلزم من مخالفته للحكم الواقعي اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد.

وأمّا من ناحية المنتهى ، فلأنّ الحكم الظاهري موضوعه الشك في الحكم الواقعي وعدم تنجزه لعدم وصوله إلى المكلف ، فما لم يصل الحكم الواقعي إلى المكلف لا يحكم العقل بلزوم امتثاله ، فلا مانع من امتثال الحكم الظاهري. وإذا وصل الحكم الواقعي إلى المكلف وحكم العقل بلزوم امتثاله لا يبقى مجال

٧٩

للحكم الظاهري ، لارتفاع موضوعه بوصول الواقع.

وبعبارة اخرى : حكم العقل بلزوم الامتثال إنّما هو بعد وصول الحكم إلى المكلف ، بلا فرق في ذلك بين الحكم الواقعي والظاهري ، ووصول كلا الحكمين إلى المكلف في عرض واحد محال ، لكون الحكم الظاهري دائماً في طول الحكم الواقعي ، فمع وصول الحكم الواقعي ينتفي الحكم الظاهري بانتفاء موضوعه ، فلا يحكم العقل إلاّبلزوم امتثال الحكم الواقعي ، ومع عدم وصول الحكم الواقعي لا يحكم العقل إلاّبلزوم امتثال الحكم الظاهري ، فلا تنافي بين الحكمين في مقام الامتثال أبداً.

هذا بخلاف الحكم الظاهري المجعول في أطراف العلم الاجمالي ، فانّ التنافي بينه وبين الحكم الواقعي الواصل بالعلم الاجمالي في مقام الامتثال واضح ، لما تقدّم (١) من عدم الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال بين وصول الحكم بالعلم التفصيلي والاجمالي ، فإن كان الحكم الظاهري على خلاف الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال على ما هو المفروض ، لزم محذور اجتماع الضدّين في مقام الامتثال ، فكيف يقاس المقام بالشبهة البدوية. نعم ، يرد النقض بالشبهة غير المحصورة لوصول الحكم الواقعي فيها أيضاً بالعلم الاجمالي. ومجرد قلّة الأطراف وكثرتها لا يوجب الفرق في حكم العقل بلزوم الامتثال.

وأمّا نحن ففي فسحة من هذا النقض ، لأنّا نقول بعدم الفرق بين قلّة الأطراف وكثرتها في حكم العقل بلزوم الامتثال ، فكما لا نلتزم بجريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي مع قلّتها ، كذا لا نقول بجريانه مع كثرتها ، نعم لو كانت الشبهة ممّا لا يمكن إحراز الامتثال فيها أصلاً ـ لعدم قدرة المكلف على الاتيان

__________________

(١) في ص ٧٥ ـ ٧٦

٨٠