موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

التحريمية ، بل المعتبر كون جميع الأطراف مقدوراً للمكلف على ما تقدّم بيانه.

ولا يخفى أنّ الغالب في الأمثلة التي ذكروها لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء كونها أمثلة لخروج بعض الأطراف عن القدرة ، فراجع رسائل الشيخ قدس‌سره (١).

ثمّ إنّ الداعي النفساني إلى الفعل أو الترك لا ينافي قصد القربة المعتبر في صحّة العبادات ، وفي تحقق الامتثال في غيرها بنحو الاطلاق ، بل قد يجتمعان ، بيان ذلك : أنّه تارةً يكون الداعي للمكلف إلى الفعل أو الترك هو أمر المولى أو نهيه ، ويكون الداعي النفساني تابعاً ومندكاً فيه. ولا إشكال في صحّة العبادة وحصول الامتثال في هذه الصورة.

واخرى : يكون عكس ذلك ، بأن يكون الداعي إلى الفعل أو الترك ميله النفساني ، وتكون داعوية أمر المولى أو نهيه مندكاً فيه. ولا إشكال في عدم صحّة العبادة وعدم حصول الامتثال في هذه الصورة ، فانّ الفعل أو الترك لم يستند في الحقيقة إلى أمر المولى ونهيه ، كما هو ظاهر.

وثالثة : يكون قصد القربة والداعي النفساني كلاهما داعياً إلى الفعل أو الترك. وهذه الصورة تتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يكون كل منهما دخيلاً في تحقق الفعل أو الترك ، بأن يكون كل واحد منهما جزءاً للسبب. ولا ينبغي الاشكال في عدم صحّة العبادة وعدم حصول الامتثال بعد عدم كون أمر المولى أو نهيه كافياً ومؤثراً في تحقق الفعل أو الترك ، ولذا ورد في الحديث حكاية عنه تعالى : «أنا خير شريك من عمل لي ولغيري جعلته لغيري» (٢).

الثاني : أن يكون كل واحد منهما سبباً تامّاً في عالم الاقتضاء ، بمعنى أن

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٢٠ ـ ٤٢٢

(٢) الوسائل ١ : ٧٢ / أبواب مقدّمة العبادات ب ١٢ ح ٧ (باختلاف يسير)

٤٦١

يكون كل واحد منهما كافياً في تحقق الفعل أو الترك مع عدم الآخر ، وإن كان صدور الفعل خارجاً مستنداً إليهما فعلاً ، لاستحالة صدور الواحد من السببين المستقلين في التأثير. والأقوى فيه أيضاً هو الحكم بصحّة العبادة ، وحصول الامتثال ، لصحّة استناد الفعل إلى أمر المولى بعد كونه سبباً تامّاً في التأثير.

بقي الكلام في مسألتين :

المسألة الاولى : أنّه إذا شككنا في أنّ الدخول في محل الابتلاء معتبر في صحّة التكليف أم لا ، أو شككنا في كون بعض الأطراف خارجاً عن محل الابتلاء من جهة الشك في مفهومه وعدم تعيّن حدّه ، بناءً على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحّة التكليف ، فهل يرجع إلى إطلاقات أدلة التكليف ويحكم بالتنجيز في الطرف المبتلى به ، أو إلى أصالة البراءة؟

ذهب شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) وتبعه المحقق النائيني قدس‌سره (٢) إلى الأوّل ، بدعوى أنّ الاطلاق هو المرجع ما لم يثبت التقييد ، فلا مجال لجريان الأصل ، فانّ مقتضى الاطلاق هو العلم بالتكليف الفعلي ، فلا يجري الأصل في أطرافه.

وذهب صاحب الكفاية (٣) قدس‌سره إلى الثاني ، بدعوى أنّ التمسك بالاطلاق في مقام الاثبات إنّما يصحّ فيما إذا أمكن الاطلاق بحسب مقام الثبوت ، ليستكشف بالاطلاق في مقام الاثبات الاطلاق في مقام الثبوت ، ومع الشك في إمكان الاطلاق ثبوتاً لا أثر للاطلاق إثباتاً. والمقام من هذا القبيل ، فانّه بعد

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٢٢

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٣٥ ، فوائد الاصول ٤ : ٥٧ و ٥٨

(٣) كفاية الاصول : ٣٦١

٤٦٢

الالتزام باعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحّة التكليف عقلاً ، كان الشك في دخول بعض الأطراف في محل الابتلاء من حيث المفهوم شكّاً في إمكان الاطلاق بالنسبة إليه ، ومع الشك في الامكان ثبوتاً لا ينفع الرجوع إلى الاطلاق في مقام الاثبات. وكذا الحال عند الشك في أصل اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحّة التكليف ، فانّه أيضاً شك في الامكان ثبوتاً ، فلايمكن الرجوع إلى الاطلاق إثباتاً.

والتحقيق صحّة ما ذهب إليه الشيخ قدس‌سره لما ذكرناه (١) في أوائل بحث حجّية الظن من أنّ بناء العقلاء على حجّية الظواهر ما لم تثبت القرينة العقلية أو النقلية على إرادة خلافها. ومجرد احتمال الاستحالة لا يعدّ قرينةً على ذلك ، فانّه مَن ترك العمل بظاهر خطاب المولى لاحتمال استحالة التكليف لا يعدّ معذوراً عند العقلاء ، فإذا أمر المولى باتباع خبر العادل وترتيب الأثر عليه ، واحتملنا استحالة حجّيته ، لاستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال أو الالقاء في المفسدة وتفويت المصلحة ، أو غير ذلك ممّا ذكروه في استحالة العمل بالظن ، لا يكون هذا الاحتمال عذراً في مخالفة ظاهر كلام المولى. والمقام من هذا القبيل بعينه ، فلا مانع من التمسك بالاطلاق عند الشك في الدخول في محل الابتلاء مفهوماً ، أو الشك في اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحّة التكليف ، فانّ الاطلاق في مقام الاثبات كاشف عن الاطلاق في مقام الثبوت كشفاً تعبدياً.

المسألة الثانية : أنّه إذا شككنا في خروج بعض أطراف العلم الاجمالي عن تحت القدرة أو خروجه عن محل الابتلاء لشبهة مصداقية ، بناءً على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في تنجيز العلم الاجمالي ، فهل يرجع في غيره من

__________________

(١) في ص ١٠٥

٤٦٣

الأطراف إلى البراءة أو إلى الاطلاق أيضاً؟

الظاهر هو الأوّل لما ذكرناه في مباحث الألفاظ (١) من عدم جواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ، ولا سيّما في موارد التخصيصات اللبية التي هي من قبيل القرائن المتصلة الموجبة لعدم انعقاد الظهور من أوّل الأمر إلاّفي الأفراد الباقية. والمقام كذلك ، فان إطلاقات الأدلة الأوّلية الدالة على التكليف ليس لها ظهور في أوّل الأمر إلاّفي المقدور من جهة القرينة القطعية العقلية.

وكذا ليس لها ظهور إلاّفي موارد الابتلاء بناءً على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحّة التكليف ، وحيث إنّه لا يمكن الرجوع في الطرف المشكوك في كونه تحت القدرة أو في كونه المبتلى به إلى الاطلاقات ، لما ذكرناه من عدم جواز الرجوع إلى العام في الشبهة المصداقية ، لايمكن الرجوع فيه إلى أدلة البراءة أيضاً ، لأن كل مورد لا يكون قابلاً لوضع التكليف فيه لا يكون قابلاً للرفع أيضاً ، فإذا احتملنا عدم القدرة أو عدم الابتلاء في بعض الأطراف لا يمكننا الرجوع إلى أدلة البراءة ، لكون الشبهة مصداقية ، وحينئذ لا مانع من الرجوع إلى البراءة في الطرف الآخر ، وهو الطرف المحرز كونه تحت القدرة ومحلاًّ للابتلاء ، لعدم المعارضة بين الأصل في الطرفين.

وعلى ما ذكرناه من الرجوع إلى البراءة في الطرف المقدور عند الشك في خروج بعض الأطراف عن تحت القدرة تقل الثمرة بيننا وبين القائل باعتبار الدخول في محل الابتلاء في تنجّز العلم الاجمالي ، فانّ غالب الموارد التي ذكرها للخروج عن محل الابتلاء تكون من موارد الشك في القدرة ، فلا يكون العلم

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٤٣ وما بعدها

٤٦٤

الاجمالي منجّزاً للشك في القدرة على ما ذكرناه ، أو للخروج عن محل الابتلاء على ما ذكره القائل ، باعتبار الدخول في محل الابتلاء. وتنحصر الثمرة بيننا فيما إذا كان جميع الأطراف مقدوراً يقيناً ، وكان بعضها خارجاً عن محل الابتلاء ، فانّا نقول فيه بالتنجيز والقائل باعتبار الدخول في محل الابتلاء يقول بعدمه.

بقي في المقام إشكال : وهو أنّه كيف تجري البراءة في المقام مع أنّ الشك في التكليف فيه ناشئ من الشك في القدرة ، ومن الواضح المتسالم عليه أنّ الشك في القدرة لايكون مورداً للبراءة ، بل يجب الفحص ليتحقق الامتثال ، أو يحرز عجزه ليكون معذوراً ، فإذا شكّ المكلف في قدرته على حفر الأرض لدفن ميّت ، فهل يجوز تركه للشك في القدرة واحتمال العجز. وكذا إذا شكّ الجنب في أنّ باب الحمام مثلاً مفتوح حتّى يكون قادراً على الغسل أو لا ، فهل يجوز له الرجوع إلى البراءة عن وجوب الغسل وترك الفحص ، والمقام من هذا القبيل.

والجواب : أنّه لا يجوز الرجوع إلى البراءة عند الشك في القدرة فيما إذا علم فوات غرض المولى بالرجوع إلى البراءة كما في المثال ، وقد ذكرنا في بحث الإجزاء أنّ العلم بالغرض بمنزلة العلم بالتكليف (١) ، فبعد العلم بالغرض وجب الفحص بحكم العقل حتّى لا يكون فوت غرض المولى مستنداً إلى تقصيره.

وبعد الفحص إن انكشف تمكنه من الامتثال فيمتثل ، وإلاّ كان فوت غرض المولى مستنداً إلى عجزه فيكون معذوراً ، بخلاف ما إذا لم يعلم ذلك كما في المقام ، إذ لم يحرز وجود غرض المولى في الطرف المقدور أو الطرف المبتلى به ، فلا يكون في الرجوع إلى البراءة إلاّاحتمال فوات غرض المولى ، وهو ليس بمانع لوجوده في جميع موارد الرجوع إلى البراءة ، حتّى الشبهات البدوية.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٥٥

٤٦٥

وبعبارة اخرى : الفرق بين المثال والمقام أنّ الغرض في المثال معلوم والقدرة مشكوك فيها ، وفي المقام الغرض مشكوك فيه والقدرة معلومة فكم فرق بينهما.

التنبيه العاشر

يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي أن يكون لكل واحد من الأصلين في الطرفين أثر عملي فعلي ، فلو لم يكن للأصل في أحد الطرفين أثر فعلي لا يجري فيه الأصل لعدم ترتب أثر عليه. وحينئذ لا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر ، فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً ، لما ذكرناه مراراً (١) من أنّ تنجيزه متوقف على تساقط الاصول في أطرافه ، فلو علم المكلف بنجاسة أحد ثوبين ، وعلم بكون أحدهما المعيّن مغصوباً ، لا مانع من الرجوع إلى قاعدة الطهارة في غير المغصوب ، لعدم جريانها في المغصوب حتّى تسقط بالمعارضة ، إذ لا أثر عملي لجريانها فيه بعد العلم بحرمة استعماله على تقديري الطهارة والنجاسة ، فتجري القاعدة في الطرف الآخر بلا معارض. ولا يكون العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما منجّزاً.

وإن شئت قلت : إنّه كما يعتبر في تنجيز العلم الاجمالي القدرة العقلية في جميع الأطراف ، كذلك تعتبر القدرة الشرعية فيها ، فانّ الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً ، فلو خرج بعض الأطراف عن تحت قدرته شرعاً ـ كما في المثال المذكور ـ لا يكون العلم الاجمالي منجّزاً ، لجريان الأصل في الطرف الآخر بلا مُعارِض.

__________________

(١) راجع على سبيل المثال ص ٤٠٤

٤٦٦

التنبيه الحادي عشر

قد عرفت أنّ تنجيز العلم الاجمالي فيما إذا كانت الاصول الجارية في أطرافه عرضية ، بمعنى كون جميعها في مرتبة واحدة ، كما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الماءين مثلاً وقد تقدّم (١) تفصيل الكلام في مثل ذلك. وأمّا إذا كانت الاصول طولية ، بأن يكون الأصل الجاري في بعض الأطراف في مرتبة لاحقة عن الأصل الجاري في الطرف الآخر ، كما لو علم بوقوع نجاسة في الماء أو التراب مع انحصار الطهور بهما ، فانّه لو جرت أصالة الطهارة في الماء لا تصل النوبة إلى جريانها في التراب ، إذ لا أثر له ، لعدم جواز التيمم مع وجود الماء الطاهر ، فهل يكون مثل هذا العلم منجّزاً وتتساقط الاصول في أطرافه ، أو يجري الأصل في الماء لتقدّم رتبته على الأصل الجاري في التراب ، ولا يكون الأصل الجاري في التراب معارضاً للأصل الجاري في الماء ، لعدم كونه في رتبته ، فتجري أصالة الطهارة في الماء بلا معارض؟ وعلى تقدير التساقط فهل يحكم بكون المكلف فاقداً للطهورين ، أو بوجوب الجمع بين الوضوء والتيمم عليه تحصيلاً للطهارة اليقينية؟ وجوه.

والتحقيق أن يقال : إنّ التراب المحتمل نجاسته تارةً لا يكون لطهارته أثر شرعي في عرض الأثر الشرعي لطهارة الماء ، وكان الأثر الشرعي لطهارته جواز التيمم فقط الذي ليس في مرتبة طهارة الماء ، كما إذا كان التراب مال الغير ولم يأذن في السجدة عليه ، أو كان المكلف غير مكلف بالسجدة وكان تكليفه الايماء مثلاً. واخرى يكون لطهارته أثر آخر غير جواز التيمم ، وكان

__________________

(١) في أوائل هذا البحث فراجع ص ٤٠٤ وما بعدها

٤٦٧

ذلك الأثر في عرض الأثر الشرعي لطهارة الماء ، كجواز السجدة عليه.

أمّا الصورة الاولى : فلا ينبغي الاشكال في جريان أصالة الطهارة في الماء بلا معارض ، لعدم جريانها في التراب لعدم ترتب أثر عليه. وقد ذكرنا (١) أنّ تنجيز العلم الاجمالي يتوقف على كونه متعلقاً بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، وهو مفقود في المقام ، إذ النجاسة على تقدير وقوعها في التراب لا يترتب عليها عدم جواز التيمم ، بل عدم جوازه حينئذ إنّما هو من جهة التمكّن من الماء الطاهر لا من جهة نجاسة التراب. وإن شئت قلت : إنّ النجاسة المعلومة بالاجمال لا يترتب عليها عدم جواز التيمم أصلاً ، لأنّها إن كانت واقعة في الماء فهي مقتضية لجواز التيمم لا لعدم جوازه ، وإن كانت واقعة في التراب فعدم جواز التيمم مستند إلى وجود الماء الطاهر لا إلى نجاسة التراب ، وعليه فلا تجري أصالة الطهارة في التراب ، وتجري في الماء بلا معارض. وبجريانها يرتفع موضوع جواز التيمم وهو عدم التمكن من الماء الطاهر.

أمّا الصورة الثانية : فجريان أصالة الطهارة في الماء المترتب عليه جواز الوضوء به يعارض بجريانها في التراب المترتب عليه جواز السجدة عليه ، وبعد التساقط يكون العلم الاجمالي منجّزاً ، وحينئذ لا وجه لادراج المكلف في فاقد الطهورين بل يجب عليه الجمع بين الوضوء والتيمم تحصيلاً للطهارة اليقينية.

وما يتصوّر كونه مانعاً عنهما أمران : أحدهما : حرمة التوضي بالماء المتنجس لكونه تشريعاً ، وكذلك التيمم بالتراب المتنجس. ثانيهما : احتمال نجاسة بدنه بملاقاة الماء المحتمل كونه نجساً. أمّا الأوّل : فمدفوع بأنّ المكلف يحتاط ويأتي بهما رجاءً فلا تشريع هناك. وأمّا الثاني : فمدفوع بأنّ مجرد الاحتمال ممّا لا بأس

__________________

(١) في التنبيه السابق

٤٦٨

به بعد كونه مورداً لأصالة الطهارة. وسيجيء (١) أنّ الحكم في ملاقي الشبهة المحصورة هو الطهارة.

فتحصّل : أنّ المتعيّن هو الجمع بين الوضوء والتيمم تحصيلاً للطهارة اليقينية.

وبعبارة اخرى : هناك علمان إجماليان أحدهما العلم الاجمالي بنجاسة الماء أو التراب ، والثاني العلم الاجمالي بوجوب الوضوء أو التيمم. ومقتضى العلم الأوّل ليس حرمة الوضوء والتيمم ذاتاً ، بل عدم الاجتزاء بكل واحد منهما في مقام الامتثال. ومقتضى العلم الثاني هو الجمع بينهما تحصيلاً لليقين بالطهارة ، ولا منافاة بينهما. نعم ، يجب تقديم التيمم على الوضوء ، لأنّه مع تقديم الوضوء على التيمم يعلم تفصيلاً بفساد التيمم إمّا من جهة نجاسة التراب على تقدير كون الماء طاهراً ، وإمّا من جهة نجاسة محل التيمم على تقدير كون الماء نجساً ، بناءً على ما هو المعروف المشهور من اشتراط طهارة المحل في التيمم ، وإن لم نجد دليلاً عليه إلى الآن.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن للمعلوم بالاجمال أثر تكليفي ، كما في العلم الاجمالي بنجاسة الماء أو التراب ، فانّ المترتب على المعلوم بالاجمال هو الحكم الوضعي فقط ، وهو عدم صحّة الوضوء أو التيمم. وأمّا إذا كان المترتب على المعلوم بالاجمال حكماً تكليفياً أيضاً ، كما إذا علمنا إجمالاً بغصبية الماء أو التراب ، فانّ الأثر المترتب على هذا المعلوم بالاجمال ليس الوضع فقط وهو عدم صحّة الوضوء والتيمم ، بل له أثر تكليفي أيضاً وهو حرمة التصرّف والاستعمال ، فحينئذ يكون المقام من موارد دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّا نعلم بحرمة التصرّف في أحدهما

__________________

(١) في التنبيه اللاّحق

٤٦٩

وبوجوب استعمال أحدهما ، ولا يمكن تحصيل الموافقة القطعية إلاّمع المخالفة القطعية ، إذ في صورة الجمع بين الوضوء والتيمم نقطع بالموافقة من ناحية الوجوب ونقطع بالمخالفة من ناحية الحرمة. وفي صورة تركهما معاً نقطع بالموافقة من جهة الحرمة ، ونقطع بالمخالفة من جهة الوجوب ، فيسقط حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية لاقترانها بالمخالفة القطعية ، فلا مناص من الاجتزاء بالموافقة الاحتمالية والاكتفاء بأحدهما ، فانّه ليس فيه إلاّاحتمال المخالفة ولا بأس به بعد عدم إمكان الزائد منه. ولا ترجيح للوضوء على التيمم ، لأنّ الأصل الجاري في التراب ليس هنا متأخراً عن الأصل الجاري في الماء ، لعدم انحصار أثر غصبية التراب في عدم جواز التيمم به. بل يترتب عليها عدم جواز التصرّف فيه مطلقاً كما تقدّم. وليس المقام من باب التزاحم فانّه تابع لوجود الملاكين في الطرفين ، بخلاف المقام كما لا يخفى.

وممّا ذكرناه ظهر حكم صورة ثالثة ، وهي العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما أو غصبية الآخر ، كما إذا علمنا إجمالاً بنجاسة الماء أو غصبية التراب ، فيجري الكلام السابق من تساقط الاصول وتنجيز العلم الاجمالي ، ودوران الأمر بين المحذورين والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية ، إلاّ أنّه يجب الوضوء في الفرض المذكور ، ولا يجوز التيمم بحكم العقل ، إذ في الوضوء احتمال الموافقة مع عدم احتمال الحرمة وعدم احتمال العقاب أصلاً ، بخلاف التيمم ، فانّ فيه احتمال الموافقة مع احتمال الحرمة من جهة احتمال الغصبية ، فتعيّن الوضوء بحكم العقل. ولو انعكس الأمر انعكس الحكم ، أي لو علمنا إجمالاً بأنّ الماء غصب أو التراب نجس ، تعيّن عليه التيمم بحكم العقل لعين ما ذكرناه.

٤٧٠

التنبيه الثاني عشر

في حكم ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة. وقبل التكلم فيه لا بدّ من بيان أمرين :

الأوّل : أنّ الكلام إنّما هو فيما إذا كانت الملاقاة مختصّة ببعض الأطراف ، إذ لو فرضنا أنّ شيئاً واحداً لاقى جميع الأطراف فهو معلوم النجاسة تفصيلاً وخارج عن محل الكلام. وكذا لو فرضنا شيئين لاقى أحدهما طرفاً من العلم الاجمالي والآخر لاقى الطرف الآخر ، فلا إشكال في وجوب الاجتناب عن كلا الملاقيين ، كوجوب الاجتناب عن نفس الطرفين ، لتوليد علم إجمالي آخر بنجاسة أحد الملاقيين زائداً على العلم الاجمالي الأوّل المتعلق بنفس الطرفين ، فهذا الفرض أيضاً خارج عن محل الكلام.

الثاني : أنّ تنجيز العلم الاجمالي متوقف على تساقط الاصول كما تقدّم مراراً (١) ، والتساقط إنّما يكون مع العلم بالتكليف الفعلي ، سواء كان العلم متعلقاً بالتكليف الفعلي ابتداءً ، كما في الشبهات الحكمية كما إذا علم بوجوب صلاة الجمعة أو الظهر يوم الجمعة ، أو كان متعلقاً بالموضوع التام للحكم كما في الشبهات الموضوعية كما إذا علم بخمرية أحد المائعين مثلاً. وأمّا إذا لم يعلم إلاّ الموضوع الناقص أي جزء الموضوع ، فلا مانع من جريان الأصل والحكم بعدم تحقق الموضوع التام ، كما إذا علم بكون أحد الجسدين ميت إنسان ، والآخر جسد حيوان مذكى مأكول اللحم ، فانّ هذا العلم الاجمالي وإن كان يقتضي

__________________

(١) راجع على سبيل المثال ص ٤٠٤

٤٧١

وجوب الاجتناب عن أكل لحم كل من الجسدين ، إلاّ أنّه إذا مسّ شخص أحدهما لا يحكم عليه بوجوب الغسل ، لأنّ المعلوم بالاجمال وهو بدن ميّت الانسان جزء للموضوع للحكم بوجوب الغسل ، وتمامه مس بدن ميّت الانسان وهو مشكوك التحقق والأصل عدمه.

والوجه في ذلك : أنّ العلم الاجمالي إذا تعلّق بثبوت التكليف الفعلي فالشك في كل واحد من الأطراف إنّما يكون شكاً في انطباق المعلوم بالاجمال عليه ، ومعه لايمكن الرجوع إلى الأصل النافي في جميع الأطراف ، لاستلزامه الترخيص في المعصية ومخالفة التكليف الواصل ، ولا في بعضها لبطلان الترجيح بلا مرجّح على ما تقدّم بيانه مفصّلاً (١). وأمّا إن كان الشك في تمامية الموضوع ، كما في المثال الذي ذكرناه ، فمرجعه إلى الشك في أصل التكليف ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل فيه. وما ذكرناه من تساقط الاصول فيما إذا كان المعلوم بالاجمال تمام الموضوع ، وعدم المانع من الرجوع إلى الأصل فيما إذا كان المعلوم بالاجمال جزء الموضوع ، واضح لا إشكال فيه من حيث الكبرى.

إلاّ أنّه وقع الاشكال والخلاف في بعض الموارد من حيث الصغرى ، فقد يدّعى أنّه من موارد العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي ، للعلم بتمام الموضوع فيحكم بالتنجيز. وقد يقال : إنّه من موارد العلم بجزء الموضوع لا تمامه ، فيكون التكليف مشكوكاً فيه فيرجع إلى الأصل. ومن ذلك ما إذا علم إجمالاً بغصبية إحدى الشجرتين ثمّ حصلت لإحداهما ثمرة دون الاخرى ، فقد يقال فيه بجواز التصرّف في الثمرة تكليفاً وبعدم ضمانها وضعاً باعتبار أنّ الموجب لحرمة الثمرة كونها نماء المغصوب وهو مشكوك فيه والأصل عدمه ، كما أنّ

__________________

(١) في ص ٤٠٤ وما بعدها

٤٧٢

موضوع الضمان وضع اليد على مال الغير وهو أيضاً مشكوك فيه والأصل عدمه. فالعلم الاجمالي بغصبية إحدى الشجرتين لا يترتب عليه الحكم بحرمة التصرف ، ولا الضمان بالنسبة إلى الثمرة لإحداهما ، للشك في تحقق الموضوع والأصل عدمه. نعم ، يترتب عليه الحكم بحرمة التصرف في نفس الشجرتين وضمان المغصوب منهما بوضع اليد عليه.

وقد يقال : بتنجيز العلم الاجمالي المذكور كلا الحكمين التكليفي والوضعي بالنسبة إلى الثمرة أيضاً. واختاره المحقق النائيني قدس‌سره (١) بدعوى أنّ وضع اليد على العين المغصوبة موجب لضمانها وضمان منافعها إلى الأبد ، لأنّه بأخذ العين يتحقق أخذ المنافع ، أو أخذ العين مستتبع لأخذ المنافع ، ومن ثمّ جاز للمالك الرجوع إلى الغاصب الأوّل في المنافع المتجددة الحاصلة بعد خروج العين عن يده ودخولها تحت الأيادي المتأخرة ، فالعلم بغصبية إحدى الشجرتين كما يترتب عليه ضمان نفس العين المغصوبة كذلك يترتب عليه ضمان منافعها المتجدِّدة. هذا من حيث الحكم الوضعي ، وأمّا الحكم التكليفي أي حرمة التصرّف في الثمرة ، فهو وإن كان منتفياً بانتفاء موضوعه وهو الثمرة في الزمان الأوّل ، إلاّ أنّ ملاكه قد تمّ بغصب العين الموجب لضمانها وضمان منافعها الموجودة بالفعل والمتجددة بعد ذلك ، وهو كون اليد عاديةً بالنسبة إلى العين ومنافعها الموجودة وغير الموجودة ، فتترتب حرمة التصرف في الثمرة بعد وجودها لا محالة.

والتحقيق عدم تمامية ما ذكره من الوجه للحكم الوضعي ولا ما ذكره للحكم التكليفي. أمّا ما ذكره للحكم الوضعي ، فلأنّ الحكم بضمان منافع العين المغصوبة مسلّم من حيث الكبرى كما ذكره ، إلاّ أنّه لا يترتب الحكم على الكبرى الكلّية

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٤٠ و ٤٤١ ، فوائد الاصول ٤ : ٧٣

٤٧٣

إلاّ بعد إحراز الصغرى خارجاً ، وتحققها مشكوك فيه ، إذ لم يحرز كون الثمرة من منافع العين المغصوبة ، لاحتمال كونها من منافع العين المملوكة ، فيجري استصحاب عدم كونها من منافع العين المغصوبة ، ولا يعارض باستصحاب عدم كونها من منافع العين المملوكة ، لما ذكرناه سابقاً (١) من أنّه لا مانع من جريان الاستصحابين إذا لم يستلزم مخالفة عملية ، ولو نوقش في الاستصحاب المذكور لأجل المعارضة فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة من الضمان.

وأمّا الحكم التكليفي فتجري البراءة عنه أيضاً ، لعدم العلم بتحقق موضوعه وهو التصرّف في مال الغير ، لعدم إحراز كون الثمرة مال الغير. ولا تتحقق حرمة التصرّف إلاّبعد إحراز كون التصرف تصرفاً في مال الغير ، وهو مشكوك فيه فيرجع إلى الأصل.

وأمّا ما يظهر من كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) في موارد متعددة من عدم جريان البراءة في الأموال تمسكاً بقوله عليه‌السلام : «لا يحل مال إلاّ من حيث أحلّه الله» (٣) ، ففيه أوّلاً : أنّ الرواية مرسلة لا يصحّ الاعتماد عليها ، بل لم نجدها إلى الآن في الجوامع المعتبرة. وثانياً : أنّ الشك في الحرمة من أسباب الحلية شرعاً لأدلة البراءة ، فبالتعبد الشرعي يثبت كون النماء ممّا أحلّه الله تعالى. وثالثاً : أنّ منشأ الشك في الحرمة احتمال كون النماء ملك الغير ، والاستصحاب يقتضي عدمه بناءً على جريانه في الأعدام الأزلية ، كما هو

__________________

(١) في ص ٤٠٦ ، ٤١٠

(٢) فرائد الاصول ١ : ٤٠٩

(٣) الوسائل ٩ : ٥٣٨ / أبواب الأنفال ب ٣ ح ٢ (باختلاف يسير). ولا يخفى أنّ الرواية مرويّة في الجوامع المعتبرة كما يظهر بمراجعة هامش الوسائل

٤٧٤

الصحيح على ما ذكرناه في محلّه (١). وبهذا الاستصحاب يحرز كونه ممّا أحلّه الله تعالى ، ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم دخوله في ملكه ، إذ لا يثبت بذلك كونه ملكاً للغير الذي هو الموضوع لحرمة التصرّف إلاّعلى القول بالأصل المثبت ولا نقول به. وأمّا جواز التصرف فلا يتوقف على كونه ملكاً له ، بل يكفيه عدم كونه ملكاً للغير ، فلا يكون الأصل بالنسبة إلى جواز التصرّف مثبتاً.

هذا كلّه فيما إذا لم تكن الأطراف مسبوقةً بملكية الغير ، كما لو اصطاد رجلان صيدين ، فغصب أحدهما صيد الآخر واشتبها وحصل لأحدهما النماء ، وأمّا إن كانت الأطراف مسبوقةً بملكية الغير ، كما إذا اشترى إحدى الشجرتين وغصب الاخرى فاشتبها وحصل لإحداهما النماء ، فلا إشكال في الحكم بضمان المنافع وحرمة التصرّف فيها ، لاستصحاب بقاء الشجرة في ملك مالكها وعدم انتقالها إليه. ومقتضى هذا الاستصحاب الحكم بملكية المنافع لمالك الشجرة ، فيحرم التصرّف فيها ويضمنها.

وتوهّم أنّ استصحاب بقاء الشجرة ذات النماء على ملك مالكها معارض باستصحاب بقاء الشجرة الاخرى على ملك مالكها للعلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع ، فاجراء الأصل في الشجرة ذات النماء دون الاخرى ترجيح بلا مرجح مدفوع بأ نّه لا معارضة بينهما ، لما عرفت غير مرّة من أنّ العلم الاجمالي بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع لا يمنع من جريانهما ما لم يستلزم المخالفة العملية كما في المقام.

هذا كلّه في التصرّفات غير المتوقفة على الملك كالأكل والشرب واللبس

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٦٠

٤٧٥

ونحوها. وأمّا التصرفات المتوقفة عليه كالبيع ونحوه ، فلا ينبغي الشك في عدم جوازها ، لما ذكرناه من أنّ الاستصحاب المذكور لا يثبت كونه ملكاً له إلاّعلى القول بالأصل المثبت ، ولا نقول به.

ولا يخفى أنّ جميع ما ذكرناه في الثمرة من جواز التصرف فيها وعدمه وثبوت الضمان وعدمه يجري في حق غير الغاصب أيضاً ممّن وهب الغاصب له الثمرة أو اشتراها منه ، فليس ما ذكرناه من التفصيل مختصاً بالغاصب.

إذا عرفت ما ذكرناه من الأمرين فلنعد إلى حكم الملاقي لبعض أطراف الشبهة المحصورة ، فنقول : إنّ الكلام في الملاقي يتم في مسائل ثلاث : الاولى : ما إذا كانت الملاقاة والعلم بها بعد العلم الاجمالي. الثانية : عكس الاولى بأن كانت الملاقاة والعلم بها قبل العلم الاجمالي. الثالثة : ما إذا كان العلم الاجمالي بعد الملاقاة وقبل العلم بها.

أمّا المسألة الاولى : فملخص الكلام فيها : أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ على فرض تحقّقها ليست توسّعاً في نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ولا تكون بمنزلة تقسيم النجس الواحد إلى قسمين ، حتّى تكون نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ قسماً من نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ بل تكون نجاسة اخرى حاصلة من نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ حصول المعلول من العلّة ، ولذا لا تجري على الملاقي ـ بالكسر ـ أحكام الملاقى ـ بالفتح ـ فانّه لو ولغ الكلب في إناء فلا بدّ في تطهيره من التعفير ، ولكنّه لو لاقى شيء آخر هذا الاناء من الثوب أو الاناء أو غيرهما ، لا يجب في تطهيره التعفير ، وكذا يجب الغسل من البول مرّتين دون الملاقي له ، فلا يجب الغسل من الماء الملاقي للبول إلاّمرّة واحدة.

فتحصّل : أنّ نجاسة الملاقي ليست عين نجاسة الملاقى بل غيرها ، نظير الطهارة الحاصلة من الماء الطاهر مثلاً ، فانّه لو أصاب المطر ثوباً متنجساً فطهّره ،

٤٧٦

كانت طهارة الثوب غير طهارة المطر لا محالة حاصلة من طهارة المطر حصول المعلول من العلّة. وبالجملة : نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ على فرض تحققها نجاسة جديدة حادثة ، والمفروض وجود الشك في تحققها والأصل عدمه. فلا ينبغي الشك في عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ، لأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس موضوعه مركب من أمرين : النجس وملاقاته ، والعلم الاجمالي بنجاسة أحد المائعين ليس إلاّعلماً بما هو جزء الموضوع ، والجزء الآخر وهو الملاقاة مشكوك فيه ولايكون العلم منجّزاً له ، فيرجع عند الشك فيه إلى أصالة عدم ملاقاة النجس أو أصالة الطهارة.

وربّما يقال بوجوب الاجتناب عن الملاقي أيضاً ، ويستدل عليه بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ نجاسة الملاقي إنّما هي بنحو السراية الحقيقية من نجاسة الملاقى ، فنجاسة الملاقي متحدة مع نجاسة الملاقى ، غاية الأمر أنّها توسّعت بالملاقاة وثبتت لأمرين بعد ما كانت ثابتة لأمر واحد ، نظير ما لو قسّم ما في أحد الاناءين إلى قسمين وجعل كل قسم في إناء ، فكما يجب الاجتناب عن كليهما وعن الطرف الآخر تحصيلاً للموافقة القطعية ، كذلك يجب الاجتناب عن الملاقى والملاقي وعن الطرف الآخر تحصيلاً للموافقة القطعية. والدليل على كون تنجس الملاقي بنحو السراية الحقيقية من نجاسة الملاقى هو الخبر المروي عن الشيخ باسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن محمّد بن عيسى اليقطيني عن النضر بن سويد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام : «قال أتاه رجل فقال : وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال فقال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تأكله ، فقال له الرجل : الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي من أجلها ، فقال عليه‌السلام : إنّك لم تستخف

٤٧٧

بالفأرة ، وإنّما استخففت بدينك ، إنّ الله حرّم الميتة من كل شيء» (١).

وتقريب الاستدلال : أنّ السائل لم يرد بقوله : «الفأرة أهون عليّ» إلخ ، أكل الفأرة مع السمن أو الزيت ، بل أراد أكل السمن أو الزيت الملاقي لها ، فقول الإمام عليه‌السلام في مقام التعريض له «إنّ الله حرّم الميتة من كل شيء» يدل على أنّ نجاسة الملاقي للميتة هي عين نجاسة الميتة ، وحرمته عين حرمتها ، فأكل الملاقي للميتة ينافي الاجتناب عنها. وبعبارة اخرى : علّل الإمام عليه‌السلام حرمة الملاقي بحرمة الميتة ، فيدل على اتحادهما.

وفيه : ما تقدّم من أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ حاصلة من نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ حصول المعلول من العلّة ، لا أنّها عينها ، ولذا لا تجري عليها أحكامها على ما تقدّم بيانه.

وأمّا الاستدلال بالخبر ففيه أوّلاً : أنّ الخبر ضعيف بعمرو بن شمر ، فلا يصحّ التمسك به. وثانياً : أنّه لا دلالة للخبر على أنّ نجاسة الملاقي عين نجاسة الملاقى بنحو السراية الحقيقية ، كيف والخبر غير ناظر إلى هذه الجهة ، فانّ السائل استبعد كون الفأرة مع صغرها موجبة لنجاسة ما في الخابية من السمن والزيت ، على ما يظهر من كلامه «الفأرة أهون عليّ» فردّ عليه الإمام عليه‌السلام بأنّ الله حرّم الميتة من كل شيء ، أي لا فرق بين الكبير والصغير ، فغاية ما يستفاد من الخبر أنّ نجاسة الشيء الموجبة لحرمته مستلزمة لنجاسة ملاقيه وحرمته ، وليس في ذلك دلالة على أنّ نجاسة الملاقي ـ بالكسر ـ عين نجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ وحرمته هي عين حرمته.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٠٦ / أبواب الماء المضاف ب ٥ ح ٢

٤٧٨

الوجه الثاني : أنّه بعد العلم بالملاقاة يحدث علم اجمالي آخر بوجود نجس بين الملاقي والطرف الآخر ، وهذا العلم الاجمالي ممّا لا مجال لانكاره بعد فرض الملازمة بين نجاسة الشيء ونجاسة ملاقيه واقعاً ، ومن ثمّ لو فرض انعدام الملاقى ـ بالفتح ـ كان العلم بالنجاسة المرددة بين الملاقي والطرف الآخر موجوداً ، فهذا العلم الاجمالي الحادث بعد العلم بالملاقاة يقتضي الاجتناب عن الملاقي والطرف الآخر تحصيلاً للموافقة القطعية. نعم ، لو فرضت الملاقاة بعد انعدام الطرف الآخر ، لم يكن العلم الثاني مؤثراً في التنجيز ، لعدم كونه علماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير الموجب لتساقط الاصول في الأطراف.

وأجاب شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) عن هذا الوجه من الاستدلال : بأنّ العلم الثاني لا يمنع من جريان الأصل في الملاقي ، لأنّ جريان الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ إنّما هو في طول جريان الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ لكون الشك في الملاقي ناشئاً من الشك في الملاقى ، فيكون الأصل الجاري في الملاقى أصلاً جارياً في الشك السببي ، والأصل الجاري في الملاقي أصلاً جارياً في الشك المسببي. ومن الظاهر أنّ الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي ، فعلى تقدير جريان الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ لا تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ وبعد سقوط الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ لأجل المعارضة بينه وبين الأصل في الطرف الآخر ، تصل النوبة إلى جريان الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ فيجري فيه بلا معارض.

ويتوجّه الاشكال على هذا الجواب بالشبهة الحيدرية ، وتقريرها : أنّه كما أنّ جريان أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ في طول جريان أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ كذلك جريان أصالة الحل في الطرفين في طول جريان أصالة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٢٤

٤٧٩

الطهارة فيهما ، إذ لو اجريت أصالة الطهارة وحكم بالطهارة لا تصل النوبة إلى جريان أصالة الحل ، فتكون أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ وأصالة الحل في الطرف الآخر في مرتبة واحدة ، لكون كليهما مسببياً ، فانّا نعلم إجمالاً ـ بعد تساقط أصالة الطهارة في الطرفين ـ بأن هذا الملاقي ـ بالكسر ـ نجس أو أنّ الطرف الآخر حرام ، فيقع التعارض بين أصالة الطهارة في الملاقي وأصالة الحل في الطرف الآخر ويتساقطان ، فيجب الاجتناب عن الملاقي. نعم ، لا مانع من جريان أصالة الحل في الملاقي ـ بالكسر ـ بعد سقوط أصالة الطهارة فيه للمعارضة بأصالة الحل في الطرف الآخر ، لعدم معارض له في هذه المرتبة.

والصحيح في الجواب عن الاستدلال المذكور أن يقال : إنّ تنجيز العلم الاجمالي منوط ببطلان الترجيح بلا مرجّح ، فانّه بعد العلم الاجمالي لا يمكن جريان الأصل في جميع الأطراف ، للزوم المخالفة القطعية ، ولا في بعضها للزوم الترجيح بلا مرجح ، فتسقط الاصول ويتنجّز التكليف لا محالة. وعليه فلو لم يجر الأصل في بعض الأطراف في نفسه لجهة من الجهات ، فلا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر ، فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً ، ولنذكر لتوضيح المقام أمثلة :

منها : ما لو علمنا إجمالاً بوقوع النجاسة في أحد المائعين مثلاً ، وكان أحدهما المعيّن محكوماً بالنجاسة لأجل الاستصحاب مثلاً قبل العلم الاجمالي ، فلا تجري فيه أصالة الطهارة بنفسها كي تكون معارضةً بجريانها في الطرف الآخر ، فتجري أصالة الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض. وبعبارة اخرى : لا يكون العلم الاجمالي المذكور علماً بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، بل ليس إلاّاحتمال التكليف في الطرف الآخر ، فيجري الأصل النافي بلا معارض.

ومنها : ما لو كان مجرد الشك منجّزاً للتكليف في بعض الأطراف ، كما لو

٤٨٠