موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

في جريان الاستصحاب أن يكون الأثر المطلوب مترتباً على واقع المستصحب ، وأمّا إن كان مترتباً على مجرد الشك في الواقع أو على الأعم منه ومن الواقع ، فلا مجال لجريان الاستصحاب. مثلاً لو كان التشريع المحرّم عبارة عن إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين ، أو الأعم منه ومن إدخال ما ليس من الدين في الدين ، فمجرد الشك في كون شيء من الدين كافٍ في الحكم بحرمة إسناده إلى الشارع فاجراء استصحاب عدم كونه من الدين لاثبات حرمة الاسناد تحصيل للحاصل ، بل من أردأ أنحائه ، فانّه من قبيل إحراز ما هو مُحرَز بالوجدان بالتعبد. والمقام من هذا القبيل بعينه ، إذ الأثر المرغوب من استصحاب عدم التكليف قبل البلوغ ليس إلاّعدم العقاب ، وهذا مترتب على نفس الشك في التكليف ، لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فلا نحتاج إلى إحراز عدم التكليف بالاستصحاب.

وفيه : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو كان الأثر مترتباً على خصوص الشك. وأمّا إن كان الأثر أثراً للجامع بينه وبين الواقع ، فلا مانع من جريان الاستصحاب ، إذ بجريانه يصل الواقع إلى المكلف ويرفع الشك تعبداً ، فلم يبق معه شك ليلزم تحصيل الحاصل أو أردأ أنواعه. نعم ، لو لم يجر الاستصحاب كان الشك موجوداً فيترتب عليه الأثر.

وبالجملة : ترتب الأثر على الشك فرع عدم جريان الاستصحاب ، فكيف يكون مانعاً عن جريانه ، ولذا لا إشكال في جعل الأمارة ونصبها على عدم حرمة شيء مع أنّ أصالة الحل كافية لاثباته. وكذا لا إشكال في التمسك باستصحاب الطهارة المتيقنة ، مع أنّ قاعدة الطهارة بنفسها كافية لاثباتها.

والمقام من هذا القبيل بعينه. وبعبارة اخرى واضحة : قاعدة قبح العقاب بلا

٣٤١

بيان متوقفة على تحقق موضوعها أعني عدم البيان ، فكما أنّها لا تجري مع بيان التكليف لا تجري مع بيان عدم التكليف ، والاستصحاب بيان لعدمه فلا يبقى معه موضوع لها.

الوجه الخامس : ما يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره (١) وهو أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتحاد القضيّة المتيقنة والمشكوكة ، ليصدق نقض اليقين بالشك عند عدم ترتيب الأثر حين الشك ، فانّه مع عدمه كان إثبات حكم المتيقن للمشكوك من إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، وذلك داخل في القياس لا في الاستصحاب ، وفي المقام لا اتحاد للقضيّة المتيقنة والمشكوكة من حيث الموضوع ، إذ الترخيص المتيقن ثابت لعنوان الصبي على ما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم» (٢) ، وهو مرتفع بارتفاع موضوعه ، والمشكوك فيه هو الترخيص لموضوع آخر ، وهو البالغ ، فلا مجال لجريان الاستصحاب.

والانصاف : أنّ هذا الاشكال وارد على الاستدلال بالاستصحاب في المقام ، وتوضيحه : أنّ العناوين المأخوذة في موضوعات الأحكام على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون العنوان مقوّماً للموضوع بنظر العرف ، بحيث لو ثبت الحكم مع انتفاء العنوان عدّ حكماً جديداً لموضوع آخر ، لا بقاء الحكم للموضوع الأوّل ، كما في جواز التقليد فانّ موضوعه العالم ، ولو زال عنه العلم وصار جاهلاً يكون موضوعاً آخر ، إذ العلم مقوّم لموضوع جواز التقليد في نظر العرف ، وفي مثل ذلك لا مجال لجريان الاستصحاب ، لعدم صدق نقض اليقين بالشك على عدم ترتيب الأثر السابق حين الشك ، فلايكون مشمولاً لأدلّة الاستصحاب.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٧٨

(٢) الوسائل ١ : ٤٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٤ ح ١١ (باختلاف يسير)

٣٤٢

الثاني : أن يكون العنوان من الحالات وغير دخيل في قوام الموضوع في نظر العرف ، كما إذا قال المولى : أكرم هذا القائم مثلاً ، فانّ العرف يرى القيام والقعود من الحالات ، بحيث لو ثبت وجوب الاكرام حال جلوسه كان بقاءً للحكم الأوّل ، لا حدوث حكم جديد لموضوع آخر. ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم لو فرض الشك في بقاء الحكم.

الثالث : أن يشك في كون العنوان مقوّماً للموضوع وعدمه ، كعنوان التغير المأخوذ في نجاسة الماء المتغير ، فبعد زوال التغير يشك في بقاء النجاسة ، لعدم العلم بأنّ التغير مقوّم لموضوع الحكم بالنجاسة أو من قبيل الحالات. وبعبارة اخرى : يشك في أنّ حدوث التغير هل هو علّة لحدوث النجاسة للماء وبقائها ، بحيث لايكون بقاؤها منوطاً ببقائه ، أو علّة لحدوث النجاسة فقط بحيث تكون النجاسة دائرة مدار التغير حدوثاً وبقاءً ، أي وجوداً وعدماً. ولا يجري الاستصحاب في هذا القسم كما في القسم الأوّل ، إذ مع الشك في بقاء الموضوع لم يحرز اتحاد القضيّتين ، فلم يحرز صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحكم السابق ، فيكون التمسك بأدلة الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

إذا عرفت ذلك ، ظهر لك عدم صحّة التمسك بالاستصحاب في المقام ، لأنّ عنوان الصبي المأخوذ في الحكم بالترخيص في قوله عليه‌السلام : «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم» ، مقوّم للموضوع في نظر العرف ، ولا أقل من احتمال ذلك ، ومعه لا مجال لجريان الاستصحاب بعد زواله بعروض البلوغ.

٣٤٣

أدلّة الأخباريين

على وجوب الاحتياط

وهي امور ثلاثة :

الأوّل : الآيات الكريمة : فمنها : الناهية عن القول بغير العلم ، كقوله تعالى : «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» (١) ومنها : الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة ، كقوله تعالى : «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (٢) ومنها : الآمرة بالتقوى ، كقوله تعالى : «فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (٣) ولا يتمّ الاستدلال بشيء منها.

أمّا الاولى : فلأنّ حرمة القول بغير العلم ممّا لا خلاف فيه بين الأخبارين والاصوليين ، فانّ الاصولي يعترف بأنّ القول بالترخيص إذا لم يكن مستنداً إلى دليل فهو تشريع محرّم ، ولكنّه يدعي قيام الدليل عليه ، كما أنّ الأخباري القائل بوجوب الاحتياط أيضاً يعترف بأنّ القول بوجوب الاحتياط من غير دليل يدل عليه تشريع محرّم ، ويدّعي قيام الدليل عليه ، فهذه الآية الكريمة الدالة على حرمة القول بغير العلم أجنبية عن المقام.

وأمّا الثانية الناهية عن إلقاء النفس في التهلكة : فلأ نّه إن اريد بها التهلكة الدنيوية ، فلا شك في أنّه ليس في ارتكاب الفعل مع الشك في حرمته احتمال

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٣٦

(٢) البقرة ٢ : ١٩٥

(٣) التغابن ٦٤ : ١٦

٣٤٤

الهلكة فضلاً عن القطع بها. وإن اريد بها التهلكة الاخروية ، أعني العقاب ، فكان الحكم بترك إلقاء النفس فيها إرشادياً محضاً ، إذ لا يترتب على إيقاع النفس في العقاب الاخروي عقاب آخر ، كي يكون النهي عنه مولوياً. مضافاً إلى أنّ الاصولي يرى ثبوت المؤمّن من العقاب فلا أثر لهذا النهي.

وأمّا الثالثة الآمرة بالتقوى : فلأنّ ارتكاب الشبهة استناداً إلى ما يدل على الترخيص شرعاً وعقلاً ليس منافياً للتقوى. هذا إن كان المراد بالتقوى هو التحفظ عن ارتكاب ما يوجب استحقاق العقاب. وأمّا لو كان المراد بها التحفظ عن الوقوع في المفاسد الواقعية فهو غير واجب قطعاً ، ولذا اتّفق الأخباريون والاصوليون على جواز الرجوع إلى البراءة في الشبهات الموضوعية ، بل وفي الحكمية أيضاً إن كانت وجوبية ، فكانت الآية الشريفة محمولةً على الارشاد لا محالة.

الثاني : الأخبار وهي طائفتان :

الطائفة الاولى : الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة ، كقوله عليه‌السلام فى عدّة روايات : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١) ونظير هذه الروايات أخبار التثليث كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الامور ثلاثة : أمر بيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر بيّن غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله» (٢).

والانصاف أنّه لا دلالة لهذه لأخبار على وجوب الاحتياط لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ المذكور فيها هو عنوان الشبهة ، وهو ظاهر فيما يكون الأمر فيه ملتبساً بقول مطلق ، فلا يعمّ ما علم فيه الترخيص الظاهري ، لأنّ

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٥٤ و ١٥٥ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢ وغيره

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦٢ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٢٨ (باختلاف يسير)

٣٤٥

أدلة الترخيص تخرجه عن عنوان المشتبه ، وتدرجه في معلوم الحلية. ويدل على ما ذكرناه من اختصاص الشبهة بغير ما علم فيه الترخيص ظاهراً ، أنّه لا إشكال ولا خلاف في عدم وجوب التوقف في الشبهات الموضوعية ، بل في الشبهة الحكمية الوجوبية بعد الفحص ، فلولا أنّ أدلة الترخيص أخرجتها عن عنوان الشبهة ، لزم التخصيص في أخبار التوقف ، ولسانها آبٍ عن التخصيص وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله عليه‌السلام : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة».

الوجه الثاني : أنّ الأمر بالتوقف فيها للارشاد ، ولا يمكن أن يكون أمراً مولوياً يستتبع العقاب ، إذ علل التوقف فيها بأ نّه خير من الاقتحام في الهلكة ، ولا يصح هذا التعليل إلاّأن تكون الهلكة مفروضة التحقق في ارتكاب الشبهة مع قطع النظر عن هذه الأخبار الآمرة بالتوقف. ولا يمكن أن تكون الهلكة المعلل بها وجوب التوقف مترتبة على نفس وجوب التوقف المستفاد من هذه الأخبار كما هو ظاهر ، فيختص موردها بالشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي.

وبالجملة : التعليل ظاهر في ثبوت الاحتياط مع قطع النظر عن هذه الأخبار ، فلا يمكن إثبات وجوب الاحتياط بنفس هذه الأخبار كما هو مقصود الأخباري.

إن قلت : إنّما يلزم حمل الأمر على الارشاد لو كان المراد بالهلكة العقاب ، وأمّا لو اريد بها المفسدة الواقعية ، أمكن أن يكون الأمر بالتوقف أمراً مولوياً ، ومع إمكان ذلك لا يصحّ الحمل على الارشاد ، وحينئذ كانت هذه الروايات كافية في تنجيز التكليف الواقعي واستحقاق العقاب على مخالفته ، لأنّها حينئذ تكون إيصالاً له.

٣٤٦

قلت : حمل الهلكة على المفسدة الواقعية ـ مع كونه خلاف الظاهر في نفسه ـ يستلزم التخصيص في الشبهات الموضوعية ، وقد عرفت أنّ الروايات آبية عن التخصيص ، فلا مناص من حمل الهلكة على العقاب كما هو الظاهر في نفسه ، ومعه كان الأمر بالتوقف إرشادياً لا محالة.

لا يقال : سلّمنا كون التعليل ظاهراً في ثبوت الاحتياط مع قطع النظر عن هذه الأخبار ، إلاّأنّ عموم الشبهات لما هو محل الكلام يكشف عن جعل وجوب الاحتياط قبل الأمر بالتوقف الموجود في هذه الأخبار ، فيكون التنجيز لأجله ، لا لأجل وجوب التوقف.

فانّه يقال : إيجاب الاحتياط لو كان واصلاً مع قطع النظر عن أخبار التوقف فهو خلاف المفروض. مضافاً إلى أنّه لا معنى حينئذ لأن تكون أخبار التوقف كاشفةً عنه ، بل يستحيل ذلك ، وإن لم يكن واصلاً امتنع تنجز الواقع به ، فانّ الايجاب الطريقي لا يزيد على الايجاب الواقعي في استحالة الانبعاث عنه قبل وصوله ، فكما أنّ الوجوب الواقعي لا يكفي في التنجز قبل الوصول كذلك الوجوب الطريقي. وعليه كان مورد أخبار التوقف مثل الشبهات قبل الفحص ، أو المقرونة بالعلم الاجمالي ممّا كان الواقع فيه منجّزاً ، مع قطع النظر عن هذه الأخبار.

هذا ، وأجاب شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) عن هذا الاشكال : بأنّ إيجاب الاحتياط لا يكفي في تنجيز الواقع المجهول ، لأنّه إن كان وجوبه نفسياً فالعقاب يكون على مخالفة نفسه ، لا على مخالفة الواقع. وإن كان غيرياً فلازمه ثبوت العقاب على مخالفة التكليف الواقعي مع فرض عدم وصوله.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٨٤

٣٤٧

ويرد عليه : أنّ الوجوب غير منحصر في القسمين ، فانّ وجوب الاحتياط على تقدير ثبوته طريقي ، وبه يتنجز الواقع.

وبما ذكرناه ظهر الجواب عن أخبار التثليث ، فانّ ما ثبت فيه الترخيص ظاهراً من قبل الشارع داخل فيما هو بيّن رشده ، لا في المشتبه كما هو الحال في الشبهات الموضوعية. وبالجملة : المشكوك حرمته كالمشكوك نجاسته ، وكما أنّ الثاني غير مشمول لهذه الأخبار كذلك الأوّل. والملاك في الجميع ثبوت الترخيص المانع من صدق المشتبه على المشكوك فيه حقيقة ، وإن صحّ إطلاقه عليه بالعناية باعتبار التردد في حكمه الواقعي.

الطائفة الثانية : الأخبار الآمرة بالاحتياط ، كقوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك» (١) وقوله (عليه السلام) : «خد بالحائطة لدينك» (٢) وغير ذلك من الروايات الواردة في هذا المعنى.

والصحيح عدم دلالة هذه الأخبار أيضاً على وجوب الاحتياط في المقام لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ حسن الاحتياط ممّا استقلّ به العقل ، وظاهر هذه الأخبار هو الارشاد إلى هذا الحكم العقلي ، فيكون تابعاً لما يرشد إليه ، وهو يختلف باختلاف الموارد ، ففي بعضها كان الاحتياط واجباً كما في الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي ، وفي بعضها كان مستحباً كما في الشبهة البدوية بعد الفحص ، وهي محل الكلام فعلاً.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٦٧ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٤٦ (في الطبعة القديمة ح ٤١)

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦٦ و ١٦٧ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٤٢ (باختلاف يسير ، في الطبعة القديمة ح ٣٧)

٣٤٨

الوجه الثاني : أنّ هذه الأخبار باطلاقها تعمّ الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية الوجوبية ، مع أنّ الاحتياط فيها غير واجب قطعاً ، فلا بدّ حينئذ من رفع اليد عن ظهورها في الوجوب أو الالتزام فيها بالتخصيص ، وحيث إنّ لسانها آبٍ عن التخصيص كما ترى ، فتعيّن حملها على الاستحباب أو على مطلق الرجحان الجامع بينه وبين الوجوب ، فلا يستفاد منها وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص ، وهي محل الكلام.

ثمّ إنّه لو سلّم دلالة أخبار التوقف أو الاحتياط على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريمية ، فهي لا تعارض أدلّة البراءة ، وذلك لأنّ استصحاب عدم جعل الحرمة ـ بناءً على جريانه ، وهو الصحيح على ما تقدّم بيانه (١) ـ يكون رافعاً لموضوع هذه الأخبار ، إذ به يحرز عدم التكليف وعدم العقاب ، فيتقدّم عليها لا محالة. وكذا أخبار البراءة بعد تماميّتها تتقدّم على هذه الأخبار ، لكونها أخص منها ، فانّ أخبار البراءة لا تعم الشبهة قبل الفحص ، ولا المقرونة بالعلم الاجمالي إمّا في نفسها ، أو من جهة الاجماع وحكم العقل ، بل بعضها مختص بالشبهات التحريمية ، كقوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٢) بخلاف أخبار التوقف والاحتياط فانّها شاملة لجميع الشبهات ، فيخصص بها.

وقد يتوهّم الاطلاق في أدلة البراءة ، وأ نّها شاملة في نفسها لجميع الشبهات ، غاية الأمر أنّها مخصصة بحكم العقل أو بالاجماع ، فلا وجه لتقدّمها على أدلة التوقف والاحتياط.

__________________

(١) في ص ٣٣٣ ـ ٣٣٥

(٢) تقدّم في ص ٣٢٣

٣٤٩

ولكنّه مدفوع بأنّ المانع عن شمول أدلة البراءة لتلك الموارد إن كان حكم العقل باستحالة شمولها لها ، فحاله حال المخصص المتصل في منعه عن انعقاد الظهور في العموم أو الاطلاق من أوّل الأمر ، وإن كان هو الاجماع ، فحاله حال المخصص المنفصل. والمختار فيه القول بانقلاب النسبة على ما سيجيء تفصيل الكلام فيه في محلّه (١) إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّ هنا وجهاً آخر لتقديم أخبار البراءة على خصوص أخبار الاحتياط : وهو أنّ أخبار البراءة كقوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» نص في عدم وجوب الاحتياط ، وأخبار الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها ظاهرة في وجوبه. والجمع العرفي يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بسبب النص ، وحمله على الرجحان الجامع بين الوجوب والندب.

وهذا الوجه لا يجري بالنسبة إلى أخبار التوقف ، لأنّ العلّة المذكورة فيها وهي الوقوع في الهلكة تجعلها نصّاً في عدم جواز الاقتحام ، إلاّ أنّه قد ذكرنا قصورها عن الدلالة على الحكم المولوي في نفسها.

ثمّ إنّه ربّما يتوهّم أنّ أخبار التوقف والاحتياط ـ على تقدير تمامية دلالتها ـ تتقدّم على أخبار البراءة ، لأنّ المرفوع بحديث الرفع ونحوه هو ما لا يعلم من الأحكام ، ووجوب الاحتياط بناءً على استفادته من الأخبار معلوم ، فهو خارج عن أدلة البراءة موضوعاً.

وهو مدفوع بأ نّه إنّما يتمّ ذلك لو كان وجوب الاحتياط نفسياً. وأمّا لو كان وجوبه طريقياً كما هو المفروض ، فالمترتب عليه هو لزوم امتثال الحكم الواقعي المجهول ، وحديث الرفع يرفعه فتقع المعارضة بين الدليلين لا محالة ، وقد عرفت تقدّم حديث الرفع وأمثاله على أدلة التوقف والاحتياط.

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٤٦٤ وما بعدها

٣٥٠

الثالث ممّا استدلّ به على وجوب الاحتياط : حكم العقل وتقريبه بوجوه :

الأوّل : أنّ كل مسلم يعلم إجمالاً في أوّل بلوغه بتكاليف إلزامية ، وهذا العلم الاجمالي ينجّز التكاليف الواقعية على تقدير ثبوتها ، وليست الطرق والأمارات رافعة لتنجزها ، إذ لا بدّ في انحلال العلم الاجمالي من ثبوت دليل يدل على نفي التكليف في بعض الأطراف إمّا مطابقة أو التزاماً ، والطرق والأمارات إنّما تثبت أحكاماً في مواردها ، وليس لها تعرّض لنفي أحكام اخر في غير مواردها ، فالتنجز يبقى على حاله ، فإذا علمنا إجمالاً بوجوب الصلاة مرددة بين الظهر والجمعة ، كان قيام الأمارة على أحدهما نافياً لوجوب الآخر بالالتزام ، فينحل به العلم الاجمالي لا محالة. وأمّا إن كان المعلوم بالاجمال أحكاماً كثيرة لا تعيّن لها ، فقيام الدليل على ثبوت أحكام في موارد خاصّة لا ينفي ثبوت الحكم في غيرها فلا ينحل العلم الاجمالي.

ولا يرد على هذا التقريب ما ذكره في الكفاية من أنّ قيام الأمارة على التكليف في بعض الأطراف يوجب صرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف ، مثلاً إذا علم بحرمة إناء زيد وتردّد بين إناءين ، ثمّ قامت البيّنة على أنّ أحدهما المعيّن إناؤه ، كان كما إذا علم أنّه إناؤه (١). وذلك لوجود الفرق الواضح بين مقامنا وبين المثال المذكور ، إذ المعلوم بالاجمال في المثال أمر معيّن خاص ، فقيام الأمارة على تعيينه في أحد الطرفين ينفي كونه في الطرف الآخر بالالتزام. وهذا بخلاف المقام ، فانّ المعلوم بالاجمال فيه أحكام لا تعيّن لها بوجه ، وليس لها عنوان وعلامة ، فقيام الأمارة على ثبوت التكليف في بعض الموارد لا ينفي ثبوته في غيرها.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٤٧

٣٥١

هذا ، ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال أوّلاً : بالنقض بالشبهات الوجوبية والموضوعية ، فانّ هذا العلم لو كان مانعاً عن الرجوع إلى البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية ، كان مانعاً عن الرجوع إليها فيها أيضاً ، مع أنّ الأخباريين لا يقولون بوجوب الاحتياط فيها. وثانياً : بالحل وهو أنّ العلم الاجمالي بتكاليف واقعية ينحل بقيام الأمارات على تكاليف إلزامية بمقدار المعلوم بالاجمال.

وتوضيحه : أنّ لنا هنا ثلاثة علوم إجمالية : الأوّل : العلم الكبير ، وأطرافه جميع الشبهات ممّا يحتمل التكليف ، ومنشؤه العلم بالشرع الأقدس ، إذ لا معنى للشرع الخالي عن التكليف رأساً. الثاني : العلم الاجمالي المتوسط ، وأطرافه موارد قيام الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة ، ومنشؤه كثرة الأمارات والقطع بمطابقة بعضها للواقع ، فانّا لا نحتمل مخالفة جميعها للواقع. الثالث : العلم الاجمالي الصغير ، وأطرافه موارد قيام الأمارات المعتبرة ، ومنشؤه القطع بمطابقة مقدار منها للواقع.

وحيث إنّ العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالعلم الاجمالي الثاني ، والثاني بالثالث ، فلا يتنجز التكليف في غير مؤديات الطرق والأمارات المعتبرة. والميزان في الانحلال أن لا يكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير أقل عدداً من المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير ، بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الاجمالي الكبير مقدار المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير ، لم يبق لنا علم إجمالي في بقية الأطراف. مثلاً إذا علمنا اجمالاً بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع من الغنم ، وعلمنا أيضاً بوجود خمس شياه مغصوبة في جملة البيض من هذا القطيع ، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني ، فانّا لو أفرزنا خمس شياه بيض لم يبق لنا علم إجمالي بمغصوبية البقية ، لاحتمال

٣٥٢

انطباق المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير على المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير. بخلاف ما لو علمنا إجمالاً بوجود ثلاث شياه محرّمة في جملة البيض من القطيع ، فانّ العلم الاجمالي الأوّل لا ينحل بالعلم الثاني ، إذ لو أفرزنا ثلاث شياه بيض ، بقي علمنا الاجمالي بمغصوبية البعض الباقي بحاله ، لأنّ انطباق الخمس على الثلاث غير معقول.

وعليه فلاينبغي الشك في انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي المتوسط ، إذ المعلوم بالاجمال في الأوّل لا يزيد عدداً على المعلوم بالاجمال في الثاني ، لأنّ منشأ العلم الاجمالي الكبير هو العلم باستلزام الشرع لوجود أحكام وتكاليف ، ويكفيه المقدار المعلوم بالاجمال في موارد قيام الأمارات. وكذا العلم الاجمالي الثاني ينحل بالعلم الاجمالي الثالث ، لأنّا لو أفرزنا مقداراً من أطراف العلم الثالث ، أي الأخبار المعتبرة في كل باب من أبواب الفقه ، بحيث يكون المجموع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الثالث ، لم يبق لنا علم إجمالي بوجود التكاليف في غيره ، ولو مع ضم سائر الأمارات ، بل وجود التكاليف في غيره مجرّد احتمال ، فيستكشف بذلك أنّ المعلوم بالاجمال في العلم الثاني لا يزيد عدداً على المعلوم بالاجمال في العلم الثالث ، فينحل العلم الثاني بالعلم الثالث لا محالة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الانحلال مبني على العلم الوجداني بمطابقة الأمارات المعتبرة للواقع بمقدار ما علم إجمالاً ثبوته في الشريعة المقدّسة من التكاليف على ما تقدّم بيانه ، وهذا الأمر وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه لو منع منه القائل بوجوب الاحتياط ، وادعى عدم العلم بمطابقة الأمارات للواقع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الأوّل ، فنحن ندّعي الانحلال حتّى مع عدم العلم الوجداني بمطابقة الأمارات المعتبرة للواقع.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم الاجمالي متقوّم دائماً بقضيّة منفصلة مانعة الخلو ،

٣٥٣

ففي العلم الاجمالي بنجاسة أحد الاناءين يصدق قولنا : إمّا هذا الاناء نجس وإمّا ذاك ، وقد يحتمل نجاستهما معاً ، والمدار في تنجيز العلم الاجمالي على هذا الترديد حدوثاً وبقاءً ، فإذا فرضنا أنّ القضيّة المنفصلة انقلبت إلى قضيّتين حمليتين إحداهما متيقنة ولو باليقين التعبّدي ، والاخرى مشكوكة بنحو الشك الساري ، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي ويسقط عن التنجيز ، والسر في ذلك : أنّ تنجيز العلم الاجمالي ليس أمراً تعبدياً ، وإنّما هو بحكم العقل لكاشفيته عن التكليف كالعلم التفصيلي ، فإذا زالت كاشفيته بطروء الشك الساري ، زال التنجيز لا محالة ، كما هو الحال في العلم التفصيلي بعينه.

ولا ينتقض ذلك بما إذا علم بحدوث تكليف جديد في أحد الأطراف معيّناً ، ولا بطروء الاضطرار إلى بعض الأطراف أو تلفه أو امتثال التكليف فيه ، فانّ العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي في جميع هذه الفروض باقٍ على حاله ، غاية الأمر أنّه بتحقق أحد هذه الامور يشك في سقوطه ، فلابدّ من الاحتياط وتحصيل العلم بسقوطه ، فانّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، بخلاف ما إذا زال العلم الاجمالي بطروء الشك الساري ، وانقلبت القضيّة المنفصلة إلى حمليتين : إحداهما متيقنة ولو باليقين التعبدي ، والاخرى مشكوكة بالشك الساري ، فانّ التنجيز يسقط فيه بانحلال العلم الاجمالي لا محالة.

أمّا على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو نفس الطريقية والمحرزية فالأمر واضح ، لأنّ قيام الأمارة يوجب العلم بالواقع تعبداً. وكما تنقلب القضيّة المنفصلة إلى حمليتين بالعلم الوجداني ، كذلك تنقلب إليهما بالعلم التعبدي ، فقيام الأمارة على ثبوت التكليف بمقدار المعلوم بالاجمال يوجب انحلال العلم الاجمالي لا محالة.

وأمّا على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هي المنجّزية والمعذّرية ، فقد

٣٥٤

يستصعب الانحلال ، وهو في محلّه لو قلنا باشتراط منجزية الأمارات بالوصول ، بمعنى أنّ المنجّز هي الأمارات الواصلة إلى المكلف لا الأمارات بوجودها الواقعي ، لأنّ العلم الاجمالي الموجود في أوّل البلوغ قد أثّر أثره من تنجيز التكاليف الواقعية ، وقيام منجّز آخر بعد ذلك على الحكم في بعض الأطراف لا يوجب سقوط المنجّز السابق. نعم ، إن قلنا ـ وهو الصحيح ـ بأنّ مجرد كون الأمارة في معرض الوصول ـ بمعنى كون الأمارة بحيث لو تفحص عنها المكلف وصل إليها ـ كافٍ في التنجيز ، انحلّ العلم الاجمالي ، فانّ المكلف في أوّل بلوغه ـ حين يلتفت إلى وجود التكاليف في الشريعة المقدّسة ـ يحتمل وجود أمارات دالّة عليها ، فيتنجز عليه مؤدياتها بمجرد ذلك الاحتمال ، وحيث إنّ هذا الاحتمال مقارن لعلمه الاجمالي بالتكاليف ، فلايكون علمه منجّزاً لجميع أطرافه ، لتنجز التكليف في بعض أطرافه بمنجّز مقارن له ، نظير ما لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد الاناءين وعلمنا بنجاسة أحدهما المعيّن مقارناً لذلك العلم الاجمالي فانّه لاينجز حينئذ أصلاً ، والسر فيه : أنّ تنجيز العلم الاجمالي إنّما هو بتساقط الاصول في أطرافه للمعارضة ، وفي مفروض المثال يجري الأصل في الطرف المشكوك فيه بلا معارض ، ولذا ذكرنا في محلّه أنّه لو كان الأصل الجاري في بعض الأطراف مثبتاً للتكليف وفي بعضها الآخر نافياً له لا يكون العلم الاجمالي منجّزاً (١).

وممّا ذكرناه ظهر الحال ، وصحّة الانحلال على القول بالسببية في باب الأمارات ، وأنّ المجعول هي الأحكام الفعلية على طبقها ، فانّ قيام الأمارة يكشف عن ثبوت الأحكام في مواردها من أوّل الأمر ، فلا يبقى أثر للعلم الاجمالي بالتكاليف الواقعية مرددةً بينها وبين غيرها.

__________________

(١) راجع ص ٤٠٧ و ٤١٥ و ٤٢٢

٣٥٥

والمتحصّل ممّا ذكرناه في المقام : أنّه على جميع الأقوال في باب الأمارات تكون أطراف العلم الاجمالي من غير مواردها مورداً لأصالة البراءة. أمّا على القول بالطريقية ، فلأنّ العلم الاجمالي ينقلب بقاءً إلى الشك الساري والعلم التفصيلي. وأمّا على القول بالمنجّزية ، فلأنّ قيام الأمارة يكشف عن تنجز التكليف في بعض الأطراف من غير جهة العلم الاجمالي في أوّل الأمر. وأمّا على القول بالسببية ، فلأنّ الأمارة تكشف عن اشتمال مؤدياتها على مصلحة أو مفسدة مستلزمة لثبوت الحكم على طبقها من أوّل الأمر.

الوجه الثاني من تقريب حكم العقل : ما ذكره بعضهم من أنّ الأصل في الأفعال غير الضرورية قبل الشرع هو الحظر بحكم العقل.

وفيه أوّلاً : أنّ أصالة الحظر ليست من الاصول المسلّمة عند العقلاء ، فانّ جماعة منهم ذهبوا إلى أنّ الأصل في الأشياء هو الاباحة ، فلا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف.

وثانياً : أنّه لا ارتباط بين المقام وبين تلك المسألة ، فانّ استقلال العقل بالحظر على تقدير التسليم إنّما هو بمناط غير موجود في المقام ، باعتبار أنّ موضوع أصالة الحظر إنّما هو الفعل بما هو مقطوع بعدم جعل الحكم له ، وفي المقام بما هو مشكوك الحكم ، فلا يستلزم القول بالحظر في تلك المسألة القول بالاحتياط في المقام ، بل يمكن القول بالبراءة في المقام مع الالتزام بالحظر في تلك المسألة.

وثالثاً : أنّ ما ذكر لو تمّ فانّما هو فيما إذا لم يثبت الترخيص عند الشك في التكليف ، وقد عرفت ثبوته فيما تقدّم.

الوجه الثالث من تقريب حكم العقل : أنّ في ارتكاب الشبهة احتمال الوقوع في الضرر ، والعقل مستقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.

٣٥٦

وقد تقدّم (١) الجواب عن هذا التقريب مفصّلاً ولا حاجة إلى الاعادة.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل :

أنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، كما أنّ موضوع البراءة الشرعية هو الشك وعدم العلم ، وعليه فكل ما يكون بياناً ورافعاً للشك ولو تعبداً ، يتقدّم عليهما بالورود أو الحكومة ، من غير فرق بين أن تكون الشبهة موضوعية كما لو علم بخمرية مائع ثمّ شكّ في انقلابه خلاً ، فانّ استصحاب الخمرية يرفع موضوع أصالة البراءة عن حرمة شربه ، أو تكون حكمية كما إذا شكّ في جواز وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، فانّ استصحاب الحرمة السابقة على تقدير جريانه يمنع عن التمسّك بأصالة البراءة. وعبّر الشيخ قدس‌سره (٢) عن هذا الأصل بالأصل الموضوعي ، باعتبار أنّه رافع لموضوع الأصل الآخر ، ولم يرد منه خصوص الأصل الجاري في الموضوع كما توهّم.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره (٣) رتّب على ما أفاده جريان أصالة عدم التذكية ، فيما إذا شكّ في حلية لحم وحرمته من جهة الشك في قابلية الحيوان للتذكية وعدمها ، وأورد على نفسه بأنّ أصالة عدم التذكية معارضة بأصالة عدم الموت حتف الأنف ، فأجاب عنه بأنّ الموت حتف الأنف عبارة اخرى عن عدم التذكية ولا مغايرة بينهما.

__________________

(١) في ص ٣٢٨ وما بعدها

(٢) ، (٣) فرائد الاصول ١ : ٤٠١ و ٤٠٩ ـ ٤١٠

٣٥٧

وتحقيق المقام يقتضي بسطاً في المقال فأقول : إنّ الشك في حرمة اللحم تارةً يكون من الشبهة الموضوعية ، واخرى : من الشبهة الحكمية.

والشبهة الموضوعية على أقسام :

القسم الأوّل : ما كان الشك في حلية اللحم من جهة دوران الأمر بين كونه من مأكول اللحم أو من غيره ، مع العلم بوقوع التذكية بجميع شرائطها عليه ، كما إذا شكّ في كون اللحم المتخذ من حيوان علم وقوع التذكية عليه من شاة أو من أرنب مثلاً.

القسم الثاني : ما إذا كان الشك في الحلية من جهة احتمال طروء عنوان على الحيوان مانع عن قبوله التذكية ، بعد العلم بقابليته لها في حد ذاته ، كاحتمال الجلل في الشاة ، أو كونها موطوءة إنسان ، أو ارتضاعها من لبن خنزيرة.

القسم الثالث : ما إذا كان الشك في حليته لاحتمال عدم قبول الحيوان للتذكية ذاتاً ، بعد العلم بوقوع الذبح الجامع للشرائط عليه ، كما لو تردد الحيوان المذبوح في الظلمة مثلاً بين كونه شاةً أو كلباً.

القسم الرابع : ما كان الشك فيه من جهة احتمال عدم وقوع التذكية عليه ، للشك في تحقق الذبح أو لاحتمال اختلال بعض الشرائط ، مثل كون الذابح مسلماً أو كون الذبح بالحديد أو وقوعه إلى القبلة ، مع العلم بكون الحيوان قابلاً للتذكية.

أمّا القسم الأوّل : فهو مورد لأصالة الحل ، من دون حاجة إلى الفحص لكون الشبهة مصداقية. وأمّا ما أفاده الشهيد قدس‌سره (١) من أنّ الأصل في اللحوم مطلقاً هو الحرمة فهو غير صحيح بالنسبة إلى هذا الفرض ، إذ لا وجه

__________________

(١) الروضة البهيّة ١ : ٤٩

٣٥٨

له بعد العلم بوقوع التذكية عليه.

وأمّا ما ذكره بعضهم من التمسك باستصحاب حرمة أكله الثابتة قبل زهاق الروح ، فهو أيضاً غير وجيه أمّا أوّلاً : فلأنّ حرمة أكل الحيوان الحي غير مسلّمة ، وقد أفتى جماعة من الفقهاء بجواز بلع السمك الصغير حيّاً ، مع أنّ تذكيته إنّما هي بموته خارج الماء ، لا بنفس إخراجه منه ، ولذا التزموا بعدم جواز أكل القطعة المبانة من السمك الحي بعد إخراجه من الماء حيّاً. وأمّا ثانياً : فلأنّ الحرمة الثابتة على تقدير تسليمها كانت ثابتة لعنوان الحيوان المتقوّم بالحياة ، وما يشك في حليته إنّما هو اللحم ، وهو مغاير للحيوان فلا يمكن جريان الاستصحاب.

وأمّا القسم الثاني : فلا مانع فيه من الرجوع إلى استصحاب عدم طروء مانع من التذكية ، فإذا تحقق الذبح عليه جامعاً للشرائط المعتبرة فيه تثبت التذكية بضمّ الوجدان إلى الأصل فيحكم بحليته.

وأمّا القسم الثالث : فإن قلنا بأنّ كل حيوان قابل للتذكية إلاّما خرج بالدليل ، كما ادّعاه صاحب الجواهر قدس‌سره (١). واستدلّ عليه برواية علي ابن يقطين (٢) الواردة في الجلود ، وقلنا أيضاً بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية حتّى في العناوين الذاتية كعنوان الكلبية مثلاً ، فلا مانع من التمسك بذلك العموم بعد إجراء استصحاب عدم تحقق العنوان الخارج منه ، فيحكم بحلية لحم تردد بين الشاة والكلب بالشبهة الموضوعية.

وأمّا لو منعنا عن كلا الأمرين أو عن أحدهما ، فإن قلنا بأنّ التذكية أمر

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٦ : ١٩٦

(٢) الوسائل ٤ : ٣٥٢ / أبواب لباس المصلّي ب ٥ ح ١

٣٥٩

وجودي بسيط مسبب عن الذبح بشرائطه ، كما هو الظاهر من لفظ المذكى ، نظير الطهارة المسببة عن الوضوء أو الغسل ، والملكية الحاصلة من الايجاب والقبول ، فيستصحب عدمها كما في نظائرها. وأمّا إذا قلنا بأ نّها عبارة عن نفس الفعل الخارجي مع الشرائط الخاصّة ، كما استظهره المحقق النائيني قدس‌سره (١) من إسناد التذكية إلى المكلف في قوله تعالى : «إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ» (٢) الظاهر في المباشرة دون التسبيب ، فلا مجال لاجراء أصالة عدم التذكية ، للقطع بتحققها على الفرض ، فيرجع إلى أصالة الحل. ولكن هذا المبنى فاسد ، والاستظهار المذكور في غير محلّه ، إذ يصحّ إسناد الفعل التسبيبي إلى المكلف من غير مسامحة وعناية ، فيقال : زيد ملك الدار مثلاً.

وأمّا القسم الرابع : فالمرجع فيه أصالة عدم التذكية ، ويترتب عليها حرمة الأكل وعدم جواز الصلاة فيه ، لأن غير المذكى قد أخذ مانعاً عن الصلاة. هذا كلّه في الشبهة الموضوعية.

وأمّا الشبهة الحكمية فلها صور أيضاً :

الصورة الاولى : أن يكون الشك من غير جهة التذكية ، كما لو شكّ في حلية لحم الأرنب لعدم الدليل ، مع العلم بوقوع التذكية عليه ، والمرجع فيه أصالة الحل ، ولا يتوهم جريان أصالة الحرمة الثابتة قبل وقوع التذكية ، لما تقدّم في الشبهة الموضوعية.

الصورة الثانية : أن يكون الشك في الحلية للجهل بقابلية الحيوان للتذكية ، كما في الحيوان المتولد من الشاة والخنزير ، من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما ،

__________________

(١) فوائد الاصول ٣ : ٣٨٢ ، راجع أيضاً أجود التقريرات ٣ : ٣٣٨

(٢) المائدة ٥ : ٣

٣٦٠