السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١
بجميع أقسامه حلالاً أو بجميع أقسامه حراماً لما شككنا في هذا المائع الموجود في الخارج من حيث الحلية والحرمة ، فحيث كان المائع منقسماً إلى قسمين : قسم منه حلال كالخل ، وقسم منه حرام كالخمر ، فشككنا في حلية هذا المائع الموجود في الخارج لاحتمال أن يكون خلاًّ ، فيكون من القسم الحلال ، وأن يكون خمراً فيكون من القسم الحرام.
ثمّ إنّ المحقق النائيني (١) قدسسره ذكر أنّ الشيئية تساوق الوجود ، فظاهر لفظ الشيء هو الموجود الخارجي ، وحيث إنّ الموجود الخارجي لايمكن انقسامه إلى الحلال والحرام ، فلا محالة يكون المراد من التقسيم الترديد ، فيكون المراد من قوله عليهالسلام : «فيه حلال وحرام» هو احتمال الحلية والحرمة ، فيشمل الشبهة الحكمية أيضاً ، لأنّ احتمال الحلية والحرمة في الموجود الخارجي كما يمكن أن يكون ناشئاً من عدم العلم بأنّ هذا الشيء من القسم الحلال أو من القسم الحرام ، فتكون الشبهة موضوعية ، كذلك يمكن أن يكون ناشئاً من عدم العلم بحكم نوع هذا الشيء ، فتكون الشبهة حكمية.
وفيه أوّلاً : أنّ لفظ الشيء موضوع للمفهوم المبهم العام لا للموجود الخارجي ، ولذا يستعمل في المعدومات ، بل في المستحيلات ، فيقال : هذا شي معدوم أو لم يوجد ، وهذا شيء مستحيل أو محال.
وثانياً : أنّه على تقدير التنزل وتسليم أنّ المراد منه الموجود الخارجي نلتزم بالاستخدام في الضمير في قوله عليهالسلام : «فيه حلال وحرام» ، فيكون المراد أنّ كل موجود خارجي في نوعه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه. والقرينة على هذا الاستخدام هو نفس التقسيم باعتبار أنّ
__________________
(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٢٣
الموجود الخارجي غير قابل للتقسيم ، فلا محالة يكون المراد انقسام نوعه ، فتكون الرواية مختصّة بالشبهات الموضوعية.
ومن جملة الروايات التي استدلّ بها على البراءة قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (١) والاستدلال به مبني على أنّ كلمة «ما» موصولة وقد اضيفت إليها كلمة «سعة» ، فيكون المعنى أنّ الناس في سعةٍ من الحكم المجهول ، فمفاده هو مفاد حديث الرفع ، ويكون حينئذ معارضاً لأدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها. وأمّا إن كانت كلمة «ما» مصدرية زمانية ، فلا يصحّ الاستدلال به على المقام ، إذ المعنى حينئذ أنّ الناس في سعة ما داموا لم يعلموا ، فمفاد الحديث هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وتكون أدلة وجوب الاحتياط حاكمة عليه ، لأنّها بيان.
والظاهر هو الاحتمال الأوّل ، لأنّ كلمة «ما» الزمانية ـ حسب الاستقراء ـ لا تدخل على الفعل المضارع ، وإنّما تدخل على الفعل الماضي لفظاً ومعنىً أو معنىً فقط. ولو سلّم دخولها على المضارع أحياناً لا ريب في شذوذه فلا تحمل عليه إلاّمع القرينة. نعم ، لو كان المضارع مدخولاً لكلمة «لم» (٢) ، لكان للاحتمال المذكور وجه ، باعتبار كون الفعل ماضياً بحسب المعنى ، فالصحيح دلالة الحديث على البراءة. وباطلاقه يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية.
وظهر بما ذكرناه : أنّ ما أفاده المحقق النائيني قدسسره ـ من ترجيح الاحتمال الثاني وعدم دلالة الحديث على البراءة (٣) ـ خلاف التحقيق. ولكنّ
__________________
(١) المستدرك ١٨ : ٢٠ / أبواب مقدّمات الحدود ب ١٢ ح ٤
(٢) المذكور في المصدر : «الناس في سعة ما لم يعلموا»
(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣١٦
الذي يسهّل الأمر أنّ الحديث مرسل لا يصحّ الاعتماد عليه ، بل لم يوجد في كتب الأخبار أصلاً. نعم ، في حديث السفرة المطروحة في الفلاة وفيها اللحم أمر الإمام عليهالسلام بأن يقوّم اللحم ويؤكل ، فقال الراوي إنّه لا يدري أمالكه مسلم أو كافر ، ولعلّ اللحم من غير مذكى ، قال عليهالسلام : «هم في سعةٍ حتّى يعلموا» (١) ومورد هذه الرواية خصوص اللحم ، وحكمه عليهالسلام بالاباحة إنّما هو من جهة كونه في أرض المسلمين فهي أمارة على التذكية ، وإلاّ كان مقتضى أصالة عدم التذكية حرمة أكله. وبالجملة : مورد هذه الرواية هي الشبهة الموضوعية القائمة فيها الأمارة على الحلية ، فهي أجنبية عن المقام.
ومن جملة الروايات التي استدلّ بها للمقام قوله عليهالسلام : «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (٢) وهذه الرواية وإن كانت مختصّة بالشبهة التحريمية ، إلاّ أنّه لابأس بالاستدلال بها من هذه الجهة ، فانّ عمدة الخلاف بين الاصوليين والأخباريين إنّما هي في الشبهة التحريمية. وأمّا الشبهة الوجوبية فوافق الأخباريون الاصوليين في عدم وجوب الاحتياط فيها ، إلاّالقليل منهم كالمحدِّث الاسترابادي (٣) ، فانّه المتفرد من بين الأخباريين بوجوب الاحتياط فيها أيضاً ، بل اختصاص هذه الرواية بالشبهة التحريمية موجب لرجحانها على سائر روايات البراءة ، باعتبار أنّها أخص من أخبار الاحتياط ، فلا ينبغي الشك في تقدّمها عليها. ولذا ذكر شيخنا الأنصاري قدسسره (٤) أنّها أظهر روايات الباب.
ولكن صاحب الكفاية قدسسره والمحقق النائيني قدسسره لم يرتضيا
__________________
(١) الوسائل ٣ : ٤٩٣ / أبواب النجاسات ب ٥٠ ح ١١
(٢) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧ (في الطبعة القديمة ح ٦٠)
(٣) الفوائد المدنية : ١٣٨
(٤) فرائد الاصول ١ : ٣٦٩
الاستدلال بها للمقام ، وذكر كل منهما وجهاً لذلك غير ما ذكره الآخر. أمّا صاحب الكفاية قدسسره (١) فذكر أنّه يحتمل أن يكون المراد من الورود الذي جعل غاية للاطلاق هو صدور الحكم من المولى وجعله ، لا وصوله إلى المكلف ، فيكون مفاد الرواية أنّ كل شيء لم يصدر فيه نهي ولم تجعل فيه الحرمة فهو مطلق. وهذا خارج عن محل الكلام ، فانّ الكلام فيما إذا شكّ في صدور النهي من المولى وعدمه ، فيكون التمسك فيه بالرواية من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وفيه : أنّ الورود وإن صحّ استعماله في الصدور ، إلاّأنّ المراد به في الرواية هو الوصول ، إذ على تقدير أن يكون المراد منه الصدور لا مناص من أن يكون المراد من الاطلاق في قوله عليهالسلام : «كل شيء مطلق» هو الاباحة الواقعية ، فيكون المعنى أنّ كل شيء مباح واقعاً ما لم يصدر النهي عنه من المولى ، ولا يصح أن يكون المراد من الاطلاق هي الاباحة الظاهرية ، إذ لايصح جعل صدور النهي من الشارع غايةً للاباحة الظاهرية ، فانّ موضوع الحكم الظاهري هو الشك وعدم وصول الحكم الواقعي إلى المكلف ، فلا تكون الاباحة الظاهرية مرتفعة بمجرد صدور النهي من الشارع ولو مع عدم الوصول إلى المكلف ، بل هي مرتفعة بوصوله إلى المكلف ، فلا مناص من أن يكون المراد هي الاباحة الواقعية ، وحينئذ فامّا أن يراد من الاطلاق الاباحة في جميع الأزمنة أو الاباحة في خصوص عصر النبي صلىاللهعليهوآله لا سبيل إلى الأوّل ، إذ مفاد الرواية على هذا أنّ كل شيء مباح واقعاً حتّى يصدر النهي عنه من الشارع. وهذا المعنى من الوضوح بمكان كان بيانه لغواً لا يصدر من الإمام عليهالسلام فانّه من جعل أحد الضدّين غايةً للآخر ، ويكون من قبيل أن
__________________
(١) كفاية الاصول : ٣٤٢
يقال : كل جسم ساكن حتّى يتحرك. وكذا المعنى الثاني ، فانّه وإن كان صحيحاً في نفسه ، إذ مفاد الرواية حينئذ : أنّ الناس غير مكلفين بالسؤال عن حرمة شيء ووجوبه في زمانه صلىاللهعليهوآله بل هو صلىاللهعليهوآله يبيّن الحرام والواجب لهم ، والناس في سعةٍ ما لم يصدر النهي منه صلىاللهعليهوآله ولذا ورد في عدّة من الروايات المنع عن السؤال :
منها : ما ورد في الحج من أنّه صلىاللهعليهوآله سئل عن وجوبه في كل سنة وعدمه فقال صلىاللهعليهوآله : «ما يؤمنك أن أقول نعم ، فإذا قلت نعم يجب ...» (١).
وفي بعضها : «أنّ بني إسرائيل هلكوا من كثرة سؤالهم» (٢) ، فمفاد الرواية أنّ الناس ليس عليهم السؤال عن الحرام في عصر النبي صلىاللهعليهوآله بل كل شيء مطلق ومباح ما لم يصدر النهي عنه من الشارع ، بخلاف غيره من الأزمنة ، فانّ الأحكام قد صدرت منه صلىاللهعليهوآله فيجب على المكلفين السؤال والتعلم ، كما ورد في عدّة من الروايات (٣) فاتّضح الفرق بين عصر النبي صلىاللهعليهوآله وغيره من العصور من هذه الجهة.
إلاّأنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الرواية ، فان ظاهر قوله عليهالسلام : «كل شيء مطلق» هو الاطلاق الفعلي والاباحة الفعلية ، بلا تقييد بزمان دون زمان ، لا الاخبار عن الاطلاق في زمان النبي صلىاللهعليهوآله وأنّ كل شيء كان مطلقاً في زمانه ما لم يرد النهي عنه ، فتعيّن أن يكون المراد من الاطلاق هي
__________________
(١) بحار الأنوار ٢٢ : ٣١
(٢) بحار الأنوار ١ : ٢٢١ و ٢٢٤ / كتاب العلم ب ٧ ح ٢ و ١٦ (باختلاف يسير)
(٣) الوسائل ٢٧ : ٦٤ و ٦٥ / أبواب صفات القاضي ب ٧ ح ٨ و ٩ وغيرهما
الاباحة الظاهرية لا الواقعية. وعليه فلا مناص من أن يكون المراد من الورود هو الوصول ، لأنّ صدور الحكم بالحرمة واقعاً لا يكون رافعاً للاباحة الظاهرية ما لم تصل إلى المكلف ، كما هو ظاهر ، فنفس كلمة «مطلق» في قوله عليهالسلام : «كل شيء مطلق» قرينة على أنّ المراد من الورود هو الوصول.
وأمّا المحقق النائيني قدسسره (١) فذكر أنّ مفاد هذه الرواية هو اللاّحرجية العقلية الأصلية قبل ورود الشرع والشريعة ، فهي أجنبية عن محل الكلام وهو إثبات الاباحة الظاهرية لما شكّ في حرمته بعد ورود الشرع وقد حكم فيه بحرمة أشياء وحلية غيرها.
هذا ، وفيه من البعد ما لا يخفى ، لأنّ بيان الاطلاق الثابت عقلاً قبل ورود الشرع لغو لا يصدر من الإمام عليهالسلام ، إذ لا تترتب عليه ثمرة وفائدة فلا يمكن حمل الرواية عليه ، مضافاً إلى أنّ ظاهر الكلام الصادر من الشارع أو ممّن هو بمنزلته كالإمام عليهالسلام المتصدي لبيان الأحكام الشرعية هو بيان الحكم الشرعي المولوي لا الحكم العقلي الارشادي.
فتحصّل : أنّ الصحيح ما ذكره الشيخ قدسسره من دلالة الرواية على البراءة ، وإطلاقها يشمل الشبهات الحكمية والموضوعية ، باعتبار أنّ مفادها الحكم بحلية الشيء المشكوك في حرمته ، سواء كان منشأ الشك عدم تمامية البيان من قبل المولى كما في الشبهات الحكمية ، أو الامور الخارجية كما في الشبهات الموضوعية.
الثالث من الوجوه التي استدلّ بها على البراءة : هو الاجماع ، وتقريبه بوجوه ثلاثة :
__________________
(١) اجود التقريرات ٣. ٣١٧. فوائد الاصول ٣. ٣٦٣
الأوّل : دعوى اتفاق الاصوليين والأخباريين على قبح العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف بنفسه ولا بطريقه.
وفيه أوّلاً : أنّ هذا الاتفاق وإن كان ثابتاً ، إلاّ أنّه على أمر عقلي لا على أمر شرعي فرعي كي يكون إجماعاً تعبدياً كاشفاً عن رأي المعصوم عليهالسلام.
وثانياً : أنّ هذا الاتفاق إنّما هو على الكبرى ، ولا تترتب عليه ثمرة مع عدم ثبوت الصغرى ، ولا اتفاق عليها ، فانّ الأخباريين يدّعون عدم تحققها وأنّ الأحكام المجهولة واصلة إلى المكلفين بطريقها ، إمّا مطلقاً كما ادّعاه المحدِّث الاسترابادي (١) ، وإمّا في خصوص الشبهة التحريمية كما عليه المشهور منهم ، للروايات الدالة على الاحتياط والتوقف على ما سيجيء التعرّض لها (٢) إن شاء الله تعالى.
الثاني : دعوى الاتفاق على أنّ الحكم الشرعي المجعول في موارد الجهل بالأحكام الواقعية وعدم وصولها بنفسها ولا بطريقها هو الاباحة والترخيص.
وفيه : ما ذكرناه في سابقه ثانياً من أنّ الاتفاق على الكبرى لا يفيد مع عدم إحراز الصغرى ، ولا اتفاق عليها على ما سيجيء وتقدّمت الاشارة إليه.
الثالث : دعوى الاتفاق على أنّ الحكم الظاهري المجعول في موارد الجهل بالأحكام الواقعية وعدم وصولها بنفسها هو الاباحة والترخيص ، وهذا الاتفاق لو ثبت لأفاد ، ولكنّه غير ثابت ، كيف وقد ذهب الأخباريون وهم الأجلاء من العلماء إلى أنّ الحكم الظاهري هو وجوب الاحتياط.
الرابع من الوجوه التي استدلّ بها على البراءة : هو حكم العقل بقبح العقاب
__________________
(١) الفوائد المدنية : ١٣٨
(٢) في ص ٣٤٥ وما بعدها
بلا بيان. وتحقيق الحال في هذا الاستدلال يقتضي التكلم في جهات ثلاث :
الجهة الاولى : في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعدمها في نفسها.
الجهة الثانية : في ملاحظتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.
الجهة الثالثة : في لحاظها مع أدلة وجوب الاحتياط على تقدير تماميتها.
أمّا الجهة الاولى : فلا ينبغي الشك في تمامية قبح العقاب بلا بيان على القول بالتحسين والتقبيح العقليين كما عليه العدلية والمعتزلة ، فانّه من الواضح أنّ الانبعاث نحو عمل أو الانزجار عنه إنّما هو من آثار التكليف الواصل ، وما يكون محرّكاً للعبد نحو عمل أو زاجراً له عنه إنّما هو العلم بالتكليف لا وجوده الواقعي ، فإذا لم يكن التكليف واصلاً إلى العبد كان العقاب على مخالفته قبيحاً عقلاً ، إذ فوت غرض المولى ليس مستنداً إلى تقصير من العبد ، بل إلى عدم تمامية البيان من قبل المولى ، فنفس قاعدة قبح العقاب بلا بيان تامّة بلا شبهة وإشكال ، ومسلّمة عند الاصولي والأخباري.
وأمّا الجهة الثانية : فالمشهور بينهم ـ كما ذكره صاحب الكفاية قدسسره (١) ـ أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ مع حكم العقل بقبح العقاب مع عدم وصول التكليف إلى العبد لا يبقى احتمال الضرر ليجب دفعه بحكم العقل.
وأشكل عليه : بامكان العكس ، بأن تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ مع حكم العقل بوجوب التحفظ على الحكم الواقعي حذراً من الوقوع في الضرر المحتمل ، كان هذا بياناً ، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها ، وهو عدم البيان.
__________________
(١) كفاية الاصول : ٣٤٣
وبالجملة : كل من القاعدتين كبروي لا يتكفل لاحراز موضوعه ، بل لا بدّ من إحرازه من الخارج لا من نفس القاعدة كما هو واضح ، وكل منهما صالح لرفع موضوع الآخر ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر.
هذا ، والتحقيق في الجواب عن الاشكال يقتضي تقديم مقدّمة : وهي أنّ التعارض والتنافي لا يتصور إلاّبين دليلين ظنيين من جهة ، فقد يكون التنافي بين ظهورين مع كون السند في كل منهما قطعياً ، وقد يكون بين نصّين صريحين فيما إذا كان السند ظنّياً فيهما. وأمّا الدليلان القطعيان سنداً ودلالةً وجهةً فيستحيل وقوع المعارضة بينهما ، لاستلزامه التناقض المستحيل تحققه ، فلا محالة يكون أحد الدليلين وارداً أو حاكماً على الآخر. وظهر من ذلك استحالة وقوع المعارضة بين حكمين عقليين ، لاستلزامه حكم العقل بثبوت المتناقضين ، ففي المقام لا يعقل المعارضة بين القاعدتين ، فانّه مستلزم لحكم العقل باستحقاق العقاب وبعدمه في مورد واحد ، وهو محال. وإن شئت قلت : إنّ القطع بعدم استحقاق العقاب لا يجتمع مع احتماله.
إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول : إنّ الضرر المحتمل الذي يجب دفعه بحكم العقل إمّا أن يراد به الضرر الاخروي أي العقاب ، أو الضرر الدنيوي ، أو المفسدة المقتضية لجعل الحرمة.
فإن كان المراد به العقاب فامّا أن يكون وجوب دفعه غيرياً أو نفسياً أو طريقياً أو إرشادياً ، ولا يتصور له خامس. أمّا الوجوب الغيري فهو غير محتمل في المقام ، إذ الوجوب الغيري هو الذي يترشح من وجوب نفسي عند توقف واجب على شيء آخر ، وليس في المقام واجب متوقف على دفع العقاب الاخروي ليترشح الوجوب منه إليه ، لا في فرض تحقق الحكم واقعاً ولا في فرض عدمه. أمّا في فرض تحققه فلأ نّه ليس هناك إلاّتكليف واحد وليس
متوقفاً على دفع العقاب بل دفع العقاب يحصل بامتثاله وهو من آثاره العقلية.
وأمّا في فرض عدم تحققه ، فالتوقف منتفٍ بانتفاء موضوعه كما هو ظاهر.
وأمّا الوجوب النفسي فهو أيضاً غير صحيح في المقام ، إذ على تقدير الوجوب النفسي يكون العقاب على مخالفة نفسه لا على مخالفة التكليف الواقعي المجهول ، فلا يكون وجوب دفع الضرر المحتمل بياناً للتكليف الواقعي ، فإذن يكون التكليف الواقعي غير واصل إلى المكلف لا بنفسه ولا بطريقه ، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا مانع. وبها يرفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل. هذا ، مضافاً إلى أنّ الوجوب النفسي يستلزم تعدد العقاب عند مصادفة احتمال التكليف للواقع ، ولا يمكن الالتزام به ، فانّ احتمال التكليف لا يزيد على القطع به ، ولا تعدد للعقاب مع القطع بالتكليف ، فكيف مع احتماله.
وأمّا الوجوب الطريقي فهو أيضاً غير معقول في المقام ، إذ الوجوب الطريقي هو الذي يترتب عليه احتمال العقاب ويكون منشأً له ، لأنّ احتمال التكليف الواقعي لا يستلزم احتمال العقاب إلاّمع تنجز التكليف ووصوله إلى المكلف بنفسه أو بطريقه ، فمع عدم تنجّز التكليف وعدم وصوله بنفسه ولا بطريقه ليس هناك احتمال للعقاب أصلاً. وأمّا القطع بالعقاب فغير موجود حتّى في مخالفة التكليف المنجّز الواصل لاحتمال العفو والشفاعة. ففي موارد جعل الوجوب الطريقي كان التكليف على تقدير تحققه واقعاً واصلاً إلى المكلف بطريقه ومنجّزاً ، فاستحقّ العقاب على مخالفته. ومنشأ الاستحقاق هو الوجوب الطريقي ، كوجوب الاحتياط الشرعي الثابت في موارده ، وكوجوب العمل بالاستصحاب المثبت للتكليف مع العلم بالحالة السابقة. فاتّضح أنّ الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب ولولاه لما كان العقاب محتملاً ، فكيف يمكن
الالتزام بأنّ وجوب دفع الضرر المحتمل طريقي ، إذ قد عرفت أنّ الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب ، فلا مناص من أن يكون الوجوب في رتبة سابقة على احتمال العقاب ، مع أنّ احتمال العقاب مأخوذ في موضوع وجوب دفع الضرر المحتمل ، فلا بدّ من تقدّمه عليه تقدّم الموضوع على الحكم ، وهذا هو الدور الواضح.
وبعبارة اخرى : إن احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل ، فجعل وجوب دفع الضرر المحتمل لغو ، إذ الأثر المترتب عليه هو احتمال العقاب المتحقق مع قطع النظر عنه على الفرض ، وإن لم يحتمل العقاب فيكون وجوب دفع الضرر المحتمل منتفياً بانتفاء موضوعه. فتعيّن أن يكون وجوب دفع الضرر المحتمل إرشادياً بمعنى أنّ العقل يحكم ويرشد إلى تحصيل المؤمّن من عقاب مخالفة التكليف الواقعي على تقدير تحققه. والفرق بينه وبين الوجوب الطريقي أنّ الوجوب الطريقي هو المنشأ لاحتمال العقاب ، ولولاه لما كان العقاب محتملاً على ما تقدّم بيانه ، بخلاف الوجوب الارشادي فانّه في رتبة لاحقة عن احتمال العقاب ، إذ لولا احتمال العقاب لما كان هناك ارشاد من العقل إلى تحصيل الأمن منه.
وبذلك ظهر أنّ مورد كل من القاعدتين مغاير لمورد الآخر ، ولا تنافي بينهما ، لعدم اجتماعهما في مورد واحد أبداً ، فان احتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل ـ بأن كان التكليف المحتمل منجّزاً على تقدير ثبوته واقعاً ، كما في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي والشبهة الحكمية قبل الفحص ـ كان مورداً لحكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إرشاداً إلى تحصيل المؤمّن ، ولا مجال فيه لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان. وإن لم يحتمل العقاب مع قطع النظر عن وجوب دفع الضرر المحتمل مع احتمال التكليف ـ فانّ احتمال التكليف لا يستلزم احتمال العقاب ، كما في الشبهة الحكمية بعد الفحص فيما إذا لم يكن
هناك منجّز خارجي من علم إجمالي أو إيجاب احتياط أو غيرهما ـ كان مورداً لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ولا مجال فيه لجريان قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل على ما تقدّم بيانه. وبعبارة اخرى واضحة : مورد وجوب دفع الضرر المحتمل فرض وصول التكليف تفصيلاً أو إجمالاً بنفسه أو بطريقه ، كما في أطراف العلم الاجمالي والشبهة قبل الفحص وموارد وجوب الاحتياط الشرعي ، ومورد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو فرض عدم وصوله بنفسه ولا بطريقه كما في الشبهة بعد الفحص واليأس عن الحجة على التكليف ، فلا توارد بين القاعدتين في مورد واحد أصلاً.
هذا كلّه على تقدير أن يكون المراد بالضرر المحتمل هو العقاب.
وأمّا لو كان المراد به الضرر الدنيوي فكل من الصغرى والكبرى ممنوع.
أمّا الصغرى فلأ نّه لا ملازمة بين ارتكاب الحرام وترتّب الضرر الدنيوي ، بل ربّما تكون فيه المنفعة الدنيوية كما في موارد الانتفاع بمال الغير غصباً. نعم ، يترتب الضرر الدنيوي على ارتكاب بعض المحرّمات كأكل الميتة وشرب السم مثلاً ، ولكن لا تثبت به الكلية. وأمّا الكبرى فلأ نّه لا استقلال للعقل بوجوب دفع الضرر الدنيوي بل هو ممّا نقطع بخلافه ، فانّا نرى أنّ العقلاء يقدمون على الضرر المقطوع به لرجاء حصول منفعة ، فكيف بالضرر المحتمل. نعم ، الاقدام على الضرر الدنيوي بلا غرض عقلائي يعدّ سفاهة عند العقلاء ويلام فاعله ، إلاّ أنّ العقل غير مستقل بقبحه الملازم لاستحقاق العقاب ليكون حراماً شرعاً ، وإلاّ لزم كون كل فعل سفهي حراماً شرعاً ، وهذا ممّا نقطع بخلافه.
وأمّا إن كان المراد بالضرر المفسدة ، فالصغرى وإن كانت مسلّمة في خصوص ما يحتمل حرمته ، بناءً على ما عليه العدلية من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، فانّ احتمال الحرمة في شيء لا ينفك حينئذ عن احتمال المفسدة فيه ، إلاّ أنّ
الكبرى ممنوعة ، إذ العقل لا يحكم بوجوب دفع المفسدة المحتملة ، كيف وقد اتّفق العلماء من الاصوليين والأخباريين ، بل العقلاء أجمع على عدم لزوم الاجتناب عمّا يحتمل وجود المفسدة فيه في الشبهة الموضوعية ، ولو كان العقل مستقلاً بوجوب دفع المفسدة المحتملة كان الاحتياط واجباً فيها أيضاً ، إذ لا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية من هذه الجهة.
فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا تعارض قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات البدوية بعد الفحص واليأس عن الحجّة على التكليف.
أمّا الجهة الثالثة : وهي ملاحظة قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع أدلة وجوب الاحتياط ، فملخص الكلام فيها : أنّه على تقدير تمامية دلالتها على وجوب الاحتياط وجوباً طريقياً ، تسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها ، إذ على تقدير وجوب الاحتياط بهذا النحو يتمّ البيان من قبل المولى ، وتنجز الحكم الواقعي على تقدير ثبوته ، فلا يبقى موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فكانت أدلة وجوب الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها واردة على القاعدة ، وسيجيء الكلام في تمامية دلالتها وعدمها قريباً عند التعرّض لذكر أدلة الأخباريين (١) إن شاء الله تعالى.
الوجه الخامس من الوجوه التي استدلّ بها على البراءة : الاستصحاب ، وتقريبه على نحوين ، لأنّ الأحكام الشرعية لها مرتبتان :
الاولى : مرتبة الجعل والتشريع ، والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوّم بفرض الموضوع لا بتحققه فعلاً ، إذ التشريع غير متوقف على تحقق الموضوع
__________________
(١) في ص ٣٤٤ وما بعدها
خارجاً ، بل يصح جعل الحكم على موضوع مفروض الوجود على نحو القضيّة الحقيقية ، فصحّ تشريع القصاص على القاتل وإن لم يقتل أحد أحداً إلى الأبد.
الثانية : مرتبة الفعلية ، والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوّم بتحقق الموضوع خارجاً ، لأنّ فعلية الحكم إنّما هي بفعلية موضوعه ، ومع انتفاء الموضوع خارجاً لايكون الحكم فعلياً ، وحيث إنّ الحكم الشرعي في كل واحد من المرتبتين مسبوق بالعدم ، فقد يقرّب الاستدلال بالاستصحاب باعتبار المرتبة الاولى ، وقد يقرّب باعتبار المرتبة الثانية.
أمّا تقريب الاستدلال باعتبار المرتبة الاولى : فهو أنّ الأحكام الشرعية لمّا كانت في جعلها تدريجية ، فالحكم المشكوك فيه لم يكن مجعولاً في زمان قطعاً ، فنستصحب ذلك ما لم يحصل اليقين بجعله.
واورد على هذا التقريب بايرادين :
أحدهما : أنّ عدم الجعل المتيقن عدم محمولي ، والعدم المشكوك فيه هو العدم النعتي المنتسب إلى الشارع ، ولا يمكن إثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي إلاّعلى القول بالأصل المثبت. وبعبارة اخرى : العدم المتيقن هو العدم قبل الشرع والشريعة ، وهو غير منتسب إلى الشارع. والعدم المشكوك فيه هو العدم المنسوب إلى الشارع بعد ورود الشرع من قبله ، فالمتيقن غير محتمل البقاء ، وما هو مشكوك الحدوث لم يكن متيقناً سابقاً.
وفيه : أنّ المستصحب إنّما هو العدم المنتسب إلى الشارع بعد ورود الشرع ، لما عرفت من أنّ جعل الأحكام كان تدريجياً ، فقد مضى من الشريعة زمان لم يكن الحكم المشكوك فيه مجعولاً يقيناً ، فيستصحب ذلك. مع أنّ الانتساب يثبت بنفس الاستصحاب.
ثانيهما : أنّ المحرّك للعبد ـ أعني الباعث أو الزاجر له ـ إنّما هو التكليف
الفعلي لا الانشائي ، فالحكم الانشائي ممّا لا يترتب عليه أثر ، ومن الواضح أنّه لا يمكن إثبات عدم التكليف الفعلي باستصحاب عدم الجعل ، إلاّعلى القول بالأصل المثبت.
وفيه أوّلاً : النقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل الذي لا خلاف في جريانه ، فلو كان نفي الحكم الفعلي باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت ، كان إثبات الحكم الفعلي باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ أيضاً كذلك.
وثانياً : أنّ الانشاء هو إبراز أمر اعتباري على ما ذكرناه غير مرّة (١) والاعتبار كما يمكن تعلّقه بأمر فعلي يمكن تعلّقه بأمر متأخر مقيّد بقيود ، فليس جعل الحكم وإنشاؤه إلاّعبارة عن اعتبار شيء على ذمّة المكلف في ظرف خاص ، ويتحقق المعتبر بمجرد الاعتبار ، بل هما أمر واحد حقيقةً. والفرق بينهما اعتباري كالوجود والايجاد ، فالحكم الفعلي هو الحكم الانشائي مع فرض تحقق قيوده المأخوذة فيه. وعليه فاستصحاب الحكم الانشائي أو عدمه هو استصحاب الحكم الفعلي أو عدمه. نعم ، مجرد ثبوت الحكم في عالم الاعتبار لا يترتب عليه وجوب الاطاعة بحكم العقل قبل تحقق موضوعه بقيوده في الخارج ، وليس ذلك إلاّمن جهة أنّ الاعتبار قد تعلّق بظرف وجود الموضوع على نحو القضيّة الحقيقية من أوّل الأمر ، فمع عدم تحقق الموضوع لا يكون حكم وتكليف على المكلف ، وبعد تحقق الموضوع بقيوده خارجاً لا يكون المحرّك إلاّ نفس الاعتبار السابق لا أمر آخر يسمّى بالحكم الفعلي.
فتحصّل بما ذكرناه : أنّ الاستدلال بالاستصحاب على هذا التقريب ممّا لا بأس به. وعليه فلا يبقى مورد للرجوع إلى البراءة الشرعية أو العقلية.
__________________
(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٩٧ ـ ٩٨
إن قلت : إنّ استصحاب عدم جعل الالزام معارض باستصحاب عدم جعل الترخيص ، فانّا نعلم إجمالاً بجعل أحد الأمرين ، فيسقطان بالمعارضة ويرجع حينئذ إلى البراءة.
قلت أوّلاً : يمكن المنع عن العلم الاجمالي بثبوت أحد الجعلين في خصوص المورد المشكوك فيه ، لاحتمال أن يكون الترخيص الشرعي ثابتاً بعنوان عام لكل مورد لم يجعل الالزام فيه بخصوصه ، كما كان عمل الأصحاب على ذلك في صدر الاسلام ، ويستفاد أيضاً من ردعه صلىاللهعليهوآله أصحابه عن كثرة السؤال على ما في روايات كثيرة (١). وعليه فيكون استصحاب عدم جعل الالزام مثبتاً لموضوع الترخيص ، فيكون حاكماً على استصحاب عدم جعل الترخيص.
وثانياً : لا مانع من جريان كلا الاستصحابين بعد ما لم يلزم منه مخالفة عملية للتكليف الالزامي ، فإذا ثبت عدم جعل الالزام وعدم الترخيص بمقتضى الاستصحابين ، كفى ذلك في نفي العقاب ، لأنّ استحقاقه مترتب على ثبوت المنع ، ولا يحتاج نفيه إلى ثبوت الترخيص ، فإذا ثبت عدم المنع ينتفي العقاب ولو لم يثبت الترخيص. نعم ، الآثار الخاصّة المترتبة على عنوان الاباحة لاتترتب على استصحاب عدم جعل الالزام ، فإذا فرض مورد كان الأثر الشرعي مترتباً على الاباحة لا مناص فيه من الرجوع إلى أصالة الاباحة ، ولا يكفي فيه الرجوع إلى استصحاب عدم المنع كما هو ظاهر.
إن قلت : لا يصحّ التمسك باستصحاب عدم الجعل في الشبهات الموضوعية ، لأنّ مورد الشبهة لم يجعل له الحكم بشخصه يقيناً. وأمّا الطبيعي المشكوك
__________________
(١) راجع على سبيل المثال بحار الأنوار ٢٢ : ٣١
انطباقه على المورد فثبوت الحكم له يقيني ، فلا مورد للاستصحاب أصلاً ، فإذا شككنا في كون مائع معيّن خمراً ، فالمائع المذكور لم تجعل الحرمة له بشخصه ولا الاباحة ، وثبوت الحرمة لطبيعي الخمر كثبوت الاباحة لطبيعي الماء يقيني ، فكيف يصحّ التمسك باستصحاب عدم الجعل.
قلت أوّلاً : إنّ الأحكام المجعولة بنحو القضايا الحقيقية تنحل إلى أحكام متعددة بحسب تعدّد أفراد موضوعاتها ، كما هو مبنى جريان البراءة في الشبهات الموضوعية ، إذ بدونه لا يكون هناك حكم مجهول ليرفع بالبراءة. وعليه فيكون الشك في خمرية مائع مستلزماً للشك في جعل الحرمة له ، فيرجع إلى استصحاب عدم الجعل كما في الشبهة الحكمية.
وثانياً : أنّه لو سلّم عدم جريان استصحاب عدم الجعل في الشبهة الموضوعية لا مانع من الرجوع إلى الاستصحاب الموضوعي إمّا محمولياً كما في كثير من الموارد ، وإمّا أزلياً كما في بعضها. وقد ذكرنا في محلّه (١) جريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية.
وأمّا تقريب الاستدلال بالاستصحاب باعتبار المرتبة الثانية للحكم وهي المرتبة الفعلية ، فهو استصحاب عدم التكليف الفعلي المتيقن قبل البلوغ ، وقد اورد على هذا التقريب بوجوه :
الوجه الأوّل : أنّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بنفسه أو بأثره مجعولاً شرعياً ، ويكون وضعه ورفعه بيد الشارع ، وعدم التكليف أزلي غير قابل للجعل ، وليس له أثر شرعي ، فانّ عدم العقاب من لوازمه العقلية ، فلا يجري فيه الاستصحاب. ونسب صاحب الكفاية قدسسره (٢) في التنبيه
__________________
(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٦٠
(٢) كفاية الاصول : ٤١٧
الثامن من تنبيهات الاستصحاب هذا الايراد إلى الشيخ قدسسره.
أقول : أمّا نسبة هذا الايراد إلى الشيخ قدسسره فالظاهر أنّها غير مطابقة للواقع ، لأنّ الشيخ قدسسره قائل بجريان الاستصحاب في الأعدام الأزلية ، كما صرّح بذلك في عدّة موارد من الرسائل والمكاسب (١) ، وذكر (٢) أيضاً في جملة التفصيلات في جريان الاستصحاب التفصيل بين الوجود والعدم ، وردّه بأ نّه لا فرق في جريان الاستصحاب بين الوجود والعدم. وبالجملة : الشيخ وإن كان قائلاً بعدم صحّة الاستدلال على البراءة بالاستصحاب ، إلاّ أنّه ليس لأجل هذا الايراد الذي ذكره صاحب الكفاية قدسسره ونسبه إليه.
وسيجيء بيان إيراد الشيخ قدسسره على الاستصحاب المذكور قريباً إن شاء الله تعالى.
وأمّا أصل الايراد المذكور فيردّه : أنّ اعتبار كون المستصحب أمراً مجعولاً بنفسه أو بأثره ممّا لم يدل عليه دليل من آية ولا رواية ، إنّما المعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب قابلاً للتعبد الشرعي ، ولا خفاء في أنّ عدم التكليف كوجوده قابل للتعبد. وتوهم أنّه لا بدّ من أن يكون المستصحب قابلاً للتعبد حدوثاً والعدم الأزلي لا يكون حادثاً ، مدفوع بأنّ المعتبر كونه قابلاً للتعبد عند جريان الاستصحاب وفي ظرف الشك ، فيكفي كون المستصحب قابلاً للتعبد بقاءً وإن لم يكن قابلاً له حدوثاً. وسيأتي الكلام في ذلك مفصلاً في بحث الاستصحاب (٣) إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) صرّح بذلك في مطارح الأنظار : ١٩٤ السطر ٣٢
(٢) فرائد الاصول ٢ : ٥٤٩ و ٥٨٨
(٣) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٢١١
الوجه الثاني : ما أفاده شيخنا الأنصاري قدسسره (١) وملخّصه : أنّ استصحاب البراءة لو كان موجباً للقطع بعدم العقاب صحّ التمسك به وإلاّ فلا ، إذ مع بقاء احتمال العقاب بعد جريان الاستصحاب لا مناص من الرجوع إلى قاعدة قبح العقاب بلابيان ، لسدّ باب هذا الاحتمال ، ومعه كان التمسّك بالاستصحاب لغواً محضاً ، لأنّ التمسك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان كافٍ في سدّ باب احتمال العقاب من أوّل الأمر ، بلا حاجة إلى التمسك بالاستصحاب. وعليه فإن بنينا على كون الاستصحاب من الأمارات أو قلنا بحجّية مثبتات الاصول ، حصل منه القطع بعدم العقاب وصحّ التمسّك به ، إذ عدم المنع من الفعل الثابت بالاستصحاب مستلزم للرخصة في الفعل ، فإذا فرض ثبوت الرخصة من قبل الشارع بالتعبد الاستصحابي باعتبار كونها من لوازم عدم المنع المستصحب لم يحتمل العقاب ، فانّ العقاب على الفعل مع الترخيص فيه غير محتمل قطعاً. وأمّا لو لم نقل بكون الاستصحاب من الأمارات ولا بحجية مثبتات الاصول كما هو الصحيح ، فلا يصحّ التمسك بالاستصحاب في المقام ، إذ لا يثبت به الترخيص الموجب للقطع بعدم العقاب ، ويبقى احتمال العقاب ، فنحتاج إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ومعه كان التمسك بالاستصحاب لغواً كما تقدّم.
وفيه أوّلاً : أنّ استصحاب عدم المنع كافٍ في القطع بعدم العقاب ، إذ العقاب من لوازم المنع عن الفعل وتحريمه ، فمع إحراز عدم المنع عن الفعل بالاستصحاب نقطع بعدم العقاب ، بلا حاجة إلى إحراز الرخصة التي هي من لوازم عدم المنع ليكون مثبتاً.
وثانياً : أنّه يمكن جريان الاستصحاب في نفس الترخيص الشرعي المتيقن
__________________
(١) فرائد الاصول ١ : ٣٧٨
ثبوته قبل البلوغ ، لحديث رفع القلم وأمثاله ، فيحصل منه القطع بعدم العقاب بلا واسطة شيء آخر.
الوجه الثالث : ما ذكره المحقق النائيني قدسسره (١) وهو أنّ المتيقن الثابت قبل البلوغ إنّما هو عدم التكليف في مورد غير قابل له كما في الحيوانات ، ومثل ذلك لا يحتمل بقاؤه بعد البلوغ ، وإنّما المحتمل فيه عدم التكليف في المورد القابل له ، فلا معنى للتمسك بالاستصحاب. وبعبارة اخرى : العدم الثابت قبل البلوغ عدم محمولي وغير منتسب إلى الشارع ، والعدم بعد البلوغ عدم نعتي منتسب إلى الشارع ، وإثبات العدم النعتي باستصحاب العدم المحمولي مبني على القول بالأصل المثبت ولا نقول به.
وفيه أوّلاً : أنّ عدم التكليف في الصبي غير المميز وإن كان كما ذكره ، إلاّ أنّه ليس كذلك في المميز ، بل هو عدم التكليف في مورد قابل له ، وإنّما رفعه الشارع عنه امتناناً.
وثانياً : أنّ العدم المتيقن وإن كان أزلياً غير منتسب إلى الشارع ، إلاّ أنّه يثبت انتسابه إليه بنفس الاستصحاب ، فانّ الانتساب من الآثار المترتبة على نفس الاستصحاب ، لا من آثار المستصحب ليكون إثباته بالاستصحاب مبنياً على القول بالأصل المثبت. وسنذكر في بحث الاستصحاب (٢) أنّ اللوازم التي لا تثبت بالاستصحاب إنّما هي اللوازم العقلية أو العادية للمستصحب. وأمّا اللوازم العقلية لنفس الاستصحاب فهي تترتب عليه ، إذ الاستصحاب بعد جريانه محرز بالوجدان ، فتترتب آثاره ولوازمه عليه عقلية كانت أو شرعية.
الوجه الرابع : ما أفاده أيضاً المحقق النائيني قدسسره (٣) وهو أنّه يعتبر
__________________
(١) أجود التقريرات ٣ : ٣٣١
(٢) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٢١٠
(٣) أجود التقريرات ٣ : ٣٣١ و ٣٣٢