موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

دوران الأمر بين محذورين

وقبل ذكر الأقوال في المقام وبيان الصحيح والسقيم منها لا بدّ من التنبيه على أمر ، وهو أنّه يعتبر في محل النزاع أمران :

أحدهما : دوران الفعل بين الوجوب والحرمة فقط ، وعدم احتمال اتصافه بغيرهما من الأحكام غير الالزامية ، فانّه مع احتمال ذلك يرجع إلى البراءة ، لكونه شكاً في التكليف الالزامي ، بل هو أولى بجريان البراءة من الشبهة التحريمية المحضة أو الوجوبية المحضة ، لعدم جريان أدلة الاحتياط فيه لعدم إمكانه.

ثانيهما : أن لا يكون أحد الحكمين بخصوصه مورداً للاستصحاب ، إذ عليه يجب العمل بالاستصحاب وينحل العلم الاجمالي لا محالة.

إذا عرفت محل النزاع فنقول : إنّ تحقيق الحال في دوران الأمر بين المحذورين يقتضي التكلم في مقامات ثلاثة :

المقام الأوّل : دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة.

المقام الثاني : دوران الأمر بين المحذورين في التعبديات ، بمعنى أن يكون أحد الحكمين أو كلاهما تعبدياً مع وحدة الواقعة. وإن شئت فعبّر عن المقام الأوّل بدوران الأمر بين المحذورين مع عدم إمكان المخالفة القطعية ، وعن المقام الثاني

٣٨١

بدوران الأمر بين المحذورين مع إمكانها على ما سيتّضح قريباً (١) إن شاء الله تعالى.

المقام الثالث : دوران الأمر بين المحذورين مع تعدد الواقعة ، بلا فرق بين التعبديات والتوصليات في ذلك.

أمّا المقام الأوّل : وهو دوران الأمر بين المحذورين في التوصليات مع وحدة الواقعة ، فالأقوال فيه خمسة : الأوّل : تقديم احتمال الحرمة ، لكون دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. الثاني : الحكم بالتخيير بينهما شرعاً. الثالث : هو الحكم بالاباحة شرعاً والتخيير بينهما عقلاً ، واختاره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢). الرابع : هو الحكم بالتخيير بينهما عقلاً من دون الالتزام بحكم ظاهري شرعاً ، واختاره المحقق النائيني قدس‌سره (٣). الخامس : جريان البراءة شرعاً وعقلاً.

وهذا هو الصحيح ، لعموم أدلة البراءة الشرعية وعدم ثبوت ما يمنع عن شمولها ، ولحكم العقل بقبح العقاب على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به الموجب لصدق عدم البيان. ويتّضح هذا وضوحاً ببيان ما في سائر الأقوال فنقول :

أمّا القول الأوّل : ففيه أوّلاً : منع أولوية دفع المفسدة من جلب المنفعة على نحو الاطلاق ، ضرورة أنّه ربّ واجب يكون أهم من الحرام في صورة المزاحمة.

وثانياً : أنّه على تقدير التسليم ، فانّما يتم فيما إذا كانت المفسدة والمصلحة معلومتين. وأمّا لو كان الموجود مجرد احتمال المفسدة ، فلا نسلّم أولوية رعايته

__________________

(١) في ص ٣٨٩

(٢) كفاية الاصول : ٣٥٥

(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣٩٧ ، فوائد الاصول ٣ : ٤٤٤ ـ ٤٤٥

٣٨٢

من رعاية احتمال المصلحة ، كيف وقد عرفت عدم لزوم رعاية احتمال المفسدة مع القطع بعدم وجود المصلحة ، كما إذا دار الأمر بين الحرمة وغير الواجب ، فلا وجه للزوم مراعاة احتمال المفسدة مع احتمال المصلحة أيضاً.

وأمّا القول الثاني : وهو الحكم بالتخيير شرعاً ، ففيه : أنّه إن اريد به التخيير في المسألة الاصولية أعني الأخذ بأحد الحكمين في مقام الافتاء ، نظير الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين ، فلا دليل عليه. وقياس المقام على الخبرين المتعارضين مع الفارق ، لوجود النص هناك (١) دون المقام ، فالافتاء بأحدهما بخصوصه تشريع محرّم. وإن اريد به التخيير في المسألة الفرعية أعني الأخذ بأحدهما في مقام العمل ، بأن يكون الواجب على المكلف أحد الأمرين تخييراً من الفعل أو الترك ، فهو أمر غير معقول ، لأنّ أحد المتناقضين حاصل لا محالة ، ولا يعقل تعلّق الطلب بما هو حاصل تكويناً ، ولذا ذكرنا في محلّه (٢) أنّه لا يعقل التخيير بين ضدّين لا ثالث لهما ، لأنّ أحدهما حاصل بالضرورة ، ولا يعقل تعلّق الطلب به.

وأمّا القول الثالث : وهو القول بالاباحة الشرعية ، ففيه أوّلاً : أنّ أدلّة الاباحة الشرعية مختصّة بالشبهات الموضوعية كما عرفت سابقاً (٣) ، فلا تجري فيما إذا دار الأمر بين المحذورين في الشبهات الحكمية ، فالدليل أخص من المدعى.

وثانياً : أنّ أدلة الحل لا تشمل المقام أصلاً ، لأنّ المأخوذ في الحكم بالاباحة

__________________

(١) يأتي التعرّض لنصوص التخيير والجواب عنها في الجزء الثالث من هذا الكتاب ، ص ٥٠٧ ـ ٥١١

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٩

(٣) في ص ٣١٥ وما بعدها

٣٨٣

الظاهرية شرعاً هو الشك فيها ، والمفروض في المقام هو العلم بثبوت الالزام في الواقع إجمالاً ، وعدم كون الفعل مباحاً يقيناً ، فكيف يمكن الحكم بالاباحة ظاهراً.

وأمّا القول الرابع : وهو الحكم بالتخيير عقلاً من دون أن يكون المورد محكوماً بحكم ظاهري شرعاً فقد استدلّ له بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ الحكم الظاهري لا بدّ له من أثر شرعي ، وإلاّ لكان جعله لغواً ، ولا فائدة في جعل حكم ظاهري في المقام ، لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك تكويناً.

وفيه : أنّ الملحوظ في الحكم الظاهري هو كل واحد من الوجوب والحرمة مستقلاًّ باعتبار أنّ كل واحد منهما مشكوك فيه مع قطع النظر عن الآخر ، فيكون مفاد رفع الوجوب ظاهراً هو الترخيص في الترك ، ومفاد رفع الحرمة ظاهراً هو الترخيص في الفعل ، فكيف يكون جعل الحكم الظاهري لغواً. مع أنّه لو كان عدم خلوّ المكلف من الفعل أو الترك موجباً للغوية الحكم الظاهري ، لكان جعل الاباحة الظاهرية في غير المقام أيضاً لغواً ، وهو ظاهر الفساد.

الوجه الثاني : أنّ رفع الالزام ظاهراً إنّما يكون في مورد قابل للوضع بايجاب الاحتياط ، والمفروض عدم إمكانه في المقام ، فإذا لم يمكن جعل الالزام لا يمكن رفعه أيضاً ، فالمورد غير قابل للتعبد الشرعي بالوضع أو الرفع.

وفيه : أنّ المورد قابل للتعبد بالنسبة إلى كل من الحكمين بخصوصه ، فانّ القدرة على الوضع إنّما تلاحظ بالنسبة إلى كل من الوجوب والحرمة مستقلاًّ لا إليهما معاً ، وحيث إنّ جعل الاحتياط بالنسبة إلى كل منهما بخصوصه أمر ممكن ، فلا محالة كان الرفع أيضاً بهذا اللحاظ ممكناً ، وتوضيح ذلك : أنّ القدرة على كل واحد من الأفعال المتضادة كافية في القدرة على ترك الجميع ، ولا يعتبر

٣٨٤

فيها القدرة على فعل الجميع في عرض واحد ، ألا ترى أنّ الانسان مع عدم قدرته على إيجاد الأفعال المتضادة في آن واحد يقدر على ترك جميعها ، وليس ذلك إلاّمن جهة قدرته على فعل كل واحد منها بخصوصه ، ففي المقام وإن لم يكن الشارع متمكناً من وضع الالزام بالفعل والترك معاً ، ولكنّه متمكن من وضع الالزام بكل منهما بخصوصه ، وذلك يكفي في قدرته على رفعهما معاً ، وحينئذ فلمّا كان كل واحد من الوجوب والحرمة مجهولاً ، كان مشمولاً لأدلة البراءة ، وتكون النتيجة هو الترخيص في كل من الفعل والترك.

وممّا ذكرناه يظهر أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب أيضاً في المقام لو كان لكل من الحكمين حالة سابقة ، إذ لا فرق في ذلك بين الاصول التنزيلية وغيرها ، كما لا فرق بين أن تكون الشبهة حكمية أو موضوعية ، فلو علم المكلف مثلاً بوقوع الحلف على سفر معيّن أو على تركه ، فلا مانع من الرجوع إلى استصحاب عدم الحلف على فعله ، واستصحاب عدم الحلف على تركه ، وكذا لو علمنا بوجوب عملٍ أو حرمته في الشريعة المقدّسة ، كان استصحاب عدم جعل كل منهما جارياً ، بناءً على ما ذكرناه في محلّه من جريان استصحاب عدم الجعل (١).

ثمّ إنّه قد يستشكل في الرجوع إلى الاصول العملية في المقام بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ الرجوع إليها مخالف للعلم الاجمالي بكون أحد الأصلين على خلاف الواقع.

والجواب : أنّ هذه مخالفة التزامية لا بأس بها. وأمّا المخالفة العملية القطعية فهي مستحيلة كالموافقة القطعية ، ولذا يعبّر عن المقام بدوران الأمر بين محذورين.

الوجه الثاني : أنّ الرجوع إلى الاصول النافية إنّما يصحّ عند الشك في أصل

__________________

(١) تقدّم في مبحث البراءة في ص ٣٣٤ ويأتي في الجزء الثالث في ص ٥٤

٣٨٥

التكليف ، وحيث إنّا نعلم في المقام بجنس الالزام ، فالشك إنّما هو في المكلف به لا في التكليف ، فكيف يمكن الرجوع إلى الأصل النافي.

والجواب : أنّ العلم بالالزام إنّما يمنع من جريان الاصول فيما إذا كان التكليف المعلوم إجمالاً قابلاً للباعثية ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، وأمّا إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته بعينه ، فالعلم بوجود الالزام في حكم العدم ، إذ الموافقة القطعية كالمخالفة القطعية مستحيلة ، والموافقة الاحتمالية كالمخالفة الاحتمالية حاصلة لا محالة ، فلا أثر للعلم الاجمالي بالالزام أصلاً ، فصحّ أن نقول : إنّ مورد دوران الأمر بين محذورين من قبيل الشك في التكليف لا الشك في المكلف به.

وظهر بما ذكرناه ضعف ما في الكفاية من منع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأنّ العلم الاجمالي بيان (١) ، وذلك لأنّ العلم الاجمالي غير القابل للباعثية لا يعدّ بياناً ، فالبراءة العقلية كالبراءة الشرعية جارية في المقام ، فلا تصل النوبة إلى التخيير العقلي.

ثمّ إنّه لا منافاة بين ما ذكرناه ـ من جريان البراءة الشرعية والعقلية ، بل الاستصحاب في المقام ـ وبين ما قدّمناه من المنع عن جريان أصالة الاباحة فيه ، لأنّ أصالة الاباحة أصل واحد لا مجال لجريانها مع العلم بعدم الاباحة في الواقع تفصيلاً ، لما ذكرناه في محلّه من أنّه يعتبر في جريان الأصل عدم العلم بمخالفته للواقع. وهذا بخلاف أصل البراءة والاستصحاب ، فانّه يجري في كل من الوجوب والحرمة مستقلاًّ على ما تقدّم بيانه ، ولا علم بمخالفة كل من الأصلين للواقع ، غاية الأمر أنّه يحصل العلم الاجمالي بمخالفة أحدهما للواقع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥٦

٣٨٦

مع الشك في مخالفة كل منهما في نفسه ، وليس في ذلك إلاّالمخالفة الالتزامية ، وقد عرفت أنّه لا محذور فيها.

ثمّ إنّه بناءً على ما اخترناه من جريان الاصول النافية في موارد دوران الأمر بين محذورين لا فرق بين أن يكون أحد الحكمين محتمل الأهمّية وعدمه ، لأنّ كلاً من الحكمين المجهولين مورد لأصالة البراءة ومأمون من العقاب على مخالفته ، سواء كان أحدهما على تقدير ثبوته في الواقع أهم من الآخر أم لم يكن.

وأمّا بناءً على كون الحكم فيه هو التخيير العقلي ، فالمقام يندرج في كبرى دوران الأمر بين التعيين والتخيير. وهل الحكم فيه هو التعيين أو التخيير؟ وجهان بل قولان.

ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى التعيين ، بدعوى أنّ العقل يحكم بتعيين محتمل الأهمّية ، كما هو الحال في جميع موارد التزاحم عند احتمال أهمّية أحد المتزاحمين بخصوصه. واختار المحقق النائيني قدس‌سره (٢) الحكم بالتخيير على خلاف ما اختاره في باب التزاحم. وهذا هو الصحيح ، وذلك لأنّ المزاحمة بين الحكمين في باب التزاحم إنّما تنشأ من شمول إطلاق كل من الخطابين لحال الاتيان بمتعلق الآخر ، فإذا لم يمكن الجمع بينهما لعدم القدرة عليه فلا مناص من سقوط أحد الاطلاقين ، فإن كان أحدهما أهم من الآخر كان الساقط غيره ، وإلاّ سقط الاطلاقان معاً ، لبطلان الترجيح بلا مرجح.

هذا فيما إذا علم كون أحدهما المعيّن أهم ، أو علم تساويهما. وأمّا إذا احتمل أهمّية أحدهما المعيّن ، فسقوط الاطلاق في غيره معلوم على كل تقدير ، إنّما الشك

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٥٦ ـ ٣٥٧

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٠١ / التنبيه الأوّل ، فوائد الاصول ٣ : ٤٥٠ ـ ٤٥١

٣٨٧

في سقوط إطلاق ما هو محتمل الأهمّية ، ومن الظاهر أنّه مع الشك في سقوط إطلاقه يتعيّن الأخذ به ، فتكون النتيجة لزوم الأخذ بمحتمل الأهمّية وترك غيره.

هذا فيما إذا كان لكل من دليلي الحكمين إطلاق. وأمّا إذا لم يكن لشيء منهما إطلاق ، وكان كل من الحكمين ثابتاً باجماع ونحوه ، فالوجه في تقديم محتمل الأهمّية هو أنّ كلاً من الحكمين يكشف عن اشتمال متعلقه على الملاك الملزم ، وعجز المكلف عن استيفائهما معاً يقتضي جواز تفويت أحدهما ، فعند احتمال أهمّية أحد الحكمين بخصوصه يقطع بجواز استيفاء ملاكه وتفويت ملاك الآخر على كل تقدير. وأمّا تفويت ملاك ما هو محتمل الأهمّية ـ ولو باستيفاء ملاك الآخر ـ فلم يثبت جوازه ، فلا مناص حينئذ من الأخذ بمحتمل الأهمّية.

وهذا الوجه للزوم الأخذ بالتعيين غير جارٍ في المقام ، إذ المفروض أنّ الحكم المجعول واحد مردّد بين الوجوب والحرمة ، فليس في البين إطلاقان ولا ملاكان.

ونسبة العلم الاجمالي إلى كل من الحكمين على حد سواء ، فالحكم العقلي بالتخيير ـ بمعنى اللاّ حرجية الناشئ من استحالة الجمع بين النقيضين ـ باقٍ على حاله.

وإن شئت قلت : إنّ الأهمّية المحتملة في المقام تقديرية ، إذ لم يعلم ثبوت أحد الحكمين بخصوصه. وإنّما المعلوم ثبوت الالزام في الجملة ، غاية الأمر أنّه لو كان الالزام في ضمن أحدهما المعيّن احتمل أهمّيته ، وهذا بخلاف باب التزاحم المعلوم فيه ثبوت كل من الحكمين ، وإنّما كان عدم وجوب امتثالهما معاً للعجز وعدم قدرة المكلف على الجمع بينهما.

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّه بناءً على عدم جريان الاصول النافية وكون الحكم هو التخيير العقلي لا يندرج المقام في كبرى التزاحم ، ولا وجه لتقديم محتمل الأهمّية على غيره.

٣٨٨

المقام الثاني : فيما إذا كان أحد الحكمين أو كلاهما تعبدياً مع وحدة الواقعة ، كما إذا دار الأمر بين وجوب الصلاة على المرأة وحرمتها عليها ، لاحتمالها الطهر والحيض مع عدم إحراز أحدهما ولو بالاستصحاب ، بناءً على حرمة الصلاة على الحائض ذاتاً ، بمعنى أن يكون نفس العمل حراماً عليها ولو مع عدم قصد القربة وانتسابه إلى المولى ، ففي مثل ذلك يمكن المخالفة القطعية باتيان العمل بغير قصد القربة ، فانّه على تقدير كونها حائضاً فأتت بالمحرّم ، وعلى تقدير عدم كونها حائضاً فقد تركت الواجب ، ولأجل ذلك كان العلم الاجمالي منجّزاً وإن لم تجب الموافقة القطعية لتعذّرها.

توضيح ذلك : أنّ العلم الاجمالي على أربعة أقسام :

القسم الأوّل : ما يمكن فيه الموافقة القطعية والمخالفة القطعية ، وهو الغالب ، كما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، فانّه يمكن الموافقة القطعية بالجمع بين الاتيان بالأوّل وترك الثاني ، ويمكن أيضاً المخالفة القطعية بترك الأوّل والاتيان بالثاني.

القسم الثاني : ما لا يمكن فيه الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ، كموارد دوران الأمر بين المحذورين فيما لم يكن شيء من الحكمين المحتملين تعبدياً ، وقد تقدّم حكمه في المقام الأوّل.

القسم الثالث : ما يمكن فيه المخالفة القطعية دون الموافقة القطعية ، كالمثال المتقدِّم في حقّ المرأة المرددة بين الطهر والحيض ، وكما لو علم إجمالاً بوجوب أحد الضدّين اللذين لهما ثالث في زمان واحد ، فانّه يمكن المخالفة القطعية بتركهما معاً ، ولا يمكن الموافقة القطعية لعدم إمكان الجمع بين الضدّين في آنٍ واحد.

القسم الرابع : عكس الثالث بأن يمكن فيه الموافقة القطعية دون المخالفة

٣٨٩

القطعية ، كما لو علم إجمالاً بحرمة أحد الضدّين اللذين لهما ثالث في وقت واحد ، فانّه يمكن الموافقة القطعية بتركهما معاً ، ولا يمكن المخالفة القطعية لاستحالة الجمع بين الضدّين. وكذا الحال في جميع موارد الشبهات غير المحصورة في الشبهات التحريمية ، فانّه يمكن فيها الموافقة القطعية بترك جميع الأطراف ، ولا يمكن فيها المخالفة القطعية لعدم إمكان ارتكاب جميع الأطراف.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا أثر للعلم الاجمالي في القسم الثاني ، فتجري الاصول النافية في أطرافه على ما تقدّم بيانه في المقام الأوّل. وأمّا غيره من الأقسام الثلاثة فالاصول في أطراف العلم الاجمالي في مواردها متعارضة متساقطة على ما سيجيء الكلام فيه قريباً (١) إن شاء الله تعالى. ويترتب على ذلك تنجيز العلم الاجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية أو من إحدى الجهتين دون الاخرى. وبعبارة اخرى : إذا تساقطت الاصول في أطراف العلم الاجمالي ، فالحكم المعلوم بالاجمال يتنجز بالمقدار الممكن ، فإن أمكن المخالفة القطعية والموافقة القطعية فالتنجيز ثابت من الجهتين ، وإلاّ فمن إحداهما ، وحيث إنّ المخالفة القطعية فيما هو محل الكلام فعلاً ممكنة ، كان العلم الاجمالي منجّزاً بالنسبة إليها ، فحرمت عليها المخالفة القطعية بأن تأتي بالصلاة بدون قصد القربة. وحيث إنّ الموافقة القطعية غير ممكنة ، فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بين الاتيان بالصلاة برجاء المطلوبية وبين تركها رأساً.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره (٢) قد تعرّض في المقام لدوران الأمر بين المحذورين في العبادات الضمنية ، كما إذا دار الأمر بين شرطية شيء لواجب ومانعيته عنه ، فاختار التخيير هنا أيضاً على حذو ما تقدّم ، فيتخير المكلف

__________________

(١) في ص ٤٠٤ وما بعدها ، راجع أيضاً ص ٤٢١

(٢) راجع فرائد الاصول ٢ : ٥٠٢ و ٥٠٣

٣٩٠

بين الاتيان بما يحتمل كونه شرطاً وكونه مانعاً وبين تركه.

والتحقيق عدم تمامية ذلك ، لأنّ الحكم بالتخيير في باب التكاليف الاستقلالية إنّما كان من جهة عدم تنجز الالزام المردّد بين الوجوب والحرمة لاستحالة الموافقة القطعية. وهذا بخلاف الالزام المعلوم إجمالاً في المقام ، فانّه يمكن موافقته القطعية كما يمكن مخالفته القطعية ، فيكون منجّزاً ويجب فيه الاحتياط ولو بتكرار العمل.

وتوضيح المقام : أنّ احتمال كون شيء مانعاً أو شرطاً يتصوّر بصورتين :

الصورة الاولى : ما يتمكن فيه المكلف من الامتثال التفصيلي ولو برفع اليد عمّا هو مشتغل به فعلاً ، كما لو شكّ بعد النهوض للقيام في الاتيان بالسجدة الثانية ، فانّه بناءً على تحقق الدخول في الغير بالنهوض كان الاتيان بالسجدة زيادةً في الصلاة وموجباً لبطلانها ، وبناءً على عدم تحققه به كان الاتيان بها واجباً ومعتبراً في صحّتها ، فانّه إذا رفع يده عن هذه الصلاة وأتى بصلاة اخرى حصل له العلم التفصيلي بالامتثال.

الصورة الثانية : ما يتمكن فيه المكلف من الامتثال الاجمالي إمّا بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل ، كما إذا دار أمر القراءة بين وجوب الجهر بها أو الاخفات ، فانّه إذا كرّر القراءة بالجهر مرّةً وبالاخفات اخرى مع قصد القربة فقد علم بالامتثال إجمالاً. وكذا لو كرّر الصلاة كذلك.

أمّا الصورة الاولى : فلا ريب في وجوب إحراز الامتثال ، ولا يجوز له الاكتفاء بأحد الاحتمالين ، لعدم إحراز الامتثال بذلك ، والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني ، فعليه رفع اليد عن هذه الصلاة وإعادتها ، أو إتمامها على أحد الاحتمالين ثمّ إعادتها. وعلى كل تقدير لا وجه للحكم بالتخيير وجواز الاكتفاء بأحد الاحتمالين في مقام الامتثال.

٣٩١

هذا بناءً على عدم حرمة إبطال صلاة الفريضة مطلقاً أو في خصوص المقام من جهة أنّ دليل الحرمة قاصر عن الشمول له ، فانّ عمدة مدركه الاجماع ، والقدر المتيقن منه هو الحكم بحرمة قطع الصلاة التي يجوز للمكلف الاقتصار عليها في مقام الامتثال. وأمّا الصلاة المحكوم بوجوب إعادتها فلا دليل على حرمة قطعها ، وتمام الكلام في محلّه (١).

وأمّا لو بنينا على حرمة قطع الفريضة حتّى في مثل المقام ، لكان الحكم بالتخيير في محلّه ، إلاّ أنّه لا لأجل دوران الأمر بين الجزئية والشرطية ، بل من جهة دوران الأمر بين حرمة الفعل وتركه ، فهو مخيّر بين الفعل والترك وعليه الاعادة على كلا التقديرين. وإن شئت قلت : إنّ لنا في المقام علمين إجماليين :

أحدهما : العلم الاجمالي بثبوت إلزام متعلق بطبيعي العمل المردّد بين ما يؤتى فيه بالجزء المشكوك فيه وما يكون فاقداً له. ثانيهما : العلم الاجمالي بحرمة الجزء المشكوك فيه ووجوبه ، لدوران الأمر فيه بين الجزئية الموجبة لوجوبه والمانعية المقتضية لحرمته ، لكونه مبطلاً للعمل. والعلم الثاني وإن كان لا يترتب عليه أثر ، لعدم التمكّن من الموافقة القطعية ، ولا من المخالفة القطعية فيحكم بالتخيير بين الاتيان بالجزء المشكوك فيه وتركه ، إلاّأنّ العلم الاجمالي الأوّل يقتضي إعادة الصلاة تحصيلاً للفراغ اليقيني.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما يتمكّن المكلف فيه من الامتثال الاجمالي بتكرار الجزء أو بتكرار أصل العمل ، فلا وجه فيها لجواز الاقتصار على الامتثال الاحتمالي ، فيجب عليه إحراز الامتثال ولو إجمالاً. وبالجملة : الحكم بالتخيير إنّما هو مع عدم التمكن من الامتثال العلمي ، ومع التمكّن منه فالاقتصار على الامتثال الاحتمالي يحتاج إلى دليل خاص ، ومع عدمه ـ كما هو المفروض في

__________________

(١) شرح العروة ١٥ : ٥٢٣ فصل في حكم قطع الصلاة

٣٩٢

المقام ـ يحكم العقل بلزوم الامتثال العلمي ، باعتبار أنّ شغل الذمّة اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.

هذا فيما إذا أمكن التكرار. وأمّا إذا لم يمكن كما إذا دار الأمر بين القصر والتمام عند ضيق الوقت ، فالتخيير بين الأمرين في الوقت وإن كان ممّا لا مناص منه ، إلاّ أنّه قد يتوهّم عدم سقوط العلم الاجمالي عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الاتيان بالمحتمل الآخر في خارج الوقت ، فلا يجوز الاقتصار باتيان أحد المحتملين في الوقت ، بل يجب عليه الاحتياط والاتيان بالمحتمل الآخر في خارج الوقت.

ولكنّ التحقيق عدم وجوب الاتيان بالقضاء في خارج الوقت ، إذ القضاء بفرض جديد وتابع لصدق فوت الفريضة في الوقت ، ولم يحرز الفوت في المقام ، لأنّ إحرازه يتوقف على إحراز فعلية التكليف الواقعي في الوقت بالعلم الوجداني أو الأمارة أو الأصل ، وكل ذلك غير موجود في المقام ، فانّ غاية ما في المقام هو العلم الاجمالي بأحد الأمرين من الجزئية أو المانعية ، وهو لا يكون منجّزاً إلاّ بالنسبة إلى وجوب الموافقة الاحتمالية ووجوب الأخذ بأحد المحتملين في الوقت ، دون المحتمل الآخر ، لعدم إمكان الموافقة القطعية ، فإذا لم يحرز التكليف بالنسبة إلى المحتمل الآخر في الوقت لم يحرز الفوت كي يجب القضاء.

المقام الثالث : في دوران الأمر بين المحذورين مع تعدد الواقعة. والتعدّد تارةً يكون عرضياً واخرى يكون طولياً.

أمّا القسم الأوّل : فهو كما لو علم إجمالاً بصدور حلفين تعلّق أحدهما بفعل أمر ، والآخر بترك أمر آخر ، واشتبه الأمران في الخارج ، فيدور الأمر في كل منهما بين الوجوب والحرمة ، فقد يقال بالتخيير بين الفعل والترك في كل منهما ، بدعوى أنّ كلاً منهما من موارد دوران الأمر بين المحذورين ، مع استحالة

٣٩٣

الموافقة القطعية والمخالفة القطعية في كل منهما ، فيحكم بالتخيير ، فجاز الاتيان بكلا الأمرين كما جاز تركهما معاً.

ولكنّه خلاف التحقيق ، لأنّ العلم الاجمالي بالالزام المردد بين الوجوب والحرمة في كل من الأمرين وإن لم يكن له أثر ، لاستحالة الموافقة القطعية والمخالفة القطعية في كل منهما كما ذكر ، إلاّ أنّه يتولد في المقام علمان إجماليان آخران : أحدهما : العلم الاجمالي بوجوب أحد الفعلين. والثاني : العلم الاجمالي بحرمة أحدهما ، والعلم الاجمالي بالوجوب يقتضي الاتيان بهما تحصيلاً للموافقة القطعية ، كما أنّ العلم الاجمالي

بالحرمة يقتضي تركهما معاً كذلك ، وحيث إنّ الجمع بين الفعلين والتركين معاً مستحيل ، يسقط العلمان عن التنجيز بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، ولكن يمكن مخالفتهما القطعية بايجاد الفعلين أو بتركهما ، فلا مانع من تنجيز كل منهما بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، فانّها المقدار الممكن على ما تقدّم بيانه (١). وعليه فاللازم هو اختيار أحد الفعلين وترك الآخر تحصيلاً للموافقة الاحتمالية وحذراً من المخالفة القطعية.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما كان التعدد فيه طولياً ، كما إذا علم بتعلّق الحلف بايجاد فعل في زمان وبتركه في زمان ثان واشتبه الزمانان ، ففي كل زمان يدور الأمر بين الوجوب والحرمة ، فقد يقال فيه أيضاً بالتخيير بين الفعل والترك في كل من الزمانين ، إذ كل واقعة مستقلّة دار الأمر فيها بين الوجوب والحرمة ، ولا يمكن فيها الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ، ولا وجه لضم الوقائع بعضها إلى بعض ، بل لا بدّ من ملاحظة كل منها مستقلاًّ ، وهو لا يقتضي إلاّ التخيير ، فللمكلف اختيار الفعل في كل من الزمانين ، واختيار الترك في كل منهما ، واختيار الفعل في أحدهما والترك في الآخر.

__________________

(١) في المقام الثاني في ص ٣٨٩

٣٩٤

ولكن التحقيق أن يقال : إنّه إن قلنا بتنجيز العلم الاجمالي في الامور التدريجية كغيرها ، فلا يفرق بين القسمين المذكورين ، لاتحاد الملاك فيهما حينئذ ، وعليه فالعلم الاجمالي منجّز بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، فاللازم اختيار الفعل في أحد الزمانين واختيار الترك في الآخر حذراً من المخالفة القطعية وتحصيلاً للموافقة الاحتمالية. وإن قلنا بعدم تنجيز العلم الاجمالي في التدريجيات ، فيحكم بالتخيير بين الفعل والترك في كل زمان ، إذ لم يبق سوى العلم الاجمالي بالالزام المردد بين الوجوب والحرمة في كل من الزمانين ، وقد عرفت أنّ مثل هذا العلم لا يوجب التنجيز ، لعدم إمكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ، فيتخيّر المكلف بين الفعل والترك في كل من الزمانين.

ثمّ إنّه إذا دار الأمر بين المحذورين مع تعدد الواقعة واحتمل أهمّية أحد الحكمين ، فهل يتقدّم ما احتمل أهميّته ، فتجب موافقته القطعية وإن استلزم المخالفة القطعية للتكليف الآخر أم لا؟ وجهان.

والصحيح هو الثاني ، لأنّ الحكمين المردد كل منهما بين الوجوب والحرمة وإن لم يكونا من قبيل المتعارضين ، إذ لا تنافي بينهما في مقام الجعل بعد فرض أنّ متعلق كل منهما غير متعلق الآخر ، إلاّ أنّهما ليسا من قبيل المتزاحمين أيضاً ، إذ التزاحم بين التكليفين إنّما هو فيما إذا كان المكلف عاجزاً من امتثال كليهما ، والمفروض في المقام قدرته على امتثال كلا التكليفين ، غاية الأمر كونه عاجزاً عن إحراز الامتثال فيهما ، لجهله بمتعلق كل منهما وعدم تمييزه الواجب عن الحرام ، فينتقل إلى الامتثال الاحتمالي بايجاد أحد الفعلين وترك الآخر ، فلا وجه لاجراء حكم التزاحم وتقديم محتمل الأهمّية على غيره بايجاد كلا الفعلين لو كان محتمل الأهمّية هو الوجوب ، أو ترك كليهما لو كان محتمل الأهمّية هي الحرمة.

٣٩٥

واختار المحقق النائيني قدس‌سره (١) في بحث دوران الأمر بين شرطية شيء ومانعيته تقديم محتمل الأهمّية ، وذكر في وجه ذلك : أنّ كل تكليف واصل إلى المكلف يقتضي أمرين : لزوم الامتثال وإحرازه. وعليه فالوجوب المعلوم بالاجمال في المقام كما يقتضي إيجاد متعلقه ، كذلك يقتضي إحراز الايجاد باتيان كلا الفعلين ، وكذا الحرمة المعلومة بالاجمال تقتضي ترك متعلقها وتقتضي إحرازه بترك كلا الفعلين ، وهذان الحكمان وإن لم يكن بينهما تزاحم من ناحية أصل الامتثال ، إذ المفروض تغاير متعلقي الوجوب والحرمة وتمكن المكلف من إيجاد الواجب وترك الحرام ، إلاّ أنّهما متزاحمان من ناحية إحراز الامتثال ، إذ قد عرفت أنّ إحراز امتثال الوجوب يستدعي الاتيان بكلا الفعلين ، وإحراز امتثال الحرمة يقتضي ترك كليهما ، فلا يمكنه إحراز امتثالهما معاً. وقد عرفت أيضاً أنّ إحراز الامتثال من مقتضيات التكليف بحكم العقل ، فكما أنّ عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه الوجوب من الفعل وما تقتضيه الحرمة من الترك يوجب التزاحم بينهما ، كذلك عدم القدرة على الجمع بين ما يقتضيه كل منهما من إحراز الامتثال يوجب التزاحم بينهما أيضاً.

وفيه أوّلاً : النقض بما إذا علم تساوي الحكمين في الأهمّية ، فانّ لازم كونهما من المتزاحمين أن يحكم حينئذ بالتخيير ، فللمكلف أن يختار الوجوب ويأتي بكلا الفعلين ، وله أن يختار الحرمة ويتركهما معاً. مع أنّ المحقق النائيني قدس‌سره لم يلتزم بذلك (٢) وذهب إلى لزوم الاتيان بأحد الفعلين وترك الآخر حذراً من المخالفة القطعية في أحد التكليفين.

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٤٠ ، فوائد الاصول ٤ : ٢٦٣ و ٢٦٤

(٢) المصدر السابق

٣٩٦

وثانياً : أنّه لو سلّمنا دخول المقام في باب التزاحم ، لا دليل على لزوم الأخذ بمحتمل الأهمّية في باب التزاحم مطلقاً ليجب الأخذ به في المقام ، إنّما الوجه في ذلك ما أشرنا إليه سابقاً (١) من أنّ الحكمين المتزاحمين لا مناص من الالتزام بسقوط الاطلاق في كليهما أو في أحدهما ، ومن الظاهر أنّ ما لا يحتمل أهمّيته قد علم سقوط إطلاقه على كلا التقديرين ، وأمّا ما احتمل أهمّيته فسقوط إطلاقه غير معلوم ، فلا بدّ من الأخذ به. هذا فيما إذا كان لدليل كل من الحكمين إطلاق لفظي.

وأمّا إذا لم يكن لشيء من الدليلين إطلاق ، فالوجه في تقديم محتمل الأهمّية هو القطع بجواز تفويت ملاك غيره بتحصيل ملاكه. وأمّا تفويت ملاكه بتحصيل ملاك غيره فجوازه غير معلوم ، فتصحّ العقوبة عليه بحكم العقل ، فلا مناص من الأخذ بمحتمل الأهمّية ، وهذان الوجهان لا يجريان في المقام ، إذ المفروض بقاء الاطلاق في كلا الحكمين ، لعدم التنافي بين الاطلاقين ليرفع اليد عن أحدهما ، وعدم ثبوت جواز تفويت الملاك في شيء منهما ، إذ كل ذلك فرع عجز المكلف عن امتثال كلا التكليفين ، والمفروض قدرته على امتثالهما لتغاير متعلق الوجوب والحرمة على ما تقدّم.

وأمّا ما ذكره قدس‌سره من حكم العقل بلزوم إحراز الامتثال ، فهو مشترك فيه بين جميع التكاليف الالزامية ، من غير فرق بين ما كان في أعلى مراتب الأهمّية ، وما كان في أضعف مراتب الالزام ، فلا موجب لتقديم محتمل الأهمّية على غيره والحكم بلزوم موافقته القطعية وإن استلزمت المخالفة القطعية للتكليف الآخر.

__________________

(١) في ص ٣٨٧

٣٩٧

تتميم

لو كان لمورد دوران الأمر بين المحذورين أفراد طولية ، فهل يكون التخيير بدوياً أو استمرارياً ، فلو علم إجمالاً بأ نّه حلف على الاتيان بفعل أو على تركه كل ليلة جمعة مثلاً فهل يلاحظ ذلك الفعل في كل ليلة من ليالي الجمعة واقعة مستقلّة ، فيحكم بالتخيير فيه ، فيجوز للمكلف الاتيان به في ليلة وتركه في ليلة اخرى ، أو يلاحظ المجموع واقعة واحدة ، فيتخيّر بين الفعل في الجميع والترك في الجميع ، ولا يجوز له التفكيك بين الليالي بايجاد الفعل مرّةً وتركه اخرى؟ وجهان.

ذهب بعضهم إلى الثاني وأنّ التخيير استمراري ، باعتبار أنّ كل فرد من أفراد ذلك الفعل له حكم مستقل ، وقد دار الأمر فيه بين محذورين ، فيحكم العقل بالتخيير لعدم إمكان الموافقة القطعية ولا المخالفة القطعية ، ولا يترتب على ذلك سوى أنّ المكلف إذا اختار الفعل في فردٍ والترك في فردٍ آخر يعلم إجمالاً بمخالفة التكليف الواقعي في أحدهما ، ولا بأس به لعدم كون التكليف الواقعي منجّزاً على الفرض.

وفيه : أنّ العلم بالالزام المردد بين الوجوب والحرمة وإن لم يوجب تنجيز التكليف المعلوم بالاجمال ، إلاّ أنّه مع فرض تعدّد الأفراد يتولّد من العلم الاجمالي المذكور علم إجمالي متعلق بكل فردين من الأفراد ، وهو العلم بوجوب أحدهما وحرمة الآخر ، إذ المفروض اشتراكهما في الحكم وجوباً وحرمةً ، فان كان أحدهما المعيّن واجباً وإلاّ فالآخر حرام يقيناً. وهذا العلم الاجمالي وإن لم يمكن موافقته القطعية ، لاحتمال الوجوب والحرمة في كل منهما ، إلاّ أنّه يمكن

٣٩٨

مخالفته القطعية باتيانهما معاً أو تركهما كذلك (١). وقد عرفت أنّ العلم الاجمالي ينجّز معلومه بالمقدار الممكن من حيث وجوب الموافقة القطعية أو حرمة المخالفة القطعية ، فتنجيزه من حيث الموافقة القطعية وإن كان ساقطاً ، إلاّ أنّه ثابت من حيث المخالفة القطعية ، فلا مناص من كون التخيير بدوياً حذراً من المخالفة القطعية ، فلا يجوز للمكلّف التفكيك بين الأفراد من حيث الفعل والترك.

__________________

(١) [هكذا في الأصل والصحيح : باتيان أحدهما وترك الآخر]

٣٩٩
٤٠٠