موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

الوجود المنطبق على أوّل الوجودات ، ففي مثل ذلك وإن كان انضمام الوجود الثاني وعدمه على حد سواء في عدم الدخل في جزئية الوجود الأوّل ، فانّ هذا هو معنى أخذه لا بشرط ، إلاّ أنّه لا يقتضي كون الوجود الثاني أيضاً مصداقاً للمأمور به ، وحينئذ تتحقق الزيادة بتكرر الجزء لا محالة.

وثانياً : أنّ عدم صدق الزيادة حقيقةً بالدقّة العقلية ممّا لا يترتب عليه أثر ، لأنّ الأحكام الشرعية تابعة للصدق العرفي ، ومن الظاهر صدق الزيادة عرفاً ولو مع أخذ الجزء بشرط لا فضلاً عمّا إذا اخذ على نحو لا بشرط. هذا كلّه فيما إذا كان الزائد من سنخ أجزاء المأمور به ، كما إذا أتى بركوعين أو سجودين مثلاً.

وأمّا إذا كان الزائد غير مسانخ لأجزاء المأمور به ، فصدق الزيادة فيه عرفاً ظاهر لا خفاء فيه.

أمّا الجهة الثانية : فتحقيق الكلام فيها هو التفصيل بين الموارد المنصوصة وغيرها ، بأن يقال باعتبار القصد في تحقق عنوان الزيادة في غير الموارد المنصوصة ، والوجه فيه : أنّ المركب الاعتباري كالصلاة مثلاً مركب من امور متباينة مختلفة وجوداً وماهيةً. والوحدة بينها متقوّمة بالقصد والاعتبار ، فلو أتى بشيء بقصد ذلك المركب كان جزءاً له وإلاّ فلا. وأمّا الموارد المنصوصة فتحقق عنوان الزيادة فيها غير متوقف على القصد كالسجود ، لما ورد من أنّ الاتيان بسجدة التلاوة في أثناء الصلاة زيادة فيها ، فبالتعبد الشرعي يجري عليه حكم الزيادة وإن لم يكن من الزيادة حقيقة. ويلحق بالسجدة الركوع بالأولوية القطعية ، ويترتب على ذلك عدم صحّة الاتيان بصلاة في أثناء صلاة اخرى في غير الموارد المنصوصة ، فانّ الركوع والسجود المأتي بهما بعنوان الصلاة الثانية محقق للزيادة في الصلاة الاولى الموجبة لبطلانها ، كما أفتى به جماعة من

٥٤١

الفقهاء : منهم المحقق النائيني (١) قدس‌سره والمرحوم السيّد الاصفهاني (٢) (قدّس الله أسرارهم).

إذا عرفت تحقيق القول في مفهوم الزيادة ، فنقول : إنّ الشك في بطلان العمل من جهة الزيادة يكون ناشئاً من الشك في اعتبار عدمها في المأمور به ، ومن الظاهر أنّ مقتضى الأصل عدمه ما لم يقم دليل على اعتباره ، فلا بأس بالزيادة العمدية فضلاً عن الزيادة السهوية. هذا فيما إذا لم تكن الزيادة موجبةً للبطلان من جهة اخرى ، كما إذا قصد المكلف امتثال خصوص الأمر المتعلق بما يتركب من الزائد ، فانّه لا إشكال في بطلان العمل في هذا الفرض إذا كان عبادياً ، لأنّ ما قصد امتثاله من الأمر لم يكن متحققاً وما كان متحققاً لم يقصد امتثاله.

نعم ، لو قصد المكلف امتثال الأمر الفعلي ، وقد أتى بالزائد لاعتقاد كونه جزءاً للمأمور به من جهة الخطأ في التطبيق أو من جهة التشريع في التطبيق صحّ العمل ، لما عرفت من أنّ الزيادة بنفسها لا توجب البطلان. والتشريع في التطبيق وإن كان قبيحاً عقلاً وشرعاً إلاّ أنّه لا ينافي التقرّب بامتثال الأمر الموجود ، وقد أتى بمتعلقه وقصد امتثاله كما هو المفروض.

هذا ما تقتضيه القاعدة بلا فرق بين عمل دون عمل وبين جزء دون جزء ، إلاّ أنّه وردت نصوص تدل على بطلان الصلاة والطواف بالزيادة ، فلا بدّ من ملاحظتها والحكم بما يستفاد منها من الصحّة أو البطلان بالزيادة ، فنقول : أمّا الصلاة فالروايات الواردة فيها على طوائف :

الطائفة الاولى : ما تدلّ على بطلانها بالزيادة مطلقاً كقوله عليه‌السلام :

__________________

(١) العروة الوثقى (المحشّاة) ٣ : ٣٢٧ المسألة السابعة وكذا المسألة الثامنة

(٢) لاحظ العروة الوثقى (المحشّاة) ٣ : ٣٢٧ المسألة السابعة

٥٤٢

«من زاد في صلاته فعليه الاعادة» (١).

الطائفة الثانية : ما تدلّ على بطلانها بالزيادة السهوية كقوله عليه‌السلام : «إذا استيقن أنّه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتدّ بها ، فاستقبل صلاته استقبالاً» (٢).

الطائفة الثالثة : ما تدلّ على بطلانها بالاخلال سهواً في الأركان بالزيادة أو النقصان. وأمّا الاخلال بغير الأركان سهواً فلا يوجب البطلان ، كقوله عليه‌السلام : «لا تعاد الصلاة إلاّمن خمسة : الطهور والقبلة والوقت والركوع والسجود» (٣).

وتوهّم اختصاص هذا الحديث الشريف بالنقيصة لعدم تصوّر الزيادة في الوقت والقبلة والطهور ـ كما عن المحقق النائيني (٤) قدس‌سره ـ مدفوع بأنّ ظاهر الحديث أنّ الاخلال بغير هذه الخمس لا يوجب الاعادة ، والاخلال بها يوجب الاعادة ، سواء كان الاخلال بالزيادة أو النقيصة. وهذا المعنى لا يتوقف على أن تتصوّر الزيادة والنقيصة في كل واحد من هذه الخمس ، فعدم تحقق الزيادة في الوقت والقبلة والطهور في الخارج لا يوجب اختصاص الحديث بالنقيصة ، بعد قابلية الركوع والسجود للزيادة والنقيصة.

__________________

(١) الوسائل ٨ : ٢٣١ / أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب ١٩ ح ٢

(٢) المصدر السابق ح ١ وفيه : «... زاد في صلاته المكتوبة ركعة» لكن المنقول هنا موافق للكافي ٣ : ٣٥٤ و ٣٥٥ ح ٢ والتهذيب ٢ : ١٩٤ ح ٧٦٣ والاستبصار ١ : ٣٧٦ / ح ١٤٢٨

(٣) الوسائل ٧ : ٢٣٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ١ ح ٤

(٤) [يتّضح بمراجعة تقريراته قدس‌سره في الفقه والاصول أنّه يرى شمول «لا تعاد» للزيادة والنقيصة فلاحظ أجود التقريرات ٣ : ٥٢٨ وفوائد الاصول ٤ : ٢٣٨ وكتاب الصلاة ٣ : ٢٤]

٥٤٣

ومقتضى الجمع بين هذه الروايات هو الحكم ببطلان الصلاة بالزيادة العمدية مطلقاً ، وبالزيادة السهوية أيضاً إن كان الزائد من الأركان ، وبعدم البطلان بالزيادة السهوية إن كان الزائد من غير الأركان.

وذلك لأنّ الطائفة الاولى الدالة على البطلان بالزيادة وإن كانت عامّة من حيث العمد والسهو ، ومن حيث كون الزائد ركناً أو غير ركن ، إلاّ أنّها خاصّة بالزيادة ، فالنسبة بينها وبين حديث لا تعاد ـ الدال على عدم بطلان الصلاة بالاخلال سهواً في غير الأركان ـ هي العموم من وجه ، لأنّ حديث لا تعاد وإن كان خاصاً من جهة أنّ الحكم بالبطلان فيه مختص بالاخلال بالأركان ، إلاّ أنّه عام من حيث الزيادة والنقصان.

كما أنّ الطائفة الثانية الدالة على البطلان بالزيادة السهوية عامّة من حيث الأركان وغيرها وخاصّة بالزيادة ، فالنسبة بينها وبين حديث لا تعاد أيضاً هي العموم من وجه ، فتقع المعارضة في مورد الاجتماع ، وهو الزيادة السهوية في غير الأركان ، فانّ مقتضى الطائفة الاولى والثانية بطلان الصلاة بها. ومقتضى حديث لا تعاد عدم البطلان ، إلاّأنّ حديث لا تعاد حاكم عليهما ، بل على جميع أدلة الأجزاء والشرائط والموانع كلّها ، لكونه ناظراً إليها وشارحاً لها ، إذ ليس مفاده انحصار الجزئية والشرطية في هذه الخمس ، بل مفاده أنّ الاخلال سهواً بالأجزاء والشرائط التي ثبتت جزئيتها وشرطيتها لايوجب البطلان إلاّالاخلال بهذه الخمس ، فلسانه لسان الشرح والحكومة ، فيقدّم على أدلة الأجزاء والشرائط بلا لحاظ النسبة بينه وبينها ، كما هو الحال في كل حاكم ومحكوم.

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ الزيادة العمدية موجبة لبطلان الصلاة مطلقاً بمقتضى إطلاق الطائفة الاولى ، وبمقتضى الأولوية القطعية في الطائفة الثانية. ولا معارض لهما ، لاختصاص حديث لا تعاد بالاخلال السهوي ، لظهوره في إثبات الحكم

٥٤٤

لمن أتى بالصلاة ثمّ التفت إلى الخلل الواقع فيها ، فلا يعمّ العامد. وأنّ الزيادة السهوية موجبة للبطلان إن كانت في الأركان بمقتضى إطلاق الطائفتين الاولى والثانية وخصوص حديث لا تعاد. وأمّا الزيادة السهوية في غير الأركان فهي مورد المعارضة ، وقد عرفت أنّه لا مناص من تقديم حديث لا تعاد والحكم بعدم البطلان فيها. هذا كلّه في الزيادة.

وأمّا النقيصة فلا ينبغي الشك في بطلان الصلاة بها إن كانت عمدية بمقتضى الجزئية والشرطية ، وإلاّ لزم الخلف كما هو ظاهر. وأمّا إن كانت سهوية فهي موجبة للبطلان إن كانت في الأركان دون غيرها من الأجزاء والشرائط بمقتضى حديث لا تعاد.

وأمّا الطواف فلا إشكال في بطلانه بالزيادة العمدية ، لما ورد من أنّ الطواف مثل الصلاة ، فإذا زدت فعليك بالاعادة (١). وأمّا الزيادة السهوية فلا توجب البطلان ، فان تذكّر قبل أن يبلغ الركن فليقطعه وليس عليه شيء ، وإن تذكر بعده فلا شيء عليه أيضاً ، إلاّ أنّه مخيّر بين رفع اليد عن الطواف الزائد وبين أن يجعله طوافاً مستقلاً ، فيضم إليه ستّة أشواط حتّى يتم طوافان ، ولا ينافيه ما ورد (٢) من عدم جواز اقتران الاسبوعين لاختصاصه بصورة العمد. وحكم الزيادة العمدية والسهوية في السعي هو حكم الطواف.

وأمّا النقيصة العمدية فلا إشكال في كونها موجبةً لبطلان الطواف. وأمّا النقيصة السهوية فلا توجب البطلان ، فان تذكّر وهو في محل الطواف فيأتي بالمنسي ويتم طوافه ، وإن تذكر وهو ساع بين الصفا والمروة ، فيقطع السعي

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٣٦٦ / أبواب الطواف ب ٣٤ ح ١١ (باختلاف)

(٢) الوسائل ١٣ : ٣٧٠ / أبواب الطواف ب ٣٦ ح ٣ وغيره

٥٤٥

ويرجع إلى البيت ، ويتم طوافه ثمّ يسعى ، وإن لم يتذكّر إلاّوقد أتى أهله فيستنيب من يطوف عنه. وكل ذلك للنصوص الواردة في المقام فراجع (١) والتفصيل موكول إلى محلّه في الفقه (٢).

التنبيه الثالث

إذا تعذّر الاتيان ببعض أجزاء الواجب أو بعض شرائطه ، فهل القاعدة تقتضي سقوط التكليف رأساً ، أو بقاءه متعلقاً بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط؟

والتكلم في هذا البحث من جهة التمسك بالاطلاق أو الرجوع إلى الأصل العملي من البراءة أو الاشتغال على تقدير عدم وجود الاطلاق قد ظهر الحال فيه ممّا تقدّم (٣) في التنبيه الأوّل ، عند البحث عن نسيان الجزء أو الشرط ، فلا حاجة إلى الاعادة.

والكلام في هذا التنبيه متمحض في البحث عن وجوب المقدار الميسور من الأجزاء والشرائط من جهة الاستصحاب ، أو من جهة الروايات الواردة في المقام ، وقد يعبّر عن هذا البحث بالبحث عن تمامية قاعدة الميسور وعدمها.

أمّا الاستصحاب فتقريبه بوجوه :

الوجه الأوّل : أن يستصحب الوجوب الجامع بين الضمني والاستقلالي

__________________

(١) الوسائل ١٣ : ٣٥٧ و ٣٦٣ و ٤٠٤ / أبواب الطواف ب ٣٢ و ٣٤ و ٥٦

(٢) شرح المناسك ٢٩ : ٦٠ وما بعدها / المسألة ٣١٢ وما بعدها

(٣) في ص ٥٣٥

٥٤٦

المتعلق بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط ، فانّ وجوبها الضمني قبل طروء التعذر في ضمن وجوب المركب كان ثابتاً ، ونشك في ارتفاع أصل الوجوب بارتفاعه ، فنتمسّك بالاستصحاب ونحكم ببقائه.

وفيه : أنّه مبني على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي ولا نقول به ، فانّ الفرد المعلوم تحققه وهو الوجوب الضمني قد ارتفع يقيناً ، والفرد الآخر وهو الوجوب الاستقلالي مشكوك الحدوث ، فليس هنا وجود واحد متيقن الحدوث مشكوك البقاء ليحكم ببقائه للاستصحاب.

الوجه الثاني : أن يستصحب الوجوب الاستقلالي بنحو مفاد كان التامّة ، بأن يقال : إنّ أصل الوجوب قبل تعذّر بعض الأجزاء كان ثابتاً ، فيشك في ارتفاعه بعد طروء التعذّر ، فيحكم ببقائه للاستصحاب.

وفيه أوّلاً : أنّ الوجوب عرض لايتحقق إلاّمتعلقاً بشيء ، وعليه فالوجوب المتيقن كان متعلقاً بالمركب من المتعذر وغيره ، والوجوب المشكوك فيه بعد التعذر هو وجوب آخر متعلق بغير ما تعلّق به الوجوب الأوّل ، فجريان الاستصحاب في خصوص ما كان متيقناً لا معنى له للعلم بارتفاعه ، وكذا في خصوص ما هو متعلق بغير المتعذر لعدم العلم بحدوثه ، وفي الجامع بينهما متوقف على جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلّي ولا نقول به.

وثانياً : أنّ استصحاب الوجوب بنحو مفاد كان التامّة ، وهو ما لوحظ فيه نفس الوجوب مع قطع النظر عن متعلقه ، لا يترتب عليه وجوب غير المتعذر من الأجزاء والشرائط إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، ولا نقول به على ما سيجيء الكلام فيه في محلّه (١) إن شاء الله تعالى. ونظير المقام ما إذا علمنا

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ، ص ١٨١ / التنبيه الثامن من تنبيهات الاستصحاب

٥٤٧

بوجوب إكرام زيد ، ثمّ علمنا بارتفاعه واحتملنا وجوب إكرام عمرو ، فهل يصح جريان الاستصحاب في أصل الوجوب بنحو مفاد كان التامّة ليترتب عليه وجوب إكرام عمرو؟

الوجه الثالث : أن يستصحب الوجوب الاستقلالي الثابت للصلاة مثلاً فيما إذا لم يكن الجزء المتعذر من الأجزاء المقوّمة ، باعتبار أنّ الصلاة الفاقدة للجزء المتعذر متحدة مع الواجدة له بنظر العرف ، فيقال إنّ هذه الصلاة كانت واجبة قبل طروء التعذر ، فيستصحب بقاؤها على صفة الوجوب بعد التعذر أيضاً.

والفرق بين هذا الوجه والوجهين السابقين هو أنّ جريان الاستصحاب ـ على هذا التقريب ـ يختص بما إذا كان المتعذر غير مقوّم للواجب بنظر العرف ، لتكون القضيّة المتيقنة متحدةً مع المشكوك فيها ، بخلاف التقريبين السابقين ، فانّه لو صحّ جريان الاستصحاب عليهما لا يختص بمورد دون مورد ، كما هو ظاهر.

وتمامية هذا الوجه تتوقف على أمرين :

الأوّل : صحّة جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية من جهة الشك في المجعول الشرعي ، والمختار عدمها لابتلائه بالمعارض وهو استصحاب عدم الجعل على ما سنتكلّم فيه في مبحث الاستصحاب (١) إن شاء الله تعالى.

الثاني : إحراز كون المتعذر غير مقوّم للواجب ، ليكون الشك في وجوب غير المتعذر من الأجزاء والشرائط شكاً في البقاء لا في الحدوث ، وعليه فقد يقال بعدم جريان الاستصحاب عند الشك في وجوب غير المتعذر من الأجزاء والشرائط في المركبات الشرعية ، بدعوى أنّه لا طريق لنا إلى تمييز المقوّم من غيره في المركبات الشرعية ، فكل جزء أو شرط كان متعذراً يحتمل كونه مقوّماً ،

__________________

(١) راجع المجلد الثالث من هذا الكتاب ص ٤٢

٥٤٨

ومعه لايصح جريان الاستصحاب ، لعدم إحراز اتحاد القضيّة المتيقنة والمشكوك فيها. نعم ، إن كان المركب من المركبات العرفية كان تمييز المقوّم من أجزائه عن غير المقوّم منها موكولاً إلى نظر العرف ، فكلّ ما كان المتعذر مقوّماً بنظرهم لا يجري الاستصحاب ، كما أنّه إذا كان المتعذر غير مقوّم بنظرهم لا مانع من جريان الاستصحاب.

ولكن التحقيق أنّه إذا ثبت من الشرع كون جزء أو شرط مقوّماً للمركب ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب عند تعذره. وأمّا إذا لم يصدر من الشارع بيان في ذلك ، فالظاهر إيكال الأمر إلى العرف ، فان كانت نسبة المتعذر إلى البقية غير معتد بها في نظرهم ، كنسبة الواحد إلى العشرين مثلاً ، فيجري الاستصحاب. وأمّا إن كانت النسبة معتداً بها بنظرهم كنسبة النصف أو الثلث إلى المجموع مثلاً ، فلا يجري الاستصحاب.

ثمّ إنّ جريان الاستصحاب في المقام يختص بما إذا كان التعذر حادثاً بعد دخول الوقت ، وأمّا إذا كان حادثاً قبل دخول الوقت أو مقارناً لأوّل الوقت ، فلا مجال لجريان الاستصحاب ، لعدم كون الوجوب متيقناً في زمان ليجري فيه الاستصحاب ويحكم ببقائه ، بل المرجع حينئذ هو البراءة عن وجوب غير المتعذر من الأجزاء والشرائط.

هذا ، والتزم المحقق النائيني (١) قدس‌سره بجريان الاستصحاب ولو كان التعذر مقارناً لأوّل الوقت ، بدعوى أنّ جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّية لا يتوقف على فعلية الموضوع خارجاً ، فانّ إجراءه وظيفة المجتهد لا المقلّد ، ولا يعتبر فيه تحقق الموضوع خارجاً ، ومن ثمّ يتمسّك الفقيه في حرمة وطء الحائض

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٥ ، فوائد الاصول ٤ : ٥٦١ و ٥٦٢

٥٤٩

بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال بالاستصحاب مع عدم تحقق الموضوع خارجاً.

وفيه : أنّ جريان الاستصحاب وإن لم يكن متوقفاً على تحقق الموضوع في الخارج ، إلاّ أنّه متوقف على فرض تحقق الموضوع في الخارج ، فانّ الفقيه يفرض امرأةً حائضاً ثبتت حرمة وطئها وشكّ في ارتفاعها بانقطاع الدم ، فيتمسك بالاستصحاب ويحكم بحرمة وطئها على نحو القضيّة الحقيقية. ولا يعقل أن يفرض امرأةً أيام طهرها ويحكم بحرمة وطئها للاستصحاب ، باعتبار أنّه لايعتبر في جريان الاستصحاب تحقق الموضوع خارجاً ، إذ لا يقين بحرمة وطئها ولو على حسب الفرض ليحكم ببقائها للاستصحاب. والمقام من هذا القبيل ، فانّ الفقيه إذا فرض مكلفاً تعذّر عليه الاتيان ببعض أجزاء المركب مقارناً لأوّل الوقت ، لا يقين له بثبوت التكليف عليه ولو بالفرض والتقدير ، إذ التكليف بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، فكيف يحكم بوجوب غير المتعذر تمسكاً بالاستصحاب.

وبالجملة : لابدّ في جريان الاستصحاب من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ولو على سبيل الفرض والتقدير ، وفي المقام فرض الشك في الحدوث فلا يعقل جريان الاستصحاب فيه ، ولعمري أنّ هذا واضح. ويزداد وضوحاً بذكر أقسام جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي ، فنقول : إنّ الاستصحاب الجاري في الأحكام الشرعية يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يستصحب الحكم باعتبار مرحلة الجعل والتشريع عند احتمال نسخة ، ولا ينبغي الشك في أنّ جعل الحكم وتشريعه لا يتوقف على تحقق الموضوع خارجاً ، فانّ الجعل جعل على الموضوع المقدّر لا على الموضوع المحقق ، بل ربّما يكون جعل الحكم وتشريعه موجباً لعدم تحقق الموضوع في الخارج ، كما في الحكم بالقصاص ، ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى : «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ

٥٥٠

حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ» (١) ففي مثل ذلك يجعل الحكم على الموضوع المقدّر على نحو القضيّة الحقيقية ولا رافع له إلاّالنسخ ، فإذا شكّ في بقائه لاحتمال النسخ يتمسّك بالاستصحاب ، ويحكم ببقائه بلا دخل لوجود الموضوع في الخارج وعدمه.

الثاني : أن يستصحب الحكم الكلّي عند الشك في بقائه لأجل الشك في سعة موضوعه وضيقه ، كما إذا شككنا في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال. ولا إشكال أيضاً في عدم توقف جريان الاستصحاب فيه على تحقّق الموضوع في الخارج ، بل الفقيه يجري الاستصحاب مبنياً على الفرض والتقدير كما تقدّم ، فانّ فتاوى الفقيه كلّها مبتنية على فرض وجود الموضوع ومفاد (لو) فيقول لو صار شخص جنباً وجب عليه الغسل ، ولو أفطر أحد عمداً في شهر رمضان كان عليه كذا من الكفارة ، وهكذا.

والفرق بين هذا القسم والقسم السابق بعد اشتراكهما في عدم توقف الاستصحاب على وجود الموضوع خارجاً : أنّ الشك في هذا القسم شك في مقدار المجعول من أوّل الأمر ، وأنّ الموضوع في القضيّة الحقيقية المجعولة أمر وسيع أو ضيّق.

وأمّا القسم الأوّل فليس الشك فيه ناشئاً من الشك في حدّ الموضوع ، بل من احتمال النسخ وعدم بقاء الحكم في عمود الزمان ، ولذا كان الشك في القسم الثاني ناشئاً من تبدّل خصوصية في الموضوع ، مع القطع بعدم النسخ ، بخلاف القسم الأوّل فانّ الشك فيه ناشئ من احتمال النسخ مع القطع بعدم تبدّل شيء من خصوصيات الموضوع ، فالقسمان من هذه الجهة متعاكسان.

الثالث : أن يستصحب الحكم الجزئي الثابت لموضوع شخصي عند الشك في بقائه وزواله لأجل الطوارئ الخارجية ، مع إحراز الحكم الكلّي من جهة

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٧٩

٥٥١

عدم النسخ ومن جهة تحديد موضوعه سعةً وضيقاً ، كما إذا شككنا في طهارة ثوب لاحتمال ملاقاته البول مثلاً ، فيجري الاستصحاب ويحكم ببقاء طهارته.

وإجراء الاستصحاب في هذا القسم لا يختص بالفقيه ، بل للمقلد أيضاً إجراؤه بعد ما حصل له اليقين في الحدوث والشك في البقاء. وجريان الاستصحاب في هذا القسم متوقف على تحقق الموضوع خارجاً كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك يظهر لك أنّ جريان الاستصحاب في محل الكلام ـ مع كون التعذر حادثاً مقارناً لأوّل الوقت ـ ممّا لا وجه له ، لأنّ الحكم غير متيقن في زمان ليكون الشك في بقائه ، فيجري الاستصحاب ، أمّا على القسم الأوّل فواضح ، لعدم كون الشك في المقام ناشئاً من احتمال النسخ على الفرض. وأمّا على القسم الثاني فلأ نّه لا يقين بحدوث الحكم ولو على سبيل الفرض والتقدير ، إذ التكليف بغير المتعذر من الأجزاء والشرائط مشكوك الحدوث من أوّل الأمر ، فإذا فرض الفقيه مكلفاً تعذّر عليه الاتيان ببعض أجزاء المركب مقارناً لأوّل الوقت ، فهو شاك في حدوث التكليف عليه ابتداءً ، بلا سبق يقين منه ولو على سبيل الفرض والتقدير ، فلا يقاس المقام بالشك في حرمة الوطء بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال ، إذ الحرمة هناك متيقنة ، فيشك في ارتفاعها بانقطاع الدم فيجري الاستصحاب ويحكم ببقائها. هذا كلّه من حيث جريان الاستصحاب وعدمه.

وأمّا الروايات التي استدلّ بها على قاعدة الميسور فهي ثلاث روايات :

الرواية الاولى : ما رواه أبو هريرة المروية بطرق العامّة ، قال : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : أيُّها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو قلت نعم لوجب ، ولما

٥٥٢

استطعتم ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذروني ما تركتكم ، فانّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» (١). وزاد في الكفاية (٢) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكفرتم بعد قوله «لما استطعتم» ولم أجده حسب ما راجعت الكتب الحاوية لهذه الرواية (٣). وعلى كل تقدير يقع الكلام تارةً في سند هذه الرواية ، واخرى في دلالتها ، فيقع الكلام في مقامين :

أمّا المقام الأوّل : فلا شبهة في أنّ الرواية من المراسيل الضعاف ، ولا سيّما أنّ راويها أبو هريرة الذي حاله أظهر من أن يخفى. وقد تصدّى لاثبات كونه متعمداً في الكذب على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله سماحة السيّد شرف الدين العاملي (٤) قدس‌سره ولا سيّما أنّها غير موجودة في كتب متقدمي الأصحاب ، وإنّما رواها المتأخرون نقلاً عن محكي كتاب عوالي اللآلي (٥). والكتاب المذكور أيضاً ليس موثوقاً به وقد تصدّى للقدح عليه مَن ليس من عادته القدح في كتب الأخبار كصاحب الحدائق (٦) قدس‌سره.

وأمّا دعوى انجبارها بعمل الأصحاب فمدفوعة أوّلاً : بعدم ثبوت استناد

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٢ : ٣١

(٢) كفاية الاصول : ٣٧١

(٣) هذه الزيادة رويت في بحار الأنوار ٢٢ : ٣١ ومجمع البيان ٢ : ٢٥٠ في ذيل الآية ١٠١ من سورة المائدة

(٤) في كتابه المسمّى بـ «أبو هريرة»

(٥) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ح ٢٠٦

(٦) الحدائق الناضرة ١ : ٩٩

٥٥٣

الأصحاب إليها في مقام العمل ، ومجرد موافقة فتوى الأصحاب لخبر ضعيف لا يوجب الانجبار ما لم يثبت استنادهم إليه ، ولم يعلم من الأصحاب العمل بقاعدة الميسور إلاّفي الصلاة ، وفيها دليل خاص دلّ على عدم جواز تركها بحال ، فلم يعلم استنادهم إلى الرواية المذكورة. وثانياً : بأنّ مجرّد عمل الأصحاب لايوجب الانجبار بعد كون الخبر في نفسه ضعيفاً غير داخل في موضوع الحجّية على ما ذكرناه في محلّه (١).

هذا ، مضافاً إلى أنّه في صحيح النسائي مروي بوجه آخر لا يدل على المقام أصلاً ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «فإذا أمرتكم بشي فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» (٢) ومن المعلوم أنّ كلمة «ما» في هذه الرواية ظاهرة في كونها زمانية ، فمفاد الرواية هو وجوب الاتيان بالمأموربه عند الاستطاعة والقدرة ، وهذا المعنى أجنبي عن المقام. وتوهّم أنّ اختلاف الطريقين لايضر بالاستدلال بعد كون أحدهما منجبراً بالشهرة عند الأصحاب دون الآخر مدفوع بأنّ الرواية كما نقلت في كتب العامّة بوجهين كذلك نقلت في كتب الخاصّة أيضاً بوجهين ، فانّ الموجود في باب صلاة العراة من البحار (٣) «فائتوا به ما استطعتم» فلا وجه لدعوى انجبار أحد الطريقين ، فالمنجبر على تقدير التسليم إنّما هو إحدى الروايتين إجمالاً ، فلا يصحّ الاستدلال بخصوص إحداهما مع عدم ثبوت انجبارها.

وأمّا المقام الثاني : فتوضيح الكلام فيه أنّ محتملات الرواية ثلاثة :

__________________

(١) في ص ٢٣٥ ، ٢٨١

(٢) سنن النسائي ٥ : ١١٠ و ١١١ / كتاب الحج ب ١ ح ١

(٣) بحار الأنوار ٨٣ : ٢١٤

٥٥٤

الاحتمال الأوّل : أن تكون كلمة «ما» موصولة ومفعولاً لقوله «فائتوا» وكلمة «من» تبعيضية متعلقة بـ «ما استطعتم» ، فيكون مفاد الرواية وجوب الاتيان بما هو المقدور من أجزاء المأمور به وشرائطه. والاستدلال بالرواية على المقام مبني على هذا المعنى ، ولكنّه على تقدير تسليم ظهور الجملة فيه في نفسها لا يمكن الالتزام به ، لعدم انطباقه على المورد أوّلاً ، فانّ الذي يعلم بعدم قدرته على الطواف أو بعض الأعمال الاخر من مناسك الحج ، لا يجب عليه الاتيان بالبقية اتفاقاً ، ولعدم مناسبته للسؤال الذي وقع هذا الكلام في جوابه ثانياً ، فانّ السؤال إنّما هو عن وجوب الحج في كل سنة ، ولا يناسبه الجواب بوجوب الاتيان بما هو مقدور من أجزاء المركب وشرائطه.

الاحتمال الثاني : أن تكون كلمة «ما» موصولة وكلمة «من» بيانية ، فيكون حاصل المعنى أنّه إذا أمرتكم بطبيعة فائتوا ما استطعتم من أفرادها ، ولا يبعد أن تكون كلمة «من» إذا كانت بيانية متحدة في المعنى معها إذا كانت تبعيضية ، غاية الأمر أنّه تختلف مصاديق التبعيض باختلاف الموارد ، فانّ الفرد بعض الطبيعة كما أنّ الجزء بعض المركب ، فكما أنّ كلمة «من» في قولنا : اشتريت من البستان نصفه مستعملة في التبعيض ، كذلك في قولنا : لا أملك من البستان إلاّ واحداً ، وعليه فكلمة «من» في كلا الاحتمالين مستعملة في التبعيض. وهذا المعنى الذي لا يتم معه الاستدلال بالرواية على المقام وإن كان وجيهاً في نفسه ، إلاّ أنّه أيضاً لا ينطبق على المورد ، لعدم وجوب الاتيان بما هو مقدور من أفراد الحج في كل سنة بلا خلاف بين المسلمين إلاّما شذّ ، بل هو خلاف ظاهر نفس الرواية ، فانّها ظاهرة أو صريحة في عدم وجوبه في كل سنة ، فلاحظ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم» ، فلا يمكن حمل الرواية على هذا المعنى أيضاً.

٥٥٥

الاحتمال الثالث : أن تكون كلمة «من» زائدة كما في قوله تعالى : «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ» (١) أو تكون للتعدية بمعنى الباء وكلمة «ما» مصدرية زمانية ، فيكون حاصل المعنى أنّه إذا أمرتكم بشيء فائتوا به حين استطاعتكم ، فلا يستفاد من الرواية إلاّاشتراط التكليف بالقدرة الساري في جميع التكاليف الشرعية. وهذا المعنى ممّا لا مناص من الالتزام به بعد عدم إمكان الالتزام بالاحتمالين الأوّلين ، وعليه فلا مجال للاستدلال بالرواية على قاعدة الميسور.

الرواية الثانية : هي المرسلة المحكية عن كتاب العوالي أيضاً عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٢) وتقريب الاستدلال بها أنّ لفظة كل المذكورة في الرواية مرّتين أمرها دائر بحسب مقام التصوّر بين صور أربع : الاولى : أن يكون المراد بها في كلتا الفقرتين العموم الاستغراقي.

الثانية : أن يكون المراد بها فيهما العموم المجموعي. الثالثة : أن يكون المراد بها في الفقرة الاولى العموم الاستغراقي وفي الثانية العموم المجموعي. الرابعة : عكس الثالثة.

أمّا الصورة الاولى والثانية فلا يمكن الالتزام بهما ، إذ لا يعقل الحكم بوجوب الاتيان بكل فرد فرد ، مع تعذّر الاتيان بكل فرد فرد. وكذا الحكم بوجوب الاتيان بالمجموع مع تعذّر الاتيان بالمجموع. وكذا لايمكن الالتزام بالصورة الثالثة إذ لايعقل وجوب الاتيان بالمجموع مع تعذّر الاتيان بكل فرد فرد ، فتعيّن الالتزام بالصورة الرابعة ، فيكون المراد النهي عن ترك الجميع عند تعذّر المجموع ، فيكون

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣٠

(٢) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ح ٢٠٧

٥٥٦

مفاد الرواية أنّه إذا تعذّر الاتيان بالمجموع لا يجمع في الترك ، بل يجب الاتيان بغير المتعذر ، وهذا المعنى يشمل الكلّي الذي له أفراد متعددة تعذّر الجمع بينها ، والكل الذي له أجزاء مختلفة الحقيقة قد تعذّر بعضها ، لأنّ العام إذا لوحظ بنحو العموم المجموعي لايفترق الحال بين كون أجزائه متفقة الحقيقة أو مختلفة الحقيقة.

وعليه فكلّما كان الواجب ذا أفراد أو ذا أجزاء وجب الاتيان بغير المتعذر من أفراده أو أجزائه.

ولا يخفى أنّه لا يفترق الحال في الاستدلال بهذه الرواية بين أن تكون «لا» في قوله عليه‌السلام «لا يترك» ناهية والجملة إنشائية ، أو تكون نافية والجملة خبرية اريد بها الانشاء والطلب ، فانّه كثيراً ما يعبّر عن المطلوب بلفظ الخبر رغبة في وقوعه. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال بهذه الرواية.

واستشكل صاحب الكفاية (١) قدس‌سره على الاستدلال بها بأنّ ظهور النهي في التحريم يعارضه إطلاق الموصول الشامل للمستحبات أيضاً ، وحيث إنّه لا مرجح لأحدهما على الآخر لا يستفاد منها إلاّرجحان الاتيان بما هو المقدور دون وجوبه.

وفيه أوّلاً : ما ذكرناه في مباحث الألفاظ (٢) من أنّ الوجوب ليس داخلاً في مفهوم الأمر ، ولا الحرمة داخلة في مفهوم النهي ، فانّ مفهوم الأمر هو الطلب والوجوب إنّما هو بحكم العقل ، فانّ العقل بعد صدور الطلب من المولى يحكم بلزوم إطاعة المولى ، ويرى العبد مستحقاً للعقاب على ترك ما أمر المولى بفعله وهذا هو معنى الوجوب. وكذا الحرمة إنّما هي بحكم العقل بلزوم الاطاعة وكون

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٧٢

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٨١ ـ ٤٨٣

٥٥٧

العبد مستحقاً للعقاب على فعل ما نهى المولى عنه ، فلم يستعمل الأمر في موارد الوجوب والاستحباب إلاّفي معنى واحد ، إنّما التفاوت بينهما في ثبوت الترخيص في الترك من قبل المولى وعدمه. فعلى الأوّل لم يبق مجال لحكم العقل بلزوم الاتيان بالفعل ، فكان الفعل راجحاً مع الترخيص في تركه ، وهذا هو معنى الاستحباب. وعلى الثاني يحكم العقل بلزوم الاتيان بالفعل جريا على قانون العبودية ، وهذا معنى الوجوب.

وكذا الحال في النهي ، فانّ المستعمل فيه في موارد الحرمة والكراهة شيء واحد إنّما التفاوت بينهما في ثبوت الترخيص من قبل المولى على الفعل وعدمه فعلى الأوّل كان الفعل مكروهاً ، وعلى الثاني حراماً بحكم العقل.

فتحصّل : أنّ شمول الموصول للمستحبات لا ينافي ظهور النهي في التحريم ، لأنّ الترخيص بترك المقدور من أجزائها لا ينافي حكم العقل بلزوم الاتيان بالمقدور من أجزاء الواجب بعد عدم ثبوت الترخيص في تركها.

وثانياً : أنّ رجحان الاتيان بغير المتعذر من أجزاء الواجب يستلزم وجوبه لعدم القول بالفصل ، فانّ الأمر دائر بين كونه واجباً أو غير مشروع ، فرجحانه مستلزم لوجوبه كما هو ظاهر.

والتحقيق في الجواب ـ مضافاً إلى كون الرواية ضعيفة غير منجبرة على ما تقدّم بيانه (١) ـ أن يقال : إنّ أمر الرواية دائر بين حملها على تعذّر الاتيان بمجموع أجزاء المركب مع التمكن من بعضها ، ليكون الوجوب المستفاد منها مولوياً ، وبين حملها على تعذّر بعض أفراد الواجب مع التمكن من البعض الآخر ، ليكون الوجوب إرشادياً إلى حكم العقل بعدم سقوط واجب بتعذّر غيره

__________________

(١) في ص ٥٥٣

٥٥٨

وحيث إنّه لا جامع بين الوجوب المولوي والارشادي لتكون الرواية شاملة لهما ، ولا قرينة على تعيين أحدهما ، فتكون الرواية مجملةً غير قابلة للاستدلال بها.

هذا ، وقد ذكرنا في الدورة السابقة إشكالاً آخر على الاستدلال بها : وهو أنّه لو حملنا الرواية على تعذّر مجموع المركب مع التمكن من بعض أجزائه ، لزم تقييدها بما إذا كان المتمكن منه معظم الأجزاء ، إذ لو كان المتعذر هو معظم الأجزاء لا يجب الاتيان بالباقي بلا خلاف وإشكال ، والتقييد خلاف الأصل ، فالمتعيّن حملها على تعذّر بعض أفراد الواجب مع التمكن من بعض آخر لعدم لزوم التقييد فيه.

ولكن الانصاف أنّ هذا الاشكال غير وارد عليه ، بناءً على كون المراد من الموصول هو الجامع بين الكل والكلّي ، كما هو مبنى الاستدلال ، إذ المفروض دخول الكلّي الذي تعذّر بعض أفراده في الموصول ، سواء كان المتعذر معظم الأفراد والمتمكن منه أقلّها أو بالعكس ، فلا دوران بين التقييد وعدمه ليترجح الثاني على الأوّل. نعم ، لو كان الاستدلال مبنياً على حمل الرواية على خصوص تعذّر المركب دون الجامع بينه وبين الكلّي كان للاشكال المذكور وجه.

إن قلت : ظهور الأمر في المولوية يعيّن احتمال تعذّر بعض أجزاء المركب ، فلم يبق إجمال في الرواية.

قلت : هذا إنّما يصح فيما إذا علم متعلق الأمر وشكّ في كونه مولوياً أو إرشادياً. وأمّا إذا دار الأمر بين تعلّقه بما لا يصح تعلقه به إلاّإرشادياً ، وبين تعلّقه بما يكون تعلّقه به مولوياً ، فلا ظهور للأمر في تعيين متعلقه ، إذ ليس ظهور الأمر في المولوية ظهوراً وضعياً ليكون قرينة على تعيين المتعلق ، بل هو ظهور مقامي ناشئ عن كون المتكلم في مقام الجعل والتشريع ، فلا يصلح للقرينية على تعيين المتعلق.

٥٥٩

الرواية الثالثة : هي المرسلة المنقولة عن كتاب العوالي أيضاً عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «الميسور لايسقط بالمعسور» (١) وهي كسابقتها من حيث السند ، فيجري فيها جميع ما ذكرناه في الرواية السابقة من المناقشات السندية ولا حاجة إلى الاعادة (٢). وأمّا من حيث الدلالة فتحقيق الكلام فيها يتوقف على بيان المحتملات ، وهي امور :

الأوّل : أن تكون كلمة «لا» نهياً ابتداءً ، وعليه فيجري جميع ما ذكرناه من إجمال الرواية وعدم ظهور النهي في كونه مولوياً أو إرشادياً ، وعدم صحّة إرادة الجامع. وكذا يجري ما ذكره صاحب الكفاية من الاشكال ، وهو أنّ شمول الميسور للمستحبات مانع عن التمسك بها على وجوب الباقي من أجزاء المأموربه.

وقد عرفت جوابه أيضاً فلا حاجة إلى الاعادة (٣).

ولكن التحقيق عدم إمكان الالتزام بهذا الاحتمال ، لأنّ النهي سواء كان مولوياً أو إرشادياً لا بدّ من أن يتعلّق بفعل المكلف ، وما هو تحت قدرته واختياره وجوداً وعدماً ، وسقوط الواجب عن ذمّة المكلف كثبوته بيد الشارع ، وليس مقدوراً للمكلف ، فلا معنى للنهي عنه ولو إرشادياً.

الثاني : أن تكون الجملة خبرية قصد بها الانشاء ، فالجملة وإن كانت خبرية ونافية بحسب الصورة اللفظية ، إلاّ أنّها إنشائية بحسب اللبّ والمعنى.

وهذا الاحتمال أيضاً ساقط لعين ما ذكرناه في الاحتمال الأوّل ، فانّه لا فرق بينهما إلاّبحسب الصورة.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٥٨ / ح ٢٠٥ (باختلاف يسير)

(٢) راجع ص ٥٥٣

(٣) راجع ص ٥٥٧ ـ ٥٥٨

٥٦٠