موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

وفيه : أنّه لا يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي ، بناءً على ما هو التحقيق من أنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي أيضاً ، فيكفي في جريان الاستصحاب ترتّب الأثر على نفس الاستصحاب. وعليه فلا مانع من إجراء الاستصحاب في المقام وإحراز عدم الابتلاء بالتعبّد ، ويترتب عليه عدم وجوب التعلّم ، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل. نعم ، بناءً على عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي وكونه بمنزلة القطع الطريقي فقط ، كما عليه صاحب الكفاية (١) قدس‌سره يعتبر في جريان الاستصحاب كون المستصحب أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي ، فلا يجري في المقام ، لما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ولكنّه خلاف ما التزم به في مبحث الاستصحاب ، فانّه اختار فيه كون الاستصحاب بمنزلة القطع الموضوعي أيضاً (٢).

هذا ، ولكن التحقيق أنّ الاستصحاب غير جارٍ في المقام ، للأدلة الدالة على وجوب التعلّم ، فانّ إطلاقها يشمل المقام. وتخصيصها بموارد العلم أو الاطمئنان بالابتلاء مستهجن لندرتها ، فانّ الغالب في مسائل الشكوك ونحوها مجرد احتمال الابتلاء ، فيكون وجوب التعلّم عند احتمال الابتلاء ثابتاً بالدليل ، ومعه لا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب كما هو واضح.

الجهة الرابعة : لا شكّ في أنّ الشاك في التكليف لو ترك الفحص واقتحم في الشبهة فصادف ارتكاب الحرام يستحقّ العقاب على مخالفة الواقع ، إذ بعد وجوب الفحص طريقياً تنجّز الواقع عليه. هذا فيما إذا كان الواقع بحيث لو تفحّص المكلف عنه لظفر به. وأمّا فيما إذا كان الواقع على نحو لا يصل المكلف

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٣ و ٢٦٤

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٤١ ، راجع أيضاً أجود التقريرات ٣ : ١٩

٥٨١

إليه بعد الفحص ، بل ربّما يؤدّي فحصه إلى خلافه ، فهل يستحقّ العقاب على مخالفة الواقع أم لا؟ وجهان بل قولان.

ولا يخفى أنّ استحقاق العقاب من جهة التجري وعدم الفحص مبني على ما تقدّم الكلام فيه في مبحث التجري (١) ، فمحل الكلام فعلاً إنّما هو استحقاق العقاب على مخالفة الواقع ، فالتزم المحقق النائيني (٢) قدس‌سره باستحقاق العقاب ، بدعوى أنّ مخالفة الواقع ما لم تكن مقرونة بالمؤمّن شرعاً أو عقلاً موجبة لاستحقاق العقاب. والمقام كذلك لأنّ المفروض عدم جريان البراءة الشرعية ولا العقلية قبل الفحص على ما تقدّم بيانه (٣).

وقد ذكرنا في الدورة السابقة أنّه يمكن الالتزام بعدم استحقاق العقاب لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ المراد بالبيان جعل التكليف في معرض الوصول على ما تقدّم بيانه ، فمع عدم تمكن المكلف من الوصول إليه كان البيان غير تام من قبل الشارع ، ومعه يستقل العقل بقبح العقاب ، فتكون مخالفة الواقع حينئذ مقرونة بالمؤمّن العقلي ، غاية الأمر أنّ المكلف غير ملتفت إلى عدم تمامية البيان من قبل المولى وكان يحتملها فتجرّى واقتحم الشبهة بلا فحص ، فلو كان مستحقاً للعقاب ، فانّما هو على التجري لا على مخالفة الواقع ، لأنّ الواقع ممّا لم تقم الحجّة عليه ، فيكون العقاب عليه بلا بيان.

ولكن التحقيق هو التفصيل في المقام بأن يقال : إن بنينا على وجوب الفحص لآية السؤال والأخبار الدالة على وجوب التعلّم وتحصيل العلم بالأحكام (٤)

__________________

(١) راجع ص ١٧ وما بعدها

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٦٦ ، فوائد الاصول ٤ : ٢٨٧ و ٢٨٨

(٣) راجع ص ٥٦٦ وما بعدها

(٤) كما تقدّم في ص ٥٧١

٥٨٢

فالحق عدم استحقاق العقاب ، لعدم إمكان التعلّم والفحص وتحصيل العلم على الفرض ، فلا يكون المقام مشمولاً للآية الشريفة والأخبار الدالة على وجوب التعلّم. وإن بنينا على وجوب الفحص لأجل العلم الاجمالي أو لأجل أدلة التوقف والاحتياط ، بناءً على كونها دالة على الوجوب المولوي الطريقي لا الارشادي المحض ، على ما استظهرنا منها (١) ، فالحق استحقاق العقاب على مخالفة الواقع ، لكونه حينئذ منجّزاً بالعلم الاجمالي أو بوجوب التوقف والاحتياط.

الجهة الخامسة : لا ينبغي الاشكال في أنّ العمل الصادر من الجاهل المقصّر قبل الفحص محكوم بالبطلان ظاهراً ، بمعنى أنّ العقل يحكم بعدم جواز الاجتزاء به في مقام الامتثال ، لعدم إحراز مطابقته للواقع. وهذا المعنى من البطلان هو المراد لصاحب العروة قدس‌سره في قوله : إنّ عمل العامي بلا تقليد ولا احتياط باطل (٢) ، فلا وجه لما ذكره المحشّون على قوله المذكور ، على تفصيل يأتي ، لأنّ التفصيل الذي ذكره بعد سطور (٣) بأ نّه إن كان مطابقاً للواقع فكذا ، وإن كان مخالفاً له فكذا ، إنّما هو بعد انكشاف الواقع. والمراد من البطلان في صدر عبارته بمعنى عدم جواز الاجتزاء به بحكم العقل ، إنّما هو قبل انكشاف الواقع ، فلا ربط له بالتفصيل المذكور بعد سطور. ولا فرق في الحكم بالبطلان ظاهراً بالمعنى المذكور بين المعاملات والعبادات إذا فرض تمشّي قصد القربة منه في العبادات.

وإلاّ فلا ينبغي الشك في بطلان العبادات واقعاً. هذا كلّه قبل انكشاف الحال بالعلم أو بالحجّة. وأمّا إذا تبيّن الحال فالصور المتصورة أربع :

الصورة الاولى : أن تنكشف مخالفة المأتي به للواقع بفتوى من كان يجب

__________________

(١) في ص ٣٤٦

(٢) العروة الوثقى ١ : ١٨ / المسألة ٧

(٣) في المسألة ١٦

٥٨٣

الرجوع إليه حين العمل ، وبفتوى من يجب الرجوع إليه فعلاً ، أو كان من يجب الرجوع إليه فعلاً هو الذي كان يجب الرجوع إليه حين العمل. ولا إشكال في الحكم ببطلان العمل في هذه الصورة ، لعدم مطابقته للواقع على حسب الحجّة الفعلية والحجّة حين العمل.

الصورة الثانية : أنّ تنكشف مطابقة المأتي به للواقع بفتوى كلا المجتهدين ، أو كان من يجب الرجوع إليه فعلاً هو الذي كان يجب الرجوع إليه حين العمل ، وكان العمل المأتي به مطابقاً للواقع بفتواه. ولا إشكال في الحكم بصحّة العمل في هذه الصورة ، لكونه مطابقاً للواقع على حسب الحجّة الفعلية والحجّة حين العمل ، بل يستفاد الحكم بصحّته في هذه الصورة من الحكم بالصحّة في الصورة الرابعة بالأولوية القطعية.

الصورة الثالثة : أن تنكشف مطابقة العمل المأتي به لفتوى من كان يجب الرجوع إليه حين العمل ، ومخالفته لفتوى من يجب الرجوع إليه فعلاً. والظاهر هو الحكم بالبطلان في هذه الصورة ، لأنّ المقتضي للصحّة إمّا أن يكون الأدلة الخاصّة الدالة على عدم وجوب الاعادة في خصوص الصلاة كحديث لاتعاد (١) بناءً على عدم اختصاصه بالناسي ، وشموله للجاهل أيضاً كما هو الصحيح ، ولذا نحكم بصحّة عمل الجاهل القاصر خلافاً للمحقق النائيني قدس‌سره فانّه أصرّ على اختصاصه بالناسي (٢) ، وهو لا يشمل الجاهل المقصّر ، لعدم إتيانه بوظيفة العبودية من التعلّم والفحص. وبالجملة : الجاهل المقصّر بمنزلة العامد ، فلا يشمله حديث لا تعاد وأمثاله.

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٣٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ١ ح ٤

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٢٨ ، فوائد الاصول ٤ : ٢٣٨ و ٢٣٩ ، كتاب الصلاة ٣ : ٥ ، ٦

٥٨٤

وإمّا أن يكون المقتضي للصحّة الأدلة العامّة التي أقاموها على دلالة الأوامر الظاهرية للاجزاء ، بلا فرق بين الصلاة وغيرها ، وعمدتها الاجماع على عدم وجوب الاعادة والقضاء بعد امتثال الأوامر الظاهرية ولو انكشف خلافها ، ولا يكون المقام داخلاً في معقد الاجماع يقيناً ، لأنّ الاجماع على الاجزاء وعدم وجوب الاعادة والقضاء إنّما هو فيما إذا كان العامل في عمله مستنداً إلى الأمر الظاهري. وأمّا إذا لم يستند إليه كما في المقام فلا إجماع على صحّته.

الصورة الرابعة : أن تنكشف مطابقة العمل المأتي به للواقع بحسب فتوى المجتهد الفعلي ، ومخالفته له بفتوى المجتهد الأوّل. والحكم في هذه الصورة الصحّة ، إذ الحجّة الفعلية قامت على صحّة العمل وعدم وجوب القضاء ، فجاز الاستناد إليها في ترك القضاء.

نعم ، هنا شيء وهو أنّه لو كان العمل مخالفاً للواقع في نفس الأمر ومضى وقته ، صحّ عقابه على مخالفة الواقع بالنسبة إلى ما مضى من الأعمال ، لكون العمل مخالفاً للواقع على الفرض ، وعدم الاستناد إلى الحجّة فيه ، والسر فيه : أنّ ترك الواجب الواقعي في الوقت له عقاب غير عقاب ترك القضاء ، فالاستناد إلى فتوى المجتهد الفعلي بصحّة العمل المأتي به وعدم وجوب القضاء يوجب رفع العقاب على ترك القضاء ، لا رفع العقاب على ترك الأداء ، إذ تركه كان بلا استناد إلى الحجّة. فمن صلّى بلا استناد إلى فتوى مجتهد ومضى وقتها ، ثمّ انكشف صحّتها بفتوى المجتهد الفعلي ، بمعنى أنّه قلّد من أفتى بصحّتها وعدم وجوب القضاء عليه وكانت في الواقع فاسدة ، صحّ عقابه لترك الأداء ، لكونه بلا استناد إلى حجّة ، فلا يكون معذوراً فيه. نعم ، لا يصح عقابه على ترك القضاء ، لاستناده فيه إلى الحجّة الفعلية ، فيكون معذوراً لا محالة. نعم ، لو صلّى بلا تقليد مجتهد ثمّ قلّد من أفتى بصحّة صلاته والوقت باقٍ وكانت صلاته فاسدة

٥٨٥

في نفس الأمر ، لا يصح عقابه على ترك الأداء أيضاً ، لاستناده حينئذ في عدم الاعادة إلى الحجّة الفعلية.

ومن جميع ما ذكرناه في حكم المقلد ظهر حكم المجتهد التارك للفحص أيضاً ، فانّ نسبة الأمارة إليه نسبة فتوى المجتهد إلى المقلد ، بلا تفاوت بينهما من حيث الحكم أصلاً ، فلا حاجة إلى الاعادة.

ثمّ إنّ المتسالم عليه بين الفقهاء صحّة الصلاة جهراً في موضع الاخفات وبالعكس ، وكذا صحّة الاتمام في موضع القصر ، وكذا صحّة الصوم في السفر.

وكل ذلك مع الجهل بالحكم ولو تقصيراً ، ومع ذلك التزموا باستحقاق العقاب على ترك الواقع الناشئ عن ترك التعلّم والفحص. وأصل الحكم بالصحّة في هذه الموارد ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف نصّاً (١) وفتوىً ، إنّما الاشكال في الجمع بين الحكم بالصحّة واستحقاق العقاب ، فانّه كيف يعقل الحكم بصحّة المأتي به والحكم باستحقاق العقاب على ترك الواجب ، ولا سيّما مع بقاء الوقت ، والحكم بعدم وجوب الاعادة.

وقد اجيب عن ذلك بوجهين :

الأوّل : ما ذكره صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره وهو أنّه يمكن أن يكون المأتي به حال الجهل مشتملاً على مصلحة ملزمة ، وأن يكون الواجب الواقعي مشتملاً على تلك المصلحة وزيادة لا يمكن تداركها عند استيفاء المصلحة التي

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٨٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٢٦ ح ١ ، الوسائل ٨ : ٥٠٦ / أبواب صلاة المسافر ب ١٧ ح ٤ ، الوسائل ١٠ : ١٧٩ / أبواب من يصح منه الصوم ب ٢ ح ٢ وغيره

(٢) كفاية الاصول : ٣٧٨

٥٨٦

كانت في العمل المأتي به جهلاً ، لتضادّ المصلحتين ، فالحكم بالصحّة إنّما هو لاشتمال المأتي به على المصلحة الملزمة ، وعدم إمكان استيفاء الزيادة ، والحكم باستحقاق العقاب إنّما هو لأجل أنّ فوات المصلحة الزائدة مستند إلى تقصيره وترك التعلّم ، فلا منافاة بينهما.

وفيه أوّلاً : أنّ التضاد إنّما هو بين الأفعال ، وأمّا التضاد بين الملاكات مع إمكان الجمع بين الأفعال فهو أمر موهوم يكاد يلحق بأنياب الأغوال.

وثانياً : أنّ المصلحتين إن كانتا ارتباطيتين ، فلا وجه للحكم بصحّة المأتي به ، مع فرض عدم حصول المصلحة الاخرى ، وإن كانتا استقلاليتين ، لزم تعدّد الواجب وتعدّد العقاب عند ترك الصلاة رأساً ، وهو خلاف الضرورة.

الثاني : ما ذكره الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره (١) من الالتزام بالترتب ، بتقريب أنّ الواجب على المكلف ابتداءً هو صلاة القصر مثلاً ، وعلى تقدير تركه واستحقاق العقاب على تركه ، فالواجب هو التمام ، فلا منافاة بين الحكم بصحّة المأتي به واستحقاق العقاب على ترك الواجب الأوّل.

وأورد المحقق النائيني قدس‌سره (٢) على هذا الوجه بوجوه :

الأوّل : أنّ الخطاب المترتب لا بدّ من أن يكون موضوعه عصيان الخطاب المترتب عليه ، كما في مسألة الصلاة والازالة. ومن الظاهر عدم إمكان ذلك في المقام ، لأنّ المكلف إن التفت إلى كونه عاصياً للتكليف بالقصر ، انقلب كونه جاهلاً بوجوب القصر إلى كونه عالماً به ، فيخرج من عنوان الجاهل بالحكم ، فلا يحكم بصحّة ما أتى به. وإن لم يلتفت إلى ذلك ، فلا يعقل أن يكون الحكم

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٧ / المبحث الثامن عشر

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٧٢ و ٥٧٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٢٩٣

٥٨٧

المجعول بهذا العنوان محرّكاً له في مقام العمل.

الثاني : أنّ وجوب الصلاة بما أنّه غير موقت بوقت خاص ، بل هو ثابت موسعاً بين المبدأ والمنتهى ، فعصيانه لا يتحقق إلاّبخروج الوقت. وعليه فكيف يعقل تحقق العصيان في أثناء الوقت الذي فرض موضوعاً للحكم الثاني.

الثالث : أنّ الترتب لو سلّم إمكانه في المقام لا دليل على وقوعه ، فالقول به قول بغير دليل ، وهذا بخلاف الترتب في موارد التزاحم إذ قد عرفت في محلّه (١) أنّ القول بالترتب فيه ممّا يقتضيه نفس إطلاق دليل الواجب ، بلا حاجة إلى التماس دليل آخر.

هذا ، ولكن الانصاف أنّه لايرد عليه شيء من الوجوه المذكورة. أمّا الوجهان الأوّلان فلما ذكرناه في محلّه (٢) من أنّ الالتزام بالخطاب الترتبي لا يتوقف على أن يكون موضوعه عصيان التكليف الآخر ، بل يصح ذلك مع كون الموضوع فيه مطلق الترك ، فصحّ أن يقال في المقام : إنّ القصر واجب مطلق ، والتمام واجب مشروط بترك القصر جهلاً بوجوبه. وأمّا الوجه الأخير فلأنّ صحّة العمل المأتي به مفروغ عنها في المقام ، وقد دلّ الدليل عليها ، إنّما الكلام في تصويرها وإمكانها ، فلو أمكن القول بالترتب لا يحتاج وقوعه إلى أزيد من الأدلة الدالة على صحّة المأتي به جهلاً.

والصحيح أن يقال : إنّ الترتب وإن كان أمراً معقولاً في نفسه ، إلاّ أنّه لا يمكن الالتزام به في خصوص المقام لأمرين : الأوّل : أنّ لازم ذلك هو الالتزام

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٣٨٨ وما بعدها

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٤٨٠ ـ ٤٨١

٥٨٨

بتعدد العقاب عند ترك الصلاة رأساً ، وقد عرفت بطلانه (١). الثاني : أنّ ذلك منافٍ للروايات (٢) الكثيرة الدالة على أنّ الواجب على المكلف في كل يوم وليلة خمس صلوات ، إذ يلزم على القول بالترتب كون الواجب على من أتمّ صلاته وهو مسافر ثمان صلوات ، وكذا على من أجهر في صلاته موضع الاخفات وبالعكس كما لا يخفى.

والذي ينبغي أن يقال في مقام الجواب عن أصل الاشكال : إنّا لا نلتزم باستحقاق العقاب في هذه الموارد ، فانّ مسألة استحقاق العقاب وعدمه عقلية لا يعتمد فيها على الشهرة والاجماع. مضافاً إلى عدم حجّية الشهرة في نفسها ولو في المسائل الشرعية على ما ذكر في محلّه (٣) ، وأنّ الاجماع غير محقق لعدم التعرّض لها في كلمات كثير من الأصحاب ، فنلتزم بصحّة العمل المأتي به بمقتضى الدليل وبعدم استحقاق العقاب في هذه الموارد.

وتوضيح ذلك : أنّ الجاهل بوجوب القصر مثلاً لو صلّى قصراً ، وحصل منه قصد القربة حال العمل ، فامّا أن يحكم بصحّة صلاته وعدم وجوب الاعادة عليه بعد ارتفاع جهله ، أو يحكم بفسادها ووجوب الاعادة.

أمّا على الأوّل : فلا مناص من الالتزام بأنّ الحكم للجاهل هو التخيير بين القصر والتمام ، وهذا هو الصحيح ، فيحكم بصحّة القصر بمقتضى إطلاقات الأدلة الدالة على وجوب القصر على المسافر ، غاية الأمر أنّه يرفع اليد عن ظهورها في الوجوب التعييني بما دلّ على صحّة التمام. مضافاً إلى استبعاد الحكم ببطلان

__________________

(١) في الرد الثاني على صاحب الكفاية ، في ص ٥٨٧

(٢) الوسائل ٤ : ١٠ / أبواب أعداد الفرائض ب ٢

(٣) راجع ص ١٦٦ ـ ١٦٧

٥٨٩

القصر والأمر باعادة الصلاة قصراً بلا زيادة ونقصان ، ويحكم بصحّة التمام أيضاً لورود النص الخاص ، فيكون المكلف الجاهل بوجوب القصر مخيّراً بين القصر والتمام وإن لم يكن ملتفتاً إلى التخيير. وعليه فلا موجب لاستحقاق العقاب عند الاتيان بالتمام وترك القصر.

وأمّا على الثاني : فلا مناص من الالتزام بكون التمام واجباً تعيينياً عند الجهل بوجوب القصر ، ومعه كيف يمكن الالتزام باستحقاق العقاب على ترك القصر ، وكذا الحال في مسألة الجهر والاخفات ، فلا حاجة إلى الاعادة. ولتوضيح المقام نفرض شخصين كان كل واحد منهما جاهلاً مقصّراً ، فأتى أحدهما بصلاة الصبح مثلاً جهراً والآخر إخفاتاً ، فنحكم بصحّة صلاة الثاني وإن كانت مخالفة للواقع بمقتضى النص الخاص. وحينئذ إن حكمنا ببطلان صلاة الأوّل مع مطابقتها للواقع ، يكون الأمر أقبح ، للحكم ببطلان ما هو مطابق للواقع ، وصحّة ما هو مخالف له ، مضافاً إلى لزوم القول ببطلان الصلاة مع الساتر إذا كان المصلي جاهلاً باعتبار الستر في الصلاة ، وكذا يلزم القول ببطلان الصلاة إلى القبلة إذا كان المصلي جاهلاً باعتبار الاستقبال في الصلاة. وهكذا بالنسبة إلى سائر الشروط ، فلا مناص من الحكم بصحّة صلاته أيضاً ، فإذا حكمنا بصحّة الصلاة جهراً وإخفاتاً فلا محالة يكون الجاهل مخيراً بين الجهر والاخفات وإن لم يكن ملتفتاً إلى التخيير حين العمل ، فلا وجه للالتزام باستحقاق العقاب.

الجهة السادسة : اشتراط الرجوع إلى الاصول العملية بالفحص مختص بالشبهات الحكمية ، لاختصاص دليله بها. وأمّا الشبهات الموضوعية ، فلا يكون الرجوع إلى الأصل فيها مشروطاً بالفحص ، بل يجوز الرجوع إليها ولو قبل الفحص ، لاطلاق أدلتها وعدم جريان الوجوه التي ذكرت لوجوب الفحص في الشبهات الحكمية ها هنا. مضافاً إلى خصوص بعض الروايات الواردة في

٥٩٠

موارد خاصّة ، كصحيحة زرارة (١) الواردة في الاستصحاب.

وبالجملة : عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف ، إلاّ أنّه ذكر جماعة وجوب الفحص في بعض موارد الشبهات الموضوعية ممّا كان العلم بالحكم فيه متوقفاً على الفحص عادة ، منها : ما إذا شكّ في المسافة فقالوا يجب الفحص والسؤال من أهل الخبرة ، مع كون المورد مجرىً لاستصحاب عدم تحقق المسافة. ومنها : ما إذا شكّ في تحقق الاستطاعة إلى الحج من حيث المال أو من جهة اخرى. ومنها : ما إذا شك في زيادة الربح عن مؤونة السنة ، واستدلّوا لوجوب الفحص في هذه الموارد بأنّ جعل الحكم في مورد يتوقف العلم به على الفحص يدل بالملازمة العُرفية على وجوب الفحص ، وإلاّ لزم اللغو في تشريعه.

وفيه : أنّ الكبرى المذكورة وإن كانت مسلّمة ، إلاّ أنّها غير منطبقة على الأمثلة المذكورة ، فانّ العلم بتحقق المسافة في السفر وبلوغ المال حدّ النصاب أو كفايته للحج أو زيادته عن مؤونة السنة قد يحصل بلا احتياج إلى الفحص وقد يحصل العلم بعدمه ، وقد يكون مشكوكاً فيه كبقية الموضوعات الخارجية.

نعم ، ربّما يتفق توقف العلم بالموضوعات المذكورة على الفحص ، والتوقف أحياناً من باب الاتفاق لا يوجب وجوب الفحص ، وإلاّ لوجب الفحص عن أكثر الموضوعات.

نعم ، بناءً على ما هو المشهور في الخمس من تعلّقه بالربح حين حصوله ، وكون التأخير إلى آخر السنة من باب الارفاق ، وجب الفحص عند الشك في الزيادة على المؤونة ، لأنّ الوجوب حينئذ يكون متيقناً إنّما الشك في سقوطه

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٦ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ١

٥٩١

لأجل الشك في كونه زائداً على المؤونة فيجب الفحص لاحراز السقوط بعد العلم بالوجوب. وأمّا على ما ذهب إليه ابن إدريس قدس‌سره (١) من تعلّق الخمس بالربح بعد مضي السنة وهو الظاهر ، فلا وجه لوجوب الفحص كما ذكرناه (٢).

ثمّ إنّ المحقق النائيني قدس‌سره (٣) قد اعتبر في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية أن لاتكون مقدّمات العلم بأجمعها تامّة. وأمّا فيما إذا كانت المقدّمات تامّة بحيث لا يحتاج حصول العلم إلاّإلى مجرد النظر ، فلا تجري البراءة بل لا بدّ من النظر وتحصيل العلم أو الاحتياط. ومثّل لذلك بما إذا كان المكلف بالصوم في سطح لا يتوقف علمه بطلوع الفجر إلاّعلى مجرد النظر إلى الافق ، فلا يجوز له

__________________

(١) السرائر ١ : ٤٨٩

(٢) هكذا ذكر سيّدنا الاستاذ العلاّمة (دام ظلّه) وفي ذهني القاصر أنّه لا فرق بين مسلك المشهور وما ذهب إليه الحلِّي قدس‌سره في عدم وجوب الفحص ، إذ لا خلاف بينهم في عدم تعلّق الخمس في مقدار المؤونة ، بل الاتفاق حاصل على تعلّق الخمس بالمقدار الزائد عن المؤونة ، إنّما الخلاف في أنّ تعلّق الخمس بالمقدار الزائد عن المؤونة هل هو حين حصوله كما هو المشهور ، أو بعد مضي السنة كما عليه الحلي قدس‌سره فلو شكّ في زيادة الربح عن مؤونة السنة ، كان الشك في الوجوب على كلا القولين ، فلا وجه لوجوب الفحص على كليهما. نعم ، لو كان المشهور قائلاً بتعلّق الخمس بمطلق الربح ولو لم يكن زائداً على المؤونة ، وأنّ ما يصرفه المكلف في مؤونته عفو وإرفاق منه تعالى عليه ، كان لوجوب الفحص وجه لكون الوجوب حينئذ معلوماً ، إنّما الشك في السقوط والعفو ، ولكنّ المشهور لم يقولوا بذلك على ما راجعنا عاجلاً ، ولا بدّ من المراجعة التامّة والفحص الأكيد ، ومن الله سبحانه وتعالى التوفيق والعناية

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٥٥٦ ، فوائد الاصول ٤ : ٣٠٢

٥٩٢

الرجوع إلى استصحاب بقاء الليل أو البراءة بدون النظر ، لأنّ مجرد النظر لا يعدّ من الفحص عرفاً ليحكم بعدم وجوبه.

وفيه : أنّ مجرد النظر وفتح العين من دون إعمال مقدّمة اخرى وإن كان لا يعدّ من الفحص ، إلاّأنّ الفحص بعنوانه لم يؤخذ في لسان دليل ليكون الاعتبار بصدقه عرفاً ، بل المأخوذ في أدلة البراءة إنّما هو الجاهل وغير العالم.

ولا شك في أنّ المكلف بالصوم في المثال المذكور جاهل بطلوع الفجر ، ولا دليل على وجوب النظر ليكون مقيّداً لاطلاقات الأدلة الدالة على الاستصحاب أو البراءة ، فالاطلاقات المذكورة محكّمة لا وجه لتقييدها.

الجهة السابعة : ذكر الفاضل التوني (١) قدس‌سره على ما حكى عنه شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره للبراءة شرطين آخرين بعد الفراغ عن كونها مشروطةً بالفحص :

أحدهما : أن لا يكون جريانها موجباً للضرر على مسلم أو من بحكمه ، ومثّل له بما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلاً فهربت دابته ، فانّ إجراء البراءة في هذه الموارد يوجب الضرر على المالك.

ثانيهما : أن لا يكون مستلزماً لثبوت حكم إلزامي من جهة اخرى ، ومثّل له بما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الاناءين ، فانّ جريان البراءة عن وجوب أحدهما يوجب وجوب الاجتناب عن الآخر ، للعلم الاجمالي بنجاسة أحدهما.

وبما إذا لاقى الماء المشكوك في كونه كراً النجاسة ، فانّ جريان أصالة عدم الكرية يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عنه. وكذا إذا علم بكرية الماء وشكّ في تقدّمها على ملاقاة النجاسة ، فانّ جريان أصالة عدم التقدّم يوجب الاجتناب

__________________

(١) ، (٢) الوافية : ١٩٣ وفرائد الاصول ٢ : ٥٢٩

٥٩٣

عنه ، وهذا المثالان [لا] ينطبقان على البراءة. وإنّما هما مثالان للاستصحاب.

ولم يظهر وجه لذكرهما في المقام.

أمّا الشرط الأوّل : فقد أورد عليه الشيخ (١) قدس‌سره وغيره بأنّ البراءة وإن لم تكن جاريةً في موارد جريان قاعدة لا ضرر ، إلاّ أنّه لا ينبغي عدّه من شرائطها ، إذ مع جريان قاعدة لا ضرر ينتفي موضوع البراءة وهو الشك ، فانّ القاعدة ناظرة إلى الواقع ، وتكون من جملة الأدلة الاجتهادية. ولا مجال للرجوع إلى الأصل مع وجود الدليل كما هو الحال في سائر الاصول العملية بالنسبة إلى الأدلة الاجتهادية.

هذا ملخص ما ذكره الشيخ قدس‌سره من الاشكال ، فإن كان مراد الفاضل التوني هذا المعنى ، فالاشكال وارد عليه كما ذكره الشيخ قدس‌سره.

ولكن يحتمل أن يكون مراده ما ذكرناه في أوّل بحث البراءة من أنّ حديث الرفع وارد في مقام الامتنان (٢) ، بقرينة انتساب الامّة إليه في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «رفع عن امّتي ...» (٣) فلا بدّ في شموله أن لا يكون فيه خلاف الامتنان على أحد من الامّة ، فلو لزم من جريان البراءة تضررّ مسلم ، فلا تجري ولا يشمله حديث الرفع ، ولذا ذكرنا في محلّه (٤) أنّ حديث الرفع لا يقيد به إطلاق قوله عليه‌السلام «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» (٥) ، فلو أتلف مال الغير

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٣٢

(٢) راجع ص ٣١٢

(٣) الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١

(٤) في ص ٣١٢

(٥) [ذكر قدس‌سره في فقه المكاسب أنّ هذه القاعدة لم تذكر في رواية خاصّة بل هي متصيدة من موارد شتّى ، مصباح الفقاهة ٣ : ١٣١]

٥٩٤

جهلاً أو خطأ أو نسياناً لا يمكن القول بعدم الضمان لأجل حديث الرفع ، لكونه خلاف الامتنان على المالك ، بخلاف الأدلة الدالة على وجوب الكفارة على من أفطر في شهر رمضان مثلاً ، فانّ حديث الرفع يقيدها بما إذا كان عالماً عامداً ، ولم يصدر الافطار منه خطأ أو نسياناً.

وأمّا الأمثلة المذكورة في كلام الفاضل التوني فلا يمكن التمسّك فيها بقاعدة لا ضرر ، لوقوع الضرر فيها لا محالة إمّا على المالك أو على المتلف ، فانّه لو حكم بالضمان لزم الضرر على المتلف ، ولو حكم بعدم الضمان لزم الضرر على المالك. ولا يمكن جريان البراءة عن الضمان ، لكونه خلاف الامتنان على المالك ، فيحكم بالضمان لاطلاق قوله عليه‌السلام : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» فيما إذا ترتب الطيران وموت الولد وهروب الدابة على فعل هذا الشخص ترتب المعلول على العلّة بنظر العرف ، بحيث يعدّ فعله إتلافاً بنظرهم وإن لم يكن بنحو العلية الحقيقية الفلسفية ، فانّه من الواضح ترتب الطيران على فتح القفص وكونه إتلافاً عرفاً. وكذا المثال الثالث إذا كان الحيوان ممّا يترتب هروبه على الامساك كالغزال بل الفرس. وكذا المثال الثاني إذا انحصر بقاء الولد بلبن امه ، بحيث يعدّ حبس امه إتلافاً له في نظر العرف. وأمّا إذا أمكن بقاؤه بتغذيته بشيء آخر ، بحيث لا يعدّ حبس امه إتلافاً له ، فلا يكون ضامناً. وبالجملة الميزان هو صدق الاتلاف عرفاً.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه : أنّه لو كان مراد الفاضل التوني قدس‌سره أنّ جريان البراءة مشروط بعدم كونه منافياً للامتنان ، فهو متين لايرد عليه شيء.

نعم ، ذكر في ذيل عبارته المحكية في الرسائل ما هذا لفظه : فلا علم ولا ظن بأنّ

٥٩٥

الواقعة غير منصوصة ، فلا يتحقق شرط التمسّك بالأصل (١) انتهى. ويظهر منه أنّ جريان الأصل مشروط بالعلم بعدم النص ، وهذا واضح الفساد ، فانّ الأصل مشروط بعدم العلم بالنص ، لا بالعلم بعدم النص.

وأمّا ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره من أنّه إذا فتح القفص متعمداً عليه الاثم والتعزير ، وإلاّ فلا يكون عليه شيء. فلعل المراد منه نفي الاثم في صورة عدم العمد كما يشهد عليه صدر العبارة لا نفي الضمان أيضاً ، لاطلاق قوله عليه‌السلام : «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» على ما تقدّم بيانه.

وأمّا الشرط الثاني : فتحقيق الحال فيه يستدعي التفصيل في المقام ، وهو أنّ ترتب الالزام من جهة على جريان البراءة يتصوّر على أقسام :

القسم الأوّل : أن لا يكون بينهما في ذاتهما ترتب شرعاً ولا عقلاً ، إلاّأنّ شيئاً خارجياً أوجب ذلك بينهما ، كما في المثال الذي ذكره الفاضل التوني من العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين ، فانّه لا ترتب بين طهارة أحدهما ونجاسة الآخر بحسب الواقع ، ويمكن أن يكون كلاهما نجساً في الواقع ، لكن العلم الاجمالي أوجب الترتب المذكور ، فلأجله كان جريان البراءة عن وجوب الاجتناب في أحدهما موجباً لوجوب الاجتناب عن الآخر ، ففي مثل ذلك لا يمكن الرجوع إلى الأصل ، لا لما ذكره الفاضل التوني من كون الأصل فيه مثبتاً ، بل لعدم جريانه في نفسه لابتلائه بالمعارض ، فلا تصل النوبة إلى استناد عدم الجريان إلى كون الأصل مثبتاً. ولذا لو فرضنا قيام الأمارة في الطرفين

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٣٢

٥٩٦

لا يمكن العمل بها لأجل المعارضة ، مع حجّية المثبتات من الأمارات.

القسم الثاني : أن يكون الترتب عقلياً كترتب وجوب المهم على عدم وجوب الأهم ، بناءً على القول باستحالة الترتب ، فانّ الموجب لرفع اليد عن إطلاق دليل وجوب المهم ، إنّما هو فعلية التكليف بالأهم وتنجّزه الموجب لعجز المكلف عن الاتيان بالواجب المهم ، فلو فرضنا ترخيص الشارع ولو ظاهراً في ترك الأهم ، كان المهم واجباً لا محالة. فوجوب المهم مترتب عقلاً على إباحة ضدّه الأهم ، وفي هذا القسم لا مناص من الحكم بوجوب المهم عند الشك في تعلّق التكليف بالأهم ، لاطلاق دليل وجوب المهم ، فهو المثبت لوجوب المهم حقيقةً لا البراءة ، وهي إنّما ترفع المانع وهو عجز المكلف ، ففيه لا يبقى مورد لاشتراط جريان البراءة بعدم إثباته للحكم الالزامي ، فانّ المثبت للوجوب فيه هو إطلاق الدليل لا البراءة ، كما تقدّم بيانه.

القسم الثالث : أن يكون الترتب شرعياً ، بأن يكون جواز شيء مأخوذاً في موضوع وجوب شيء آخر في لسان الدليل الشرعي. وهذا يكون أيضاً على أقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يكون الالزام المترتب حكماً واقعياً مترتباً على الاباحة الواقعية.

الثاني : أن يكون الالزام حكماً واقعياً مترتباً على مطلق الاباحة الجامع بين الواقعية والظاهرية.

الثالث : أن يكون الالزام هو الأعم من الواقعي والظاهري مترتباً على مطلق الاباحة الأعم من الواقعية والظاهرية ، بمعنى أنّ الالزام الواقعي كان مترتباً على الاباحة الواقعية ، والالزام الظاهري مترتباً على الاباحة الظاهرية.

أمّا القسم الأوّل : فلا يكفي جريان البراءة فيه في فعلية الالزام ، لأنّ أصالة البراءة غير ناظرة إلى الواقع ، فلا تثبت بها الاباحة الواقعية ، كي يترتب على جريانها الحكم الالزامي المترتب على الاباحة الواقعية. نعم ، إن كان الأصل

٥٩٧

الجاري تنزيلياً كالاستصحاب أو قامت أمارة على ثبوت الاباحة الواقعية يترتب عليه الالزام ظاهراً ، لاحراز موضوعه بالتعبد ، والعجب من الفاضل التوني قدس‌سره حيث لم يعتبر الاستصحاب في مسألة الشك في صيرورة ماءٍ كراً ، بعد القطع بعدم كونه كراً ، فأصابته نجاسة ، فقال بعدم ترتب النجاسة على استصحاب قلّة الماء ، مع أنّ الاستصحاب من الاصول التنزيلية وبمنزلة القطع الطريقي.

وأمّا القسم الثاني : فيترتب على الأصل الجاري فيه الالزام ، سواء كان الأصل تنزيلياً أو غيره ، لتحقق موضوع الالزام على كل تقدير كما هو واضح.

وأمّا القسم الثالث : فيكفي في فعلية الالزام فيه ثبوت الاباحة الظاهرية ، غاية الأمر أنّ الالزام حينئذ ظاهري ، فإذا انكشف الخلاف يحكم بعدم ثبوت الالزام من أوّل الأمر ، بخلاف القسم الثاني ، فانّ كشف الخلاف فيه يستلزم ارتفاع الالزام من حين الانكشاف لا من أوّل الأمر. ولنذكر مثالين لهذين القسمين ليتّضح الفرق بينهما فنقول : أمّا مثال القسم الثالث فهو وجوب حجّة الاسلام المترتب على الاستطاعة وإباحة المال الذي به صار المكلف مستطيعاً ، فلو حكم باباحة المال لجريان أصل من الاصول التنزيلية أو غيرها ، يترتب عليه وجوب حجّة الاسلام ظاهراً ، فلو انكشف الخلاف وبان عدم إباحة المال له ينكشف عدم كونه مستطيعاً وعدم وجوب حجّة الاسلام عليه من أوّل الأمر. وأمّا مثال القسم الثاني فهو الماء المشكوك في إباحته ، فانّ وجوب التوضي به واقعاً مترتب على إباحته ظاهراً ، فلو أحرزنا إباحته الظاهرية ـ ولو بأصالة الاباحة أو أصالة البراءة مثلاً ـ يترتب عليها وجوب التوضي به واقعاً ، وبعد انكشاف الخلاف يرتفع الوجوب من حين الانكشاف دون ما قبله.

٥٩٨

وبما ذكرناه من التفصيل في المقام ظهر أنّ أصالة البراءة في مورد جريانها تترتب عليها آثارها بلا فرق بين كونها الزامية أو غير الزامية ، فلا وجه لما ذكره الفاضل التوني من اشتراط عدم ترتب حكم الزامي على جريانها.

٥٩٩

[قاعدة لا ضرر]

ختام :

نتعرّض فيه لبيان قاعدة لا ضرر ، تبعاً لشيخنا الأنصاري (١) وصاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وتحقيق الكلام في هذه القاعدة يستدعي البحث في جهات :

الجهة الاولى : في بيان سند الروايات الواردة فيها ومتنها.

أمّا السند : فلا ينبغي التأمّل في صحّته ، لكونها من الروايات المستفيضة المشتهرة بين الفريقين حتّى ادّعى فخر المحققين في باب الرهن من الايضاح تواترها (٣) ، والسند في بعض الطرق صحيح أو موثق ، فلو لم يكن متواتراً مقطوع الصدور فلا أقل من الاطمئنان بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام فلا مجال للاشكال في سندها.

وأمّا المتن : فقد نقلها الخاصّة على ثلاثة وجوه :

الأوّل : ما اقتصر فيه على هاتين الجملتين «لا ضرر ولا ضرار» بلا زيادة شيء كما في حديث ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في قضيّة سمرة بن جندب (٤) ، وكما في حديث عقبة بن خالد عن أبي عبدالله عليه‌السلام في قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل البادية «أنّه لا يمنع فضل

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٣٣

(٢) كفاية الاصول : ٣٨٠

(٣) إيضاح الفوائد ٢ : ٤٨

(٤) الوسائل ٢٥ : ٤٢٨ / كتاب إحياء الموات ب ١٢ ح ٣

٦٠٠