موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

فانّ اعتبارها علماً مع التحفظ على الشك المأخوذ في موضوعها اعتبار للجمع بين النقيضين ، فلم يعتبر في مواردها إلاّالبناء العملي مدفوع بأنّ الشك المأخوذ في موضوع الاصول هو الشك الوجداني ، والعلم تعبدي ، ولا تنافي بينهما أصلاً ، إنّما التنافي بين الشك الوجداني والعلم الوجداني لا بين الشك الوجداني والعلم التعبدي ، كيف ولو كان هذا جمعاً بين النقيضين لزم التناقض في جميع موارد التنزيل كقوله عليه‌السلام المروي : «الفقاع خمر استصغره الناس» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله المروي في روايات العامّة : «الطواف بالبيت صلاة» (٢) فيقال كيف يمكن أن يكون الفقّاع خمراً مع أنّه غيرها ، وكيف يمكن أن يكون الطواف صلاة مع أنّه غيرها. والجواب هو ما ذكرناه ، فانّ الفقّاع فقّاع بالوجدان وخمر بالتعبّد ، ولا منافاة بينهما ، وكذا الطواف مع كونه غير الصلاة بالوجدان صلاة بالتعبد ، ولا منافاة بينهما أصلاً.

هذا مضافاً إلى أنّه لو كان هذا مانعاً عن قيام الاصول مقام القطع ، لمنع عن قيام الأمارات أيضاً مقام القطع ، إذ لا فرق بين الاصول والأمارات من هذه الجهة ، فانّ الأمارات أيضاً قد اخذ في موضوعها الشك ، غاية الأمر أنّ الاصول قد اخذ الشك في موضوعها في لسان الدليل اللفظي ، وفي الأمارات قد ثبت ذلك بالدليل اللبي ، بيانه :

أنّ الاهمال في مقام الثبوت غير معقول كما ذكرناه غير مرّة (٣) فامّا أن تكون الأمارات حجّة مع العلم بموافقتها للواقع ، ولا خفاء في أنّ جعل الحجّية للأمارات حين العلم بالواقع لغو محض ، إذ الاستناد ـ حينئذ ـ إلى العلم لا إلى الأمارة ،

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٦٥ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٨ ح ١ (باختلاف يسير)

(٢) سنن النسائي ٥ : ٢٢٢ ، المستدرك ٩ : ٤١٠ / أبواب الطواف ب ٣٨ ح ٢

(٣) راجع محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٣٤

٤١

وإمّا أن تكون حجّة مع العلم بمخالفتها للواقع ، وهذا أفحش من سابقه كما هو ظاهر. وكذا لا يمكن أن يكون الموضوع هو الجامع بينهما ، أي مطلق العالم إمّا بالموافقة أو بالمخالفة ، كما لا يمكن أن يكون الموضوع هو الجامع بين العالم بالموافقة أو بالمخالفة والشاك ، فتعيّن أن يكون الموضوع هو خصوص الشاك.

هذا مضافاً إلى أنّه قد اخذ الشك في موضوع بعض الأمارات في لسان الدليل اللفظي أيضاً ، كقوله تعالى : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (١).

فتحصّل : أنّ حال الاصول المحرزة هي حال الأمارات في أنّها تقوم مقام القطع الطريقي والقطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية. نعم ، يستثنى من ذلك ما لو التزمنا فيه بقيام الأصل مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية ، لزم الغاء اعتبار القطع رأساً ، كما في العلم المأخوذ في ركعات صلاة المغرب والصبح والركعتين الاوليين من الصلوات الرباعية ، فانّ العلم مأخوذ فيها بنحو الطريقية ، ولا يقوم مقامه الاستصحاب ، أي استصحاب عدم الاتيان بالأكثر المعبّر عنه بالبناء على الأقل ، والوجه في ذلك : أنّ الاستصحاب جارٍ في جميع موارد الشك المتعلق بركعات صلاة المغرب والصبح والاوليين من الصلوات الرباعية ، فلو بني على قيام الاستصحاب مقام العلم المأخوذ في الموضوع ، لزم أن يكون اعتبار العلم لغواً ، ولزم إلغاء الأدلة الدالة على اعتبار العلم.

وأمّا الاصول غير المحرزة التي ليس لها نظر إلى الواقع ، بل هي وظائف عملية للجاهل بالواقع ، كالاحتياط الشرعي والعقلي والبراءة العقلية والشرعية ، فعدم قيامها مقام القطع الطريقي والموضوعي واضح ، لأنّها لا تكون محرزة للواقع لا بالوجدان ولا بالتعبد الشرعي.

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٣ ، الأنبياء ٢١ : ٧

٤٢

توضيح ذلك : أنّ الاحتياط العقلي عبارة عن حكم العقل بتنجز الواقع على المكلف وحسن عقابه على مخالفته ، كما في موارد العلم الاجمالي والشبهة الحكمية قبل الفحص ، والبراءة العقلية عبارة عن حكم العقل بعدم صحّة العقاب ، وكون المكلف معذوراً في مخالفة الواقع لعدم وصوله إليه ، ولا معنى لقيامهما مقام القطع ، إذ لا بدّ في التنزيل وقيام شيء مقام شيء آخر من وجه التنزيل ، أي الأثر الذي يكون التنزيل بلحاظه ، وهو المصحح للتنزيل ، وفي المقام أثر القطع هو التنجز والمعذورية ، فإذا قام شيء مقامه كان بلحاظهما لا محالة. وأمّا نفس التنجز والمعذورية فلا يعقل قيامهما مقام القطع ، وليس الاحتياط والبراءة العقليّان إلاّالتنجز والتعذر بحكم العقل ، فكيف يقومان مقام القطع.

وكذا الحال في الاحتياط والبراءة الشرعيين ، فانّ الاحتياط الشرعي عبارة عن إلزام الشارع إدراك مصلحة الواقع ، والبراءة الشرعية عبارة عن ترخيصه حين عدم إحراز الواقع ، فالاحتياط الشرعي نفس التنجز ، والبراءة الشرعية نفس التعذر بحكم الشارع ، فليس هنا شيء يقوم مقام القطع في التنجز والتعذر.

بقي في المقام شيء ينبغي التعرض له : وهو أنّ صاحب الكفاية قدس‌سره بعد ما منع عن قيام الأمارات والاصول مقام القطع الموضوعي ، لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في دليل الحجّية على ما تقدّم بيانه (١) ذكر في حاشيته على الرسائل (٢) وجهاً لقيامها مقامه ، وحاصل هذا الوجه : أنّ أدلة الأمارات والاصول وإن كانت متكفلة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع فقط ، فلا يكون هناك إلاّلحاظ آلي ، إلاّأنّ هذه الأدلة الدالة على تنزيل المؤدى منزلة

__________________

(١) في ص ٣٧ ـ ٣٨

(٢) دُرر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٢٩ ـ ٣١

٤٣

الواقع بالمطابقة ، تدل على تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع بالالتزام ، لأجل الملازمة العرفية بين التنزيلين ، هذا ملخص كلامه في الحاشية.

وعدل عنه في الكفاية (١) ، وقال : إنّه لا يخلو من تكلّف ، بل من تعسف ، ولعلّ مراده من التكلف منع الملازمة العرفية ، ومن التعسف لزوم الدور على ما يظهر من ذيل كلامه ونشير إليه قريباً إن شاء الله تعالى.

أقول : هذا البحث وإن لم يترتب عليه أثر في خصوص المقام ، لما ذكرناه من أنّ تنزيل المؤدى منزلة الواقع مبني على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو المؤدى ، وهو فاسد على ما تقدّمت الاشارة إليه ويأتي التعرض له مفصّلاً في محلّه (٢) إن شاء الله تعالى.

ولكن هذه الكبرى الكلّية ـ وهي ترتب الحكم على الموضوع المركب بدليل دال على تنزيل أحد الجزأين بدعوى دلالته على تنزيل الجزء الآخر بالملازمة العرفية ـ على تقدير تماميتها تنطبق على موارد اخرى غير المقام ، فلا بدّ من البحث عنها.

فنقول : إذا كان موضوع حكم من الأحكام مركباً من أمرين أو امور كما في قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كر لا ينجسه شيء» (٣) فانّ الموضوع لعدم الانفعال هو الماء مع كونه كراً ، لا يترتب الحكم إلاّمع إحراز كلا الجزأين بالوجدان أو بالتعبد ، أو أحدهما بالوجدان والآخر بالتعبد ، فلا يمكن التعبد بأحدهما إلاّمع إحراز الآخر بالوجدان أو بالتعبد في عرض التعبد بالأوّل ، إذ

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٦

(٢) تقدّم في ص ٣٨ ، ويأتي في بحث إمكان التعبد بالظن ، راجع ص ١٢٠ وما بعدها

(٣) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١

٤٤

التعبد إنّما هو بلحاظ الأثر ، والمفروض أنّه لا أثر لأحدهما ليشمله دليل التعبد ، فلو قامت البيّنة مثلاً على كرية مائع لا يترتب عليه الحكم بعدم الانفعال ، إلاّ مع إحراز كونه ماء بالوجدان أو بالتعبد من قيام بيّنة اخرى ، أو جريان الاستصحاب مثلاً. وكذا لو قامت البيّنة على كونه ماءً لا يترتب عليه الحكم إلاّ مع إحراز كونه كراً بالوجدان أو بالتعبد. وكذا الحال لو احرز أحدهما بالاستصحاب لا يترتب عليه الحكم إلاّمع إحراز

الآخر بالوجدان أو بالبيّنة أو بالاستصحاب الجاري في عرض ذلك الاستصحاب ، بأن يكون كلاهما متيقن الحدوث مشكوك البقاء.

والمتحصل من ذلك : أنّ إطلاقات أدلة الأمارات والاصول غير شاملة للأمارة القائمة على أحد جزأي الموضوع ولا الأصل الجاري في أحد جزأي الموضوع ، ليحرز بها الجزء الآخر بالدلالة الالتزامية ، إذ شمولها لأحد الجزأين متوقف على أن يترتب عليه أثر ، وهو يتوقف على شمولها للجزء الآخر المتوقف على شمولها للجزء الأوّل ، لكونه مترتباً عليه على الفرض ، وهذا هو الدور الواضح.

وبالجملة : التعبد بكلا الجزأين إنّما يصح فيما إذا كان الدليل شاملاً لكليهما في عرض واحد ، كما في شمول لا تنقض اليقين بالشك لما إذا شكّ في بقاء المائية والكرية معاً في المثال السابق ، فيجري الاستصحاب في كليهما في عرض واحد بلا ترتب بينهما ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به في المقام ، للزوم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره ، بخلاف ما إذا كان شموله لأحدهما في طول شموله للآخر ومتوقفاً عليه ، فانّه ممّا لا يمكن التعبد به ، ولا تشمله أدلة التعبد لاستلزامه الدور على ما تقدّم بيانه. نعم ، لو ورد دليل خاص على حجّية أمارة خاصّة قائمة على أحد جزأي الموضوع أو

٤٥

أصل خاص كذلك ، دلّ على تنزيل الجزء الآخر بدلالة الاقتضاء ، صوناً لكلام الحكيم عن اللغوية ، بخلاف ما إذا كان الدليل عاماً أو مطلقاً ، فانّه لا يشمل مثل هذه الأمارة وهذا الأصل.

فتحصّل : أنّ الصحيح ما ذكره وعدل إليه في الكفاية لا ما ذكره في الحاشية (١).

__________________

(١) هكذا ذكر سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) ولكن بنظري القاصر أنّ القاعدة المذكورة ـ وهي عدم شمول دليل التعبد للأمارة القائمة على أحد جزأي الموضوع على ما تقدّم بيانه ـ وإن كانت صحيحة تامّة ، إلاّ أنّها لا تنطبق على المقام ، إذ ليس في المقام موضوع مركب قامت على أحد جزأيه أمارة واريد إثبات جزئه الآخر بالملازمة العرفية ، حتّى يرد عليه أنّه مستلزم للدور ، بل المقصود أنّ مفاد دليل حجّية الأمارة هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيما له من الأثر الشرعي ، ويدل بالالتزام على تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع فيما إذا كان العلم مأخوذاً في الموضوع ، فيترتب عليه هذا الحكم المأخوذ في موضوعه العلم أيضاً ، فتكون الأمارة قائمة مقام القطع الطريقي والموضوعي كليهما.

مثلاً لو فرضنا أنّ حكم الخمر في نفسه هو وجوب الاجتناب ، وقد اخذ القطع بكون مائع خمراً في موضوع الحكم بوجوب التصدق مثلاً ، فلو قطعنا بكون مائع خمراً يترتب حكمان :

الأوّل : حكم المقطوع به وهو وجوب الاجتناب ويكون القطع بالنسبة إليه طريقاً محضاً.

الثاني : حكم القطع ، أي الحكم الذي اخذ القطع في موضوعه وهو وجوب التصدق ، فلو قامت بيّنة على خمرية مائع كان مقتضى دليل حجّية البيّنة بالمطابقة تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فيجب الاجتناب عنه ، ويدل بالالتزام على تنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع فيجب التصدق ، ولا نرى فيه دوراً. نعم ، يصح ما ذكر فيما إذا لم يكن للمقطوع به أثر في نفسه ، وكان القطع به مأخوذاً في حكم من الأحكام ، فانّه حينئذ إذا قامت أمارة عليه لا يمكن الالتزام بشمول دليل الحجّية لمثل هذه الأمارة ، إذ معنى شموله لها تنزيل المؤدى منزلة الواقع. والمفروض أنّه لا أثر للواقع ليصحّ التنزيل بلحاظه ، بل الأثر مترتب على العلم بالواقع على الفرض ، فيحتاج ترتب الأثر على تنزيل آخر وهو تنزيل العلم بالواقع بالدلالة الالتزامية ، وحيث إنّ هذا التنزيل في طول التنزيل الأوّل ومتوقف عليه لزم الدور لا محالة

٤٦

ثمّ إنّه ذكر صاحب الكفاية (١) قدس‌سره أنّه لا يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم ، للزوم الدور ، ولا في موضوع مثله ، للزوم اجتماع المثلين ، ولا في موضوع ضدّه ، للزوم اجتماع الضدّين. نعم ، يصح أخذ القطع بمرتبةٍ من الحكم في موضوع مرتبةٍ اخرى منه أو مثله أو ضدّه.

أقول : أمّا أخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم ، فلا ريب في كونه مستحيلاً ومستلزماً للدور ، فانّ القطع المتعلق بحكم يكون طريقاً إليه لا محالة ، إذ الطريقية غير قابلة للانفكاك عن القطع ، ومعنى كونه طريقاً إلى الحكم فعلية الحكم مع قطع النظر عن تعلّق القطع به. ومعنى كون القطع مأخوذاً في موضوعه عدم كونه فعلياً إلاّبعد تعلّق القطع به ، إذ فعلية الحكم تابعة لفعلية موضوعه ، ولذا قد ذكرنا غير مرّة أنّ نسبة الحكم إلى موضوعه أشبه شيء بنسبة المعلول إلى علّته ، فيلزم توقف فعلية الحكم على القطع به ، مع كونه في رتبة سابقة على القطع به ، على ما هو شأن الطريق ، وهذا هو الدور الواضح.

وأمّا أخذ القطع بحكم في موضوع ضدّه ، كما إذا قال المولى : إذا قطعت

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٦ و ٢٦٧

٤٧

بوجوب الصلاة تحرم عليك الصلاة ، فقد يقال : إنّه لا يلزم منه اجتماع الضدّين ، إذ الوجوب قد تعلّق بالصلاة بما هي ، والحرمة قد تعلقت بها بما هي مقطوعة الوجوب ، فيكون الموضوع للحكمين متعدداً بحسب الجعل. نعم ، لا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال ، إذ الانبعاث نحو عمل والانزجار عنه في آن واحد محال ، وبعد عدم إمكان امتثالهما لا يصح تعلّق الجعل بهما من المولى الحكيم من هذه الجهة.

هذا ، ولكن التحقيق لزوم اجتماع الضدّين ، إذ الحرمة وإن تعلقت بالصلاة بما هي مقطوعة الوجوب في مفروض المثال ، إلاّأنّ الوجوب قد تعلق بها بما هي ، وإطلاقه يشمل ما لو تعلق القطع بوجوبها ، فلزم اجتماع الضدّين ، فان مقتضى إطلاق الوجوب كون الصلاة واجبة ولو حين تعلق القطع بوجوبها ، والقطع طريق محض ، ومقتضى كون القطع بالوجوب مأخوذاً في موضوع الحرمة كون الصلاة حراماً في هذا الحين. وهذا هو اجتماع الضدّين.

وأمّا أخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر مثله ، كما إذا قال المولى : إذا قطعت بوجوب الصلاة تجب عليك الصلاة بوجوب آخر ، فالصحيح إمكانه ، ويرجع إلى التأكد ، وذلك لأنّ الحكمين إذا كان بين موضوعيهما عموم من وجه ، كان ملاك الحكم في مورد الاجتماع أقوى منه في مورد الافتراق ، ويوجب التأكد ، ولا يلزم اجتماع المثلين أصلاً ، كما إذا قال المولى : أكرم كل عالم ، ثمّ قال : أكرم كل عادل ، فلا محالة يكون وجوب الإكرام في عالم عادل آكد منه في عالم غير عادل أو عادل غير عالم ، وليس هناك اجتماع المثلين ، لتعدد موضوع الحكمين في مقام الجعل.

وكذا الحال لو كانت النسبة بين الموضوعين هي العموم المطلق ، فيكون الحكم في مورد الاجتماع آكد منه في مورد الافتراق ، كما إذا تعلق النذر بواجب

٤٨

مثلاً ، فانّه موجب للتأكد لا اجتماع المثلين ، والمقام من هذا القبيل بلحاظ الموضوعين ، فانّ النسبة بين الصلاة بما هي والصلاة بما هي مقطوعة الوجوب هي العموم المطلق ، فيكون الحكم في مورد الاجتماع آكد منه في مورد الافتراق ، ومن قبيل العموم من وجه بلحاظ الوجوب والقطع به ، إذ قد لا يتعلق القطع بوجوب الصلاة مع كونها واجبة في الواقع ، والقطع المتعلق بوجوبها قد يكون مخالفاً للواقع ، وقد يجتمع وجوب الصلاة واقعاً مع تعلق القطع به ، ويكون الملاك فيه أقوى فيكون الوجوب بنحو آكد.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره أخيراً من أنّه يمكن أخذ القطع بمرتبةٍ من الحكم في مرتبةٍ اخرى منه أو من مثله أو من ضدّه ، فهو صحيح على مسلكه من أنّ للحكم مراتب أربعاً : الاقتضاء والانشاء والفعلية والتنجز ، إذ لا محذور في أخذ القطع بحكم إنشائي محض في موضوع حكم فعلي ، بلا فرق بين أن يكون الحكم الفعلي هو نفس الحكم الانشائي الواصل إلى مرتبة الفعلية أو يكون مثله أو ضدّه ، ولا يتصور مانع من أن يقول المولى : إذا قطعت بأنّ الشيء الفلاني واجب بالوجوب الانشائي المحض ، وجب عليك ذلك الشيء فعلاً ، أو حرم عليك فعلاً.

وأمّا على المبنى المختار من أنّه ليس للحكم إلاّمرتبتان :

الاولى : مرتبة الجعل والانشاء بداعي البعث والتحريك بنحو القضيّة الحقيقية كقوله سبحانه وتعالى : «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» (١).

الثانية : مرتبة الفعلية والخروج عن التعليق والتقدير بتحقق موضوعه خارجاً ، كما إذا صار المكلف مستطيعاً ، وأمّا الانشاء لغرض الامتحان أو التهديد أو

__________________

(١) آل عمران ٣ : ٩٧

٤٩

الاستهزاء ونحوها ، فليس من مراتب الحكم ، ولا يطلق عليه الحكم أصلاً ، وكذا الحال في مرتبة الاقتضاء ، إذ مجرد وجود الملاك للحكم مع وجود مانع من إنشائه لا يستحق إطلاق الحكم عليه. فلا يمكن أخذ القطع بمرتبة الجعل من حكم في موضوع مرتبة الفعلي منه ، إذ ليس المراد من القطع المأخوذ في مرتبة الفعلي من الحكم هو القطع بالحكم الثابت لغير القاطع ، وإلاّ فامكانه بمكان من الوضوح بلا حاجة إلى فرض تعدد المرتبة ، لصحّة ذلك ولو مع وحدة المرتبة ، كما لو فرض أنّ القطع بوجوب الحج على زيد قد اخذ في موضوع وجوبه على عمرو.

بل المراد هو القطع بالحكم الثابت لنفس القاطع ، وحينئذ لا يمكن أخذ القطع بمرتبة الجعل من حكم في موضوع مرتبة الفعلي منه ، إذ ثبوت الحكم لشخص القاطع جعلاً ملازم لفعليته ، فلا محالة يتعلق القطع بالحكم الفعلي ، وحيث إنّ المفروض دخل القطع في فعلية الحكم لزم الدور.

توضيح ذلك : أنّ وجوب الحج مثلاً ـ المجعول على المستطيع بنحو القضيّة الحقيقية ـ لايشمل هذا المكلف ، ولا يكون حكماً له إلاّبعد حصول الاستطاعة خارجاً ، وإلاّ فليس حكماً مجعولاً له ، بل هو حكم مجعول لغيره ، فلا يمكن تعلق القطع بشمول الحكم له جعلاً إلاّبعد حصول الاستطاعة له خارجاً ، ومعه يكون الحكم فعلياً في حقّه. فلو فرض أخذ القطع بالحكم المجعول بنحو القضيّة الحقيقية في موضوع مرتبة الفعلي منه ، لا يعلم بثبوت الحكم له جعلاً إلاّبعد حصول القطع ، وحصول القطع به يتوقف على ثبوته له جعلاً ، إذ القطع طريق إلى الحكم ، فلا بدّ في تعلّقه به من تحقق الحكم وثبوته في رتبة سابقة على تعلّق القطع به ، وهذا هو الدور ، هذا كلّه في أخذ القطع في موضوع الحكم.

وأمّا الظن : فملخص الكلام فيه أنّه يتصور أخذه في الموضوع تارةً بنحو

٥٠

الصفتية ، واخرى بنحو الكاشفية والطريقية. وعلى التقديرين إمّا أن يكون جزءاً للموضوع أو تمامه ، وعلى جميع التقادير إمّا أن يكون الظن معتبراً بجعل الشارع أو غير معتبر.

ولا إشكال في إمكان أخذ الظن بحكمٍ في موضوع حكم يخالفه ، كما إذا قال المولى : إذا ظننت بوجوب الصلاة يجب عليك التصدق ، فان كان الظن تمام الموضوع ترتب عليه الحكم بلا فرق بين أن يكون الظن معتبراً أو غير معتبر ، وإن كان جزءاً للموضوع والجزء الآخر هو الواقع ، فان كان الظن معتبراً بالتعبد الشرعي ترتب عليه الحكم أيضاً ، فانّ أحد جزأي الموضوع ـ وهو الظن ـ متحقق بالوجدان ، والجزء الآخر ـ وهو الواقع ـ متحقق بالتعبد الشرعي. وإن كان الظن غير معتبر لا يترتب عليه الحكم إلاّمع إحراز الجزء الآخر ـ وهو الواقع ـ بأمارة اخرى معتبرة ، أو بأصل من الاصول المعتبرة.

وأمّا أخذ الظن بحكم في موضوع نفسه إن كان متعلقاً بالحكم ، أو أخذه في موضوع حكم متعلقه إن كان متعلقاً بالموضوع ، فهو غير ممكن ، لاسلتزامه الدور على ما تقدّم بيانه في القطع (١) ، إذ لا فرق بين القطع والظن من هذه الجهة ، بلا فرق بين الظن المعتبر وغيره في هذه الصورة.

وأمّا أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله مع كون الظن معتبراً شرعاً فهو ممكن ، لأنّ النسبة بين ثبوت الواقع والظن به عموم من وجه ولو في نظر الظان ، إذ الظن وإن كان علماً تعبّداً ، إلاّ أنّه يحتمل مخالفته للواقع وجداناً ، ففي مورد الاجتماع يلتزم بالتأكد. وبهذا ظهر أنّ أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله ممّا لا مانع منه ، ولو قلنا بعدم إمكان ذلك في القطع ، إذ القاطع لا يحتمل

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٧

٥١

أن يكون قطعه مخالفاً للواقع ، فتكون النسبة بين الواقع وتعلّق القطع به في نظر القاطع هو العموم المطلق ، فيمكن أن يتوهم أنّ أخذ القطع بحكم في موضوع حكم يماثله مستلزم لاجتماع المثلين في نظر القاطع ، وإن تقدّم دفع هذا التوهم (١). وأمّا أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يماثله ، فليس فيه إلاّاجتماع العنوانين ، فيلتزم بالتأكد كما هو الحال في جميع موارد اجتماع العامين من وجه المحكومين بحكمين متماثلين.

وإن كان الظن غير معتبر ، فأخذه في موضوع الحكم المماثل بمكان من الامكان ، بل نقول بالامكان فيه ولو قلنا بالمنع في الظن المعتبر من جهة كونه علماً تعبداً ، بخلاف الظن غير المعتبر ، إذ لا يتصور فيه مانع أصلاً.

وأمّا أخذ الظن بحكم في موضوع حكم يضاده ، فإن كان الظن معتبراً ، فلا ينبغي الاشكال في عدم إمكانه ، إذ مقتضى حجّية الظن هو الانبعاث نحو عملٍ ، ومقتضى الحكم المضاد هو الانبعاث نحو ضدّه ، فلا يمكن الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ومعه لا يصح تعلّق الجعل بهما من المولى الحكيم.

هذا ، مضافاً إلى ما ذكرناه في القطع المأخوذ في موضوع الحكم المضاد من لزوم اجتماع الضدّين في مقام الجعل ، فراجع (٢).

وبالجملة : حكم الظن المعتبر هو حكم القطع في هذه الجهة ، فكما لا يمكن ذلك في القطع ، لا يمكن في الظن المعتبر أيضاً.

وإن كان الظن غير معتبر ، فالتزم صاحب الكفاية (٣) قدس‌سره بامكانه

__________________

(١) تقدّم في ص ٤٨

(٢) ص ٤٧ و ٤٨

(٣) كفاية الاصول : ٢٦٧

٥٢

بدعوى أنّ الظن غير المعتبر في حكم الشك فتكون مرتبة الحكم الظاهري محفوظة ، فلا يلزم من جعل الحكم المضاد في فرض الجهل بالواقع اجتماع الضدّين ، وإلاّ فلا يمكن الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري في جميع موارد الجهل بالواقع. وعليه فيمكن أن يحكم المولى بوجوب شرب مائع قام على حرمته ظن غير معتبر ، لأنّ تعدد المرتبة مانع عن التضاد بين الحكمين.

أقول : إنّ ما ذكره قدس‌سره وإن كان صحيحاً في نفسه ، فان جعل الترخيص في موارد الشك في الوجوب أو الحرمة ـ على ما هو مقتضى أدلة البراءة ـ ممّا لا إشكال فيه ، مع أنّه يحتمل أن يكون الحكم الواقعي هو الوجوب أو الحرمة ، إذ لا منافاة بين الترخيص الظاهري في ظرف الجهل والالزام الواقعي ، كما هو مذكور في محلّه (١). إلاّ أنّه لا ربط له بالمقام ، إذ ليس الكلام في إمكان جعل الحكم الظاهري وعدمه ، بل البحث إنّما هو في الحكم الواقعي من حيث إنّه يمكن أخذ الظن بحكمٍ في موضوع حكمٍ آخر يضاده أم لا ، كما هو الحال في القطع ، فانّ الكلام فيه كان في إمكان أخذه في موضوع حكمٍ مضادٍ لمتعلقه ، باعتبار الحكم الواقعي ، إذ لا يتصور فيه حكم ظاهري.

والصحيح : أنّ أخذ الظن بحكم في موضوع حكم آخر مضاد له غير ممكن وإن كان الظن غير معتبر ، كما إذا قال المولى : إذا ظننت بوجوب الشيء الفلاني حرم عليك هذا الشيء ، وذلك لما تقدّم في القطع (٢) من أنّ الحكم الذي اخذ في موضوعه الظن وإن كان مقيداً بصورة الظن ، إلاّأنّ الحكم الذي تعلّق به الظن مطلق ، وإطلاقه يشمل صورة الظن به ، فيلزم اجتماع الضدّين في هذا الفرض ،

__________________

(١) راجع ص ١٢٥ وما بعدها

(٢) في ص ٤٨

٥٣

ففي مفروض المثال الحرمة وإن كانت مقيّدة بصورة الظن بالوجوب ، إلاّأنّ إطلاق الوجوب يشمل ما لو تعلّق به الظن وما لم يتعلق به ، ففي صورة تعلّق الظن به يلزم اجتماع الوجوب والحرمة ، وهو محال.

وتوهّم أنّه يحتمل أن يكون الظن مخالفاً للواقع ، فلا يكون هناك إلاّحكم واحد ، وهو ما اخذ الظن في موضوعه مدفوع ، بأ نّه يكفي في الاستحالة احتمال مطابقته للواقع ، فانّ احتمال اجتماع الضدّين أيضاً محال كما هو ظاهر.

تنبيه

لا يخفى أنّ البحث عن إمكان أخذ الظن بحكم في موضوع حكم آخر يخالفه أو يماثله أو يضاده وعدمه ، إنّما هو بحث علمي بَحت ، ولا تترتب عليه ثمرة عملية أصلاً ، إذ لم يوجد أخذ الظن في موضوع حكم من الأحكام في شيء من الأدلة الشرعية.

وجوب موافقة القطع التزاماً

وليعلم أنّه يجب تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل ما جاء به من الأحكام الالزامية وغير الالزامية ، بل فيما أخبر به من الامور التكوينية الخارجية ، من الأرض والسماء وما فيهما وما تحتهما وما فوقهما ، فانّ تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ذلك واجب ، ولكنّه خارج عن محل البحث ، لكونه من اصول الدين لا من الفروع ، باعتبار أنّ تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع ذلك يرجع إلى تصديق نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويجب أيضاً الاتيان بالواجبات التعبّدية مضافاً إلى الله (سبحانه وتعالى)

٥٤

ومتقرباً بها إليه على ما ذكرناه في بحث التعبدي والتوصلي (١) ، وهذا الوجوب ـ أي وجوب الاتيان بالعبادات مع قصد التقرب ـ أيضاً خارج عن محل الكلام ، فانّه مختص بالتعبديات ، ووجوب الموافقة الالتزامية على تقدير تسليمه لا اختصاص له بالتعبديات ، بل يجري في التوصليات أيضاً ، فليس المراد من الموافقة الالتزامية ـ في محل الكلام ـ هو الاتيان بالواجب مع قصد القربة ، بل المراد هو الالتزام القلبي بالوجوب المعبّر عنه بعقد القلب ، فيكون كل واجب ـ على تقدير وجوب الموافقة الالتزامية ـ منحلاً إلى واجبين : العمل الخارجي الصادر من الجوارح ، والعمل القلبي الصادر من الجوانح.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّ ثمرة هذا البحث تظهر في جريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، وفي أطراف العلم الاجمالي ، فيما إذا كانت الأطراف محكومة بالتكليف الالزامي فعلم إجمالاً بارتفاعه في بعض الأطراف ، فعلى القول بوجوب الموافقة الالتزامية لا يجري الأصل لكونه منافياً للالتزام بالحكم الواقعي وكان مخالفة عملية للحكم بوجوب الالتزام بالواقع. وأمّا على القول بعدم وجوب الموافقة الالتزامية فلا مانع من جريان الأصل.

إذا عرفت محل النزاع وثمرته فنقول : التحقيق عدم وجوب الموافقة الالتزامية ، إذ لم يدل عليه دليل من الشرع ولا من العقل. أمّا الأدلة الشرعية فظاهرها البعث نحو العمل والاتيان به خارجاً ، لا الالتزام به قلباً. وأمّا العقل فلا يدل على أزيد من وجوب امتثال أمر المولى ، فليس هناك ما يدل على لزوم الالتزام قلباً.

ثمّ لو تنزّلنا وسلّمنا وجوب الموافقة الالتزامية ، لا يترتب عليه ما ذكروه

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٩١

٥٥

من الثمرة ، وهي عدم جريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين وفي أطراف العلم الاجمالي بارتفاع التكليف الالزامي في بعضها ، وذلك لأنّه إن كان مراد القائل بوجوب الموافقة الالتزامية هو وجوب الالتزام بما هو الواقع على الاجمال ، فهو لا ينافي جريان الأصل في الموارد المذكورة ، إذ مفاد الاصول أحكام ظاهرية ووظائف عملية عند الجهل بالواقع ، ولا منافاة بينها وبين الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه ، فإذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة ، لا منافاة بين الالتزام بالاباحة الظاهرية للأصل ، والالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه من الوجوب أو الحرمة ، وكذا الحال في جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ، فانّه لا منافاة بين الالتزام بنجاسة الاناءين ظاهراً والاجتناب عنهما للاستصحاب ، والالتزام بطهارة أحدهما واقعاً إجمالاً.

وإن كان مراده هو وجوب الالتزام بكل حكم بعينه وبشخصه ، فهو ساقط لعدم القدرة عليه ، لعدم معرفته بشخص التكليف حتّى يلتزم به ، وبعد سقوطه لا مانع من جريان الأصل.

وإن كان مراده وجوب الالتزام بأحدهما على نحو التخيير ، فهو معلوم البطلان ، إذ كل تكليف يقتضي الالتزام به ، لا الالتزام به أو بضدّه على نحو التخيير ، مضافاً إلى أنّ الالتزام بالوجوب مع عدم العلم به ، أو الالتزام بالحرمة مع عدم العلم بها ، تشريع محرّم.

فتحصّل : أنّه لا مانع من جريان الأصل في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، وفي أطراف العلم الاجمالي من ناحية وجوب الموافقة الالتزامية.

نعم ، يبقى الكلام في جريان الأصل من جهة المقتضي وهو شمول إطلاقات أدلة الاصول لأطراف العلم الاجمالي وعدمه. والبحث عنه موكول إلى محلّه ، وهو

٥٦

مبحث الاصول العملية (١). ونتكلّم فيه هناك إن شاء الله تعالى.

قطع القطّاع

وليعلم أنّه ليس المراد من القطّاع من يحصل له القطع كثيراً ، لكونه عالماً بالملازمات في غالب الأشياء بالفراسة الفطرية أو بالاكتساب ، إذ قطعه حاصل من المبادئ المتعارفة التي لو اطّلع غيره عليها حصل له القطع أيضاً ، غاية الأمر أنّه عارف بتلك المبادئ دون غيره ، بل المراد من القطّاع من يحصل له القطع كثيراً من الأسباب غير العادية ، بحيث لو اطّلع غيره عليها لا يحصل له القطع منها.

إذا عرفت المراد من القطّاع ، فاعلم أنّه ربّما يقال بعدم الاعتبار بقطعه ، ولكن الصحيح خلافه ، لما عرفت سابقاً (٢) من أنّ حجّية القطع ذاتية لا تنالها يد الجعل إثباتاً ونفياً ، فهي غير قابلة للتخصيص بغير القطّاع. هذا في القطع الطريقي.

وأمّا القطع الموضوعي فأمره سعةً وضيقاً وإن كان بيد المولى ، فله أن يجعل موضوع حكمه نوعاً خاصاً من القطع ، وهو القطع الحاصل من الأسباب المتعارفة العادية ، إلاّ أنّه لا أثر في ذلك ، إذ القاطع وإن كان ملتفتاً إلى حاله في الجملة ، وأنّ قطعه قد يحصل من سبب غير عادي ، إلاّ أنّه لا يحتمل ذلك في كل قطع بخصوصه ، لأنّ القاطع بشيء يرى أنّ قطعه حصل من سبب ينبغي حصوله منه ، ويخطّئ غيره في عدم حصول القطع له من ذلك السبب ، فلا أثر للمنع عن العمل بالقطع الحاصل من سبب غير عادي بالنسبة إلى القطّاع.

__________________

(١) راجع ص ٤٠٤ وما بعدها

(٢) في ص ١٥

٥٧

الكلام في إمكان المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، ويقع الكلام تارةً في الصغرى وحصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية. واخرى في الكبرى وحجّية القطع بالحكم الشرعي الحاصل من المقدّمات العقلية.

ذكر صاحب الكفاية (١) قدس‌سره أنّه وإن نسب إلى بعض الأخباريين منع الكبرى وأ نّه لا اعتبار بالقطع الحاصل من المقدّمات العقلية ، إلاّأنّ مراجعة كلماتهم تشهد بكذب هذه النسبة ، وأ نّهم في مقام المنع عن الصغرى ، فانّ بعضهم في مقام منع الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. واستشهد في ذلك بما حكي عن السيّد الصدر قدس‌سره في باب الملازمة ، وبعضهم في مقام بيان عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية ، لأنّها لا تفيد إلاّالظن. واستشهد لذلك بكلام المحدِّث الاسترابادي قدس‌سره. ومن الواضح أنّ كلا الكلامين راجع إلى منع الصغرى وعدم حصول القطع من المقدمات العقلية ، انتهى ملخّصاً.

وما نقله عن المحدِّثين المذكورين وإن كان راجعاً إلى منع الصغرى ، كما ذكره ، إلاّأنّ كلام جملة منهم صريح في منع الكبرى ، وأ نّه لا يجوز العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ، فراجع رسائل شيخنا الأعظم الأنصاري (٢) قدس‌سره فانّه قد استقصى في نقل كلماتهم. ومن العجيب أنّ هذا الكتاب بمرأى من صاحب الكفاية قدس‌سره ومع ذلك أنكر منع الأخباريين عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة.

وكيف كان فتحقيق الكلام في الصغرى : أنّ الحكم العقلي ـ بمعنى إدراك

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٠ و ٢٧١

(٢) فرائد الاصول ١ : ٦١ ـ ٦٥

٥٨

العقل ـ يتصوّر على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يدرك العقل وجود المصلحة أو المفسدة في فعل من الأفعال ، فيحكم بالوجوب أو الحرمة ، لتبعية الأحكام الشرعية للمصالح والمفاسد عند أكثر الإمامية والمعتزلة.

الثاني : أن يدرك العقل الحسن أو القبح ، كادراكه حسن الطاعة وقبح المعصية ، فيحكم بثبوت الحكم الشرعي في مورده ، لقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع.

الثالث : أن يدرك العقل أمراً واقعياً مع قطع النظر عن ثبوت شرع وشريعة ، نظير إدراكه استحالة اجتماع النقيضين أو الضدّين ، ويسمى بالعقل النظري ، وبضميمة حكم شرعي إليه يكون بمنزلة الصغرى ، يستكشف الحكم الشرعي في مورده.

أمّا القسم الأوّل : فالصحيح أنّه غير مستلزم لثبوت الحكم الشرعي ، إذ قد تكون المصلحة المدركة بالعقل مزاحمة بالمفسدة وبالعكس ، والعقل لا يمكنه الاحاطة بجميع جهات المصالح والمفاسد والمزاحمات والموانع ، فبمجرد إدراك مصلحة أو مفسدة لا يمكن الحكم بثبوت الحكم الشرعي على طبقهما ، وهذا القسم هو القدر المتيقن من قوله عليه‌السلام : «إنّ دين الله لا يصاب بالعقول» وقوله عليه‌السلام : «ليس شيء أبعد من دين الله عن عقول الرجال» (١) فان كان مراد الأخباريين من عدم حصول القطع بالحكم الشرعي من المقدمات العقلية هذا المعنى فهو الحق.

وأمّا القسم الثاني : فهو وإن كان ممّا لا مساغ لانكاره ، فانّ إدراك العقل

__________________

(١) تقدّم الحديثان في ص ٢٦ فراجع

٥٩

حسن بعض الأشياء وقبح البعض الآخر ضروري ، كيف ولولا ذلك لا طريق إلى إثبات النبوّة والشريعة ، فانّه لولا حكم العقل بقبح إجراء المعجزة على يد الكاذب لم يمكن تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لاحتمال الكذب في ادعائه النبوة. إلاّ أنّك قد عرفت في بحث التجري (١) أنّ هذا الحكم العقلي في طول الحكم الشرعي وفي مرتبة معلوله ، فانّ حكم العقل بحسن الاطاعة وقبح المعصية إنّما هو بعد صدور أمر مولوي من الشارع ، فلا يمكن أن يستكشف به الحكم الشرعي.

وأمّا القسم الثالث : فلا ينبغي التوقف والاشكال في استتباعه الحكم الشرعي ، فانّ العقل إذا أدرك الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته أو بين وجوب شيء وحرمة ضدّه وثبت وجوب شيء بدليل شرعي ، فلا محالة يحصل له القطع بوجوب مقدمته وبحرمة ضدّه أيضاً ، إذ العلم بالملازمة والعلم بثبوت الملزوم علّة للعلم بثبوت اللاّزم ، ويسمّى هذا الحكم بالعقلي غير المستقل ، لكون إحدى مقدّمتيه شرعية على ما عرفت.

وأمّا الكبرى ـ وهي حجّية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ـ فتحقيق الحال فيها يقتضي البحث أوّلاً : عن مقام الثبوت ، وأنّ المنع عن العمل بالقطع الحاصل من غير الكتاب والسنّة ممكن أو محال. وثانياً عن مقام الاثبات ، وأنّ الأدلة التي ذكرها الأخباريون تدل على عدم حجّية القطع المذكور أم لا.

أمّا الكلام في مقام الثبوت ، فهو أنّه ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري (٢) قدس‌سره وأكثر من تأخر عنه : أنّه لا يمكن المنع عن العمل بالقطع ولو كان

__________________

(١) في ص ٢٥

(٢) فرائد الاصول ١ : ٥٢ ، وراجع أيضاً التنبيه الثاني ص ٦١

٦٠