موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

الاتيان بصلاة العصر ، فانّ قاعدة الفراغ في صلاة المغرب وقاعدة الحيلولة في صلاة العصر تسقطان للمعارضة ، ويرجع إلى استصحاب عدم الاتيان بالركعة المشكوك فيها في صلاة المغرب ، فيحكم ببطلانها ووجوب إعادتها ، وإلى أصالة البراءة من وجوب قضاء صلاة العصر لما ثبت في محلّه (١) من أنّ الفوت الذي هو الموضوع لوجوب القضاء لا يثبت بأصالة عدم الاتيان.

وهذا التفصيل الذي ذكرناه من جواز الرجوع إلى الأصل الطولي في بعض الموارد ، وعدم جواز الرجوع إليه في بعض الموارد الاخر ، تترتب عليه ثمرات مهمّة في بحث الخلل وفي بحث فروع العلم الاجمالي فانتبه.

التنبيه الثاني

بعد ما عرفت أنّ تنجيز العلم الاجمالي وعدمه يدور مدار جريان الاصول في أطرافه وعدمه ، يظهر لك أنّه لا ملازمة بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، بل يمكن التفكيك بينهما فيما إذا جرى الأصل في بعض الأطراف دون بعضٍ لجهة من الجهات ، فلا تجب الموافقة القطعية وإن حرمت المخالفة القطعية. نعم ، فيما إذا لم يجر الأصل في شيء من الأطراف للمعارضة ، تجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية ، فإذا علم إجمالاً بحرمة أحد المائعين مثلاً ، كانت أصالة الاباحة في كل منهما معارضة بمثلها في الآخر ، فتجب الموافقة القطعية بالاجتناب عنهما ، كما تحرم المخالفة القطعية بارتكابهما معاً. وأمّا إذا علم بحرمة الجلوس في إحدى الغرفتين في زمان معيّن ، فيسقط الأصلان للمعارضة ، وتجب الموافقة القطعية بترك الجلوس فيهما وإن كانت المخالفة القطعية

__________________

(١) شرح العروة ١٦ : ٧٨

٤٢١

غير محرّمة لعدم التمكن منها ، وعليه فلا وجه لما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره (١) من عدم وجوب الموافقة القطعية فيما إذا لم تحرم المخالفة القطعية ، ورتّب على هذا جواز الاقتحام في أطراف الشبهة غير المحصورة ، من جهة عدم حرمة المخالفة القطعية ، لعدم التمكن منها.

وعلى الجملة : فالنسبة بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية هي العموم من وجه ، ويظهر الافتراق من الجانبين واجتماعهما فيما ذكرنا من الأمثلة.

التنبيه الثالث

إذا تردّد الواجب بين أمرين أو امور ، وأتى المكلف ببعض المحتملات فانكشف مصادفته للواقع ، فلا إشكال في سقوط الواجب فيما إذا كان توصلياً. وأمّا إذا كان الواجب تعبدياً ، فهل يسقط أو لا؟

اختار شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٢) عدم السقوط ، إلاّفيما إذا كان المكلف عازماً على الموافقة القطعية بالجمع بين المحتملات ، فلو لم يكن قاصداً إلاّ الاتيان ببعض المحتملات لا يحكم بالصحّة.

وما ذكره قدس‌سره مبني على اعتبار الجزم في نيّة العبادة ، وحيث إنّه لم يقم دليل على اعتباره ، كان المرجع هو البراءة ، لما ذكرناه في محلّه (٣) من أنّه إذا شكّ في اعتبار قصد القربة أو قصد الوجه أو التمييز أو الجزم في النيّة وغيرها

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٢ و ٤٧٣ ، فوائد الاصول ٤ : ١١٨ و ١١٩

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٤٥٥ و ٤٥٦

(٣) في ص ٨٧ ، راجع أيضاً محاضرات في اصول الفقه ١ : ٥٥٢ وما بعدها

٤٢٢

ممّا لم يقم على اعتباره دليل بالخصوص ، يرجع إلى البراءة. وعليه فلو أتى المكلف ببعض المحتملات برجاء إصابة الواقع ، فقد قصد القربة بفعله ، فإذا صادف الواقع كان صحيحاً ومسقطاً للأمر.

وظهر ممّا ذكرناه أنّه لو دار أمر الواجبين المترتبين كالظهر والعصر بين أفعال متعددة ، لم يعتبر في صحّة الثاني الفراغ اليقيني من الأوّل ، بل يكفي الاتيان ببعض محتملاته ، فإذا دار أمر القبلة بين الجهات الأربع ، جاز للمكلف أن يصلّي الظهر والعصر إلى جهة ، ثمّ يصلّيهما إلى جهة ثانية ، وهكذا. نعم ، لو صلّى الظهر إلى جهة لا يجوز له أن يصلّي العصر إلى جهة اخرى قبل أن يصلّي الظهر إليها ، والوجه فيه ظاهر ، فان صلاة العصر حينئذ تكون باطلة يقيناً إمّا لأجل الاخلال بالاستقبال أو الترتيب.

التنبيه الرابع

قد عرفت الاشارة (١) إلى أنّه لو كان الأصل النافي للتكليف جارياً في بعض الأطراف دون بعض آخر ، فلا مانع من جريانه ، فلا يكون العلم الاجمالي منجّزاً حينئذ ، كما إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محل الابتلاء أو مضطراً إليه ، فانّ الأصل لا يجري فيه ، إذ يعتبر في جريان الأصل ترتب الأثر العملي عليه ، ولا يترتب أثر على جريانه في الخارج عن محل الابتلاء أو المضطر إليه.

وكذلك الحال لو كان الأصل الجاري فى بعض الأطراف مثبتاً للتكليف ، فانّه يجري الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض ، كما إذا علمنا بوقوع

__________________

(١) في ص ٤١٦ وفي التنبيهين الأوّلين

٤٢٣

نجاسة في أحد الاناءين ، وكان أحدهما المعيّن متيقن النجاسة سابقاً إمّا وجداناً أو تعبداً لقيام أمارة أو أصل محرز ، فكان مجرى لاستصحاب النجاسة ، فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر بلا معارض. وكذا لو كان بعض الأطراف طرفاً لعلم إجمالي سابق قد تنجّز فيه التكليف بذلك العلم ، فيجري الأصل النافي في الطرف الآخر من العلم الاجمالي الثاني بلا معارض.

ثمّ إنّ هذا الذي ذكرناه لا إشكال فيه فيما إذا كان حدوث العلم الاجمالي متأخراً عن طروء هذه الامور وعن العلم بها ، أو كان مقارناً له ، وإنّما الكلام فيما إذا علم بطروء أحد هذه الامور بعد تحقق العلم الاجمالي ، فهل يوجب ذلك سقوطه عن التأثير في تنجّز التكليف ليجري الأصل النافي في بعض الأطراف أم لا؟ وبعبارة اخرى : إذا كان العلم الاجمالي حين حدوثه مقارناً لأحد الامور المتقدمة فلا يكون مؤثراً في التنجيز من أوّل الأمر. وأمّا إذا فرض تأثيره في زمان وحكم بتساقط الاصول في أطرافه ، ثمّ طرأ شيء من هذه الامور ، فهل يوجب ذلك سقوطه عن التأثير بقاءً أم لا؟ قولان : الأظهر هو السقوط (١) لأنّ العلم الاجمالي لا يزيد على العلم التفصيلي ولا

__________________

(١) والذي يخطر بالبال القاصر هو أنّ الأظهر عدم السقوط ، لأنّ الاصول في أطراف العلم الاجمالي الموجب للتنجز الساقط باقية بحالها على الفرض ، وسيصرّح سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) به في الصفحة ٤٢٦ ، وبعد بقاء العلم الاجمالي بحاله لو خرج بعض الأطراف عن محل الابتلاء مثلاً لا يكون الشك في الطرف الآخر شكّاً حادثاً ليرجع فيه إلى الأصل ، بل الشك فيه هو الشك الموجود أوّلاً وقد سقط الأصل فيه للمعارضة فكيف يعود بعد سقوطه. وظهر بما ذكرناه عدم انطباق ما استدلّ به (دام ظلّه) ـ من أنّ العلم الاجمالي ... إلى قوله : سقط عن التنجز ـ على المقام فانّ العلم الاجمالي باقٍ بحاله ولم يتبدّل على الفرض باعترافه (دام ظلّه) ، نعم الاستدلال المذكور إنّما يتمّ فيما إذا تبدّل العلم الاجمالي بما ذكر ، ولكنّه خلاف الفرض ، وقد تعرّض (دام ظلّه) للتبدّل في آخر الصفحة الآتية وسيأتي اعترافه بما ذكرنا في التنبيه الثامن الصفحة ٤٤٣

٤٢٤

على سائر الحجج والأمارات في تنجيز التكليف ، فكما أنّه لو تبدّل العلم التفصيلي بالشك الساري أو زالت البيّنة بقاءً لشبهة موضوعية ، كما لو شكّ في عدالة البيّنة القائمة على نجاسة شيء مثلاً ، أو لشبهة حكمية كما إذا شكّ في حجّية البيّنة في مورد اقيمت عليه ، سقط الحكم عن التنجيز في جميع هذه الموارد لعدم منجّز له بقاءً. نعم ، لو كان الشك في التكليف راجعاً إلى الامتثال بعد العلم بثبوته تفصيلاً أو بعد قيام الحجّة عليه ، كما إذا علم المكلف بوجوب صلاة الظهر مثلاً ثمّ شكّ فيه لاحتمال الاتيان بها والخروج عن عهدتها ، كان التنجيز باقياً بحاله ، فلا بدّ من الاتيان بها ليحصل الفراغ اليقيني ويؤمّن من احتمال العقاب.

فكذا الحال في العلم الاجمالي كما إذا علم إجمالاً بوجوب إحدى الصلاتين القصر أو التمام مثلاً فأتى بإحداهما ، فانّ العلم بالتكليف وإن كان زائلاً لا محالة ، إلاّ أنّ زواله راجع إلى مرحلة الامتثال ، لا إلى مرحلة الحدوث ، فالتنجيز باقٍ بحاله ، فلا بدّ من الاتيان بالاخرى ، ليحصل الفراغ اليقيني بعد العلم باشتغال الذمّة.

إن قلت : إذا أتى المكلف بإحدى الصلاتين المعلوم وجوب إحداهما إجمالاً ، فالعلم الاجمالي بحدوث التكليف وإن كان موجوداً فعلاً ، إلاّ أنّه لا يمنع من الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الصلاة التي لم يؤت بها ، فيرفع بذلك وجوبها ، فانّ وجوبه فعلاً مشكوك فيه ، والأصل الجاري فيها غير معارض بالأصل في الطرف الآخر ، لعدم ترتب أثر عليه بعد الاتيان بهذا الطرف ، وقد تقدّم (١) أنّ تنجيز العلم الاجمالي إنّما كان من جهة تعارض الاصول وتساقطها.

__________________

(١) في ص ٤٠٤

٤٢٥

قلت : الشك في وجوب الصلاة التي لم يؤت بها وإن كان موجوداً فعلاً ، إلاّ أنّه ليس شكاً حادثاً غير الشك الذي كان موجوداً أوّلاً ، وقد فرضنا عدم شمول دليل الأصل له للمعارضة ، فكيف يشمله بعد الاتيان بإحدى الصلاتين ، وكيف يعود الأصل الساقط بعد سقوطه.

إن قلت : لا مانع من ذلك بعد إطلاق الدليل لكل حال من الحالات ، وإنّما رفع اليد عنه قبل الاتيان بإحدى الصلاتين للمعارضة ، والضرورات تقدّر بقدرها ، فإذا ارتفعت المعارضة باتيان إحدى الصلاتين لا مانع من التمسك باطلاق دليل الأصل بالنسبة إلى الطرف الآخر. وبعبارة اخرى : الأمر في المقام دائر بين رفع اليد عن أصل الدليل ورفع اليد عن إطلاقه ، وبما أنّ الموجب لرفع اليد هو المحذور العقلي وهو لزوم الترخيص في المعصية ، فيقتصر فيه على مورده وهو صورة تعارض الأصلين. وأمّا إذا فرض عدم جريان الأصل في بعض الأطراف ولو بقاءً ، فلا مانع من جريان الأصل في الطرف الآخر.

قلت : نعم ، ليس الموجب لرفع اليد عن الدليل إلاّالمحذور العقلي ، ولكنّه كما يقتضي عدم شمول دليل الأصل للطرفين في زمان واحد ، كذلك يقتضي عدم شموله لهما في زمانين أيضاً. فإذا علم بحرمة أحد المائعين ، فكما لا يمكن الحكم بحليتهما معاً في زمان واحد ، كذلك لا يمكن أن يحكم بحلية أحدهما في زمان ، ويحكم بحلية الآخر في زمان آخر ، فانّه من الترخيص في المعصية ، فلا يمكن جريان الأصل في كليهما على كل نحو ، للزوم الترخيص في المعصية ، ولا في أحدهما لعدم الترجيح.

هذا كلّه فيما إذا كان العلم الاجمالي باقياً على حاله وكان الشك شكّاً في الانطباق. وأمّا إذا زال بتبدله بالعلم التفصيلي بحرمة أحد المائعين بخصوصه من أوّل الأمر ، فالشك في نجاسة الآخر ـ لو فرض ـ شك حادث لا مانع من شمول

٤٢٦

دليل الأصل له.

ولا فرق فيما ذكرناه بين زوال العلم الاجمالي بالوجدان كالمثال المتقدم وبين زواله بالتعبد ، كما إذا قامت الأمارة على حرمة أحد المائعين بخصوصه من أوّل الأمر ، أو كان ذلك مقتضى الأصل التنزيلي كالاستصحاب ، بل الأمر كذلك في الأصل غير التنزيلي أيضاً ، كما إذا علمنا بنجاسة أحد الاناءين الأبيض أو الأحمر ، ثمّ علمنا بعد ذلك بنجاسة الأبيض ، أو إناء آخر من أوّل الأمر ، بأن يكون المنكشف سابقاً ولو كان الكشف متأخراً ، فالعلم الاجمالي الأوّل ينحل بالعلم الاجمالي الثاني ، إذ بعد العلم الثاني لا يبقى لنا علم بحدوث نجاسة بين الأبيض والأحمر ، فيحتمل أن يكون الأبيض هو النجس من أوّل الأمر ، وقد فرضنا العلم بنجاسته أو بنجاسة الآخر ، فلا يبقى إلاّالشك في حدوث نجاسة جديدة في الاناء الأحمر ، غير ما هو المتيقن بين الأبيض والاناء الآخر ، فيكون المرجع في الاناء الأحمر أصالة الطهارة بلا معارض.

التنبيه الخامس

لو كان الأثر في بعض أطراف العلم الاجمالي أكثر من البعض الآخر ، فقد يكون بينهما قدر مشترك ، وقد لا يكون.

أمّا القسم الثاني : فلا إشكال في تنجيز العلم الاجمالي فيه ، فيجب ترتيب الآثار المتباينة بأجمعها ، كما إذا علم بوجوب قراءة سورة يس أو سورة التوحيد في ليلة الجمعة مثلاً بنذر ونحوه ، فانّ سورة يس وإن كانت أكثر من سورة التوحيد ، إلاّ أنّه لمّا لم يكن بينهما قدر مشترك ليكون هو المتيقن ، كان العلم الاجمالي منجّزاً بالنسبة إلى السورتين.

٤٢٧

وأمّا القسم الأوّل : وهو ما كان بين الأطراف أثر مشترك مع اختصاص أحد الأطراف بأثر خاص ، كما إذا علم إجمالاً بوقوع نجاسة في الاناء الذي فيه ماء مطلق ، أو في الاناء الآخر الذي فيه مائع مضاف ، فانّ أثر النجاسة في كلا الطرفين هو حرمة الشرب ، وهذا هو الأثر المشترك فيه ، لكن الماء المطلق يختص بأثر آخر وهو عدم جواز التوضي به على تقدير وقوع النجاسة فيه ، فلو كانت النجاسة واقعةً في المائع المضاف لا يترتب عليه إلاّحرمة شربه. وأمّا لو كانت واقعة في المطلق ترتب عليه حرمة الشرب وعدم جواز التوضي به ، ففي تنجيز هذا العلم الاجمالي من حيث جميع الآثار أو من حيث الأثر المشترك فيه فقط ، وجهان.

ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى الثاني (١) ، بدعوى أنّ الأصل في كل طرف يتعارض بمثله في الطرف الآخر بالنسبة إلى الأثر المشترك فيه ، فيسقط في كل من الطرفين فيكون العلم الاجمالي منجّزاً بالنسبة إليه. وأمّا بالنسبة إلى الأثر المختص ببعض الأطراف ، فيجري فيه الأصل بلا معارض ، ففي المثال المتقدم لا يجوز شرب المائع المضاف ولا شرب الماء المطلق ، ولكن لا مانع من التوضي به.

والتحقيق أنّ العلم الاجمالي منجّز بالنسبة إلى جميع الآثار ، وذلك لأنّ جواز التوضي به متفرّع على جريان قاعدة الطهارة فيه ، فإذا فرض عدم جريانها للمعارضة ، فلا طريق للحكم بطهارته كي يجوز التوضي به ، فانّ نفس احتمال نجاسة الماء مانع عن التوضي به لو لم يكن ما يوجب الحكم بطهارته ظاهراً.

هذا كلّه في فرض تعدد الموضوع وتحقق العلم الاجمالي بثبوت حكم واحد

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٢٩ ، فوائد الاصول ٤ : ٥٠

٤٢٨

لموضوع واحد ، أو ثبوت حكمين لموضوع آخر ، كما في المثال المتقدِّم. وأمّا لو كان الموضوع واحداً ، وكان الترديد في السبب الذي تعلّق به العلم الاجمالي ، كما لو علم إجمالاً بأ نّه استدان من عمرو عشرة دراهم ، أو أنّه أتلف من ماله ما يساوي عشرين درهماً ، ففي مثل ذلك يكون القدر المشترك معلوم التحقق ، والزائد مشكوك الحدوث ، فيرجع فيه إلى الأصل ، إذ الترديد في السبب لا ينافي انحلال الحكم المسبب إلى المتيقن والمشكوك فيه ، فانّ الموجب للتنجز إنّما هو العلم بنفس التكليف لا بسببه.

ولا يخفى أنّ ما ذكرناه في الفرض الأخير إنّما هو فيما إذا لم يكن فيه أصل موضوعي حاكم على أصالة البراءة ونحوها ، فلو دار الأمر بين كون نجاسة الثوب مستندةً إلى ملاقاة الدم أو البول ، لايمكن الرجوع إلى أصالة عدم وجوب غسله ثانياً ، باعتبار أنّ وجوب الغسل الأوّل معلوم ، والغسل الثاني مشكوك الوجوب ، فيرجع إلى البراءة ، وذلك لأنّ استصحاب النجاسة قبل الغسلة الثانية حاكم على أصالة البراءة كما هو ظاهر.

التنبيه السادس

هل العلم الاجمالي منجّز للواقع إذا تعلّق بالامور التدريجية ، مثل ما إذا تعلّق بالامور الدفعية أم لا؟ قولان.

ولا بدّ لنا قبل الشروع في تحقيق الحال في المقام من التنبيه على أمر ، وهو أنّ محل الكلام في هذا البحث هو ما إذا لم تكن أطراف العلم الاجمالي مورداً للاحتياط في نفسها مع قطع النظر عن العلم الاجمالي ، فانّه لو كانت كذلك كما إذا علم إجمالاً بأ نّه يبتلى في هذا اليوم بمعاملة ربويّة من جهة الشبهة الحكمية ،

٤٢٩

فلا إشكال في وجوب الاحتياط ، سواء قلنا بتنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات أم لم نقل به ، والوجه فيه : أنّ كل معاملة يحتمل فيها الرِّبا مع قطع النظر عن العلم الاجمالي مورد للاحتياط لكون الشبهة حكمية ، ولا يجوز فيها الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ، هذا من جهة الحكم التكليفي. وأمّا من جهة الحكم الوضعي ، فيحكم بالفساد في كل معاملة تقع في الخارج ، لأصالة عدم النقل والانتقال.

وتوهم جواز الرجوع إلى العمومات الدالة على صحّة كل معاملة ، كقوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) مدفوع بأنّ العمومات مخصّصة بالمعاملة الربوية ، فالشك في الصحّة والفساد إنّما هو من جهة الشك في الانطباق ، لا من جهة الشك في التخصيص ، وفي مثله لايمكن التمسك بالعموم كما هو ظاهر. هذا مضافاً إلى أنّ التمسك بالعموم أيضاً مشروط بالفحص ، كما أنّ الأمر كذلك في الرجوع إلى البراءة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ تدريجية أطراف العلم الاجمالي على أقسام :

القسم الأوّل : أن تكون مستندةً إلى اختيار المكلف مع تمكنه من الجمع بينها ، كما إذا علم بغصبية أحد الثوبين ، وكان متمكناً من لبسهما معاً ولكنّه اقترح لبس أحدهما في زمان ولبس الآخر في زمان متأخر. ولا إشكال في خروج هذا القسم عن محل الكلام ، فانّ العلم بالتكليف الفعلي مع تمكن المكلف من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية يوجب التنجز على ما تقدّم بيانه.

القسم الثاني : أن تكون التدريجية مستندةً إلى عدم تمكن المكلف من الجمع بين الأطراف مع تمكنه من ارتكاب كل منها بالفعل مع ترك الآخر ، كما إذا علم

__________________

(١) المائدة ٥ : ١

٤٣٠

بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة ، فانّه وإن لم يتمكن من الجمع بينهما في زمان واحد ، إلاّ أنّه متمكن من الاتيان بأ يّهما شاء ، ونظيره العلم بحرمة أحد ضدّين لهما ثالث. ولا ينبغي الاشكال في تنجيز العلم الاجمالي في هذا القسم أيضاً ، للعلم بالتكليف الفعلي ، وسقوط الاصول في الأطراف للمعارضة.

القسم الثالث : أن تكون التدريجية مستندةً إلى تقيد أحد الأطراف بزمان أو بزماني متأخر. والتكليف المعلوم في هذا القسم تارةً يكون فعلياً على كل تقدير ، واخرى لا يكون فعلياً إلاّعلى تقدير دون تقدير.

الأوّل : كما إذا علم بتعلّق النذر بقراءة سورة خاصّة في هذا اليوم أو في الغد ، فانّه بناءً على كون الوجوب بالنذر فعلياً من باب الواجب التعليقي ، نعلم بتكليف فعلي متعلِّق بالقراءة في اليوم أو بالقراءة في الغد ، فالتدريجية في المتعلق وأمّا الوجوب فهو حاصل بالفعل ، وفي مثل ذلك لا مناص من القول بتنجيز العلم الاجمالي ، لما عرفت من أنّ الميزان في التنجيز هو العلم بالتكليف الفعلي ، وهو متحقق على الفرض.

الثاني : وهو ما لا يكون العلم فيه متعلقاً بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، كما إذا علم بوجوب مردّد بين كونه فعلياً الآن وكونه فعلياً فيما بعد ، كما إذا تردد الواجب بين كونه مطلقاً أو مشروطاً بشرط يحصل فيما بعد ، ففي مثل ذلك ذهب صاحب الكفاية (١) إلى جواز الرجوع إلى الأصل في كل من الطرفين. واختار المحقق النائيني قدس‌سره (٢) عدم جواز الرجوع إلى الأصل في شيء

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥٩ و ٣٦٠

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٦٦ ـ ٤٦٨ ، فوائد الاصول ٤ : ١١٠ ـ ١١٢

٤٣١

من الطرفين. وفصّل شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) بين ما إذا كان الملاك في الأمر المتأخر تاماً من الآن ، وما إذا لم يكن كذلك.

وتحقيق الحال بحيث تتّضح كيفية الاستدلال لجميع الأقوال يستدعي ذكر مقدّمة ، وهي أنّ تأخّر التكليف قد يكون مستنداً إلى عدم إمكانه فعلاً مع تمامية المقتضي له ، كما إذا تعلّق النذر بأمر متأخر بناءً على استحالة الواجب التعليقي ، فانّ الفعل المنذور يتّصف فعلاً بالاشتمال على الملاك الملزم بتعلّق النذر به ، إلاّأنّ الأمر بالوفاء مشروط بمجيء زمانه بناءً على استحالة الأمر الفعلي بالشيء المتأخر ، وقد يكون مستنداً إلى عدم تمامية المقتضي لعدم تحقق ما له دخل في تماميته ، وهذا كأكثر الشرائط التي تتوقف عليها فعلية التكليف ، كما إذا علمت المرأة بأ نّها تحيض ثلاثة أيام مرددة بين جميع أيام الشهر ، فلا علم لها بالتكليف الفعلي ولا بملاكه التام ، لعدم العلم بالحيض فعلاً المترتب عليه التكليف وملاكه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ من نظر إلى أنّ تنجيز العلم الاجمالي متوقف على كونه متعلقاً بالتكليف الفعلي ، اختار عدم تنجيزه في المقام وجواز الرجوع إلى الاصول في جميع الأطراف ، إذ المفروض تردد التكليف فيه بين أن يكون فعلياً وأن يكون مشروطاً بشرط غير حاصل ، فلا علم بالتكليف الفعلي ، فلا مانع من الرجوع إلى الأصل بالنسبة إلى الطرف المبتلى به فعلاً ، كما لا مانع منه بالنسبة إلى الطرف الآخر في ظرف الابتلاء به.

ونظر شيخنا الأنصاري قدس‌سره إلى أنّ العلم بالملاك التام الفعلي بمنزلة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٢٦ و ٤٢٧

٤٣٢

العلم بالتكليف ، فالتزم بعدم تنجيز العلم الاجمالي عند عدم العلم بالملاك التام فعلاً ، وبتنجيزه فيما إذا علم الملاك التام فعلاً ، لأنّ الترخيص في تفويت الملاك الملزم فعلاً بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الفعلي ، إذ عدم فعلية التكليف إنّما هو لوجود المانع مع تمامية المقتضي ، وهو لا يرفع قبح الترخيص في تفويت الملاك الملزم. ومن هنا التزم شيخنا الأنصاري قدس‌سره بتنجيز العلم الاجمالي في مسألة العلم بالنذر المردد تعلّقه بأمر حالي أو استقبالي ، وبعدم تنجيزه في مسألة علم المرأة بالحيض المردد بين أيام الشهر ، فتمسك باستصحاب عدم تحقق الحيض إلى الآن الأوّل من ثلاثة أيام في آخر الشهر ، وبالبراءة بعده ، والوجه في رجوعه من الاستصحاب إلى البراءة هو أنّ المرأة بعد تحقق الآن الأوّل من ثلاثة أيام في آخر الشهر يحصل لها العلم بتحقق حيض وطهر قبل ذلك الآن ، وبما أنّ تاريخ كل منهما مجهول ، فالاستصحاب غير جارٍ للمعارضة على مسلكه (١) ، ولعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) ، فلا مجال لجريان الاستصحاب على كل حال فيرجع إلى البراءة.

والتحقيق هو ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس‌سره من تنجيز العلم الاجمالي وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في شيء من الطرفين. أمّا فيما تمّ فيه الملاك فعلاً فقد عرفت وجهه. وأمّا فيما لم يتم فلما تقدّم في بحث مقدّمة الواجب من استقلال العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته ، كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي (٣). ولا فرق في قبح التفويت بحكم العقل بين كونه مستنداً إلى العبد كما تقدّم ، وبين كونه مستنداً

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٦٦٧

(٢) كفاية الاصول : ٤٢٠

(٣) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٨٢ و ١٨٧

٤٣٣

إلى المولى بترخيصه في ارتكاب الطرف المبتلى به فعلاً ، وترخيصه في ارتكاب الطرف الآخر في ظرف الابتلاء ، فانّه ترخيص في تفويت الملاك التام الملزم ، وهو بمنزلة الترخيص في مخالفة التكليف الواصل وعصيانه في حكم العقل.

التنبيه السابع

في تحقيق ما ذكروه من عدم تنجيز العلم الاجمالي فيما إذا كانت الأطراف غير محصورة. وتوضيح الحال في المقام يستدعي التكلم في مقامين : الأوّل : في تحديد الموضوع وبيان المراد من الشبهة غير المحصورة. الثاني : في بيان حكمها.

أمّا الكلام في المقام الأوّل : فهو أنّه ذكر لتعريفها وجوه كثيرة ، ونكتفي بذكر ما هو العمدة منها :

الوجه الأوّل : أنّ غير المحصورة ما يعسر عدّه.

وفيه أوّلاً : أنّ عسر العدّ لا انضباط له في نفسه من جهة اختلاف الأشخاص واختلاف زمان العد ، فالألف يعسر عدّه في ساعة مثلاً ، ولا يعسر في يوم أو أكثر ، فكيف يمكن أن يكون عسر العدّ ميزاناً للشبهة غير المحصورة.

وثانياً : أنّ تردد شاة واحدة مغصوبة بين شياه البلد التي لا تزيد على الألف مثلاً من الشبهة غير المحصورة عندهم ، وتردد حبّة واحدة مغصوبة بين ألف ألف حبّة مجتمعة في إناء لا تعدّ من غير المحصورة عندهم ، مع أنّ عدّ الحبّات أعسر بمراتب من عدّ الشياه ، فيستكشف بذلك أنّ عسر العد لا يكون ضابطاً للشبهة غير المحصورة.

الوجه الثاني : ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) من أنّ الشبهة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٣٣ و ٤٣٨

٤٣٤

غير المحصورة ما كان احتمال التكليف في كل واحد من الأطراف موهوماً لكثرة الأطراف.

وفيه أوّلاً : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره (١) من أنّه إحالة إلى أمر مجهول ، فانّ الوهم له مراتب كثيرة ، فأيّ مرتبة منه يكون ميزاناً لكون الشبهة غير محصورة.

وثانياً : أنّ موهومية احتمال التكليف لايمنع من التنجيز ، ولذا يتنجز التكليف المردد بين طرفين ، ولو كان احتماله في أحدهما ظنّياً وفي الآخر موهوماً ، والسر في ذلك ما تقدّم (٢) من أنّ مجرد احتمال التكليف بأيّ مرتبة كان يساوق احتمال العقاب ، وهو الملاك في تنجز التكليف ما لم يحصل المؤمّن.

الوجه الثالث : أنّ الشبهة غير المحصورة ما يعسر موافقتها القطعية.

وفيه أوّلاً : أنّ العسر بنفسه مانع عن تنجز التكليف وفعليته ، سواء كانت أطراف الشبهة قليلة أو كثيرة ، فلايكون ذلك ضابطاً لكون الشبهة غير محصورة.

وثانياً : أنّ العسر إنّما يوجب ارتفاع التكليف بمقدار يرتفع به العسر لا مطلقاً ، فالعسر لا يمنع عن تنجيز العلم الاجمالي على الاطلاق ، كما هو المدّعى للقائل بعدم التنجيز في الشبهة غير المحصورة.

الوجه الرابع : أنّ الميزان في كون الشبهة غير محصورة هو الصدق العرفي ، فما صدق عليه عرفاً أنّه غير محصور يترتب عليه حكمه ، ويختلف ذلك باختلاف الموارد.

وفيه أوّلاً : أنّ هذه الكلمة لم ترد في موضوع دليل شرعي ليرجع في فهم

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٢

(٢) في ص ٤٠٣

٤٣٥

معناها إلى العرف ، وإنّما هي من الاصطلاحات المستحدثة.

وثانياً : أنّ العرف لا ضابطة عندهم لتمييز المحصور عن غيره ، والسر فيه أنّ عدم الحصر ليس من المعاني المتأصلة ، وإنّما هو أمر إضافي يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ونحوهما.

الوجه الخامس : ما اختاره المحقق النائيني قدس‌سره من أنّ الميزان في كون الشبهة غير محصورة عدم تمكن المكلف عادةً من المخالفة القطعية بارتكاب جميع الأطراف ، ولو فرض قدرته على ارتكاب كل واحد منها (١). ومن هنا تختص الشبهة غير المحصورة بالشبهات التحريمية ، إذ في الشبهات الوجوبية يتمكن المكلف من المخالفة القطعية بترك جميع الأطراف وإن بلغت من الكثرة ما بلغت ، فالعلم بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية يكون منجّزاً ، إلاّ أنّه لا يتمكن من الموافقة القطعية بالاتيان بجميع الأطراف ، فيجري حكم الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف (٢) على ما سيجيء الكلام فيه قريباً (٣) إن شاء الله تعالى. والاضطرار مانع آخر عن التنجيز غير كون الشبهة غير محصورة.

وفيه أوّلاً : أنّ عدم التمكن من ارتكاب جميع الأطراف لا يلازم كون الشبهة غير محصورة ، فقد يتحقق ذلك مع قلّة الأطراف وكون الشبهة محصورة ، كما إذا علمنا إجمالاً بحرمة الجلوس في إحدى غرفتين في وقت معيّن ، فانّ المكلف لايتمكّن من المخالفة القطعية بالجلوس فيهما في ذلك الوقت. وكذا الحال لو تردد الحرام بين الضدّين في وقت معيّن.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٧١ و ٤٧٢ ، فوائد الاصول ٤ : ١١٧

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٤ و ٤٧٥ ، فوائد الاصول ٤ : ١١٩

(٣) في ص ٤٤٣

٤٣٦

وثانياً : أنّ عدم القدرة على المخالفة القطعية غير منضبط في نفسه ، فانّه يختلف باختلاف المعلوم بالاجمال وباختلاف الأشخاص وباختلاف قلّة الزمان وكثرته وغير ذلك من الخصوصيات ، فليس له ضابط فكيف يكون ميزاناً لكون الشبهة غير محصورة.

وثالثاً : أنّ عدم التمكن من المخالفة القطعية إن اريد به عدم التمكن منها دفعةً ، فكثير من الشبهات المحصورة كذلك ، وإن اريد به عدم التمكن منها ولو تدريجاً فقلّما تكون شبهة غير محصورة ، إذ كثير من الشبهات التي تعدّ غير محصورة عندهم يتمكن المكلف من ارتكاب جميع أطرافها في ضمن سنة أو أكثر أو أقل.

فتحصّل : أنّه لم يظهر لنا معنىً محصّل مضبوط للشبهة غير المحصورة حتّى نتكلّم في حكمها.

والذي ينبغي أن يقال : إنّ العلم الاجمالي بالتكليف قد يتمكن المكلف معه من الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، وقد يتمكن من إحداهما دون الاخرى ، وقد لا يتمكن من شيء منهما. أمّا الفرض الأخير فلا إشكال في عدم تنجيز العلم الاجمالي فيه على ما تقدّم بيانه في بحث دوران الأمر بين المحذورين (١) وأمّا الفرض الأوّل فلا إشكال في تنجيزه على ما تقدّم (٢) بيانه أيضاً. وأمّا الفرض المتوسط فله صورتان :

الصورة الاولى : ما تمكن فيه المكلف من المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية ، وقد عرفت أنّ العلم الاجمالي موجب للتنجيز بالمقدار الممكن ، فتحرم المخالفة القطعية وإن لم تجب الموافقة القطعية ، وسيأتي (٣) الكلام فيه مفصّلاً عند

__________________

(١) في ص ٣٨٥ ـ ٣٨٦

(٢) في ص ٣٨٩ ـ ٣٩٠

(٣) في ص ٤٤٣

٤٣٧

البحث عن حكم الاضطرار إلى بعض الأطراف.

الصورة الثانية : ما تمكن فيه المكلف من الموافقة القطعية دون المخالفة القطعية ، فاختار المحقق النائيني قدس‌سره (١) فيه عدم تنجيز العلم الاجمالي بدعوى أنّ وجوب الموافقة القطعية متفرّع على حرمة المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم الثانية لم تجب الاولى. ولكنّك قد عرفت سابقاً (٢) أنّه لا ملازمة بينهما ، وأنّ الميزان في تنجيز العلم الاجمالي هو سقوط الاصول في أطرافه ، فعلى تقدير تمكن المكلف من الموافقة القطعية وجبت عليه ، لأنّ احتمال التكليف موجب لتنجيز الواقع لو لم يكن مؤمّناً من العقاب المحتمل على مخالفته ، فعجز المكلف عن المخالفة القطعية المستلزم لعدم حرمتها عليه لا يوجب عدم وجوب الموافقة القطعية المفروض قدرة المكلف عليها ، وعدم المؤمّن من احتمال العقاب على المخالفة. نعم ، لو كان عدم حرمة المخالفة القطعية مستنداً إلى قصور في ناحية التكليف لا إلى عجز المكلف عنها ، استلزم ذلك عدم وجوب الموافقة القطعية كما هو ظاهر ، ولكنّه خارج عن الفرض ، إذ الكلام في عدم حرمة المخالفة القطعية المستندة إلى عجز المكلف وعدم تمكنه منها.

فاتّضح ممّا ذكرناه أنّه لا فرق [في] تنجيز العلم الاجمالي بين كثرة الأطراف وقلّتها. نعم ، ربّما تكون كثرة الأطراف ملازمة لطروء بعض العناوين المانعة عن تنجيز العلم الاجمالي ، كالعسر والحرج والخروج عن محل الابتلاء ونحو ذلك ، إلاّأنّ العبرة بتلك العناوين لا بكثرة الأطراف ، فلو طرأ بعضها لمنع عن

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٣ ، فوائد الاصول ٤ : ١١٩

(٢) في ص ٤٢١

٤٣٨

التنجيز ولو مع قلّة الأطراف.

أمّا الكلام في المقام الثاني : وهو بيان حكم الشبهة غير المحصورة ، فهو أنّه قد استدلّ على عدم وجوب الاجتناب في الشبهة غير المحصورة بوجوه :

الأوّل : ما ذكره شيخنا الأنصاري (١) من عدم اعتناء العقلاء باحتمال التكليف إذا كان موهوماً. وقد ظهر الجواب عن ذلك ممّا تقدّم (٢).

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره (٣) من أنّ وجوب الموافقة القطعية متفرع على حرمة المخالفة القطعية ، فإذا لم تحرم الثانية لم تجب الاولى.

وقد ظهر الجواب عنه أيضاً بما تقدّم (٤).

الثالث : دعوى الاجماع على عدم وجوب ذلك. وفيه أوّلاً : أنّ هذه المسألة من المسائل المستحدثة التي لم يتعرّض لها القدماء ، فكيف يمكن فيها دعوى الاجماع. وثانياً : أنّه على فرض تحقق الاتفاق لا يكون إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه‌السلام إذا علم استناد العلماء على أحد الامور المذكورة.

الرابع : دعوى أنّ لزوم الاجتناب في الشبهة غير المحصورة مستلزم للحرج وهو منفي في الشريعة المقدّسة. وفيه : ما تقدّم (٥) من أنّ دليل نفي العسر والحرج إنّما يتكفل نفي الحكم عمّا يكون مصداقاً للعسر والحرج فعلاً ، بمعنى أنّ المعتبر في نفي الحكم هو الحرج الشخصي ، كما هو الحال في الضرر ، وهو يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان وغير ذلك من الخصوصيات. فلا دليل على نفي الحكم

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٣٣

(٢) في ص ٤٣٤

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٤٧٣ ، فوائد الاصول ٤ : ١١٩

(٤) في ص ٤٣٨

(٥) في ص ٤٣٥

٤٣٩

بالنسبة إلى شخصٍ لا حرج عليه ، وسيجيء (١) تفصيل الكلام في ذلك عند التعرّض لقاعدة نفي الضرر إن شاء الله تعالى.

وتوهّم عدم شمول أدلة نفي الحرج لمثل المقام ممّا كان العسر في تحصيل الموافقة القطعية لا في متعلق التكليف نفسه ، بدعوى أنّها ناظرة إلى أدلة الأحكام الأوّلية الثابتة بجعل الشارع ، ومخصّصة لها بما إذا لم يكن متعلقها حرجياً ، وليست ناظرة إلى الأحكام الثابتة بحكم العقل ، والمفروض فيما نحن فيه عدم الحرج في الاتيان بمتعلق التكليف الشرعي وإنّما الحرج في تحصيل الموافقة القطعية الواجبة بحكم العقل ، فالأدلة المذكورة لا تدل على نفي وجوبها.

مدفوع بأنّ أدلة نفي الحرج وإن كانت ناظرةً إلى الأحكام الشرعية لا الأحكام العقلية ، إلاّ أنّها ناظرة إلى مقام الامتثال ، بمعنى أنّ كل حكم كان امتثاله حرجاً على المكلف فهو منفي في الشريعة ، فانّ جعل الحكم وإنشاءه إنّما هو فعل المولى ، ولا يكون حرجاً على المكلف أبداً ، وحينئذ فإن كان إحراز امتثال التكليف المعلوم بالاجمال حرجاً على المكلف ، كان التكليف المذكور منفياً في الشريعة بمقتضى أدلة نفي الحرج ، فلا يبقى موضوع لحكم العقل بوجوب الموافقة القطعية.

الخامس : رواية الجبن (٢) المدّعى ظهورها في عدم تنجيز العلم الاجمالي عند كون الشبهة غير محصورة. وفيه أوّلاً : أنّ الرواية ضعيفة من حيث السند ،

__________________

(١) في ص ٦٢٠

(٢) وهي رواية أحمد بن أبي عبدالله البرقي عن أبيه عن محمّد بن سنان عن أبي الجارود قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت له : أخبرني من رأى أنّه يجعل فيه الميتة؟ فقال عليه‌السلام : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم في جميع الأرضين ...» الوسائل ٢٥ : ١١٩ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ٥

٤٤٠