موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

الصورة الثانية : أن يعلم وجوب فعل في الجملة ، وعلم أيضاً سقوطه عند الاتيان بفعل آخر ، ودار الأمر بين أن يكون الفعل الثاني عدلاً للواجب ، ليكون الوجوب تخييرياً بينه وبين الواجب الأوّل ، أو مسقطاً له لاشتراط التكليف بعدمه كالقراءة الواجبة في الصلاة المردّدة بين أن يكون وجوبها تعيينياً مشروطاً بعدم الائتمام ، أو يكون تخييرياً بينهما على ما مثّلوا. وفي التمثيل بها للمقام إشكال سيجيء التعرّض له قريباً (١) إن شاء الله تعالى. وتظهر الثمرة بين الاحتمالين فيما إذا عجز المكلف عن القراءة ، فانّه على تقدير كون الوجوب تخييرياً يتعيّن عليه الائتمام ، كما هو الحال في كل واجب تخييري تعذّر عدله. وعلى تقدير كون وجوب القراءة تعيينياً مشروطاً بعدم الائتمام لا يجب عليه الائتمام.

ثمّ إنّ هاتين الصورتين على طرفي النقيض ، فانّ وجوب ما يحتمل كونه عدلاً للواجب الأوّل معلوم في الجملة في الصورة الاولى ، إنّما الشك في أنّ الاتيان به مسقط للامتثال بالواجب الأوّل أو لا. وأمّا في الصورة الثانية فالمسقطية متيقنة ، إنّما الشك في كونه عدلاً للواجب الأوّل ليكون واجباً تخييرياً ، أو أنّ عدمه شرط لوجوب الواجب (٢).

__________________

(١) في ص ٥٢٣ ـ ٥٢٤

(٢) بل هاتان الصورتان على طرفي النقيض في مراحل ثلاث : الاولى : في نفس التكليف المعلوم ، فانّ وجوب ما يحتمل كونه عدلاً للواجب الأوّل معلوم في الجملة في الصورة الاولى ، إنّما الشك في أنّ الاتيان به مسقط للواجب أم لا. وأمّا الصورة الثانية فالمسقطية متيقّنة إنّما الشك في وجوبه كما ذكر (دام ظلّه). الثانية : في ظهور الثمرة ، فانّ الثمرة في الصورة الاولى تظهر فيما إذا تمكن المكلف منهما بخلاف الصورة الثانية فانّ الثمرة فيها فيما إذا تعذّر ما علم وجوبه. الثالثة : في الحكم فانّ الحكم في الصورة الاولى هو التخيير بخلاف الصورة فانّ الحكم فيها هو التعيين وتتّضح هذه المراحل بما في المتن

٥٢١

الصورة الثالثة : أن يعلم وجوب فعل في الجملة ، واحتمل كون فعل آخر عدلاً له ، مع عدم إحراز وجوبه ولا كونه مسقطاً ، كما إذا علمنا بوجوب الصيام في يوم ، واحتملنا أن يكون إطعام عشرة مساكين عدلاً له في تعلّق الوجوب التخييري بهما ، هذه هي الصور الثلاث.

أمّا الصورة الاولى : فلا أثر للشك فيها فيما إذا لم يتمكن المكلف إلاّمن أحد الفعلين ، ضرورة وجوب الاتيان به حينئذ إمّا لكونه واجباً تعيينياً أو عدلاً لواجب تخييري متعذِّر. وبعبارة اخرى : يعلم كونه واجباً تعيينياً فعلاً غاية الأمر لا يعلم أنّه تعييني بالذات أو تعييني بالعرض لأجل تعذّر عدله ، وإنّما تظهر الثمرة فيما إذا تمكن المكلف من الاتيان بهما معاً ، فيدور الأمر بين وجوب الاتيان بهما وجواز الاقتصار على أحدهما. والتحقيق هو الحكم بالتخيير وجواز الاكتفاء بأحدهما ، لأنّ تعلّق التكليف بالجامع بينهما متيقن ، وتعلّقه بخصوص كل منهما مجهول مورد لجريان البراءة بلا مانع.

وأمّا الصورة الثانية : فقد عرفت أنّه لا ثمرة فيها في كون الوجوب تعيينياً أو تخييرياً ، إلاّفيما إذا تعذّر ما علم وجوبه في الجملة ، فانّه على تقدير كون وجوبه تخييرياً ، يجب عليه الاتيان بالطرف الآخر المعلوم كونه مسقطاً للواجب ، وعلى تقدير كون وجوبه تعيينياً لا شيء عليه ، فالشك في التعيين والتخيير في هذه الصورة يرجع إلى الشك في وجوب ما يحتمل كونه عدلاً للواجب عند تعذّره وهو مورد للبراءة ، فتكون النتيجة في هذه الصورة هي نتيجة التعيين دون التخيير.

٥٢٢

ثمّ إنّ المحقق النائيني (١) قدس‌سره استدلّ على كون الوجوب تعيينياً في خصوص مسألة القراءة والائتمام التي ذكروها مثالاً لهذه الصورة بما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من «أنّ سين بلال عند الله شين» (٢) بتقريب أنّ الائتمام لو كان عدلاً للقراءة لوجب عليه الائتمام على تقدير التمكن منه ، وعدم جواز الاكتفاء بالسين بدلاً عن الشين.

وفيه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة بالارسال فلا يصحّ الاستدلال بها.

وثانياً : أنّ ما يتحمّله الإمام عن المأموم هي القراءة ، وليس فيها حرف الشين ليتعين الائتمام عند تعذّر التلفظ به على تقدير كون الوجوب تخييرياً ، فأمر بلال دائر بين ترك الصلاة رأساً والاكتفاء بالسين بدلاً عن الشين في التشهد الذي لا فرق فيه بين الاتيان بالصلاة فرادىً أو جماعة ، لعدم قدرته على التلفظ بالشين. والتكليف بغير المقدور قبيح يستحيل صدوره من الحكيم تعالى فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ على تقدير صحّة الرواية ـ إنّ تكليفه الاكتفاء بالسين لا ترك الصلاة رأساً.

وهذا ممّا لا يرتبط بالمقام أصلاً ، ولو كان الاستدلال المذكور مبنياً على أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ سين بلال شين» يدل على أنّ التلفظ بالحروف غلطاً يكفي عن التلفظ بها صحيحاً عند التعذّر حتّى في القراءة ، فلا يجب الائتمام فيستكشف منه عدم كونه عدلاً للقراءة ، فيردّه : أنّ هذا خروج عن مفاد النص ، فانّ مفاده الاكتفاء بالسين بدلاً عن الشين لا الاكتفاء بكل لفظ عن الآخر.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٧٧

(٢) مستدرك الوسائل ٤ : ٢٧٨ / أبواب قراءة القرآن ب ٢٣ ح ٣

٥٢٣

وثالثاً : أنّ التمثيل بمسألة القراءة والائتمام للمقام غير صحيح ، لأنّ المكلف مكلف بطبيعي الصلاة ، وله أن يوجده في ضمن أيّ فرد من أفراده ، فهو مخيّر بين الاتيان بالصلاة فرادى فتجب عليه القراءة ، والاتيان بها جماعة فيتحملها الإمام عنه ، فليس هناك ترديد ودوران بين التخيير والتعيين ، بل التخيير بين هذين الفردين من الكلّي ثابت ومعلوم ، مع كون أحدهما أفضل من الآخر كالتخيير في سائر الجهات والخصوصيات المتفاوتة في الفضيلة أو في بعض الأحكام ، فانّ المكلف مخيّر بين الاتيان بالصلاة في البيت والاتيان بها في المسجد ، مع التفاوت بينهما في الفضيلة. وعليه فلو تعذّر الاتيان بفرد لا إشكال في وجوب الاتيان بفرد آخر ، فانّه لا ريب في تعيّن الاتيان بالصلاة في البيت على تقدير تعذّر الاتيان بها في المسجد وبالعكس ، ففي المقام لا ينبغي الاشكال في وجوب الاتيان بالصلاة جماعةً على تقدير تعذّر الاتيان بها فرادىً ، لعدم القدرة على القراءة. هذا ما تقتضيه القاعدة ، إلاّ أنّه وردت نصوص كثيرة (١) تدل على جواز الاكتفاء بما يحسنه من القراءة عند تعذّر الجميع ، وإلاّ فيكتفي بما تيسّر له من القرآن ، ولولا هذه النصوص لكان مقتضى القاعدة هو وجوب الائتمام على من لم يتمكن من القراءة الصحيحة.

وأمّا الصورة الثالثة : فذهب جماعة من المحققين إلى أنّ المرجع فيها أصالة الاشتغال والحكم بالتعيين ، واستدلّ عليه بوجوه :

الوجه الأوّل : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) من أنّ دوران

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٤٢ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٣ ح ١ ، الوسائل ٦ : ١٣٦ / أبواب القراءة في الصلاة ب ٥٩ ح ٢ ، الوسائل ٦ : ٢٢١ / أبواب قراءة القرآن ب ٣٠ ح ٤

(٢) كفاية الاصول : ٣٦٧

٥٢٤

الأمر بين التعيين والتخيير إن كان من جهة احتمال أخذ شيء شرطاً للواجب ، فيحكم فيه بالتخيير ، لأنّ الشرطية أمر قابل للوضع والرفع ، فيشملها حديث الرفع عند الشك فيها. وأمّا إن كان الدوران بينهما من جهة احتمال دخل خصوصية ذاتية في الواجب ـ كما في المقام ـ لا يمكن الرجوع فيه إلى أدلة البراءة ، لأنّ الخصوصية إنّما تكون منتزعة من نفس الخاص ، فلا تكون قابلة للوضع والرفع فلايمكن الرجوع عند الشك فيها إلى أدلة البراءة ، فلا مناص من الحكم بالاشتغال والالتزام بالتعيين في مقام الامتثال.

وفيه : أنّ الخصوصية وإن كانت منتزعة من نفس الخاص وغير قابلة للوضع والرفع ، إلاّأنّ اعتبارها في المأمور به قابل لهما ، فإذا شكّ في ذلك كان المرجع هو البراءة.

الوجه الثاني : ما ذكره المحقق النائيني (١) قدس‌سره وهو أنّ الشك في المقام شك في حصول الامتثال بعد العلم بثبوت التكليف ، فيكون المرجع قاعدة الاشتغال والحكم بالتعيين ، فإذا دار الأمر في كفّارة تعمّد الافطار مثلاً بين خصوص صيام شهرين وبين الأعم منه ومن إطعام ستّين مسكيناً ، كان الصيام مفرّغاً للذمّة يقيناً ، وأمّا الاطعام فسقوط التكليف المعلوم به مشكوك فيه ، فلا يجوز الاكتفاء به في مقام الامتثال بحكم العقل.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ التخيير المحتمل في المقام إمّا أن يكون تخييراً عقلياً ، كما إذا دار الأمر بين تعلّق التكليف بحصّة خاصّة أو بالجامع العرفي بينها وبين غيرها من سائر حصص الجامع. وإمّا أن يكون تخييراً شرعياً ، كما إذا

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٧٤ ، فوائد الاصول ٣ : ٤٢٨

٥٢٥

كان ما يحتمل وجوبه مبايناً في الماهية لما علم وجوبه في الجملة ولم يكن بينهما جامع عرفي ، نظير ما تقدّم من المثال في كفّارة تعمّد الافطار. وقد ذكر في محلّه (١) أنّ الوجوب التخييري في هذا القسم يتعلّق بالجامع الانتزاعي المعبّر عنه بأحد الشيئين أو أحد الأشياء.

أمّا في موارد احتمال التخيير العقلي ، فتعلّق التكليف بالجامع معلوم ، وإنّما الشك في كونه مأخوذاً في متعلق التكليف على نحو الاطلاق واللا بشرط ، أو على نحو التقييد وبشرط شيء ، إذ لا يتصور الاهمال بحسب مقام الثبوت ، والاطلاق والتقييد وإن كانا متقابلين ولم يكن شيء منهما متيقناً ، إلاّ أنّك قد عرفت سابقاً (٢) أنّ انحلال العلم الاجمالي غير متوقف على تيقن بعض الأطراف ، بل يكفي فيه جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض. وقد سبق أنّ جريان أصالة البراءة العقلية والنقلية في جانب التقييد غير معارض بجريانها في طرف الاطلاق ، فإذا ثبت عدم التقييد ظاهراً لأدلة البراءة لا يبقى مجال لدعوى رجوع الشك إلى الشك في الامتثال ، ليكون المرجع قاعدة الاشتغال ، فانّ الشك في الامتثال منشؤه الشك في إطلاق الواجب وتقيده ، فإذا ارتفع احتمال التقيد بالأصل يرتفع الشك في الامتثال أيضاً.

ومن ذلك يظهر الحال في موارد احتمال التخيير الشرعي ، وأنّ الحكم فيه أيضاً هو التخيير ، لأنّ تعلّق التكليف بعنوان أحد الشيئين في الجملة معلوم ، وإنّما الشك في الاطلاق والتقييد فتجري أصالة البراءة عن التقييد ، وبضم الأصل إلى الوجدان يحكم بالتخيير.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ : ٢٢٢ وما بعدها

(٢) في ص ٥٠٢ ـ ٥٠٣

٥٢٦

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق النائيني (١) قدس‌سره أيضاً : وهو أنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى مؤونة زائدة في مقامي الثبوت والاثبات. أمّا في مقام الثبوت فلاحتياجه إلى ملاحظة العدل ، وتعليق التكليف بالجامع بينه وبين الطرف الآخر. وأمّا في مقام الاثبات فلاحتياجه إلى ذكر العدل وبيانه ، فما لم تقم الحجّة على المؤونة الزائدة يحكم بعدمها ، فيثبت الوجوب التعييني.

وفيه أوّلاً : أنّا لا نسلّم أنّ الوجوب التخييري بحسب مقام الثبوت يحتاج إلى مؤونة زائدة بنحو الاطلاق ، أي سواء كان التخيير المحتمل تخييراً عقلياً أو تخييراً شرعياً ، فانّ التخيير العقلي يحتاج إلى لحاظ الجامع فقط ، كما أنّ الوجوب التعييني يحتاج إلى لحاظ الواجب الخاص فقط ، فليس هناك مؤونة زائدة في الوجوب التخييري. نعم ، فيما كان التخيير المحتمل تخييراً شرعياً يحتاج إلى مؤونة زائدة ، لأنّ الجامع في التخيير الشرعي هو عنوان أحد الشيئين كما تقدّم ، ومن الواضح أنّ لحاظ أحد الشيئين يحتاج إلى لحاظ نفس الشيئين فيكون الوجوب التخييري محتاجاً إلى مؤونة زائدة بالنسبة إلى الوجوب التعييني.

وثانياً : أنّ مرجع ما ذكره إلى استصحاب عدم لحاظ العدل ، وإثبات الوجوب التعييني به متوقف على القول بالأصل المثبت ولا نقول به. مضافاً إلى كونه معارضاً باستصحاب عدم لحاظ الطرف الآخر بالخصوص على ما سيجيء التعرّض له في الجواب عن الوجه الرابع إن شاء الله تعالى. هذا كلّه فيما ذكره بحسب مقام الثبوت.

وأمّا ما ذكره من أنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى مؤونة زائدة في مقام

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٧٢ و ٣٧٣ ، فوائد الاصول ٣ : ٤٢٧ و ٤٢٨

٥٢٧

الاثبات ، فهو إنّما يتم فيما إذا دلّ دليل لفظي على وجوب شيء من دون ذكر عدل له ، فيتمسك باطلاقه لاثبات كون الوجوب تعيينياً. وأمّا فيما إذا لم يكن هناك دليل لفظي كما هو المفروض في المقام ، إذ محلّ كلامنا عدم وجود دليل لفظي والبحث عن مقتضى الاصول العملية وقد أشرنا إلى ذلك في أوّل بحث دوران الأمر بين التعيين والتخيير (١) ، فلا يترتب عليه الحكم بالوجوب التعييني في المقام بل لا ارتباط له بمحل البحث أصلاً.

الوجه الرابع : ما ذكره بعضهم من التمسّك بأصالة عدم وجوب ما يحتمل كونه عدلاً لما علم وجوبه في الجملة ، وبضم هذا الأصل إلى العلم المذكور يثبت الوجوب التعييني.

وفيه : أنّه إن اريد بالأصل المذكور أصالة البراءة العقلية بمعنى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فمن الظاهر أنّه غير جارٍ في المقام ، إذ لا يحتمل العقاب على ترك خصوص ما احتمل كونه عدلاً للواجب في الجملة. وأمّا الجامع بينهما فاستحقاق العقاب على تركه معلوم ، فلا معنى للرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وإن اريد به البراءة الشرعية ، فهو أيضاً غير تام ، لأنّ تعلّق التكليف بالجامع معلوم على الفرض ، وتعلّقه بخصوص ما يحتمل كونه عدلاً غير محتمل ، فلا معنى لجريان البراءة فيهما. وأمّا جريان البراءة في جعل العدل لما علم وجوبه في الجملة ، فهو راجع إلى جريان البراءة عن الاطلاق ، ومن الواضح عدم جريانها ،

__________________

(١) في ص ٥٢٠

٥٢٨

لما تقدّم (١) من أنّ الاطلاق توسعة لا منّة في رفعه فلا يكون مشمولاً لأدلة البراءة الشرعية.

وإن اريد به استصحاب عدم جعل العدل للواجب المعلوم في الجملة ، ففيه أوّلاً : انّه معارض باستصحاب عدم جعل الوجوب التعييني لما يحتمل وجوبه تعييناً. وثانياً : أنّه لا يثبت الوجوب التعييني بالاستصحاب المذكور إلاّعلى القول بالأصل المثبت ولا نقول به.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه في المقام : أنّه لا وجه للقول بالتعيين في هذا القسم من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، وأنّ المرجع هو البراءة عن وجوب الاتيان بخصوص ما يحتمل كونه واجباً تعييناً ، فتكون النتيجة هي الحكم بالتخيير.

ثمّ إنّ الحكم بالتخيير إنّما يتم فيما إذا كان المكلف متمكناً من الاتيان بما يحتمل كونه واجباً تعيينياً ، ليدور أمر الوجوب الفعلي الثابت في الجملة بين التعيين والتخيير. وأمّا إذا لم يتمكن من ذلك فالشك في كون الوجوب المجعول تعيينياً أو تخييرياً يرجع إلى الشك في تعلّق الوجوب الفعلي بما يحتمل كونه عدلاً ، ولا يحكم حينئذ بالتخيير ليترتب عليه الوجوب المذكور ، بل يرجع إلى أصالة البراءة عنه ، لأنّه مجهول وكان العقاب على مخالفته عقاباً بلا بيان ، هذا كلّه في القسم الأوّل من دوران الأمر بين التخيير والتعيين.

وأمّا القسم الثاني : وهو دوران الأمر بين التخيير والتعيين في الحجّية ، فيحكم فيه بالتعيين ، لأنّ ما علم بحجّيته المرددة بين كونها تعيينية أو تخييرية قاطع

__________________

(١) في ص ٥٠٨

٥٢٩

للعذر في مقام الامتثال ومبرئ للذمّة بحسب مقام الظاهر يقيناً ، وأمّا الطرف الآخر المحتمل كونه حجّة على نحو التخيير ، فهو محكوم بعدم الحجّية عقلاً وشرعاً ، لما عرفت في أوّل بحث حجّية الظن (١) من أنّ الشك في الحجّية بحسب مقام الجعل مساوق للقطع بعدم الحجّية الفعلية ، فكل ما شكّ في حجّيته لشبهة حكمية أو موضوعية لا يصحّ الاعتماد عليه في مقام العمل ، ولا يصح إسناد مؤداه إلى المولى في مقام الافتاء ، فتكون النتيجة هي الحكم بالتعيين.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مقام الامتثال لأجل التزاحم ، فالحق فيه أيضاً هو الحكم بالتعيين ، وتحقيق ذلك يستدعي ذكر أمرين :

الأوّل : أنّ التزاحم في مقام الامتثال يوجب سقوط أحد التكليفين عن الفعلية لعجز المكلف عن امتثالهما ، ويبقى الملاكان في كلا الحكمين على حالهما ، إذ المفروض أنّ عجز المكلف هو الذي أوجب رفع اليد عن أحد الحكمين في ظرف امتثال الآخر ، وإلاّ كان الواجب عليه امتثالهما معاً لتمامية الملاك فيهما.

الثاني : أنّ تفويت الملاك الملزم بعد إحرازه بمنزلة مخالفة التكليف الواصل في القبح واستحقاق العقاب بحكم العقل ، ولا يرتفع قبحه إلاّبعجز المكلف تكويناً أو تشريعاً ، كما إذا أمره المولى بما لا يجتمع معه في الخارج ، فما لم يتحقق أحد الأمرين يحكم العقل بقبح التفويت واستحقاق العقاب عليه.

إذا عرفت هذين الأمرين فنقول : إذا كان أحد الواجبين المتزاحمين معلوم الأهمّية فلا محالة يكون التكليف الفعلي متعلقاً به بحكم العقل ، والملاك في الطرف الآخر وإن كان ملزماً في نفسه ، إلاّأنّ تفويته مستند إلى عجزه تشريعاً ، لأنّ

__________________

(١) في ص ١٢٨

٥٣٠

المولى أمره بصرف القدرة في امتثال الأهم ، فيكون معذوراً في تفويته. نعم ، لو عصى التكليف بالأهم كان مكلفاً بالمهم بناءً على ما ذكرناه في محلّه من إمكان التكليف بالضدّين على نحو الترتب (١).

وإذا كان الواجبان المتزاحمان متساويين من حيث الملاك ، فلا يعقل تعلّق التكليف الفعلي المطلق بخصوص أحدهما دون الآخر ، لقبح الترجيح بلا مرجح ، فلا مناص من الالتزام بتعلّق التكليف بكل منهما مشروطاً بعدم الاتيان بالآخر أو بهما معاً على نحو التخيير على الخلاف المذكور في شرح الواجب التخييري (٢). وعلى كل تقدير لا إشكال في جواز الاكتفاء بأحدهما عن الآخر لعدم قدرته على أزيد من ذلك في تحصيل غرض المولى ، وأمّا إذا كان أحدهما محتمل الأهمّية فلا إشكال في جواز الاتيان به وتفويت الملاك في الآخر ، لدوران الأمر بين كونه واجباً متعيناً في مقام الامتثال ، أو مخيراً بينه وبين الطرف الآخر. وعلى كل تقدير كان الاتيان به خالياً عن المحذور. وأمّا الاتيان بالطرف الآخر وتفويت الملاك الذي احتمل أهمّيته فلم يثبت جوازه ، فانّه متوقف على عجز المكلف عن تحصيله تكويناً أو تشريعاً ، والمفروض قدرته عليه تكويناً وهو واضح ، وتشريعاً لعدم أمر المولى باتيان خصوص الطرف الآخر ليوجب عجزه عن تحصيل الملاك الذي احتمل أهمّيته ، فلا يجوز تفويته وإلاّ لاستحقّ العقاب عليه بحكم العقل.

وممّا ذكرناه ظهر الفرق بين هذا القسم والقسم الأوّل ، فانّ الشك في التخيير

__________________

(١) محاضرات فى اصول الفقه ٢. ٣٩٩

(٢) محاضرات فى اصول الفقه ٢. ٥ و ٣. ٢٠٧

٥٣١

والتعيين في القسم الأوّل إنّما كان ناشئاً من الشك في كيفية الجعل والجهل بمقتضى التكليف وبما يفي بغرض المولى ، فلا مانع فيه من الرجوع إلى البراءة عن التكليف الزائد على القدر المتيقن ، بخلاف الشك في هذا القسم ، فانّه ناشئ من التزاحم وعدم القدرة على الامتثال ، بعد العلم بمتعلق التكليف وباشتمال كل من الواجبين على الملاك الملزم ، فلا مناص فيه من القول بالاشتغال تحصيلاً للفراغ اليقيني والأمن من العقوبة على كل تقدير.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل

أنّه إذا ثبت كون شيء جزءاً للمأمور به أو شرطاً له في الجملة ودار الأمر بين كون الجزئية أو الشرطية مطلقة ليبطل العمل بفقدانه ولو في حال النسيان ، أو مختصّة بحال الذكر ليختصّ البطلان بتركه عمداً ، فهل القاعدة تقتضي الاطلاق ما لم يثبت التقييد بالدليل ، أو تقتضي الاختصاص بحال الذكر ما لم يثبت الاطلاق بدليل خاص؟ وجهان.

وتحقيق ذلك يقتضي البحث عن إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه من الأجزاء والشرائط واستحالته ، فإذا ثبتت صحّة العمل الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط نسياناً ، كما في الصلاة إن كان المنسي من غير الأركان ، فهل يكون الحكم بالصحّة لأجل انطباق المأمور به على هذا العمل لاختصاص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر ، أو لوفاء المأتي به بالملاك الملزم وسقوط الأمر باستيفاء ملاكه. وهذا البحث وإن لم تترتب عليه ثمرة في الفرض المذكور ، أي فيما ثبتت صحّة العمل الفاقد بالدليل ، إلاّ أنّه يترتب الأثر فيما لم تثبت صحّة العمل بالدليل

٥٣٢

باعتبار جريان الأصل العملي كما ستعرفه (١) إن شاء الله تعالى.

فذهب جماعة إلى استحالة توجيه التكليف إلى الناسي ، وأنّ الصحّة في الفرض المذكور إنّما هي للوفاء بالملاك لا لانطباق المأتي به على المأمور به ، نظراً إلى أنّ الناسي إن التفت إلى كونه ناسياً انقلب إلى الذاكر ، فلا يكون الحكم الثابت لعنوان الناسي فعلياً في حقّه ، وإن لم يلتفت إلى نسيانه ، فلا يعقل انبعاثه عنه ، وما لم يمكن الانبعاث لم يمكن البعث بالضرورة ، فعلى تقديري الالتفات وعدمه يستحيل فعلية التكليف في حقّه ، ومع استحالة الفعلية يمتنع الجعل بالضرورة.

واختار صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره إمكان ذلك بوجهين :

الوجه الأوّل : أن يوجّه الخطاب إلى الناسي لا بعنوانه ، بل بعنوان آخر ملازم له واقعاً ، وإن لم يكن الناسي ملتفتاً إلى الملازمة ليعود المحذور.

وفيه : أنّ هذا مجرد فرض وهمي لا واقع له ، ولا سيّما أنّ النسيان ليس له ميزان مضبوط ليفرض له عنوان ملازم ، فانّه يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ، واختلاف متعلقه من الأجزاء والشرائط ، فكيف يمكن فرض عنوان يكون ملازماً للنسيان أينما تحقق ولا سيّما إذا اعتبر فيه عدم كون الناسي ملتفتاً إلى الملازمة بينهما.

الوجه الثاني : أنّ يوجّه التكليف إلى عامّة المكلفين بما يتقوّم به العمل ثمّ يكلف خصوص الذاكر ببقية الأجزاء والشرائط ، فتختص جزئيتها وشرطيتها بحال الذكر.

__________________

(١) في ص ٥٣٩

(٢) كفاية الاصول : ٣٦٨

٥٣٣

وهذا الوجه ممّا لا بأس به في مقام الثبوت ، إلاّ أنّه يحتاج في مقام الاثبات إلى الدليل ، وقد ثبت ذلك في الصلاة ، فانّ الأمر بالأركان فيها مطلق بالنسبة إلى عامّة المكلفين ، وأمّا بقية الأجزاء والشرائط فالأمر بها مختص بحال الذكر بمقتضى حديث «لا تعاد الصلاة إلاّمن خمسة» (١) وغيره من النصوص الواردة في موارد خاصّة. وعليه فالناسي وإن كان غير ملتفت إلى نسيانه إلاّ أنّه ملتفت إلى أنّ ما يأتي به هو المأمور به ، فيأتي به بما أنّه المأمور به غاية الأمر أنّه يتخيّل أنّ ما يأتي به مماثل لما يأتي به غيره من الذاكرين ، وأنّ الأمر المتوجه إليه هو الأمر المتوجه إليهم. وهذا التخيّل ممّا لا يضر بصحّة العمل بعد وجود الأمر الفعلي في حقّه ومطابقة المأتي به للمأمور به ، وإن لم يكن الناسي ملتفتاً إلى كيفية الأمر. ولعل هذا هو مراد الشيخ (٢) قدس‌سره فيما أفاده في المقام من إمكان توجيه الخطاب إلى الناسي والحكم بصحّة عمله ، وإن كان مخطئاً في التطبيق ، فلا يرد عليه ما ذكره المحقق النائيني (٣) قدس‌سره من أنّ الخطأ في التطبيق إنّما يعقل فيما إذا أمكن جعل كل من الحكمين في نفسه ، وكان الواقع أحدهما وتخيّل المكلف أنّه الآخر ، كما إذا أتى المكلف بعمل باعتقاد أنّه واجب فبان كونه مستحباً أو بالعكس. وهذا بخلاف المقام لأنّ تكليف الناسي مستحيل في مقام الثبوت ، فكيف يمكن إدراجه في كبرى الخطأ في التطبيق. فتحصّل : أنّ الصحيح إمكان توجيه التكليف إلى الناسي في مقام الثبوت وإثباته يحتاج إلى دليل.

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى أصل البحث ونقول : إنّ الكلام تارةً يكون فيما

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٧١ و ٣٧٢ / أبواب الوضوء ب ٣ ح ٨

(٢) حكاه المحقق النائيني عنه (قدس‌سرهما)

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٥١٨ ، فوائد الاصول ٤ : ٢١١ و ٢١٢

٥٣٤

تقتضيه الاصول اللفظية. واخرى فيما تقتضيه الاصول العملية ، فيقع الكلام في مقامين :

أمّا المقام الأوّل فملخص الكلام فيه : أنّ دليل الجزئية أو الشرطية إمّا أن يكون له إطلاق يشمل حال النسيان أيضاً ، كقوله عليه‌السلام : «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب» (١) وقوله عليه‌السلام : «لا صلاة لمن لم يقم صلبه» (٢) أو لايكون له إطلاق ، كما في الاستقرار المعتبر في الصلاة ، فانّ عمدة دليله الاجماع ، وهو دليل لبّي لا إطلاق له ، والقدر المتيقن منه حال الذكر والالتفات. وعلى كل من التقديرين إمّا أن يكون لدليل أصل الواجب كالصلاة إطلاق يشمل جميع الحالات ، أو لا يكون له إطلاق ، هذه هي صور أربع :

الصورة الاولى : ما إذا كان لكل من دليل الجزئية أو الشرطية ودليل أصل الواجب إطلاق ، وحكمها أنّه يتقدّم إطلاق دليل الجزئية على إطلاق دليل الواجب ، ويحكم بالجزئية أو الشرطية المطلقة الشاملة لجميع الحالات ، وذلك لأنّ إطلاق دليل المقيد يتقدّم على إطلاق دليل المطلق على ما ذكر في محلّه (٣). وفيها لا مجال للرجوع إلى البراءة ورفع الجزئية أو الشرطية في حال النسيان ، إذ الاطلاق دليل لا يمكن معه الرجوع إلى الأصل كما هو ظاهر. ويعلم منه حكم :

الصورة الثانية : وهي ما إذا كان لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق فقط ، من دون أن يكون لدليل الواجب إطلاق ، فانّه يؤخذ باطلاق دليل الجزئية أو الشرطية ويحكم بالجزئية المطلقة أو الشرطية المطلقة الشاملة لجميع الحالات

__________________

(١) المستدرك ٤ : ١٥٨ / أبواب القراءة في الصلاة ب ١ ح ٥ و ٨

(٢) الوسائل ٤ : ٣١٢ و ٣١٣ / أبواب القبلة ب ٩ ح ٣ (باختلاف يسير)

(٣) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٥٤٢ وما بعدها

٥٣٥

بلا شبهة وإشكال.

وتوهّم أنّه لا يعقل الاطلاق في دليل الجزئية أو الشرطية لأنّهما تنتزعان من الأمر بالمركب والأمر بالمقيد ، ومن الظاهر أنّ الأمر بما هو مركب من المنسي أو مقيّد به مستحيل ، لأنّه تكليف بغير المقدور ، فلا يعقل الجزئية أو الشرطية المطلقة مدفوع بأ نّه ليس المراد باطلاق دليل الجزئية أو الشرطية ثبوت الجزئية والشرطية حال النسيان ليقال إنّه مستحيل ، بل المراد ثبوتهما في جميع حالات الأمر بالمركب والمقيّد ، ولازم الاطلاق المذكور سقوط الأمر بالمركب أو المقيد عند نسيان الجزء أو الشرط لا ثبوته متعلقاً بما يشتمل على المنسي من الجزء أو الشرط ، فيكون العمل الفاقد لبعض الأجزاء أو الشرائط حال النسيان باطلاً من هذه الجهة.

إن قلت : إنّ حديث الرفع رافع لجزئية المنسي أو شرطيته ، لما عرفت سابقاً (١) من أنّ الرفع بالاضافة إلى غير ما لا يعلمون واقعي ، فيكون الحديث حاكماً على إطلاقات الأدلة المثبتة للأحكام في ظرف الخطأ والنسيان وغيرهما ممّا هو في الحديث الشريف ، وبذلك تثبت صحّة العمل المأتي به حال النسيان ، وكونه مطابقاً لما امر به فعلاً. نعم ، الرفع بالنسبة إلى ما لايعلمون ظاهري بشهادة نفس ما لا يعلمون ، فانّه يدل على أنّ هناك شيئاً لا يعلمه المكلف ، فرفع عنه ظاهراً لجهله به.

قلت : رفع الخطأ والنسيان لا يترتب عليه فيما نحن فيه إلاّنفي الالزام عن المركب من المنسي أو المقيد به ، ضرورة أنّ نفي الجزئية أو الشرطية لا يكون إلاّ برفع منشأ انتزاعهما من الأمر بالمركب أو المقيّد ، ولا يترتب عليه ثبوت الأمر

__________________

(١) في ص ٣٠٧

٥٣٦

بغير المنسي كما هو المدعى. مضافاً إلى ما ذكرناه عند البحث عن حديث الرفع من أنّ نسيان جزء أو شرط في فرد من أفراد الواجب لا يكون مشمولاً لحديث الرفع أصلاً فراجع (١). وممّا ذكرناه ظهر الحال فيما إذا اكره أو اضطر إلى ترك جزء أو شرط ، فانّه يوجب سقوط الأمر بالمركب أو المقيد في ظرف الاكراه أو الاضطرار ، لا الأمر ببقية الأجزاء والشرائط ممّا لا يكون مكرهاً أو مضطراً إلى تركه. هذا فيما إذا لم يدل دليل بالخصوص ، وإلاّ فلا إشكال في عدم سقوط الأمر ووجوب الاتيان بما يتمكن منه ، كما في باب الصلاة على ما يأتي الكلام فيه مفصلاً (٢) إن شاء الله تعالى.

وأمّا الصورة الثالثة : وهي ما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق وكان لدليل الواجب إطلاق ، فيؤخذ به ويحكم بصحّة العمل الفاقد للجزء أو الشرط المنسي ، والوجه فيه ظاهر.

وأمّا الصورة الرابعة : وهي ما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق ، ولا لدليل الواجب إطلاق ، فتصل النوبة فيها إلى البحث عن الاصول العملية.

ويقع الكلام فيها في المقام الثاني.

ثمّ إنّه قد يقال بأن كل ما ثبتت جزئيته أو شرطيته بورود الأمر به بنفسه ، فلا إطلاق له ليشمل حال النسيان ، لاشتراط التكليف بالقدرة والمنسي غير مقدور ، فلو كان لدليل الواجب إطلاق حينئذ يرجع إليه لاثبات التكليف بغير المنسي من الأجزاء والشرائط.

__________________

(١) ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩

(٢) في ص ٥٦١

٥٣٧

وفيه : ما ذكرناه في محلّه (١) من أنّ الأوامر المتعلقة بالأجزاء والشرائط ليست أوامر مولوية ، بل هي إرشاد إلى الجزئية أو الشرطية حسب اختلاف المقامات ، كما أنّ النهي عن الاتيان بشيء في الواجب إرشاد إلى المانعية لا زجر مولوي عنه ، وعليه فلا مانع من التمسك باطلاق الأمر المتعلق بالجزء أو الشرط لاثبات الجزئية أو الشرطية المطلقة ، فتكون النتيجة سقوط الأمر بالمركب أو المقيد عند نسيان الجزء أو الشرط على ما تقدّم بيانه.

المقام الثاني : فيما إذا لم يكن لدليل الجزئية أو الشرطية إطلاق ولا لدليل الواجب إطلاق ، فلا بدّ فيه من البحث عن مقتضى الاصول العملية ، وتحقيق الكلام في هذا المقام يقتضي البحث في موردين : المورد الأوّل : ما إذا لم يتمكن المكلف من الاتيان بالعمل مستجمعاً لجميع الأجزاء والشرائط بعد نسيان جزء أو شرط منه. المورد الثاني : ما إذا تمكن من ذلك.

أمّا المورد الأوّل : فالشك في الجزئية أو الشرطية المطلقة فيه ملازم للشك في وجوب غير المنسي من الأجزاء والشرائط ، فانّه إذا أمر المولى عبده بالوقوف في يوم معيّن من طلوع الشمس إلى الزوال مثلاً ، ونسي المكلف فلم يقف ساعة من أوّل النهار ، وشكّ في أنّ جزئية الوقوف في هذه الساعة مطلقة ليترتب عليها سقوط الأمر بالوقوف في الساعات المتأخرة أو أنّها مقيّدة بحال الذكر ليكون الأمر متعلقاً بالوقوف في الساعات المتأخرة ، فلا محالة يكون الشك في الاطلاق والتقييد شكاً في التكليف بغير المنسي من الأجزاء والشرائط فيكون المرجع هو البراءة ، ويحكم بعدم وجوب الاتيان بغير المنسي من الأجزاء والشرائط. وهذا واضح.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٣ : ٣٥٠ ـ ٣٥١

٥٣٨

وأمّا المورد الثاني : فيكون الشك في إطلاق الجزئية أو الشرطية أو تقييدهما بحال الذكر شكاً في جواز الاكتفاء بما أتى به من الأجزاء والشرائط وعدمه ، فانّه إذا نسي المكلف جزءاً من الصلاة وتذكر بعد تجاوز محلّه ، فان كانت الجزئية مطلقة لزمه إعادتها والاتيان بها مستجمعةً لجميع الأجزاء والشرائط.

وإن كانت الجزئية مقيّدة بحال الذكر اكتفى بما أتى به ، ولا تجب عليه الاعادة ، لأنّ العمل المأتي به حينئذ لم يكن فاقداً لشيء من الأجزاء والشرائط ، فينطبق المأمور به على المأتي به. وعليه فيكون المرجع أيضاً هو البراءة عن وجوب الجزء أو الشرط حال النسيان ، بعد ما عرفت (١) من إمكان تكليف الناسي بغير ما نسيه من الأجزاء والشرائط.

وبعبارة اخرى : بعد العلم بوجوب الصلاة وبجزئية التشهد مثلاً المرددة بين الاطلاق والتقييد بحال الذكر ، تردد الواجب بين خصوص المشتمل على التشهّد أو الجامع بينه وبين الفاقد له حال النسيان ، فيكون القدر الجامع معلوماً إنّما الشك في خصوص المشتمل على التشهد على الاطلاق ، فيؤخذ بالقدر المتيقن ، وهو وجوب التشهّد حال الذكر ، ويرجع إلى البراءة في المشكوك فيه وهو التشهّد حال النسيان. هذا بناءً على ما هو الصحيح من إمكان تكليف الناسي على ما تقدّم بيانه. وأمّا بناءً على استحالته ، فما صدر من الناسي غير مأمور به يقيناً ، فالشك في صحّته وفساده يكون ناشئاً من الشك في وفائه بغرض المولى وعدمه ، فلا مناص من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، والحكم بوجوب الاتيان بالعمل مستجمعاً لجميع الأجزاء والشرائط ، لأنّ سقوط الأمر بالاتيان بغير المأمور به يحتاج إلى دليل مفقود في المقام على الفرض. وهذه هي الثمرة التي أشرنا إليها (٢)

__________________

(١) في ص ٥٣٣ ـ ٥٣٤

(٢) في ص ٥٣٢ ـ ٥٣٣

٥٣٩

عند التكلم في إمكان تكليف الناسي.

وممّا ذكرناه ظهر الحال من حيث جريان البراءة وعدمه فيما إذا استند ترك الجزء أو الشرط إلى الاضطرار أو الاكراه ونحوهما ، فلا حاجة إلى الاعادة.

التنبيه الثانى

في حكم الزيادة عمداً أو سهواً في المركبات الاعتبارية. وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي البحث أوّلاً : عن مفهوم الزيادة من جهتين : الاولى : في إمكان تحقق الزيادة في المركبات الاعتبارية وعدمه. الثانية : في اعتبار قصد الزيادة في تحققها وعدمه.

أمّا الجهة الاولى : فقد يقال باستحالة تحقق الزيادة ، لأنّ الجزء المأخوذ في المركب إن اخذ فيه على نحو الاطلاق من دون تقييد بالوجوب الواحد أو الأكثر ، فلا يعقل فيه تحقق الزيادة ، إذ كل ما أتى به من أفراد ذلك الجزء كان مصداقاً للمأمور به ، سواء كان المأتي به فرداً واحداً أو أكثر. وإن اخذ فيه مقيداً بالوجود الواحد ، أي اخذ بشرط لا بالنسبة إلى الوجود الثاني ، فالاتيان به مرّةً ثانية مستلزم لفقدان الجزء لا لزيادته ، إذ انتفاء القيد المأخوذ في الجزء موجب لانتفاء المقيد ، فكان الجزء المأخوذ في المأمور به منتفياً بانتفاء قيده ، فلا يتصوّر تحقق الزيادة على كل تقدير.

وفيه أوّلاً : أنّ اعتبار الاطلاق واللا بشرطية في الجزء لا ينافي تحقق الزيادة فيه ، فانّ أخذ شيء جزءاً للمأمور به على نحو اللاّبشرطية يتصوّر على وجهين : أحدهما : أن يكون الطبيعي مأخوذاً في المركب من دون نظر إلى الوحدة والتعدد ، وفي هذا لا يمكن تحقق الزيادة كما ذكر. ثانيهما : أن يكون مأخوذاً بنحو صرف

٥٤٠