موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

علمنا إجمالاً بأ نّا لم نأت بصلاة العصر أو بصلاة العشاء ، وكان ذلك في الليل ، فانّ مجرد الشك في الاتيان بصلاة العشاء يكفي في تنجيز التكليف بالنسبة إليها ، لبقاء الوقت ، فوجوب الاتيان بها لا يحتاج إلى جريان أصالة عدم الاتيان فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر وهو صلاة العصر ، فيرجع إلى قاعدة الحيلولة أو أصالة عدم وجوب القضاء ، لكونه بفرض جديد والأصل عدمه.

ومنها : ما لو علمنا بنجاسة أحد المائعين ، ثمّ علمنا إجمالاً بوقوع نجاسة في أحدهما أو في إناء ثالث ، فانّه لا أثر للعلم الاجمالي الثاني في تنجيز التكليف بالنسبة إلى الاناء الثالث ، لأنّ التكليف قد تنجّز بالعلم الاجمالي الأوّل بالنسبة إلى المائعين الأوّلين ، فليس العلم الاجمالي الثاني علماً بالتكليف على كل تقدير ، لاحتمال وقوع النجاسة في أحد المائعين الأوّلين ، وقد تنجّز التكليف فيهما بالعلم الأوّل ، فليس في الاناء الثالث إلاّاحتمال التكليف ، وينفيه الأصل الجاري بلا معارض.

ومقامنا من هذا القبيل بعينه ، فانّ العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف الآخر وإن كان حاصلاً بعد العلم بالملاقاة ، إلاّ أنّه لا يمنع عن جريان الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ لأنّ الأصل الجاري في الطرف الآخر قد سقط للمعارضة قبل حدوث العلم الثاني ، فليس العلم الاجمالي الثاني علماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، إذ يحتمل أن يكون النجس هو الطرف الآخر المفروض تنجّز التكليف بالنسبة إليه للعلم السابق ، ومعه لا يبقى إلاّاحتمال التكليف في الملاقي ـ بالكسر ـ فيجري فيه الأصل النافي بلا معارض. وقد أشرنا سابقاً (١)

__________________

(١) في التنبيه الرابع في ص ٤٢٣

٤٨١

إلى أنّه يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي أن لا يكون التكليف في بعض أطرافه منجّزاً بمنجّز سابق على العلم الاجمالي ، إذ معه لا يبقى إلاّاحتمال التكليف في الطرف الآخر ، ولا مانع من الرجوع إلى الأصل النافي.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن الطرف الآخر الذي هو عدل للملاقى ـ بالفتح ـ مجرى لأصل طولي سليم عن المعارض ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد المائعين ثمّ لاقى أحدهما شيء آخر. وأمّا إذا كان كذلك ، كما إذا علمنا بنجاسة مرددة بين الثوب والماء ثمّ لاقى الثوب شيء آخر ، فتسقط أصالة الطهارة في الطرفين للمعارضة ، وتبقى أصالة الحل في الماء بلا معارض ، لعدم جريانها في الثوب في نفسها ، فيقع التعارض حينئذ بين أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ وبين أصالة الاباحة في الماء فانّا نعلم إجمالاً بأنّ هذا الملاقي نجس ، أو أنّ هذا الماء حرام ، وبعد تساقط الأصلين يكون العلم الاجمالي بالنسبة إلى الملاقي ـ بالكسر ـ أيضاً منجّزاً ، فيجب الاجتناب عنه أيضاً في هذا الفرض.

وأمّا المسألة الثانية : وهي ما إذا حصلت الملاقاة وعلم بها ثمّ حصل العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى أو شيء آخر ، فهي تتصوّر على صورتين :

الصورة الاولى : ما إذا كان زمان نجاسة الملاقى على فرض تحققها واقعاً ، وزمان نجاسة ملاقيه متحداً. وبعبارة اخرى : كان زمان المعلوم بالاجمال وزمان الملاقاة واحداً ، كما إذا كان ثوب في إناء فيه ماء ، وعلمنا إجمالاً بوقوع نجاسة فيه أو في إناء آخر.

الصورة الثانية : أن يكون زمان نجاسة الملاقى على فرض تحققها واقعاً سابقاً على زمان نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ. وبعبارة اخرى : كان زمان المعلوم بالاجمال سابقاً على زمان الملاقاة ، كما إذا علمنا يوم السبت بأنّ أحد هذين الاناءين كان نجساً يوم الخميس ولاقى أحدهما الثوب يوم الجمعة.

٤٨٢

أمّا الصورة الاولى : فقد وقع الخلاف بينهم في وجوب الاجتناب عن الملاقي فيها وعدمه ، فاختار شيخنا الأنصاري (١) قدس‌سره وتبعه المحقق النائيني (٢) قدس‌سره عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ، بدعوى أنّ الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ متأخر رتبةً عن الأصل الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ إذ الشك في نجاسة الملاقي ناشئ عن الشك في نجاسة ما لاقاه ، ولا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي إلاّبعد سقوط الأصل فيما لاقاه. وبعد سقوطه للمعارضة بينه وبين الأصل في الطرف الآخر يجري الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ بلا معارض.

وذهب صاحب الكفاية (٣) قدس‌سره إلى وجوب الاجتناب من الملاقي ـ بالكسر ـ باعتبار أنّ العلم الاجمالي كما تعلّق بالنجاسة المرددة بين الملاقى ـ بالفتح ـ والطرف الآخر ، كذلك تعلّق بالنجاسة المرددة بين الملاقي ـ بالكسر ـ وذاك الطرف ، فالأمر دائر بين نجاسة الملاقى والملاقي ونجاسة الطرف الآخر ، نظير ما لو علمنا إجمالاً بوقوع نجاسة في الاناء الكبير أو في الاناءين الصغيرين ، فكما يجب الاجتناب عن جميع الأواني الثلاث في هذا المثال ، كذلك يجب الاجتناب في المقام عن الملاقى والملاقي والطرف الآخر ،

لعدم الفرق بين المثال وما نحن فيه ، إلاّفي أنّ نجاسة الملاقي مسبّبة عن نجاسة الملاقى في المقام ، بخلاف المثال فانّ نجاسة أحد الاناءين الصغيرين ليست مسببة عن نجاسة الآخر ، ومجرّد ذلك لا يوجب الفرق في التنجيز بعد كون نسبة العلم الاجمالي إلى كليهما على حد سواء.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٢٤

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٤٦ و ٤٥٠ ـ ٤٥٣ ، فوائد الاصول ٤ : ٨٢ ـ ٨٨

(٣) كفاية الاصول : ٣٦٣

٤٨٣

والصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره من وجوب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة ، لأنّ الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ وإن كان متأخراً رتبةً عن الأصل الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ إلاّ أنّه أي الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ ليس متأخراً عن الأصل الجاري في الطرف الآخر ، كما أنّ الأصل الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ ليس متأخراً عنه ، فكما يقع التعارض بين جريان الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ وجريانه في الطرف الآخر ، كذلك يقع التعارض بين جريان الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ وجريانه في الطرف الآخر.

وبالنتيجة تسقط الاصول ويكون العلم الاجمالي منجّزاً ، فيجب الاجتناب عن الجميع الملاقى والملاقي والطرف الآخر.

وتوهّم أنّ الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ حيث يكون متأخراً عن الأصل الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ والأصل الجاري في الملاقى ـ بالفتح ـ مع الأصل الجاري في الطرف الآخر في رتبة واحدة ، فلزم كون الأصل الجاري في الملاقي ـ بالكسر ـ متأخراً عن الأصل الجاري في الطرف الآخر ، لأنّ المتأخر عن أحد المتساويين متأخر عن الآخر أيضاً لا محالة مدفوع بأنّ ذلك إنّما يتمّ في التقدّم والتأخّر من حيث الزمان أو من حيث الشرف ، دون التقدّم والتأخّر من حيث الرتبة ، لأنّ تأخر شيء عن أحد المتساويين في الرتبة لا يقتضي تأخره عن الآخر أيضاً ، فانّ وجود المعلول متأخر رتبة عن وجود علّته وليس متأخراً عن عدمها ، مع أنّ وجود العلّة وعدمها في رتبة واحدة ، لأنّه ليس بينهما علّية ومعلولية ، ويعبّر عن عدم العلّية والمعلولية بين شيئين بوحدة الرتبة.

وبعبارة اخرى : التقدّم والتأخّر الرتبي عبارة عن كون المتأخر ناشئاً من المتقدم ومعلولاً له ، وكون شيء ناشئاً من أحد المتساويين في الرتبة ومعلولاً له لايقتضي كونه ناشئاً من الآخر ومعلولاً له أيضاً. مضافاً إلى أنّ التقدّم والتأخّر

٤٨٤

الرتبي إنّما تترتب عليهما الآثار العقلية دون الأحكام الشرعية ، لأنّها مترتبة على الموجودات الخارجية التي تدور مدار التقدّم والتأخّر الزماني دون الرتبي.

وممّا يدلّنا على ذلك : أنّه لو علم المكلف إجمالاً ببطلان وضوئه لصلاة الصبح أو بطلان صلاة الظهر لترك ركن منها مثلاً ، يحكم ببطلان الوضوء وبطلان صلاة الصبح وبطلان صلاة الظهر ، فتجب إعادة الصلاتين ، مع أنّ الشك في صلاة الصبح مسبب عن الشك في الوضوء ، وكان الأصل الجاري فيها في مرتبة متأخرة عن الأصل الجاري فيه ، إلاّ أنّه لا أثر لذلك بعد تساوي نسبة العلم الاجمالي إلى الجميع ، فتسقط قاعدة الفراغ في الجميع. ولو كان للتقدّم الرتبي أثر لكانت قاعدة الفراغ في صلاة الصبح جاريةً بلا معارض ، لتساقطها في الوضوء وصلاة الظهر للمعارضة ، فتجري في صلاة الصبح بلا معارض ، لكون جريان القاعدة فيها في رتبة متأخرة عن جريانها في الوضوء ، فيحكم بصحّة صلاة الصبح وبطلان الوضوء وصلاة الظهر. ولا أظن أن يلتزم به فقيه.

فتحصّل : أنّ الصحيح ما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره من وجوب الاجتناب عن الملاقي في هذه الصورة.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما إذا كان زمان المعلوم بالاجمال سابقاً على زمان الملاقاة ، كما إذا علمنا يوم السبت بأنّ أحد هذين الاناءين كان نجساً يوم الخميس ، ولاقى أحدهما ثوب يوم الجمعة ، فقد ذكرنا في الدورة السابقة عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي فيها ، لأنّ المعلوم بالاجمال هي النجاسة المرددة بين الماءين في مفروض المثال. وأمّا الثوب فليس من أطراف العلم الاجمالي ، فيكون الشك في نجاسته شكاً في حدوث نجاسة جديدة غير ما هو معلوم إجمالاً ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه.

والفرق بين الصورتين : أنّه في الصورة الاولى لايكون تخلّل زماني بين نجاسة

٤٨٥

الملاقى ـ بالفتح ـ على تقدير تحققها واقعاً ونجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ فالعلم الاجمالي قد تعلّق من أوّل الأمر بنجاسة الملاقى والملاقي والطرف الآخر ، نظير تعلّق العلم الاجمالي بنجاسة إناء كبير أو إناءين صغيرين. بخلاف الصورة الثانية لكون زمان المعلوم بالاجمال سابقاً على زمان الملاقاة ، فيكون الملاقي ـ بالكسر ـ غير داخل في أطراف العلم الاجمالي ، ويكون الشك شكاً في حدوث نجاسة جديدة ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه والحكم بعدم وجوب الاجتناب عنه. هذا ملخص ما ذكرناه في الدورة السابقة.

ولكن الظاهر عدم الفرق بين الصورتين ووجوب الاجتناب عن الملاقي في الصورة الثانية أيضاً ، إذ المعلوم بالاجمال فيها وإن كان سابقاً بوجوده الواقعي على الملاقاة ، إلاّ أنّه مقارن له بوجوده العلمي ، والتنجيز من آثار العلم بالنجاسة لا من آثار وجودها الواقعي ، وحيث إنّ العلم الاجمالي متأخر عن الملاقاة فلا محالة يكون الملاقي ـ بالكسر ـ أيضاً من أطرافه. ولا أثر لتقدّم المعلوم بالاجمال على الملاقاة واقعاً ، فانّا نعلم إجمالاً يوم السبت ـ في المثال المتقدِّم ـ بأن أحد الماءين والثوب نجس ، أو الماء الآخر وحده ، فيكون نظير العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الكبير أو الاناءين الصغيرين ، فلا يمكن إجراء الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ لعين ما ذكرناه في الصورة الاولى ، فيجب الاجتناب عنه أيضاً.

وبعبارة اخرى : لا بدّ في جريان الأصل من الشك الفعلي كما يأتي التعرّض له مفصّلاً في باب الاستصحاب (١) إن شاء الله تعالى. ولا بدّ في التنجيز من العلم ، لعدم تنجّز التكليف بوجوده الواقعي ما لم يعلم به المكلف ، فقبل العلم

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ١٠٩ / التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب

٤٨٦

الاجمالي لايكون في أطرافه شك ، فلا مجال لجريان الأصل ولا لتساقط الاصول كما هو ظاهر. وبعد العلم الاجمالي كان الملاقي ـ بالكسر ـ أيضاً من أطرافه ، فتتساقط الاصول ، ويجب الاجتناب عن الملاقي والملاقى والطرف الآخر.

أمّا المسألة الثالثة : وهي ما إذا كان العلم الاجمالي بعد الملاقاة وقبل العلم بها ، فهل الحكم فيها عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي وإلحاقها بالمسألة الاولى ، لاشتراكهما في كون العلم الاجمالي مقدّماً على العلم بالملاقاة ، أو الحكم فيها وجوب الاجتناب عن الملاقي وإلحاقها بالمسألة الثانية ، لاشتراكهما في كون العلم الاجمالي متأخراً عن الملاقاة؟ وقد التزمنا في الدورة السابقة بوجوب الاجتناب إلحاقاً لها بالمسألة الثانية ، لأنّ العلم الاجمالي بحدوثه وإن كان متعلقاً بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف الآخر ، إلاّ أنّه بعد العلم بالملاقاة ينقلب إلى العلم بنجاسة الملاقى والملاقي أو الطرف الآخر. والتنجيز في صورة الانقلاب يدور مدار العلم الثاني ، فتتساقط الاصول بمقتضى العلم الثاني ، ويجب الاجتناب عن الجميع. ونظير ذلك ما إذا علمنا إجمالاً بوقوع نجاسة في الاناء الكبير أو الاناء الصغير ، ثمّ تبدّل العلم المذكور بالعلم بوقوعها في الاناء الكبير أو الاناءين الصغيرين ، فانّه لا إشكال في وجوب الاجتناب عن الجميع ، لأنّ العلم الأوّل وإن كان يوجب تساقط الأصلين في الاناء الكبير وأحد الصغيرين حدوثاً ، ويوجب تنجيز الواقع فيهما ، إلاّأنّ العلم الثاني يوجب تساقط الاصول في الجميع بقاءً ، لتبدّل العلم الأوّل بالثاني. وقد ذكرنا أنّ التنجيز في صورة الانقلاب يدور مدار العلم الثاني ، هذا ملخص ما ذكرناه في الدورة السابقة.

ولكنّ الظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي في هذه المسألة كما في المسألة الاولى ، وذلك لما ذكرناه في ذيل المسألة الثانية من أنّ مدار التنجيز إنّما هو العلم بالنجاسة لا وجودها الواقعي ، فالملاقاة وإن كانت سابقة على العلم

٤٨٧

الاجمالي ، إلاّ أنّه لا يترتب عليها أثر ، فبعد العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف الآخر يتساقط الأصلان فيهما للمعارضة ويتنجز التكليف ، ويجب الاجتناب عنهما. ولا أثر للعلم بالملاقاة بعد تنجّز التكليف بالعلم الأوّل ، فانّ العلم بالملاقاة وإن كان يوجب علماً إجمالياً بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف الآخر ، إلاّ أنّه لا أثر لهذا العلم بالنسبة إلى الطرف الآخر ، لتنجّز التكليف فيه بمنجّز سابق ، وهو العلم الأوّل. فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ لما ذكرناه سابقاً (١) من أنّه لو كان التكليف في أحد أطراف العلم الاجمالي منجّزاً بمنجّز سابق ، لا أثر للعلم الاجمالي بالنسبة إليه ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الطرف الآخر.

والمقام من هذا القبيل ، فانّ التكليف قد تنجّز في الطرف الآخر بالعلم السابق فلا مانع من الرجوع إلى الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ بعد العلم الاجمالي الثاني الحاصل من العلم بالملاقاة ، لعدم معارض له ، بلا فرق بين أن يكون زمان المعلوم بالاجمال متحداً مع زمان الملاقاة أو سابقاً عليه. وما ذكرناه في الدورة السابقة من أنّ مدار التنجيز في صورة التبدل إنّما هو العلم الثاني وإن كان صحيحاً في نفسه ، فانّا إذا علمنا إجمالاً بنجاسة القباء أو القميص ، ثمّ تبدّل علمنا بالعلم الاجمالي بنجاسة القباء أو العباء مثلاً ، كان مدار التنجيز هو العلم الثاني لا محالة ، فيجب الاجتناب عن القباء والعباء لا عن القباء والقميص ، إلاّ أنّ المقام ليس من قبيل التبدل ، بل من قبيل انضمام العلم إلى العلم ، فانّا نعلم أوّلاً بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف الآخر ، ثمّ بعد العلم بالملاقاة كان العلم الاجمالي الأوّل باقياً بحاله ولم يتبدّل ، غاية الأمر أنّه انضّم إليه علم آخر وهو

__________________

(١) في التنبيه الرابع ص ٤٢٣

٤٨٨

العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو الطرف الآخر ، والعلم الثاني ممّا لا يترتب عليه التنجيز ، لتنجّز التكليف في أحد طرفيه بمنجّز سابق وهو العلم الأوّل ، فيجري الأصل في طرفه الآخر بلا معارض وهو الملاقي ـ بالكسر ـ.

وكذا الحال في المثال الذي ذكرناه في الدورة السابقة ، فانّه لا مانع من الرجوع إلى الأصل في أحد الاناءين الصغيرين ، لتنجّز التكليف في الاناء الكبير وأحد الصغيرين بالعلم الأوّل ، فيجري الأصل في الاناء الصغير الآخر بلا معارض (١).

بقي الكلام فيما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) من تثليث الأقسام ، وأ نّه قد يجب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ دون الملاقي ـ بالكسر ـ كما في المسألة الاولى ، وقد يجب الاجتناب عن الملاقى والملاقي كما في المسألة الثانية ، وقد يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ وذكر لذلك موردين :

المورد الأوّل : ما إذا علم بالملاقاة ثمّ علم إجمالاً بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو الطرف الآخر ، ولكن كان الملاقى ـ بالفتح ـ حين حدوث العلم خارجاً عن محل الابتلاء ، فانّه حينئذ تقع المعارضة بين جريان الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ

__________________

(١) هذا فيما إذا كان العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الكبير أو الاناءين الصغيرين من قبيل انضمام علمٍ إلى علم بعروض العلم الثاني بعد الأوّل ، مع بقاء العلم الأوّل ، كما إذا لاقى أحد الاناءين الصغيرين للآخر ، وأمّا لو كان العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الكبير أو الاناءين الصغيرين من قبيل الانقلاب كما إذا علمنا إجمالاً بوقوع نجاسة في الاناء الكبير أو الاناء الصغير ثمّ تبدّل العلم المذكور بالعلم بوقوعها في الكبير أو الصغيرين ، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عن الجميع

(٢) كفاية الاصول : ٣٦٢ و ٣٦٣

٤٨٩

وجريانه في الطرف الآخر ، ويسقطان فيجب الاجتناب عنهما. وأمّا الملاقى ـ بالفتح ـ فلا يكون مجرىً للأصل بنفسه ، لخروجه عن محل الابتلاء ، فانّه لا يترتب عليه أثر فعلي ، ويعتبر في جريان الأصل ترتب أثر عملي فعلي ، فإذا رجع الملاقى ـ بالفتح ـ بعد ذلك إلى محل الابتلاء ، لم يكن مانع من الرجوع إلى الأصل فيه لعدم ابتلائه بالمعارض ، لسقوط الأصل في الطرف الآخر قبل رجوعه إلى محل الابتلاء ، فيكون حال الملاقى ـ بالفتح ـ في هذا الفرض حال الملاقي ـ بالكسر ـ في المسألة الاولى من حيث كون الشك فيه شكاً في حدوث تكليف جديد يرجع فيه إلى الأصل.

هذا ، والتحقيق عدم تمامية ما أفاده قدس‌سره لأنّ الخروج عن محل الابتلاء لا يمنع من جريان الأصل فيه إذا كان له أثر فعلي ، والمقام كذلك فانّ الملاقى ـ بالفتح ـ وإن كان خارجاً عن محل الابتلاء ، إلاّ أنّه يترتب على جريان أصالة الطهارة فيه أثر فعلي ، وهو الحكم بطهارة ملاقيه ، فمجرد الخروج عن محل الابتلاء أو عن تحت القدرة غير مانع عن جريان الأصل ، كما إذا غسل ثوب متنجس بماء مع القطع بطهارته أو مع الغفلة عن طهارته ونجاسته ، ثمّ انعدم ذلك الماء أو خرج عن محل الابتلاء ثمّ شكّ في طهارته ، فلا مانع من جريان أصالة الطهارة فيه لترتيب الحكم بطهارة الثوب المغسول به. وكذلك لو كان ماء نجساً فلاقاه ثوب حين الغفلة عن نجاسته ثمّ انعدم ذلك الماء أو خرج عن محل الابتلاء ، فشككنا في طهارته قبل ملاقاة الثوب لاحتمال وصول المطر إليه أو اتصاله بالجاري أو الكر ، فانّه لا مانع من جريان استصحاب النجاسة فيه لترتيب الحكم بنجاسة الثوب عليه ، مع أنّ المستصحب خارج عن محل الابتلاء أو معدوم.

والمقام من هذا القبيل ، فانّ الملاقى ـ بالفتح ـ وإن كان خارجاً عن محل

٤٩٠

الابتلاء ، إلاّ أنّه لا مانع من جريان أصالة الطهارة فيه في نفسه لترتيب الحكم بطهارة ملاقيه ، إلاّأنّ العلم الاجمالي بنجاسته أو نجاسة الطرف الآخر يمنع من الرجوع إلى الأصل في كل منهما ، فيجب الاجتناب عنهما. وأمّا الملاقي ـ بالكسر ـ فحكمه من حيث جريان الأصل فيه وعدمه على التفصيل الذي تقدّم في المسائل الثلاث ، وملخّصه : أنّه إن كان العلم بالملاقاة بعد العلم الاجمالي ، فلا مانع من جريان الأصل فيه كما في المسألة الاولى ، وإن كان قبله فالعلم الاجمالي مانع عن جريان الأصل فيه. وكلام صاحب الكفاية قدس‌سره مفروض على الثاني فراجع.

المورد الثاني : ما لو تعلّق العلم الاجمالي أوّلاً بنجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ أو شيء آخر ، ثمّ حدث العلم بالملاقاة والعلم بنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ أو ذلك الشيء قبل الملاقاة ، ولو مع العلم بأنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ على تقدير تحققها ناشئة من الملاقاة لا غير ، كما لو علم يوم السبت إجمالاً بنجاسة الثوب أو الاناء الكبير ، ثمّ علم يوم الأحد بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير يوم الجمعة وبملاقاة الثوب للاناء الصغير في ذلك اليوم ، فانّ نجاسة الثوب ولو مع عدم احتمالها من غير ناحية الملاقاة قد تنجّزت بالعلم الاجمالي الحادث يوم السبت ، لتساقط الأصلين في طرفيه للمعارضة ، فيجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ وهو الثوب والاناء الكبير. وأمّا الملاقى ـ بالفتح ـ وهو الاناء الصغير ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه ، لكون الشك فيه شكاً حادثاً بعد تنجّز التكليف في الاناء الكبير والثوب.

هذا ، وقد ذكرنا في الدورة السابقة عدم تمامية ما ذكره من وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ في المورد الثاني أيضاً ، لأنّ التنجيز يدور مدار العلم الاجمالي حدوثاً وبقاءً ، فالعلم الاجمالي الحادث يوم

٤٩١

السبت في المثال وإن أوجب تنجّز التكليف بالنسبة إلى الثوب والاناء الكبير ، إلاّ أنّه بعد حدوث العلم الاجمالي يوم الأحد بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير ، ينحلّ العلم الأوّل بالثاني ، فيكون الشك في نجاسة الثوب شكاً في حدوث نجاسة اخرى غير ما هو معلوم إجمالاً ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه ، لخروجه عن أطراف العلم الاجمالي بقاءً.

ولكن التحقيق تمامية ما ذكره قدس‌سره من وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ في هذا المورد ، وذلك لما ذكرناه في ذيل المسألة الثانية من أنّ مناط التنجيز هو العلم الاجمالي لا النجاسة بوجودها الواقعي ولو لم يعلم بها المكلف ، فنجاسة الاناء الصغير على تقدير تحققها واقعاً ممّا لا أثر لها من دون العلم بها. وبعد تنجّز التكليف في الاناء الكبير والثوب لا أثر للعلم الثاني بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير ، لكون التكليف في الاناء الكبير منجّزاً بالعلم الأوّل ، فلا أثر للعلم الثاني بالنسبة إليه ، فيجري الأصل في الاناء الصغير بلا معارض ، فتكون النتيجة وجوب الاجتناب عن الاناء الكبير والثوب وهو الملاقي ـ بالكسر ـ دون الاناء الصغير وهو الملاقى ـ بالفتح ـ.

وأمّا ما ذكرناه في الدورة السابقة من أنّ العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالعلم الثاني ويخرج الملاقي ـ بالكسر ـ من أطرافه ، فيكون الشك في نجاسته شكاً في نجاسة جديدة غير ما هو المعلوم بالاجمال ، فيجري فيه الأصل بلا معارض ، ففيه : أنّ الملاقي ـ بالكسر ـ وهو الثوب في مفروض المثال لم يخرج من أطراف العلم الاجمالي الثاني ، إذ المفروض حدوث العلم بالملاقاة مقارناً لحدوث العلم الاجمالي الثاني ، فيكون العلم الاجمالي بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير في مفروض المثال علماً إجمالياً بنجاسة الثوب والاناء الصغير أو الاناء الكبير ، غاية الأمر أنّ الشك في نجاسة الثوب ناشئ من الشك في نجاسة الاناء الصغير ،

٤٩٢

وهو لا يوجب خروج الثوب عن أطراف العلم الاجمالي الثاني بعد كون العلم بالملاقاة حادثاً حين حدوث العلم الاجمالي الثاني ، وحيث إنّ التكليف بالنسبة إلى الاناء الكبير قد تنجّز بالعلم الاجمالي الأوّل ، ولا مجال لجريان الأصل فيه ، فيجري الأصل في الاناء الصغير بلا معارض (١).

__________________

(١) للتأمل فيما ذكره (دام ظلّه) مجال ، إذ لو كان المراد من العلم الاجمالي الثاني المتعلق بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير في مفروض المثال هو العلم المنضم إلى العلم الأوّل مع بقائه بحاله ، فوجوب الاجتناب عن الثوب والاناء الكبير وعدم وجوب الاجتناب عن الاناء الصغير وإن كان صحيحاً لما ذكر في المتن من تنجّز التكليف بالنسبة إلى الثوب والاناء الكبير بالعلم الأوّل وجريان الأصل في الاناء الصغير بلا معارض ، إلاّأنّ وجوب الاجتناب عن الثوب ليس للملاقاة ، بل لكونه طرفاً للعلم الاجمالي الأوّل ، ولا يعدّ الاجتناب عنه اجتناباً عن الملاقي ـ بالكسر ـ لأنّ معناه هو الاجتناب عنه لأجل الملاقاة وهذا هو محل الكلام. وأمّا لو كان الملاقي ـ بالكسر ـ بنفسه طرفاً للعلم الاجمالي الأوّل ، أو كان معلوم النجاسة بالعلم التفصيلي ثمّ حصل العلم الاجمالي الثاني والعلم بملاقاته لبعض أطرافه ، فلا يسمّى الاجتناب عنه اجتناباً عن الملاقي ـ بالكسر ـ كما هو واضح. ولو كان المراد من العلم الاجمالي الثاني المتعلق بنجاسة الاناء الكبير أو الاناء الصغير هو الذي انقلب إليه العلم الأوّل ، فلا وجه لوجوب الاجتناب عن الثوب دون الاناء الكبير ، بل يجب الاجتناب عن الاناء الكبير والاناء الصغير بمقتضى العلم الاجمالي الثاني ، لأنّ المدار في صورة الانقلاب على العلم الثاني كما اعترف به (دام ظلّه) في بعض كلماته. وكذا يجب الاجتناب عن الثوب أيضاً لأنّه لم يخرج عن أطراف العلم الاجمالي الثاني على الفرض ، إذ المفروض حدوث العلم بالملاقاة مقارناً لحدوث العلم الاجمالي الثاني.

فتحصّل : أنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من تثليث الأقسام وأ نّه قد يجب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ ممّا لم نجد له مورداً ولم نتعقّل له وجهاً. والحق أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ متفرّعة على نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ فوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ لأجل الملاقاة دون الملاقى ـ بالفتح ـ غير متصوّر بوجه

٤٩٣

فتحصّل : أنّ ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من تثليث الأقسام صحيح تام ، فالأمر دائر بين وجوب الاجتناب عن الملاقى ـ بالفتح ـ دون الملاقي ـ بالكسر ـ كما في المسألة الاولى ، ووجوب الاجتناب عن الملاقى والملاقي معاً كما في المسألة الثانية ، ووجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ عكس المسألة الاولى كما في المثال المذكور.

[دوران الأمر بين الأقل والأكثر]

المورد الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين. انتهى الأمر في الأبحاث السابقة إلى أنّ الشك إن كان في تحقق الجعل من قبل الشارع ، فهو مورد للبراءة العقلية والنقلية ، وإن كان في انطباق المجعول بعد العلم بالجعل فهو مورد لقاعدة الاشتغال. وبعبارة اخرى : الشك في التكليف مورد للبراءة ، والشك في المكلف به مورد لقاعدة الاشتغال ، فبعد الفراغ عن هذين الأمرين يقع الكلام في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين ، من حيث إنّه ملحق بالشك في التكليف ، ليكون وجوب الأكثر مورداً للبراءة ، أو أنّه ملحق بالشك في المكلف به ليكون مورداً لقاعدة الاشتغال. فبعضهم نظر إلى أنّ التكليف بالأقل متيقن وبالأكثر مشكوك فيه فألحقه بالشك في التكليف. وبعض آخر نظر إلى وحدة التكليف وتردده بين الأقل والأكثر فألحقه بالشك في المكلف به لكون التكليف متيقناً ،

٤٩٤

إنّما الشك في انطباقه على الأقل أو الأكثر ، فيكون الشك في المكلف به.

وتحقيق المقام يقتضي التكلم في مقامين : الأوّل : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء الخارجية. الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر في الأجزاء التحليلية كدوران الأمر بين الاطلاق والتقييد ، ودوران الأمر بين الجنس والفصل مثلاً.

أمّا المقام الأوّل : فقال بعضهم بكونه مجرىً لقاعدة الاشتغال ، وعدم جريان البراءة العقلية والبراءة النقلية. وذهب جماعة منهم شيخنا الأنصاري (١) قدس‌سره إلى جريان البراءة العقلية والنقلية. وفصّل صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره وتبعه المحقق النائيني (٣) قدس‌سره فقال بجريان البراءة النقلية دون العقلية ، فتنقيح البحث يستدعي التكلم في جهتين :

الجهة الاولى : في جريان البراءة العقلية وعدمه.

الجهة الثانية : في جريان البراءة النقلية وعدمه.

أمّا الجهة الاولى : فالصحيح فيها ما ذهب إليه شيخنا الأنصاري قدس‌سره من جريان البراءة العقلية ، وذكر لتقريبه وجوهاً :

الوجه الأوّل : ما ذكره الشيخ (٤) قدس‌سره في الرسائل من أنّ وجوب الأقل المردّد بين النفسي والغيري متيقن ، إذ لو كان الأقل واجباً فوجوبه نفسي ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٠

(٢) كفاية الاصول : ٣٦٣ و ٣٦٦

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٨٩ ـ ٤٩٤ ، فوائد الاصول ٤ : ١٥١

(٤) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٢

٤٩٥

ولو كان الأكثر واجباً فوجوب الأقل غيري ، وأمّا وجوب الأكثر فهو مشكوك فيه فيجري فيه الأصل. وتمامية هذا الوجه يتوقف على إثبات أمرين : الأوّل :

اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري ، وإلاّ لم يصحّ القول بأن وجوب الأقل متيقن مردد بين النفسي والغيري ، إذ على تقدير عدم اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري ، لايكون هناك إلاّوجوب نفسي شك في تعلّقه بالأقل أو الأكثر ، فلا علم بوجوب الأقل على كل تقدير. الثاني : كون العلم بالوجوب الجامع بين النفسي والغيري موجباً لانحلال العلم الاجمالي بالوجوب النفسي المردّد تعلّقه بالأقل أو الأكثر ، إذ على تقدير عدم انحلال العلم الاجمالي لا يكون وجوب الأكثر مورداً لجريان البراءة.

أمّا الأمر الأوّل : أي اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري ، فهو لم يثبت بل الثابت خلافه ، لما بيّناه في بحث وجوب المقدّمة (١) من استحالة اتصاف الأجزاء بالوجوب الغيري ، لأنّ الوجوب الغيري ناشئ عن توقف وجود على وجود آخر ، وليس وجود المركب غير وجود الأجزاء كي يتوقف عليه توقف وجود الشيء على وجود غيره ، فيترشح من وجوب المتوقف نفسياً وجوب المتوقف عليه غيرياً ، بل وجود المركب عين وجود الأجزاء ، ولا فرق بينهما إلاّبمجرد الاعتبار واللحاظ ، فانّ الأجزاء إذا لوحظت بشرط الشيء أي بشرط الانضمام فهي المركب ، وإذا لوحظت لا بشرط فهي الأجزاء.

وأمّا الأمر الثاني : أي كون العلم بالوجوب الجامع بين النفسي والغيري موجباً لانحلال العلم الاجمالي بالوجوب النفسي ، فقد يقال فيه بعدم الانحلال ، بدعوى أنّه يعتبر في الانحلال أن يكون المعلوم بالتفصيل من سنخ المعلوم

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١١٧ ـ ١١٩

٤٩٦

بالاجمال ، والمقام ليس كذلك ، لأنّ المعلوم بالاجمال هو الوجوب النفسي سواء كان متعلقاً بالأقل أو الأكثر ، والمعلوم بالتفصيل هو الوجوب الجامع بين النفسي والغيري ، فلا ينحل العلم الاجمالي. ولكن التحقيق هو الانحلال على ما ذكرناه في بحث مقدّمة الواجب مفصلاً (١) ولا نعيد الكلام فيه ، لأنّ التقريب المذكور غير تام من جهة عدم تمامية الأمر الأوّل ، فلا حاجة إلى إعادة الكلام في تمامية الأمر الثاني وعدمها.

الوجه الثاني : وهو أيضاً مأخوذ من كلام الشيخ (٢) وهو أنّ الأقل واجب يقيناً بالوجوب الجامع بين الوجوب الاستقلالي والوجوب الضمني ، إذ لو كان الواجب في الواقع هو الأقل فيكون الأقل واجباً بالوجوب الاستقلالي. ولو كان الواجب في الواقع هو الأكثر ، فيكون الأقل واجباً بالوجوب الضمني ، لأنّ التكليف بالمركب ينحل إلى التكليف بكل واحد من الأجزاء ، وينبسط التكليف الواحد المتعلق بالمركب إلى تكاليف متعددة متعلقة بكل واحد من الأجزاء ، ولذا لا يكون الآتي بكل جزء مكلفاً باتيانه ثانياً ، لسقوط التكليف المتعلق به ، بل الآتي بكل جزء يكون مكلفاً باتيان جزء آخر بعده ، لكون التكليف متعلقاً بكل جزء مشروطاً بلحوق الجزء التالي بنحو الشرط المتأخر.

فتحصّل : أنّ تعلّق التكليف بالأقل معلوم ويكون العقاب على تركه عقاباً مع البيان وإتمام الحجّة ، وتعلّقه بالأكثر مشكوك فيه ، ويكون العقاب عليه عقاباً بلا بيان. وبعبارة اخرى : يكون العقاب على ترك الصلاة مثلاً لأجل ترك الأجزاء المعلومة عقاباً مع البيان وهو العلم ، ويكون العقاب على تركها لأجل

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٢١

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٦٢

٤٩٧

ترك الأجزاء المشكوك فيها عقاباً بلا بيان ، والعقل يحكم بقبحه ، وهذا معنى البراءة العقلية.

وهذا الوجه ممّا لا بأس به ، وتوضيحه يستدعي التنبيه على أمر ، وهو أنّ محل الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إنّما هو فيما إذا كان الأقل متعلقاً للتكليف بنحو لا بشرط القسمي ، بمعنى أنّا نعلم أنّ الواجب لو كان هو الأقل لا يضره الاتيان بالأكثر ، وأمّا إذا كان الأقل مأخوذاً في التكليف بشرط لا حتّى يضره الاتيان بالأكثر ، كما في دوران الأمر بين القصر والتمام ، فهو خارج عن محل الكلام ، لكون الدوران فيه من قبيل الدوران بين المتباينين. وبعبارة اخرى : الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر إنّما هو فيما إذا كان مقتضى الاحتياط الاتيان بالأكثر ، وإذا كان الأقل مأخوذاً بشرط لا لا يمكن الاحتياط باتيان الأكثر ، لاحتمال كون الزائد مبطلاً ، بل مقتضى الاحتياط هو الاتيان بالأقل مرّةً وبالأكثر اخرى ، ولذا كان مقتضى الاحتياط عند الشك في القصر والتمام هو الجمع بينهما لا الاتيان بالتمام فقط. وهذا هو الميزان في تمييز دوران الأمر بين الأقل والأكثر عن دوران الأمر بين المتباينين.

إذا عرفت محل الكلام في دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فاعلم أنّ ذات الأقل معلوم الوجوب وإنّما الشك في أنّه مأخوذ في متعلق التكليف على نحو الاطلاق أي بنحو اللا بشرط القسمي ، أو مأخوذ بشرط شيء وهو الانضمام مع الأجزاء المشكوكة ، فانّا نعلم بوجوب ذات الأقل أي الجامع بين الاطلاق والتقييد ، وإنّما الشك في خصوصية الاطلاق والتقييد ، فانّهما وإن كانا قسمين من الماهية الجامعة بينهما ، إلاّ أنّه لا إشكال في كونهما قسيمين بالنسبة إلى نفسيهما.

وبالجملة : تعلّق التكليف بذات الأقل متيقن ، وإنّما الشك في أنّه واجب مطلق وبلا تقييد بشيء ، أو أنّه واجب مقيداً بانضمام الأجزاء المشكوكة ، وحيث إنّ

٤٩٨

الاطلاق لا يكون تضييقاً على المكلف كما هو ظاهر ، فلا معنى لجريان البراءة العقلية أو النقلية فيه ، فانّه لا يحتمل العقاب في صورة الاطلاق حتّى ندفعه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بحديث الرفع ، فتجري البراءة العقلية في التقييد بلا معارض. وقد ذكرنا مراراً (١) أنّ تنجيز العلم الاجمالي موقوف على تعارض الاصول في أطرافه وتساقطها ، وأ نّه لو لم يجر الأصل في أحد طرفيه في نفسه لا مانع من جريانه في الطرف الآخر ، فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً. والمقام كذلك ، لما عرفت من أنّ الاطلاق توسعة على المكلف ، فلا يكون مورداً للبراءة في نفسه ، فتجري البراءة في التقييد بلا معارض ، نظير ما إذا علمنا إجمالاً بحرمة شيء أو إباحته ، فهذا العلم الاجمالي وإن كان طرفاه متباينين ، إلاّ أنّه حيث لا تجري البراءة العقلية ولا النقلية في طرف الاباحة ، لعدم احتمال العقاب فيه كي يدفع بقاعدة قبح العقاب بلا بيان أو بحديث الرفع وأمثاله من الأدلة النقلية ، فيكون احتمال الحرمة مورداً لجريان البراءة العقلية والنقلية بلا معارض.

هذا ، وقد ذكر لجريان البراءة موانع :

منها : ما ذكره صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره من استحالة انحلال العلم الاجمالي في المقام لاستلزامه الخلف وعدم نفسه. أمّا الأوّل : فلأنّ العلم بوجوب الأقل يتوقف على تنجّز التكليف مطلقاً ، أي على تقديري تعلّقه بالأقل وتعلّقه بالأكثر ، فلو كان وجوبه على كل تقدير مستلزماً لعدم تنجّزه فيما إذا كان متعلقاً بالأكثر كان خلفاً. وأمّا الثاني : فلأ نّه يلزم من وجود الانحلال عدم تنجّز التكليف على تقدير تعلّقه بالأكثر ، وهو مستلزم لعدم وجوب الأقل على

__________________

(١) كما في ص ٤٠٤

(٢) كفاية الاصول : ٣٦٤

٤٩٩

كل تقدير المستلزم لعدم الانحلال. وملاك الاستحالة في التقريبين واحد ، وهو أنّ الانحلال يتوقف على تنجّز التكليف على كل تقدير ، ومعه لا تنجّز بالنسبة إلى الأكثر ، فيلزم الخلف ومن فرض وجود الانحلال عدمه.

والجواب عن كلا التقريبين كلمة واحدة ، وهي أنّ الانحلال لا يتوقف على تنجّز التكليف على تقديري تعلّقه بالأقل وتعلّقه بالأكثر ، بل الانحلال وتنجّز التكليف بالنسبة إلى الأكثر متنافيان لا يجتمعان ، فكيف يكون متوقفاً عليه ، بل الانحلال مبني على العلم بوجوب ذات الأقل على كل تقدير ، أي على تقدير وجوب الأقل في الواقع بنحو الاطلاق ، وعلى تقدير وجوبه في الواقع بنحو التقييد ، فذات الأقل معلوم الوجوب ، إنّما الشك في الاطلاق والتقييد ، وحيث إنّ الاطلاق لا يكون مجرىً للأصل في نفسه على ما تقدّم بيانه ، فيجري الأصل في التقييد بلا معارض ، وينحل العلم الاجمالي لا محالة. وهذا واضح لا غبار عليه فلا يكون مستلزماً للخلف ، ولا وجود الانحلال مستلزماً لعدمه ، وإنّما نشأت هذه المغالطة من أخذ التنجّز على كل تقدير شرطاً للانحلال ، وهذا ليس مراد القائل بالبراءة.

ومنها : أنّ التكليف المعلوم المحتمل تعلّقه بالأقل والأكثر تكليف واحد متعلق بالأجزاء مقيداً بعضها ببعض ثبوتاً وسقوطاً ، إذ المفروض كون الأجزاء ارتباطية ، ومعه لا يعقل سقوط التكليف بالاضافة إلى بعض الأجزاء مع عدم سقوطه بالاضافة إلى بعض آخر ، لكون التكليف واحداً والأجزاء ارتباطية ، وعليه فلا يحصل القطع بسقوط التكليف باتيان الأقل حتّى بالنسبة إلى نفس الأقل المقطوع وجوبه ، لاحتمال وجوب الأكثر ، واحتمال وجوبه ملازم لاحتمال عدم سقوط التكليف رأساً ، لأنّه ملازم لعدم سقوطه بالاضافة إلى خصوص

٥٠٠