موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

الثالث : أن تكون الجملة خبرية محضة اريد بها الاخبار عن عدم سقوط الواجب والمستحب عند تعذّر بعض أجزاء المركب أو تعذّر بعض أفراد الطبيعة أو عدم سقوط وجوبه أو استحبابه ، فانّ السقوط والثبوت كما يصحّ إسنادهما إلى الحكم ، كذلك يصحّ إسنادهما إلى الواجب والمستحب أيضاً ، فكما يقال سقط الوجوب عن ذمّة المكلف أو ثبت في ذمّته ، كذلك يصح أن يقال سقط الواجب أو ثبت في ذمّته. وكيف كان ، فالرواية على هذا الاحتمال تدل على بقاء الحكم أو متعلقه في ذمّة المكلف عند تعذّر بعض الأجزاء أو بعض الأفراد ، بل نسب إلى الشيخ الكبير كاشف الغطاء (١) قدس‌سره دلالتها على وجوب المرتبة النازلة من الشيء إذا تعذّرت المرتبة العالية منه فيما إذا عدّت المرتبة النازلة ميسورة من المرتبة العالية بنظر العرف ، فاذا تعذّر الايماء بالرأس والعين للسجود على ما هو المنصوص يجب الايماء باليد لقاعدة الميسور ، باعتبار أنّ الايماء باليد مرتبة نازلة من الايماء بالنسبة إلى الايماء بالرأس والعين ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بالرواية للمقام.

ولكن التحقيق عدم تمامية الاستدلال المذكور ، لأنّ السقوط فرع الثبوت ، وعليه فالرواية مختصّة بتعذّر بعض أفراد الطبيعة باعتبار أنّ غير المتعذر منها كان وجوبه ثابتاً قبل طروء التعذر ، فيصدق أنّه لا يسقط بتعذّر غيره ، بخلاف بعض أجزاء المركب ، فانّه كان واجباً بوجوب ضمني قد سقط بتعذّر المركب من حيث المجموع ، فلو ثبت وجوبه بعد ذلك ، فهو وجوب استقلالي وهو حادث ، فلا معنى للإخبار عن عدم سقوطه بتعذّر غيره. وكذلك الحال في المرتبة النازلة ، فانّ وجوبها لو ثبت بعد تعذّر المرتبة العالية لكان وجوباً حادثاً جديداً لايصحّ

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٤١

٥٦١

التعبير عنه بعدم السقوط ، فارادة معنى عام من الرواية شامل لموارد تعذّر بعض الأفراد ، وموارد تعذّر بعض الأجزاء ، وموارد تعذّر المرتبة العالية ، تحتاج إلى عناية لا يصار إليها إلاّبالقرينة.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام : عدم تمامية قاعدة الميسور ، ووجوب الاتيان بالميسور من الأجزاء عند تعذّر بعضها. نعم ، لا نضايق عن وجوب الاتيان بغير المتعذر من الأجزاء في بعض موارد مخصوصة لأجل أدلة خاصّة ، كما في الصلاة ، فانّها لا تسقط بحال بمقتضى الاجماع والروايات (١) على ما ذكر في محلّه.

التنبيه الرابع

في حكم ما إذا تردد الأمر بين جزئية شيء أو شرطيته ، وبين مانعيّته أو قاطعيته ، بمعنى أنّا نعلم إجمالاً باعتبار أحد الأمرين في الواجب إمّا فعل هذا الشيء أو تركه. وتحقيق الكلام فيه يستدعي البحث في مسائل ثلاث :

المسألة الاولى : ما إذا كان الواجب واحداً شخصياً لم تكن له أفراد طولية ولا عرضية ، كما إذا ضاق الوقت ولم يتمكن المكلف إلاّمن الاتيان بصلاة واحدة ، ودار الأمر بين الاتيان بها عارياً أو في الثوب المتنجس ، والحكم فيه هو التخيير بلا شبهة وإشكال ، إذ الموافقة القطعية متعذرة ، والمخالفة القطعية بترك الصلاة رأساً غير جائزة يقيناً ، فلم يبق إلاّالموافقة الاحتمالية الحاصلة بكل واحد من الأمرين ، وهذا واضح.

__________________

(١) تقدّم ما ينفع المقام في ص ٣١٠ فراجع

٥٦٢

المسألة الثانية : ما إذا كانت الوقائع متعددة وإن لم يكن للواجب أفراد طولية ولا عرضية ، كما إذا دار الأمر بين كون شيء شرطاً في الصوم أو مانعاً عنه ، وحيث إنّ المكلف به متعدد فالحكم فيه هو التخيير الابتدائي ، فله أن يختار الفعل في جميع الأيام أو الترك كذلك ، ولا يجوز له أن يأتي به في يوم ويتركه في يوم آخر ، لكونه موجباً للمخالفة القطعية. وقد تقدّم أنّ العقل يحكم بقبحها ولو كانت تدريجية ملازمةً للموافقة القطعية أيضاً من جهة. ومرّ تفصيل الكلام فيه في بحث دوران الأمر بين المحذورين (١).

المسألة الثالثة : ما إذا كان الواجب واحداً ذا أفراد طولية بحيث يكون المكلف متمكناً من الاحتياط وتحصيل العلم بالموافقة بالاتيان بالواجب مع هذا الشيء مرّةً وبدونه اخرى ، كما في المثال المذكور في المسألة الاولى ، مع سعة الوقت ، فهل الحكم في مثل ذلك هو التخيير أيضاً أو الاحتياط وتكرار العمل؟

ظاهر شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره ابتناء هذه المسألة على النزاع في دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فعلى القول بوجوب الاحتياط هناك لا بدّ من الاحتياط في المقام أيضاً ، وعلى القول بالبراءة فيه يحكم بجريان البراءة في المقام ، فانّ العلم الاجمالي باعتبار وجود شيء أو عدمه لا أثر له ، لعدم تمكن المكلف من المخالفة العملية القطعية ، لدوران الأمر بين فعل شيء وتركه ، وهو لا يخلو من أحدهما ، مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ، فلم يبق إلاّالشك في الاعتبار ، وهو مورد لأصالة البراءة.

ولكن التحقيق وجوب الاحتياط والاتيان بالواجب مع هذا الشيء مرّةً

__________________

(١) في ص ٣٩٨

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٠٢ و ٥٠٣

٥٦٣

وبدونه اخرى ، وذلك لأنّ المأمور به هو الطبيعي وله أفراد طولية ، فالمكلف متمكن من الموافقة القطعية بتكرار العمل ، ومن المخالفة القطعية بترك العمل رأساً ، فيكون العلم الاجمالي منجّزاً للتكليف لا محالة ، فيجب الاحتياط. وأمّا عدم التمكن من المخالفة القطعية في الفرد الخارجي لاستحالة ارتفاع النقيضين فهو لا ينافي تنجيز العلم الاجمالي بعد تمكن المكلف من المخالفة القطعية في اصل المأمور به وهو الطبيعة ، إذ الاعتبار إنّما هو بما تعلّق به التكليف لا بالفرد الخارجي ، فلا مناص من القول بوجوب الاحتياط في المقام ، وإن قلنا بالبراءة في دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، إذ في المقام لنا علم إجمالي باعتبار شيء في المأمور به ، غاية الأمر أنّا لا ندري أنّ المعتبر هو وجوده أو عدمه في المأمور به ، فلا بدّ من الاحتياط والاتيان بالعمل مع وجوده تارةً وبدونه اخرى ، تحصيلاً للعلم بالفراغ ، بخلاف دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فانّه ليس فيه إلاّاحتمال اعتبار شيء في المأمور به ، فيكون مجرى للبراءة على ما مرّ تفصيل الكلام فيه (١) ، فكيف يقاس العلم بالاعتبار على الشك فيه ، ومن العجيب أنّ الشيخ (٢) قدس‌سره التزم بوجوب الاحتياط عند دوران الأمر بين القصر والتمام ، مع أنّه داخل تحت كبرى هذه المسألة ومن صغرياتها ، لأنّ الركعة الثالثة والرابعة أمرهما دائر بين الجزئية والمانعية كما هو واضح. وإن شئت قلت : إنّ التسليم في الركعة الثانية على تقدير وجوب القصر جزء للواجب ، وعلى تقدير وجوب التمام مانع عن الصحّة ومبطل للصلاة.

__________________

(١) في ص ٤٩٧ وما بعدها

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٤١ و ٤٤٢

٥٦٤

خاتمة

في شرائط جريان الأُصول

أمّا الاحتياط : فلا يعتبر في حسنه شيء ، سوى ما اعتبر في تحقق عنوانه ، وهو إدراك الواقع على ما هو عليه ، وكل ما اعتبر في حسنه فهو على تقدير صحّته يرجع إلى اعتباره في صدق هذا العنوان ، ضرورة أنّه مع صدقه لا تبقى حالة منتظرة لحكم العقل بحسنه.

فالاحتياط في المعاملات بالمعنى الأعم المقابل للعبادات الشامل للعقود والايقاعات وغيرها من التوصليات لا يعتبر في حسنه إلاّالجمع بين المحتملات الذي به يتحقق أصل عنوان الاحتياط ، ما لم يؤد إلى اختلال النظام ، ولم يخالف الاحتياط من جهة اخرى ، إذ مع كونه مخلاً بالنظام لا يصدق عنوان الاحتياط ، لكونه مبغوضاً للمولى. وكذا مع كونه مخالفاً للاحتياط من جهة اخرى ، فانّه لا يصدق عليه عنوان الاحتياط ، وإدراك الواقع على ما هو عليه.

وأمّا الاحتياط في العبادات ، فلا شكّ في حسنه فيما إذا لم يتمكن المكلف من تحصيل العلم التفصيلي. وكذا فيما إذا لم يكن الواقع منجّزاً عليه كما في الشبهات البدوية من الشبهات الموضوعية مطلقاً ، والشبهات الحكمية بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل. وأمّا إن كان المكلف متمكناً من الامتثال التفصيلي بالعلم أو العلمي ، أو كان الواقع منجّزاً عليه على تقدير وجوده ، كما في الشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص ، ففي جواز الاحتياط قبل الفحص وعدمه أقوال ، ثالثها : التفصيل بين كون الاحتياط مستلزماً للتكرار وعدمه. رابعها : التفصيل بين موارد العلم الاجمالي بثبوت التكليف وعدمه.

٥٦٥

والصحيح جوازه مطلقاً ، إذ المعتبر في تحقق العبادة أمران : تحقق العمل في الخارج ، وكونه مضافاً ومنسوباً إلى المولى ، وكلاهما متحقق في الاحتياط.

وأمّا اعتبار نيّة الوجه والتمييز وغيرهما ممّا ذكروه وجهاً لعدم جواز الاحتياط فلا دليل على اعتباره. وقد تقدّم تفصيل الكلام فيه في مبحث القطع فراجع (١).

وأمّا البراءة العقلية : فلا ريب في اعتبار الفحص في جريانها ، لأنّ موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنّما هو عدم البيان ، فما لم يحرز ذلك بالفحص لا يستقل العقل بقبح العقاب ، إذ ليس المراد من البيان إيصال التكليف إلى العبد قهراً ، بل المراد منه بيانه على الوجه المتعارف ، وجعله بمرأىً ومسمع من العبد بحيث يمكن الوصول إليه ، فلو كان التكليف مبيّناً من قبل المولى ولم يتفحص عنه العبد ، صحّ العقاب على مخالفته ، ولا يكون عقابه بلا بيان.

وأمّا البراءة الشرعية : فلا إشكال أيضاً في عدم اعتبار الفحص في جواز الرجوع إليها في الشبهات الموضوعية عملاً باطلاق أدلّتها من قوله عليه‌السلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه» (٢) وغيره ممّا ذكر في محلّه ، وقد ورد بعض الأخبار في خصوص الشبهات الموضوعية (٣) فراجع.

وأمّا الشبهات الحكمية فقد استدلّ لاعتبار الفحص في الرجوع إلى البراءة فيها مع إطلاق الأدلة فيها أيضاً بامور :

__________________

(١) ص ٨٧ ـ ٨٨

(٢) الوسائل ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١ (باختلاف يسير) وقد ذُكرت أدلة البراءة الشرعية في بداية بحث الاصول العملية فراجع ص ٢٩٦ وما بعدها

(٣) منها الخبر المذكور هنا فراجع ص ٣١٥

٥٦٦

الأوّل : دعوى الاجماع على ذلك.

وفيه : أنّ اتفاق الفقهاء على وجوب الفحص في الشبهات الحكمية وإن كان مسلّماً ، إلاّ أنّه لا يكون إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه‌السلام لأ نّه معلوم المدرك. فإذن لا بدّ من النظر في المدرك ولا يصحّ الاعتماد بنفس الاتفاق ، فانّه ضمّ قول غير المعصوم إلى مثله.

الثاني : أنّ العلم الاجمالي بثبوت تكاليف إلزامية في الشريعة المقدّسة مانع عن الرجوع إلى البراءة قبل الفحص.

وأورد عليه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بما حاصله : أنّ موجب الفحص لو كان هو العلم الاجمالي لزم جواز الرجوع إليها قبل الفحص ، بعد انحلاله بالظفر على المقدار المعلوم بالاجمال ، مع أنّه غير جائز قطعاً ، فلا بدّ من أن يكون الوجه لوجوب الفحص أمراً آخر غير العلم الاجمالي. وخلاصة هذا الايراد أنّ الدليل أخص من المدّعي.

وأشكل عليه المحقق النائيني قدس‌سره (٢) بأنّ المعلوم بالاجمال ذو علامة وتميز ، فالعلم الاجمالي المتعلق به غير قابل للانحلال بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، لأنّ الواقع قد تنجّز حينئذ بما له من العلامة والتميز ، فكيف يعقل انحلاله قبل الفحص بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، فانّه إذا علم إجمالاً بدين مردد بين الأقل والأكثر ، مع العلم بكونه مضبوطاً في الدفتر ، فهل يتوهّم أحد جواز الرجوع إلى البراءة في المقدار الزائد على المتيقن قبل الفحص عمّا في الدفتر؟ والمقام كذلك ، فانّ التكاليف المعلومة بالاجمال مضبوطة في الكتب

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٧٥

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٥٥٨ و ٥٥٩ ، فوائد الاصول ٤ : ٢٧٩ و ٢٨٠

٥٦٧

المعتبرة عند الشيعة ، وعليه فالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال قبل الفحص لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ليصحّ الرجوع إلى البراءة قبل الفحص. نعم ، إذا لم يكن المعلوم بالاجمال ذا علامة وتميز وكان مردداً بين الأقل والأكثر ، جاز الرجوع إلى البراءة بعد الظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، لكن المقام ليس من هذا القبيل كما عرفت.

وتوضيح ما أفاده قدس‌سره : أنّ منشأ العلم الاجمالي بالتكاليف الالزامية أحد امور ثلاثة : الأوّل : هو العلم بثبوت الشرع والتصديق بالنبوّة.

الثاني : العلم الاجمالي بمطابقة جملة من الأمارات للواقع. الثالث : العلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة. وهذه العلوم الثلاثة ينحل السابق منها باللاّحق ، فتكون أطراف العلم الاجمالي بالتكاليف خصوص الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ، وتكون هذه الكتب كالدفتر في المثال ، فلا ينحل العلم الاجمالي المذكور بالظفر بالمقدار المتيقن قبل الرجوع إلى هذه الكتب والفحص عنها. هذا توضيح مرامه زيد في علو مقامه.

وفيه أوّلاً : أنّ كون المعلوم بالاجمال ذا علامة وتميز إنّما يمنع عن انحلال العلم الاجمالي على تقدير التسليم فيما إذا لم يكن بنفسه مردداً بين الأقل والأكثر كما إذا علمنا إجمالاً بوجود إناءٍ نجس بين أواني محصورة مرددة بين الأقل والأكثر وعلمنا أيضاً بنجاسة إناء زيد المعلوم وجوده بينها ، فلو علم بعد ذلك تفصيلاً بنجاسة إناء معيّن منها وجداناً ، أو تعبداً كما إذا قامت البيّنة على نجاسته من دون إحراز أنّه إناء زيد ، أمكن القول بعدم كونه موجباً لانحلال العلم الثاني الذي يكون لمتعلقه علامة وتميز ، لعدم كون المعلوم بالتفصيل معنوناً بذلك العنوان ، أي عنوان أنّه إناء زيد ، وأمّا إن كان ما له العلامة والتميز أيضاً مردداً بين الأقل والأكثر ، كما إذا كان إناء زيد المعلوم نجاسته في مفروض المثال

٥٦٨

أيضاً مردداً بين الأقل والأكثر ، ثمّ علمنا بعد ذلك بكون إناء معيّن إناء زيد ، فينحل العلم الاجمالي الثاني أيضاً ، ويكون الشك في نجاسة غيره من الأواني شكّاً بدوياً لا محالة. والمقام من هذا القبيل ، لأنّ التكاليف المعلومة بالاجمال بعنوان أنّها مذكورة في الكتب المعتبرة بنفسها مرددة بين الأقل والأكثر ، فاذا ظفرنا بالمقدار المتيقن ، ينحل العلم الاجمالي لا محالة.

وثانياً : أنّه لانسلّم عدم الانحلال حتّى فيما إذا كان المعلوم بالاجمال ذا علامة وتميز ، ولم يكن مردداً بين الأقل والأكثر ، إذ بعد العلم التفصيلي بنجاسة إناء بعينه يحتمل أن يكون هو إناء زيد المعلوم كونه نجساً ، ومعه لا يبقى علم بوجود نجاسة في غيره من الأواني ، إذ العلم لا يجتمع مع احتمال الخلاف بالضرورة ، فينحل العلم الاجمالي بالوجدان. وليس لنا علمان إجماليان علم بوجود نجس مردد بين الأقل والأكثر ، وعلم بنجاسة إناء زيد حتّى يقال بعد العلم بنجاسة إناء بخصوصه أنّ العلم الأوّل قد انحلّ دون العلم الثاني ، بل مرجع العلم بوجود نجاسة مرددة بين الأقل والأكثر والعلم بنجاسة إناء زيد إلى العلم بوجود نجس واحد بعنوانين ، فاذا علمنا تفصيلاً بنجاسة إناء معيّن من الأواني ينحل العلم الاجمالي لا محالة.

وثالثاً : أنّه على تقدير تسليم عدم الانحلال وبقاء العلم الاجمالي على حاله ، لايكون هذا العلم منجّزاً بالنسبة إلى الزائد على القدر المتيقن ، لما ذكرناه مراراً (١) من أنّ التنجيز دائر مدار تعارض الاصول في أطراف العلم الاجمالي وتساقطها ، وحيث إنّه لا معنى لجريان الأصل في الطرف المعلوم كونه نجساً في مفروض المثال ، فيجري الأصل في غيره بلا معارض ، فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً.

وأمّا ما ذكره (قدس‌سره) من عدم جواز الرجوع إلى البراءة بعد الظفر

__________________

(١) كما في ص ٤٠٤

٥٦٩

بالقدر المتيقن من الدين المضبوط في الدفتر ، فهو على تقدير صحّته لا بدّ من أن يكون مستنداً إلى أمر آخر غير العلم الاجمالي ، كما ادّعي ذلك في موارد من الشبهات الموضوعية التي لا كلام في جواز الرجوع إلى البراءة فيها قبل الفحص ، منها : ما لو شكّ في بلوغ المال حدّ النصاب. ومنها : ما لو شكّ في حصول الاستطاعة للحج وغيرهما من الموارد ، وذكروا الوجه في ذلك : أنّا علمنا من الخارج أنّ الشارع لا يرضى بالرجوع إلى الأصل في هذه الموارد قبل الفحص ، للزوم المخالفة الكثيرة ، فلو صحّ هذا الادّعاء لقلنا بمثله في مثال الدين ، فانّه أيضاً شبهة موضوعية ، وإلاّ التزمنا بجواز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص فيه.

ومن الشواهد على أنّ عدم جواز الرجوع إلى الأصل في المقدار الزائد على القدر المتيقن على تقدير تسليمه ليس من جهة العلم الاجمالي ، أنّه لو فرض عدم التمكن من الرجوع إلى الدفتر لضياعه مثلاً لم يكن مانع من الرجوع إلى الأصل في الزائد على القدر المتيقن ، مع أنّه لو كان المانع هو العلم الاجمالي لم يكن فرق بين التمكن من الفحص وعدمه كما هو ظاهر.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام : أنّ المانع من الرجوع إلى الأصل قبل الفحص لا بدّ من أن يكون شيئاً آخر غير العلم الاجمالي ، كما ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره.

الثالث : دعوى انصراف الأدلة إلى ما بعد الفحص بحكم العقل بوجوب الفحص ، وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبله ، فانّه كما يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان كذلك يحكم بوجوب الفحص عن أحكام المولى من باب وجوب دفع الضرر المحتمل. وبالجملة : فكما أنّه على المولى إبلاغ أحكامه إلى عبيده ، وبيان مراداته لهم جرياً على وظيفة المولوية ، فكذلك يجب على العبد الفحص عن أحكام المولى جرياً على وظيفة العبودية ، إذ لا يجب على المولى إلاّبيان أحكامه على النحو المتعارف ، من أن يجعلها في معرض الوصول ، وأمّا فعلية

٥٧٠

الوصول والبحث عنها فهي من وظائف العبد. فهذا الحكم العقلي بمنزلة القرينة المتّصلة المانعة عن انعقاد الظهور في إطلاقات أدلة البراءة ، فهي مختصّة من أوّل الأمر بما بعد الفحص في الشبهات الحكمية.

وهذا الوجه ممّا لا بأس به.

الرابع : الآيات والروايات الدالة على وجوب التعلّم مقدّمةً للعمل ، وهي كثيرة ، منها : قوله تعالى : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (١). ومن الروايات : ما ورد في تفسير قوله تعالى : «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» (٢) من أنّه يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فإن قال نعم ، قيل له : فهلاّ عملت؟ وإن قال : لا ، قيل له : فهلاّ تعلّمت حتّى تعمل (٣)؟ ومن الظاهر أنّه لو جاز الرجوع إلى البراءة أو غيرها من الاصول قبل الفحص والتعلّم لم يجب سؤال أهل العلم كما في الآية الشريفة ، ولم يتوجّه العتاب إلى من لم يتعلّم كما في الرواية. وهذا الوجه أيضاً لا بأس به.

الخامس : الأخبار الدالة على وجوب التوقف ، وقد تقدّم ذكر جملة منها في مبحث البراءة (٤). والنسبة بينها وبين أخبار البراءة وإن كانت هي التباين ، لدلالة أخبار البراءة باطلاقها على البراءة مطلقاً قبل الفحص وبعده ، وكذا جملة من أخبار التوقف تدل على وجوب التوقف مطلقاً ، إلاّأنّ مورد جملة من أخبار التوقف هي الشبهة قبل الفحص ، كقوله عليه‌السلام : «فأرجئه حتّى

__________________

(١) النحل ١٦ : ٤٣

(٢) الأنعام ٦ : ١٤٩

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٢٩ / كتاب العلم ب ٩ ح ١٠ (باختلاف يسير)

(٤) في ص ٣٤٥

٥٧١

تلقى إمامك» (١) أي يجب عليك التوقف حتّى تلقى إمامك فتتفحّص وتسأله ، فنسبتها إلى أخبار البراءة هي الخصوص المطلق ، فتخصص أخبار البراءة بما بعد الفحص ، وبعد هذا التخصيص تكون النسبة بين أخبار البراءة وبين بقية أخبار التوقف الدالة على وجوب التوقف مطلقاً أيضاً هو العموم المطلق ، فتخصص أخبار التوقف بما قبل الفحص ، كما هو الشأن في جميع المتعارضين ، فانّه تلاحظ النسبة بينهما بعد ورود التخصيص في أحدهما أو في كليهما من الخارج.

ولاتلاحظ النسبة بينهما في أنفسهما مع قطع النظر عن ورود التخصيص الخارجي على ما هو مذكور في محلّه (٢). هذا بناءً على الاغماض عمّا ذكرناه من كون أخبار البراءة مختصّة بما بعد الفحص لأجل قرينة عقلية ، وإلاّ فلا نحتاج إلى تخصيص أدلة البراءة ببعض أخبار التوقف ، بل هي بنفسها مختصّة لأجل القرينة العقلية على ما تقدّم بيانه (٣).

وبما ذكرناه ظهر اختصاص أدلة الاستصحاب أيضاً بما بعد الفحص. وظهر أيضاً عدم جواز الرجوع إلى سائر الاصول العقلية قبل الفحص كالتخيير العقلي ونحوه.

وملخّص الكلام في المقام : أنّ الاصول العقلية في نفسها قاصرة عن الشمول لما قبل الفحص ، لأنّ موضوعها عدم البيان ، وهو لا يحرز إلاّبالفحص فلا مقتضي لها قبله. وأمّا الاصول النقلية فأدلّتها وإن كانت مطلقة في نفسها ، إلاّ أنّها مقيّدة بما بعد الفحص بالقرينة العقلية المتصلة والنقلية المنفصلة.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١

(٢) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ، ص ٤٦٤

(٣) في الدليل الثالث في ص ٥٧٠

٥٧٢

بقي الكلام في جهات لا بدّ لنا من التعرّض لها :

الجهة الاولى : في مقدار الفحص ، فهل يجب الفحص بمقدار يحصل العلم بعدم الدليل ، أو يكفي الاطمئنان ، أو يكفي مجرد الظن بالعدم؟ وجوه خيرها أوسطها.

أمّا عدم وجوب تحصيل العلم فلعدم الدليل عليه. مضافاً إلى كونه مستلزماً للعسر والحرج ، بل موجب لسدّ باب الاستنباط ، لعدم حصول القطع بعدم الدليل عادةً وإن أصرّ في الفحص. وأمّا عدم اعتبار الظن فلعدم الدليل على اعتباره ، فهو لا يغني عن الحق شيئاً.

فتعيّن الوسط وهو كفاية الاطمئنان لكونه حجّة ببناء العقلاء ، ولم يردع عنه الشارع. وأمّا تحقق الصغرى لهذه الكبرى ، أي حصول الاطمئنان بعدم الدليل ، فهو سهل لمن تصدّى لاستنباط الأحكام الشرعية فعلاً ، فانّ المتقدمين من العلماء أتعبوا أنفسهم الشريفة ورتّبوا الأخبار وبوّبوها ، فبالرجوع إلى أخبار باب وبعض الأبواب الاخرى المناسبة لهذا الباب يحصل الاطمئنان. ولولا هذا الترتيب والتبويب لكان اللاّزم هو الفحص في كتب الأخبار من أوّلها إلى آخرها لتحصيل الاطمئنان في مسألة واحدة.

الجهة الثانية : بعد ما عرفت وجوب تعلّم الأحكام الشرعية والفحص عنها ، وقع الاشكال في أنّ وجوبه طريقي لا يترتب العقاب عند تركه إلاّعلى مخالفة الواقع كما هو المشهور ، أو نفسي يعاقب العبد على تركه ولو لم يخالف الواقع ، كما عن المحقق الأردبيلي (١) قدس‌سره وصاحب المدارك (٢) ومال إليه صاحب الكفاية (٣) قدس‌سره في آخر كلامه. وقبل الشروع في تحقيق المقام وبيان

__________________

(١) ، مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠ ومدارك الأحكام ٣ : ٢١٩ ، ولمزيد الاطّلاع راجع فرائد الاصول ٢ : ٥١٣

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠ ومدارك الأحكام ٣ : ٢١٩ ، ولمزيد الاطّلاع راجع فرائد الاصول ٢ : ٥١٣

(٣) كفاية الاصول : ٣٧٧

٥٧٣

المختار فيه لا بدّ من التنبيه على امور :

الأوّل : أنّ محل الكلام هو العلم بالأحكام الفرعية ، وأمّا العلم بالاصول الاعتقادية كالعلم بالتوحيد والنبوّة وسائر ما يجب تحصيله والاعتقاد به ، فهو خارج عن محل الكلام. ولا إشكال في وجوب تحصيله والتعلّم نفسياً لا طريقياً ، عينياً لا كفائياً.

الثاني : أنّ وجوب تعلّم الأحكام الشرعية مقدّمة للعمل مختص بالواجبات والمحرّمات ، وما يرجع إليهما من الأحكام الوضعية كالنجاسة والطهارة والزوجية والملكية ونحوها ، إذ لايجب تعلّم المستحبات والمكروهات ، لا نفسياً ولا طريقياً.

الثالث : أنّ محل الكلام إنّما هو وجوب التعلّم والفحص عن الحكم الخاص المتعلق بهذا المكلف نفسه بالوجوب العيني. والمراد من التعلّم هو الأعم من المعرفة بالاجتهاد أو بالرجوع إلى الرسالة إن كان مقلّداً. وأمّا تعلّم كل الأحكام الشرعية بالاجتهاد حتّى الأحكام المتعلقة بغيره كمسائل الحيض والنفاس وغيرهما ، فلا إشكال في وجوبه كفائياً ، فهذا أيضاً خارج عن محل الكلام ، فلا وجه للاستدلال على وجوب الفحص في المقام بآية النفر (١) كما ارتكبه شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره فانّها دليل على وجوب تعلّم الأحكام الشرعية كفائياً ولا كلام لنا فيه ، إنّما الكلام في وجوب التعلّم والفحص بالوجوب العيني عمّا يجب على نفس هذا المكلف.

إذا عرفت هذه الامور فنقول : إنّ الصحيح هو الوجوب الطريقي ، وتظهر

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٢

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥١٠

٥٧٤

صحّته بذكر دليل القول بالوجوب النفسي وجوابه ، وهو أنّ الأوامر المتعلقة بالتعلّم والسؤال ظاهرة في الوجوب النفسي.

والجواب : أنّ كون الأمر ظاهراً في الوجوب النفسي العيني التعييني وإن كان مسلّماً كما تقدّم في مبحث الأوامر (١) ، إلاّأنّ في المقام خصوصية داخلية وقرينة خارجية توجب ظهور الأوامر المتعلقة بالتعلّم في الوجوب الطريقي مقدّمةً للعمل.

أمّا الخصوصية الداخلية : فهي أنّ نفس السؤال عن شيء وتعلّمه طريق إلى العمل بهذا الشيء ، فالأمر بالسؤال بنفسه ظاهر في الوجوب الطريقي بحسب الارتكاز العرفي ، فانّ السؤال عن الطريق إلى كربلاء مثلاً إنّما هو للمشي من هذا الطريق ، فالأمر بالسؤال عن طريق كربلاء ظاهر في الوجوب الطريقي ، لا الوجوب النفسي ، بأن يكون مجرد السؤال عن الطريق مطلوباً نفسياً ، فكذا الحال في قوله تعالى : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (٢) فانّ الأمر بالسؤال فيه ظاهر في الوجوب الطريقي وأنّ السؤال من أهل الذكر إنّما هو للعمل ، لا لكونه مطلوباً بنفسه. ولعل ظهور الأمر بالسؤال في الوجوب الطريقي ظاهر غير قابل للانكار.

وأمّا القرينة الخارجية : فروايتان إحداهما : ما ورد في تفسير قوله تعالى : «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» وقد تقدّم ذكره (٣) ، فانّ قوله «فهلاّ تعلّمت حتّى تعمل»

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٣ ـ ١١

(٢) النحل ١٦ : ٤٣

(٣) في ص ٥٧١

٥٧٥

صريح في أنّ وجوب التعلّم إنّما هو للعمل. الثانية : ما ورد في مجدور صار جنباً فغسلوه فمات ، فقال عليه‌السلام : «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا ألا يمموه» (١) فانّ عتاب الإمام عليه‌السلام ودعاءه عليهم لم يكن لمجرد ترك السؤال ، بل لترك التيمم أيضاً ، إذ من الواضح أنّ مجرد السؤال والتعلّم لم يكن موجباً لنجاته من القتل الذي نسبه الإمام عليه‌السلام إليهم وعيّرهم به ، وإنّما الموجب لنجاته العمل بالتيمم ، فكان الأمر بالسؤال والتعلّم إنّما هو للعمل لا محالة.

هذا ، مضافاً إلى أنّه على تقدير ترك التعلّم والفحص لو صادف خلاف الواقع بارتكاب الحرام أو ترك الواجب ، فالقول باستحقاق العقاب لأجل ترك التعلّم دون مخالفة الواقع بعيد ، لأنّ وجوب الفحص والتعلّم إنّما هو لتنجّز الواقع قبله فكيف يمكن الالتزام بعدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع ، واستحقاقه على ترك الفحص عنه فانّه خلف. والالتزام باستحقاق عقابين أبعد ، ولم يقل به أحد.

فتعيّن القول باستحقاق عقاب واحد لأجل مخالفة الواقع ، دون ترك الفحص والتعلّم. وهذا هو معنى الوجوب الطريقي. وأمّا لو ترك الفحص ولكنّه صادف الواقع من باب الاتفاق ، فلا يستحقّ العقاب إلاّعلى القول باستحقاق المتجري للعقاب. وقد تقدّم (٢) الكلام فيه مفصّلاً في بحث القطع.

ثمّ إنّه ربّما يستشكل في الوجوب الطريقي فيما إذا كان الواجب مشروطاً بشرط غير حاصل كالموقت قبل وقته ، ولم يكن المكلف متمكناً من الاتيان به في ظرفه لتركه التعلّم قبل حصول الشرط ، باعتبار أنّه قبل حصول الشرط لم يثبت وجوب الواجب حتّى يجب تعلّمه وتحصيل سائر مقدّماته ، وبعد حصوله

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٦ و ٣٤٧ / أبواب التيمم ب ٥ ح ١ و ٦

(٢) في ص ١٧

٥٧٦

لا يكون قادراً على الامتثال ، فالتكليف ساقط للعجز ، فيلزم عدم وجوب التعلّم لا قبل حصول الشرط ولا بعده. ولعلّه لأجل هذا الاشكال التزم صاحب الكفاية قدس‌سره وغيره بالوجوب النفسي.

وتحقيق الحال حول هذا الاشكال يقتضي البسط في المقال فنقول وعلى الله الاتكال :

قد يكون الواجب فعلياً مع اتّساع الوقت لتعلّمه والاتيان به ، فلا إشكال في عدم وجوب التعلّم عليه قبل الوقت ، لعدم فعلية وجوب الواجب ، فانّه بعد الوقت مُخيّر بين التعلّم والامتثال التفصيلي ، والأخذ بالاحتياط والاكتفاء بالامتثال الاجمالي ، سواء كان الاحتياط مستلزماً للتكرار أم لا ، بناءً على ما تقدّم بيانه (١) من أنّ الصحيح جواز الاكتفاء بالامتثال الاجمالي ولو كان مستلزماً للتكرار مع التمكن من الامتثال التفصيلي.

وقد يكون الواجب فعلياً مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللاتيان به ، ولكن المكلف يتمكن من الاحتياط والامتثال الاجمالي ، ولا إشكال أيضاً في عدم وجوب التعلم عليه قبل الوقت ، لعدم فعلية وجوب الواجب ، ولا بعد الوقت لعدم اتّساع الوقت له وللاتيان بالواجب على الفرض ، فله أن يتعلّم قبل الوقت ، وله أن يحتاط بعد دخوله. وتوهّم أنّ الامتثال الاجمالي إنّما هو في طول الامتثال التفصيلي ، فمع القدرة على الثاني لا يجوز الاكتفاء بالأوّل ، غير جارٍ في هذا الفرض ، لعدم التمكن من الامتثال التفصيلي في ظرف العمل ، نعم هو متمكن من التعلّم قبل الوقت ، إلاّ أنّه لا يجب عليه حفظ القدرة على العمل قبل الوقت ولم يقل بوجوبه أحد.

__________________

(١) في ص ٩٢

٥٧٧

وقد يكون الواجب فعلياً مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللإتيان به ، ولا يكون المكلف متمكناً من الاحتياط ، ولكنّه متمكن من الامتثال الاحتمالي فقط ، كما إذا شكّ في الركوع حال الهوي إلى السجود ، مع عدم تعلّمه لحكم ذلك قبل العمل ، فانّه لا يتمكن من الاحتياط وإحراز الامتثال ، إذ في الرجوع والاتيان بالركوع احتمال زيادة الركن وهو مبطل للصلاة ، وفي المضي في الصلاة وعدم الاعتناء بالشك احتمال نقصان الركن وهو أيضاً مبطل للصلاة ، فلا يتمكن من الاحتياط. وفي كل من الرجوع والاتيان بالركوع والمضي في الصلاة احتمال الامتثال ، هذا إذا كان الشك متعلقاً بالأركان كما مثّلناه.

وأمّا إن كان متعلقاً بغير الأركان ، فهو متمكن من الاحتياط والاتيان بالمشكوك فيه رجاءً ، وهو خارج عن هذا الفرض ، ففي هذا الفرض وجب عليه التعلّم قبل الابتلاء بالشك بحكم العقل بملاك دفع العقاب المحتمل عند فعلية الشك وتشمله أدلة وجوب التعلّم أيضاً ، فانّه لو لم يتعلّم قبل الابتلاء واكتفى بالامتثال الاحتمالي فلم يصادف الواقع كانت صلاته باطلةً وصحّ عقابه ، ولا يصح اعتذاره بأ نّي ما علمت ، لأنّه يقال له : «هلاّ تعلّمت حتّى عملت» كما في الرواية (١). ومن هذا الباب فتوى الأصحاب بوجوب تعلّم مسائل الشك والسهو قبل الابتلاء ، حتّى أفتوا بفسق من لم يتعلّم. وأنت ترى أنّ الاشكال المذكور من ناحية وجوب التعلّم غير جارٍ في هذه الصورة يقيناً فلاحظ.

وقد لا يكون الواجب فعلياً بعد دخول الوقت لكونه غافلاً ـ ولو كانت غفلته مستندة إلى ترك التعلم ـ أو لكونه غير قادر ، ولو كان عجزه مستنداً إلى ترك التعلم قبل الوقت ، مع عدم اتّساع الوقت للتعلّم وللاتيان بالواجب ، والاشكال المذكور مختص بهذه الصورة.

__________________

(١) تقدّمت في ص ٥٧١

٥٧٨

والذي ينبغي أن يقال : إنّه إن كانت القدرة المعتبرة في مثل هذا الواجب معتبرة عقلاً من باب قبح التكليف بغير المقدور وغير دخيلة في الملاك ، كما إذا ألقى أحد نفسه من شاهق إلى الأرض ، فانّه أثناء الهبوط إلى الأرض وإن لم يكن مكلفاً بحفظ نفسه ، لعدم قدرته عليه ، إلاّأنّ قدرته ليست دخيلة في الملاك ، ومبغوضية الفعل للمولى باقية بحالها ، ففي مثل ذلك لا ينبغي الشك في وجوب التعلّم قبل الوقت للتحفظ على الملاك الملزم في ظرفه ، وإن لم يكن التكليف فعليّاً في الوقت ، لما تقدّم سابقاً (١) من أنّ العقل يحكم بقبح تفويت الملاك الملزم ، كما يحكم بقبح مخالفة التكليف الفعلي.

وإن كانت القدرة معتبرة شرعاً ودخيلة في الملاك ، فلا يجب التعلّم قبل الوقت حينئذ ، بلا فرق بين القول بوجوبه طريقياً والقول بوجوبه نفسياً. أمّا على القول بالوجوب الطريقي فالأمر واضح ، إذ لا يترتب على ترك التعلّم فوات واجب فعلي ولا ملاك ملزم. وأمّا على القول بالوجوب النفسي ، فلأنّ الواجب إنّما هو تعلّم الأحكام المتوجهة إلى شخص المكلف ، والمفروض أنّه لم يتوجّه إليه تكليف ولو لعجزه ، ولا يجب على المكلف تعلّم الأحكام المتوجهة إلى غيره ، وهو القادر ، ولذا لا يجب على الرجل تعلم أحكام الحيض.

وظهر بما ذكرناه : أنّه لا ثمرة عملية بيننا وبين المحقق الأردبيلي قدس‌سره إذ قد عرفت عدم وجوب التعلّم في هذا الفرض على كلا القولين ، فلا يجدي الالتزام بالوجوب النفسي في دفع الاشكال المذكور ، بل الحق هو الالتزام بالاشكال وعدم وجوب التعلّم ، ولا يلزم منه محذور.

الجهة الثالثة : هل يختص وجوب التعلّم بما إذا علم المكلف تفصيلاً أو إجمالاً أو اطمأنّ بابتلائه بما لا يعلم حكمه ، كحكم الشكوك المتعارفة التي يعمّ بها

__________________

(١) في ص ٥٣٠

٥٧٩

الابتلاء ، أو يجب بمجرّد احتمال الابتلاء؟ وجهان بل قولان.

المشهور بينهم بل المتسالم عليه هو الثاني. وربّما يقال بالأوّل تمسّكاً باستصحاب عدم الابتلاء ، وبعد إحراز عدم الابتلاء ولو بالتعبد لا يجب التعلّم.

وردّ هذا الاستصحاب بوجهين :

الأوّل : أنّ أدلة الاستصحاب لا تشمل المقام ، بدعوى أنّها لا تشمل إلاّ الامور الماضية المتعلق بها اليقين السابق والشك اللاحق ، فعدم الابتلاء في المستقبل لا يكون مشمولاً لأدلة الاستصحاب.

وفيه : أنّ الميزان في جريان الاستصحاب إنّما هو تقدّم زمان المتيقن على زمان المشكوك فيه ، من دون فرق بين الامور الماضية والاستقبالية ، على ما سيجيء الكلام فيه في بحث الاستصحاب (١) إن شاء الله تعالى. ولذا بنينا على ذلك فروعاً كثيرة منها : جواز البدار في أوّل الوقت لذوي الأعذار تمسّكاً باستصحاب بقاء عذره إلى آخر الوقت.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (٢) قدس‌سره وهو أنّ جريان الاستصحاب متوقف على كون الواقع المشكوك فيه بنفسه أثراً شرعياً أو ذا أثر شرعي. وأمّا إذا لم يكن كل من الأمرين ، ولم يكن أثر شرعي في البين ، أو كان الأثر مترتباً على نفس الشك دون الواقع ، فلا معنى لجريان الاستصحاب. والمقام من هذا القبيل ، لأنّ وجوب التعلّم من باب وجوب دفع الضرر المحتمل بحكم العقل مترتب على احتمال الابتلاء لا على واقع الابتلاء ، ليتمسّك بالاستصحاب لاحراز عدمه.

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ، ص ١٠٦ / التنبيه الأوّل من تنبيهات الاستصحاب

(٢) أجود التقريرات ١ : ٢٣١ ، فوائد الاصول ١ : ٢٠٧ و ٢٠٨

٥٨٠