موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

خارجاً في مقام الامتثال ، فلا دخل للقطع في متعلق التكليف أصلاً. غاية الأمر أنّه مع القطع بالتكليف يصح عقاب العبد على المخالفة ، لأنّ التكليف الواصل ممّا يصحّ العقاب على مخالفته بحكم العقل ، ولا يصحّ العقاب مع الانقياد ولو كان قطعه مخالفاً للواقع ، لكونه معذوراً حينئذ ، ولهذا نسمّي القطع بالمنجّز مع المطابقة وبالمعذّر مع المخالفة.

وبهذا ظهر أنّ صحّة العقاب على التمرد ـ على تقدير مصادفة القطع للواقع ـ وعدمها ـ على تقدير عدم المصادفة ـ لاتوجب دخول الأمر الخارج عن الاختيار في حيّز الطلب ، ولا إناطة العقاب بأمر خارج عن الاختيار ، إذ العقاب مع المصادفة إنّما هو على مخالفة التكليف الواصل مخالفةً بالارادة والاختيار ، وعدم العقاب مع عدم المصادفة إنّما هو لعدم تحقق مخالفة التكليف في الواقع ولو بلا اختيار ، وعدم العقاب لأمر غير اختياري ممّا لا بأس به ، إنّما القبيح هو العقاب على أمر غير اختياري.

أمّا الكلام في الجهة الثانية : فهو أنّه قد يدعى حرمة الفعل المتجرى به بملاك التمرد على المولى ، ويستدلّ لها بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ تعلّق القطع بانطباق عنوان ذي مصلحة على شيء يوجب حدوث المصلحة في ذلك الشيء ، فيكون واجباً لكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد ، وتعلّق القطع بانطباق عنوان ذي مفسدة على شيء يوجب حدوث المفسدة فيه ، فيكون حراماً لما تقدّم ، فالفعل المتجرى به وإن كان مباحاً بعنوانه الأوّلي ، إلاّ أنّه صار واجباً أو حراماً بعنوانه الثانوي ، وهو كونه مقطوع الوجوب أو مقطوع الحرمة.

وفيه : ما تقدّم من أنّ المصلحة والمفسدة من الامور التكوينية المترتبة على نفس العمل ، بلا دخل للقطع فيهما أصلاً ، إنّما القطع دخيل في التنجيز والتعذير

٢١

فقط ـ كما تقدّم ـ دون المصالح والمفاسد ، إذ من الواضح أنّ القطع بانطباق عنوان على شيء لا يوجب سلب آثاره التكوينية الواقعية ، ولا حدوث أثر آخر فيه ، فانّ القطع بكون الماء سمّاً لا يجعله سمّاً ، ولا يترتب عليه أثر السم.

والقطع بكون السمّ ماءً لا يجعله ماءً من حيث الأثر ، بل يترتب على شربه أثر السمّ من الموت. ولو سلّمنا إمكان ذلك لا دليل على وقوعه في المقام. ومجرد الامكان لا يثبت به الوقوع كما هو ظاهر.

الوجه الثاني : أنّ التجري كاشف عن سوء سريرة العبد وخبث باطنه وكونه في مقام الطغيان على المولى ، وهذا يوجب قبح الفعل المتجرى به عقلاً ، فيحكم بحرمته شرعاً لقاعدة الملازمة.

وفيه : أنّ كون الفعل كاشفاً عن سوء سريرة الفاعل وخبث باطنه لايوجب قبح الفعل ، إذ قبح المنكشف لا يوجب قبح الكاشف ، كما أنّ حسن المنكشف لا يسري إلى الكاشف ، فلم يثبت قبح للفعل المتجرى به عقلاً ليحكم بحرمته شرعاً بقاعدة الملازمة. مضافاً إلى ما سيجيء (١) من عدم تمامية قاعدة الملازمة في المقام أيضاً.

الوجه الثالث : أنّ تعلّق القطع بقبح فعل يوجب قبحه ، والقطع بحسن عمل يوجب حسنه ، فيحكم بحرمته في الأوّل وبوجوبه في الثاني ، لقاعدة الملازمة ، فهنا دعويان :

الاولى : أنّ القطع من العناوين والوجوه المقبّحة والمحسّنة للفعل.

الثانية : أنّ قبح الفعل يستتبع حرمة شرعية ، وحسنه يستتبع وجوباً شرعياً لقاعدة الملازمة.

__________________

(١) في ص ٢٥

٢٢

أمّا الدعوى الاولى : فأنكرها صاحب الكفاية (١) قدس‌سره وتبعه في ذلك المحقق النائيني (٢) قدس‌سره.

أمّا صاحب الكفاية فاستدلّ عليه بما حاصله : أنّ العناوين المحسّنة والمقبّحة لابدّ وأن تكون اختيارية متعلقة لارادة المكلف ، وعنوان القطع لا يكون كذلك ، لأنّ القاطع إنّما يقصد الفعل بعنوانه الواقعي ، لا بعنوان كونه مقطوع الوجوب أو الحرمة أو الخمرية ، فبهذا العنوان لا يكون مقصوداً بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه. بل ذكر في بعض كلماته (٣) أنّه لم يصدر منه فعل بالاختيار ، كما إذا قطع بكون مائع خمراً فشربه ولم يكن في الواقع خمراً ، وذلك لأنّ شرب الخمر منتف بانتفاء موضوعه ، وشرب الماء ممّا لم يقصده ، فلم يصدر منه فعل بالارادة والاختيار ، إذ ما قصده لم يقع ، وما وقع لم يقصده ، انتهى ملخّصاً.

وأمّا المحقق النائيني قدس‌سره فذكر أنّ القطع طريق محض إلى متعلقه لا دخل له في الحسن والقبح ، ولم يستدل بشيء ، وادّعى أنّ هذا أمر وجداني.

أقول : أمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من البرهان ، ففيه : أنّه إن كان مراده من القصد في قوله : إنّ القاطع إنّما يقصد الفعل بعنوانه الأوّلي ، هو الداعي كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره فهو وإن كان صحيحاً ، إذ الداعي لشرب الخمر هو الاسكار مثلاً ، لا عنوان كونه مقطوع الخمرية ، إلاّ أنّه لا يعتبر في الجهات المحسّنة أو المقبّحة أن تكون داعية في مقام العمل ، بل المعتبر صدور الفعل بالاختيار ، مع كون الفاعل ملتفتاً إلى جهة قبحه ، ولذا يكون

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٠

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٤٧ ، فوائد الاصول ٣ : ٤١

(٣) دُرر الفوائد في الحاشية على الفرائد : ٣٧

٢٣

ضرب اليتيم مع الالتفات إلى أنّه يتألم ويتأذى ظلماً وقبيحاً ، ولو لم يكن بداعي الايلام والايذاء ، بل كان بداعي امتحان العصا مثلاً. وإن كان مراده من القصد هو الالتفات ، فلا وجه للترقي والاضراب في قوله : بل لا يكون غالباً ممّا يلتفت إليه ، لكونه عين ما ذكره أوّلاً.

وأمّا قوله (قدس‌سره) : بل لا يكون غالباً ممّا يلتفت إليه ، فان كان مراده هو الالتفات التفصيلي ، فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّأنّ الالتفات التفصيلي غير معتبر في العناوين الموجبة للحسن أو القبح ، وإن كان مراده مطلق الالتفات ولو بنحو الاجمال ، ففيه : أنّ الالتفات إلى العناوين المحسّنة أو المقبّحة وإن كان معتبراً ، إلاّأنّ عنوان المقطوعية يكون ملتفتاً إليه دائماً بالالتفات الاجمالي الارتكازي ، كيف وحضور الأشياء في الذهن إنّما هو بالقطع ، ويسمى بالعلم الحصولي ، وحضوره بنفسه ويعبّر عنه بالعلم الحضوري ، فلا يعقل أن يكون الانسان عالماً بشيء مع كونه غير ملتفت إلى علمه ، بل هو ملتفت إليه دائماً ولو بالالتفات الاجمالي الارتكازي.

وأمّا ما ذكره أخيراً : من أنّه لم يصدر منه فعل بالاختيار ، كما إذا قطع بكون مائع خمراً فشربه ولم يكن في الواقع خمراً ... ففيه : أنّ الفعل ـ أي شرب الماء ـ لم يقع في الخارج بلا إرادة وقصد بالضرورة ، بل وقع مع القصد إليه بعنوان أنّه شرب الخمر ، وهو عنوان موجب لقبحه. وبعبارة اخرى : القطع بكون مائع خمراً لا يجعل شربه اضطرارياً غير متصف بالقبح ولا بالحسن ، إذ يكفي في كونه اختيارياً صدوره عن إرادة وقصد إليه ، ويكفي في قبحه الالتفات الاجمالي إلى جهة قبحه ، وهي كونه مقطوع الحرمة.

وأمّا ما ذكره المحقق النائيني (قدس‌سره) من دعوى الوجدان ، ففيه : أنّ الوجدان شاهد على خلافه ، وأنّ العقل حاكم بقبح الفعل المتجرى به ، بمعنى أنّه

٢٤

يدرك أنّ الفعل المذكور تعدٍّ على المولى وهتك لحرمته ، وخروج عن رسوم عبوديته ، وأنّ الفاعل يستحق الذم واللوم ، كيف ولا خلاف بين العقلاء في حسن الانقياد عقلاً ، بمعنى أنّ العقل يدرك أنّه جري على وظيفة العبودية ، وأنّ الفاعل مستحق للمدح والثناء ، ولذا أنكر عدّة من العلماء دلالة أخبار من بلغ على الاستحباب الشرعي ، وحملها على أنّ المراد إعطاء الأجر والثواب من باب الانقياد ، مع أنّ الانقياد والتجري ـ مع التحفظ على تقابلهما ـ من وادٍ واحد ، فكما أنّ الانقياد حسن عقلاً بلا خلاف بين العقلاء ، كذلك لا ينبغي الشك في أنّ التجري قبيح عقلاً.

فالانصاف : أنّ الدعوى الاولى ـ التي هي بمنزلة الصغرى ، وهي قبح الفعل المتجرى به عقلاً ـ ممّا لا مناص من التسليم بها. وأمّا الدعوى الثانية ـ التي هي بمنزلة الكبرى ، وهي أنّ قبح الفعل عقلاً يستلزم حرمته شرعاً ، وحسن الفعل عقلاً يستتبع وجوبه شرعاً لقاعدة الملازمة ـ فهي غير تامّة. وقاعدة الملازمة أجنبية عن المقام ، بيان ذلك :

أنّ حكم العقل إنّما هو بمعنى إدراكه ليس إلاّ ، فتارةً يدرك ما هو في سلسلة علل الأحكام الشرعية من المصالح والمفاسد ، وهذا هو مورد قاعدة الملازمة ، إذ العقل لو أدرك مصلحة ملزمة في عمل من الأعمال ، وأدرك عدم وجود مزاحم لتلك المصلحة ، علم بوجوبه الشرعي لا محالة ، بعد كون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد. وكذا لو أدرك مفسدة ملزمة بلا مزاحم ، علم بالحرمة الشرعية لا محالة.

لكن الصغرى لهذه الكبرى غير متحققة أو نادرة جداً ، إذ العقل لا يحيط بالمصالح الواقعية والمفاسد النفس الأمرية والجهات المزاحمة لها ، ولذا ورد في

٢٥

الروايات «أنّ دين الله لا يصاب بالعقول» (١) و «أنّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال» (٢).

واخرى يدرك العقل ما هو في مرتبة معلولات الأحكام الشرعية ، كحسن الاطاعة وقبح المعصية ، فانّ هذا الحكم العقلي فرع ثبوت الحكم الشرعي المولوي ، وحكم العقل بقبح التجري وحسن الانقياد من هذا القبيل ، فقاعدة الملازمة أجنبية عنه ، فلا دليل على أنّ حكم العقل بقبح التجري يستلزم الحرمة الشرعية ، بل لنا أن ندّعي عدم إمكان جعل حكم شرعي مولوي في المقام ، إذ لو كان حكم العقل بحسن الانقياد والاطاعة وقبح التمرد والمعصية كافياً في إتمام الحجّة على العبد ، وفي بعثه نحو العمل وزجره عنه ـ كما هو الصحيح ـ فلا حاجة إلى جعل حكم شرعي مولوي آخر ، وإن لم يكن كافياً فلا فائدة في جعل حكم آخر ، إذ هو مثل الحكم الأوّل ، فيكون جعل الحكم لغواً يستحيل صدوره من الحكيم (تعالى وتقدّس).

هذا ، ولنا برهان آخر أبسط على عدم إمكان جعل الحكم الشرعي في المقام : وهو أنّ القبح ـ الذي يتوهم استتباعه للحكم الشرعي ـ لو كان مختصاً بعنوان التجري ـ أي مخالفة القطع المخالف للواقع ـ ففيه : مضافاً إلى فساد هذا الاختصاص وأنّ حكم العقل بالقبح في صورة مصادفة القطع للواقع وصورة مخالفته له على حد سواء ، إذ ملاكه وهو هتك المولى والجرأة عليه موجود في

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٢٦٢ / أبواب صفات القاضي ب ٦ ح ٢٥

(٢) [لم نجد هذا النص في مصادر الحديث المتداولة وإنّما الموجود فيها : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» الوسائل ٢٧ : ١٩٢ / أبواب صفات القاضي ب ١٣ ح ٤١]

٢٦

كلتا الصورتين ، أنّ هذا الحكم غير قابل للبعث والمحركية أصلاً ، إذ من مبادئ قدرة المكلف على الامتثال المعتبرة في صحّة التكليف هو الالتفات إلى الموضوع ، والالتفات إلى هذا العنوان ـ أي القطع المخالف للواقع ـ مساوق لزواله ، نظير الالتفات إلى النسيان ، فكما لا يمكن توجيه التكليف إلى الناسي بعنوان الناسي ، إذ الالتفات شرط للتكليف ومع الالتفات إلى كونه ناسياً ينقلب النسيان إلى الذكر ، وينتفي الموضوع ، كذا لا يمكن تكليف القاطع بعنوان مخالفة قطعه للواقع ، إذ مع عدم الالتفات لا يصح التكليف ، ومع الالتفات إلى مخالفة قطعه للواقع يزول القطع.

وأمّا لو كان القبح المتوهم استتباعه للحكم الشرعي عاماً شاملاً للتجري والمعصية بجامع الهتك والجرأة على المولى ، كان جعل الحكم الشرعي مستلزماً للتسلسل ، إذ التجري أو العصيان قبيح عقلاً على الفرض ، وقبحهما يستتبع الحرمة الشرعية ، وعصيان هذه الحرمة أو التجري فيها أيضاً قبيح عقلاً ، والقبح العقلي مستلزم للحرمة الشرعية ، وهكذا إلى ما لا نهاية له.

فتحصّل : أنّ حكم العقل بقبح العصيان والتجري وبحسن الاطاعة والانقياد لا يستلزم حكماً شرعياً مولوياً ، بل لا يمكن جعل الحكم في مورده على ما عرفت ، ولذا حملوا الأوامر الشرعية الدالة على وجوب الاطاعة ، والنواهي الشرعية الدالة على حرمة المعصية على الارشاد دون المولوية. وقد ظهر ممّا ذكرناه الكلام في :

المقام الثاني : وهو أنّ التجري هل يوجب استحقاق العقاب من جهة كونه جرأة على المولى وهتكاً لحرمته مع بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه في الواقع من المحبوبية أو المبغوضية أم لا؟ لأنّه قد اتّضح ممّا ذكرناه أنّ القبح العقلي وإن لم يكن مستتبعاً للحكم الشرعي ، لكنّه يستلزم حكم العقل باستحقاق العقاب على نفس التجري ، بمعنى أنّ العقل يدرك كون المتجري مستحقاً للعقاب ،

٢٧

للتعدي على المولى وهتكه ، وخروجه عن رسوم عبوديته كما في المعصية ، بلا فرق بينهما من هذه الجهة ، وما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره (١) من الأمثلة لبيان الفرق بين التجري والعصيان أجنبي عن المقام ، لكون الفرق المذكور في الأمثلة لأجل التشفي المستحيل في حقّه تعالى ، فإذا أراد عبد قتل ابن المولى وصادفه فلا محالة كان عقابه أشد بنظر المولى ممّن أراد قتل ابن المولى ولم يصادفه ، بل صادف عدوّه ، إلاّ أنّه لأجل التشفي ، ومع قطع النظر عنه لا فرق بينهما من حيث استحقاق العقاب لوحدة الملاك وهو الهتك.

تنبيهات :

التنبيه الأوّل :

أنّ محل الكلام في التجري هو القطع الطريقي ، وأمّا القطع الموضوعي فلا يتصور فيه كشف الخلاف بالنسبة إلى الحكم ليتحقق التجري ، وكذا لو اخِذ الظن في موضوع الحكم ، بل لو اخذ الاحتمال فيه ، ففي الجميع يكون الحكم ثابتاً واقعاً ، ولو كان القطع أو الظن أو الاحتمال مخالفاً للواقع ، لكون موضوع الحكم هو نفس القطع أو الظن أو الاحتمال ، وبعد انكشاف الخلاف ينتفي الحكم بانتفاء موضوعه ، فليس هناك تجرٍ أصلاً.

وبما ذكرناه ظهر فساد التمسك لحرمة التجري بالاجماع على أنّ سلوك طريق مظنون الضرر معصية ولو انكشف الخلاف ، فلو فاتت الصلاة منه في سفر مظنون الضرر لا بدّ من القضاء تماماً ، ولو بعد انكشاف عدم الضرر ، وكذا الظان بضيق الوقت يجب عليه البدار ، ولو لم يبادر كان عاصياً ولو انكشف

__________________

(١) الفصول الغروية : ٤٣١ و ٤٣٢ / فصل في أنّ جاهل الحكم غير معذور

٢٨

بقاء الوقت. والظان بالتضرر من الوضوء أو الغسل يجب عليه التيمم ، فلو توضّأ أو اغتسل مع الظن بالضرر ارتكب الحرام ولو انكشف عدم الضرر ، وهكذا.

التنبيه الثاني :

أنّه ربّما يستدل لحرمة التجري بالروايات الدالة على العقاب بقصد المعصية.

وهناك روايات اخر دالة على عدم العقاب بالقصد (١) ، وقد يجمع تارةً بين هاتين الطائفتين بحمل الطائفة الاولى على القصد مع الاشتغال ببعض المقدّمات.

والطائفة الثانية على القصد المجرد. واخرى بحمل الطائفة الاولى على ما إذا لم يرتدع من قصده حتّى حال بينه وبين العمل مانع قهري ، والطائفة الثانية على ما إذا ارتدع عن قصده بنفسه ، ويجعل الشاهد على هذا الجمع هو النبوي الدال على أنّه إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول كلاهما في النار ، قيل هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لأنّه أراد قتل صاحبه (٢) فانّ ظاهر التعليل هو ارادة القتل وعدم ارتداعه عن قصده ، وعدم تمكنه منه.

هذا ، ولكن التحقيق عدم صحّة الاستدلال بالروايات الدالّة على ترتّب العقاب على قصد المعصية لحرمة التجري مع قطع النظر عن ابتلائها بالمعارض لوجوه :

الأوّل : أنّها قاصرة من حيث السند أو من حيث الدلالة ، فانّا راجعناها بتمامها ورأينا أنّ ما يدل على المقصود ضعيف السند ، كالنبوي المذكور (٣) ، وما

__________________

(١) راجع الوسائل ١ : ٥١ و ٥٢ و ٥٥ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٦ ح ٦ و ٧ و ٨ و ١٠ و ٢٠ و ٢١

(٢) الوسائل ١٥ : ١٤٨ / أبواب جهاد العدو ب ٦٧ (باختلاف يسير)

(٣) [سند النبوي تام على مبانيه قدس‌سره فلاحظ]

٢٩

هو تام سنداً قاصر من حيث الدلالة ، راجع الوسائل أبواب مقدّمة العبادات (١).

الثاني : أنّ مفادها هي المؤاخذة والمحاسبة على نيّة المعصية الواقعية وقصد ارتكاب الحرام الواقعي ، كما هو مورد النبوي المذكور ، فلا ربط لها بالحرام الخيالي وما يعتقده المكلف حراماً ، مع عدم كونه حراماً في الواقع.

الثالث : أنّه لو سلّمنا كون مفادها أعم من ذلك لا دلالة لها على حرمة الفعل المتجرى به شرعاً ، كما هو محل الكلام ومورد الاستدلال ، غاية ما فيها أنّ القصد ممّا يحاسب به ويعاقب عليه ، وهذا التعبير لا يدل على أزيد ممّا كان العقل مستقلاً به من استحقاق المتجري للعقاب ، فلا يدل على حرمة الفعل المتجرى به شرعاً.

التنبيه الثالث

ذكر صاحب الفصول قدس‌سره (٢) أنّ قبح التجري لا يكون ذاتياً ، بل يختلف بالوجوه والاعتبارات ، فإذا صادف الفعل المتجرى به المعصية الواقعية كان فيه ملاكان للقبح : ملاك التجري وملاك المعصية الواقعية ، فلا محالة

__________________

(١) الوسائل ١ : ٥٠ و ٥٦ / أبواب مقدّمة العبادات ب ٦ ح ٣ و ٤ و ٢٢ ، راجع أيضاً ب ٧ ح ١ و ٥ ، وب ٥ ح ٥ ، وهناك روايات استُدلّ بها على حرمة التجري ولم تذكر في مقدّمة العبادات منها : ما دلّ على أن من رضي بأمر كان كمن شهده ، راجع الوسائل ١٦ : ١٣٧ / أبواب الأمر والنهي ب ٥ ح ٢ وغيره. ومنها : ما دلّ على العقاب على فعل بعض المقدّمات بقصد ترتب الحرام كغرس الخمر ، راجع الوسائل ١٧ : ٢٢٤ / أبواب ما يكتسب به ب ٥٥ ح ٤ و ٥

(٢) الفصول الغروية : ٤٣١ و ٤٣٢ / فصل في أنّ جاهل الحكم غير معذور ، راجع أيضاً ص ٨٧ من الفصول

٣٠

يتداخل العقابان ، وقبح التجري ـ في هذا الفرض ـ يكون أشد ممّا إذا كان الفعل المتجرى به في الواقع مكروهاً ، كما أنّ القبح ـ في هذا الفرض أيضاً ـ أشد ممّا إذا كان الفعل المتجرى به مباحاً ، والقبح فيه أشد ممّا إذا كان الفعل المتجرى به مستحباً ، وأمّا إذا كان الفعل المتجرى به واجباً في الواقع ، فيقع التزاحم بين ملاك الوجوب وملاك قبح التجري ، فربّما يتساويان ، وربّما يكون ملاك الوجوب أقوى فيتقدم ، وربّما يكون ملاك قبح التجري أقوى فيكون قبيحاً ، انتهى.

وما ذكره مشتمل على دعاوٍ ثلاث :

الاولى : أنّ القبح لا يكون ذاتياً للتجري ، بل قابل لأن يختلف بالوجوه والاعتبارات.

الثانية : أنّ الجهات الواقعية ـ بواقعيتها ومع عدم الالتفات إليها ـ توجب اختلاف التجري من حيث مراتب القبح ، بل توجب زواله في بعض الموارد.

الثالثة : تداخل العقابين عند مصادفة المعصية الواقعية.

وهذه الدعاوي فاسدة بتمامها :

أمّا الدعوى الاولى : ففيها أنّ التجري على المولى وهتكه بنفسه مصداق للظلم ، والقبح لا ينفك عن الظلم ، فلا ينفك عن التجري ، بل يترتب عليه نحو ترتب المعلول على علّته التامّة.

وأمّا الدعوى الثانية : ففيها أنّه لو سلّمنا اختلاف التجري من حيث القبح ، لا يمكن أن يكون الأمر غير الاختياري رافعاً لقبحه ، لما ذكرناه سابقاً (١) من أنّ الجهات التي لها دخل في الحسن والقبح لا بدّ من أن تكون من الامور

__________________

(١) في ص ٢٤

٣١

الاختيارية الملتفت إليها ، ومصادفة الجهات الواقعية ليست من الامور الاختيارية ولا ممّا يلتفت إليها المكلف.

وأمّا الدعوى الثالثة : ففيها أنّ استحقاق العقاب دائماً يدور مدار هتك المولى والتعدي عليه ، بلا فرق في ذلك بين التجري والمعصية الواقعية ، وليس في المعصية الواقعية إلاّهتك واحد ، فلا ملاك لتعدّد العقاب حتّى نلتزم بالتداخل ، ولعلّه لوضوح أنّ العاصي لا يستحق إلاّعقاباً واحداً التزم صاحب الفصول بالتداخل مع الالتزام بتعدّد الملاك ، والصحيح أنّه لا تعدّد في الملاك على ما عرفت ، فلا تصل النوبة إلى التداخل.

التنبيه الرابع

ظهر بما ذكرناه أنّ استحقاق العقاب إنّما هو على نفس التجري ، أعني الاتيان بالفعل المتجرى به ، لا على العزم والاختيار كما أفاده في الكفاية فوقع في إشكال استلزامه العقاب على أمر غير اختياري ، وأجاب عنه بأنّ العقاب من تبعات البعد عن المولى الناشئ من الشقاوة الذاتية التي هي نظير إنسانية الانسان وحمارية الحمار ، وغير قابلة للتعليل (١).

وبما ذكرناه من أنّ العقاب إنّما هو على الفعل لا على القصد يندفع الاشكال من أصله. وأمّا ما ذكره من أمر الشقاوة الذاتية فقد تقدّم الجواب عنه في بحث الطلب والارادة بما لا مزيد عليه (٢) ولا نعيد ، وذكرنا هناك أنّ الاختيار ليس أمراً غير اختياري ، بل اختياري بنفسه ، وغيره اختياري بالاختيار ، إذ كل ما

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٠ و ٢٦١

(٢) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٥٦

٣٢

بالغير لا بدّ من أن ينتهي إلى ما بالذات (١).

الكلام في القطع الموضوعي

قد عرفت أنّ الطريقية شأن القطع ، بل هي نفس القطع ، فلا قابلية لها للجعل أصلاً (٢).

وقد يؤخذ القطع بحكم في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه لا يماثله ولا يضاده ، بأن يكون الحكم المأخوذ في موضوعه القطع متعلقاً بغير ما تعلّق به الحكم المقطوع ، سواء كان من جنسه ـ كما إذا قال المولى : إذا قطعت بوجوب الصلاة وجب عليك التصدق بدرهم ـ أو لا كما إذا قال : إذا قطعت بوجوب الصلاة حرم عليك الخمر مثلاً.

وقد يؤخذ في موضوع الحكم القطع بموضوع من الموضوعات ، كما إذا قال : إذا قطعت بكون مائع خمراً وجب عليك الاجتناب عنه.

وكيف ما كان ، فقد قسّم شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٣) القطع الموضوعي إلى قسمين : باعتبار أنّ القطع قد يكون مأخوذاً في الموضوع بنحو الصفتية ، وقد يكون مأخوذاً بنحو الطريقية.

وتوضيحه : أنّ القطع من الصفات الحقيقية ذات الاضافة ، ومعنى كونه من الصفات الحقيقية أنّه من الامور المتأصلة الواقعية في قبال الامور الانتزاعية التي لا وجود إلاّلمنشأ انتزاعها ، وفي قبال الامور الاعتبارية التي لا وجود لها

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٠٢ ـ ٤٠٣

(٢) تقدّم في ص ١٣ ـ ١٤

(٣) فرائد الاصول ١ : ٥٣

٣٣

إلاّ باعتبارٍ من معتبر ، فانّ القطع ممّا له تحقق في الواقع ونفس الأمر بلا حاجة إلى اعتبار معتبر أو منشأ للانتزاع.

ومعنى كونه ذات الاضافة أنّ القطع ليس من الصفات الحقيقية المحضة كالأعراض التي لا تحتاج في وجودها إلاّإلى وجود موضوع فقط كالبياض مثلاً ، بل من الصفات ذات الاضافة بمعنى كونه محتاجاً في وجوده إلى المتعلق مضافاً إلى احتياجه إلى الموضوع ، فانّ العلم كما يستحيل تحققه بلا عالم كذلك يستحيل تحققه بلا معلوم. والقدرة من هذا القبيل ، فانّه لا يعقل تحققها إلاّبقادر ومقدور فللعلم جهتان :

الاولى : كونه من الصفات المتأصلة وله تحقق واقعي.

الثانية : كونه متعلقاً بالغير وكاشفاً عنه ، فقد يكون مأخوذاً في الموضوع بلحاظ الجهة الاولى وقد يكون مأخوذاً في الموضوع بملاحظة الجهة الثانية.

هذا توضيح مراد الشيخ قدس‌سره في تقسيمه القطع الموضوعي إلى قسمين.

وقسّمه صاحب الكفاية قدس‌سره (١) إلى أربعة أقسام : باعتبار أنّ كلاً من القسمين المذكورين تارةً يكون تمام الموضوع ، أي يكون الحكم دائراً مدار القطع ، سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً له. واخرى يكون جزءاً للموضوع وكان الجزء الآخر الواقع المقطوع به ، فيكون الحكم دائراً مدار خصوص القطع المطابق للواقع. وذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أيضاً أنّ القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية تارةً يؤخذ صفة للقاطع ، واخرى يؤخذ صفة للمقطوع به.

أقول : القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية ينقسم إلى قسمين كما ذكره

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٦٣

٣٤

صاحب الكفاية ، إذ القطع المذكور ـ باعتبار كونه صفة من الصفات النفسانية ـ تارةً يكون تمام الموضوع ، فيترتب الحكم عليه ، سواء كان مطابقاً للواقع أو مخالفاً له. واخرى يكون جزءاً للموضوع ، فيترتب عليه الحكم مع كونه مطابقاً للواقع.

وأمّا القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية فلا يمكن أخذه تمام الموضوع ، إذ معنى كونه تمام الموضوع أنّه لا دخل للواقع في الحكم أصلاً ، بل الحكم مترتب على نفس القطع ولو كان مخالفاً للواقع. ومعنى كونه مأخوذاً بنحو الطريقية أنّ للواقع دخلاً في الحكم ، واخذ القطع طريقاً إليه ، فيكون الجمع بين أخذه في الموضوع بنحو الطريقية وكونه تمام الموضوع من قبيل الجمع بين المتناقضين.

فالصحيح : هو تثليث الأقسام ، بأن يقال : القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية إمّا أن يكون تمام الموضوع أو يكون جزأه ، وأمّا القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية فلا يكون إلاّجزءاً للموضوع.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الصفتية قد يؤخذ صفةً للقاطع وقد يؤخذ صفة للمقطوع به ، ففيه : أنّه إن كان المراد من أخذه صفةً للمعلوم كونه صفةً للمعلوم بالذات ـ أي الصورة الذهنية الحاكية عن الخارج ـ فهو يرجع إلى أخذه صفةً للقاطع ، إذ المعلوم بالذات ـ وهو الصورة الذهنية ـ موجود في ذهن القاطع بعين وجود القطع ، فأخذ القطع صفة للمعلوم بهذا المعنى ليس إلاّعبارة اخرى عن أخذه صفة للقاطع ، وليس الفرق بينهما إلاّبمجرد العبارة ، نظير الفرق بين الوجود والماهية الموجودة ، فكما لا فرق بين قولنا : المأخوذ في الموضوع هو الوجود ، وقولنا : المأخوذ في الموضوع هو الماهية الموجودة ، لأنّ الماهية موجودة بعين

٣٥

الوجود لا بشيء آخر ، فكذا لا فرق في المقام بين قولنا : المأخوذ في الموضوع هو القطع بالقيام مثلاً ، وقولنا : المأخوذ في الموضوع هو القيام المقطوع به ، أي الصورة الذهنية للقيام ووجوده العلمي ، إذ لا فرق بين العلم بالقيام والقيام الموجود بالوجود العلمي إلاّبمجرد العبارة.

وإن كان مراده من أخذ القطع صفةً للمقطوع به هو أخذه صفةً للمعلوم بالعرض ـ أي الموجود الخارجي ـ بأن يقال : المأخوذ في الموضوع هو القيام المتحقق في الخارج المنكشف للمكلف القاطع ، فهذا ليس إلاّلحاظ القطع طريقاً وكاشفاً ، فأخذ القطع في الموضوع صفة للمقطوع به ـ بهذا المعنى ـ عبارة اخرى عن أخذه في الموضوع بنحو الطريقية ، فالجمع بين أخذه بنحو الصفتية وكونه صفةً للمقطوع به جمع بين المتنافيين.

ثمّ إنّ المراد من القطع الموضوعي هو القطع المأخوذ في موضوع الحكم واقعاً ، بأن كان له دخل في ترتب الحكم ، كالعلم المأخوذ في ركعات صلاة المغرب والصبح والركعتين الاوليين من الصلوات الرباعية ، على ما يستفاد من الروايات ، ولذا لو شكّ بين الواحدة والاثنتين في صلاة الصبح مثلاً فأتمّ الصلاة رجاءً ثمّ انكشف أنّه أتى بالركعتين كانت صلاته فاسدة ، لكون العلم بهما حال الصلاة مأخوذاً في الحكم بصحّتها ، فالمراد من القطع الموضوعي ما كان له دخل في ترتب الحكم واقعاً ، لا القطع المأخوذ في لسان الدليل فقط ، إذ ربّما يؤخذ القطع في لسان الدليل مع القرينة على عدم دخله في الحكم ، وأنّ أخذه في لسان الدليل إنّما هو لكونه طريقاً إلى الواقع ، بل أظهر أفراد الطرق إليه ، فهو مع كونه مأخوذاً في لسان الدليل ليس من القطع الموضوعي في شيء. وأمثلته كثيرة منها : قوله تعالى «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ» (١) فانّ

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٨٧

٣٦

الموضوع لوجوب الامساك هو نفس طلوع الفجر لا علم المكلف به.

ثمّ إنّه لا إشكال في قيام الأمارات والطرق مقام القطع الطريقي بنفس أدلة اعتبارها وحجّيتها ، فتترتب عليها الآثار المترتبة عليه من التنجيز عند المطابقة والتعذير عند المخالفة ، كما أنّه لا ريب في عدم قيامها مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية بنفس أدلة حجّيتها ، إذ غاية ما تدل عليه أدلة حجّيتها هو إلغاء احتمال الخلاف وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها ، والقطع وإن كانت حقيقته الانكشاف ، إلاّأنّ المفروض أخذه في الموضوع بنحو الصفتية ، وعدم ملاحظة جهة كشفه ، فيكون المأخوذ في الموضوع صفة خاصّة نفسانية ، كبقية الصفات النفسانية من الشجاعة والعدالة ونحوهما ، ومن البديهي أنّ أدلة الحجّية وإلغاء احتمال الخلاف في الأمارات والطرق لا تدل على تنزيلها منزلة الصفات النفسانية.

وأمّا قيام الأمارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية ، فقد اختلفت كلماتهم فيه.

فذهب شيخنا الأنصاري قدس‌سره إلى قيامها مقامه (١) ، وتبعه المحقق النائيني قدس‌سره (٢).

واختار صاحب الكفاية قدس‌سره عدم القيام (٣) ، وملخص ما ذكره في وجهه بتوضيح منّا : أنّ التنزيل يستدعي لحاظ المنزّل والمنزّل عليه. ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل الأمارة منزلة القطع الطريقي آلي ، إذ الأثر مترتب على

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥٣

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩ ، فوائد الاصول ٣ : ٢١

(٣) كفاية الاصول : ٢٦٣ و ٢٦٤

٣٧

الواقع المنكشف بالقطع لا على نفس القطع كما هو المفروض ، فيكون النظر في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الأمارة. ولحاظ الأمارة والقطع في تنزيل الأمارة منزلة القطع المأخوذ في الموضوع استقلالي ، إذ الأثر مترتب على نفس القطع ، فالجمع بين التنزيلين في دليل واحد يستلزم الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي المتعلقين بملحوظ واحد في آن واحد ولا يمكن الجمع بينهما ، فلا يمكن أن يكون دليل واحد متكفلاً لبيان كلا التنزيلين ، وحيث إنّ أدلة حجّية الأمارات ظاهرة بحسب متفاهم العرف في التنزيل من حيث الطريقية ، فلا بدّ من الأخذ به ما لم تقم قرينة على التنزيل من حيث الموضوعية.

وفيه : أنّ تنزيل مؤدى الأمارة منزلة الواقع مبني على القول بالسببية والموضوعية في باب الأمارات ، وهذا المسلك منافٍ لما التزمه صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية (١) على ما صرّح به غير مرّة. مضافاً إلى أنّه فاسد في أصله ثبوتاً ، وعدم مساعدة الدليل عليه إثباتاً.

أمّا الأوّل ، فلاستلزامه التصويب الباطل.

وأمّا الثاني ، فلأنّ أدلة حجّية الأمارات ـ وعمدتها سيرة العقلاء ـ لا دلالة لها على جعل الحكم مطابقاً لمؤدى الأمارات أصلاً. وسيجيء الكلام فيه مفصلاً (٢) إن شاء الله تعالى.

وأمّا بناءً على ما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ المجعول في باب الأمارات هو المنجزية والمعذرية ، فلا يلزم من تنزيلها منزلة القطع الجمع

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧٧ و ٤٠٥ و ٤٧٨

(٢) في ص ١٢٠ وما بعدها

٣٨

بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، بل لزم لحاظ واحد استقلالي ، إذ لا يكون هناك تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فلا يكون إلاّتنزيل واحد ، وهو تنزيل الأمارة منزلة القطع ، غاية الأمر أنّ التنزيل إنّما هو باعتبار خصوص الأثر العقلي للقطع من التنجيز والتعذير ، أو باعتبار خصوص الحكم الشرعي المأخوذ في موضوعه القطع ، أو باعتبار مطلق الأثر. وإطلاق أدلة التنزيل يشمل كلا الحكمين العقلي والشرعي.

وكذا الحال على القول بأنّ المجعول في باب الأمارات هو الطريقية والكاشفية بالغاء احتمال الخلاف ، وإن شئت فعبّر عنه بتتميم الكشف ، باعتبار أنّ الأمارات كانت كاشفة ناقصة ، فاعتبرها الشارع كاشفة تامّة بالغاء احتمال الخلاف ، فيجري الكلام المذكور هنا أيضاً ويقال : إنّ إطلاق دليل التنزيل شامل للأثر العقلي والأثر الشرعي المترتب على القطع.

بل يمكن أن يقال : إنّه بعد اعتبار الشارع الأمارة كاشفة تامّة عن الواقع تترتب آثار الواقع لا محالة ، إذ الواقع قد انكشف بالتعبد الشرعي ، فلا بدّ من ترتيب آثاره ، فتترتب آثار نفس القطع ـ أي الحكم المأخوذ في موضوعه القطع ـ بالأولوية ، إذ ترتيب آثار المقطوع على مؤدى الأمارة إنّما هو لتنزيل الأمارة منزلة القطع ، فيترتب أثر نفس القطع لأجل هذا التنزيل بطريق أولى.

ثمّ إنّ الصحيح في باب الأمارات هو القول بأنّ المجعول هو الطريقية والكاشفية ، لا القول بأنّ المجعول هو المنجزية والمعذرية ، لكونه مستلزماً للتخصيص في حكم العقل ، وحكم العقل بعد ثبوت ملاكه غير قابل للتخصيص ، بيان ذلك :

أنّ العقل مستقل بقبح العقاب بلا بيان واصل ، فإذا قامت الأمارة على التكليف فلا إشكال في تنجزه على المكلف وكونه مستحقاً للعقاب على مخالفته ، فان كان ذلك لأجل تصرف الشارع في موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا

٣٩

بيان ، بأن جعل الأمارة طريقاً وبياناً ، كان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان منتفياً بانتفاء موضوعه ، ولذا نعبّر عن تقدّم الأمارة عليه بالورود وهو انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه بالتعبد الشرعي ، وعليه فالعقل بنفسه يحكم بالتنجز ، بلا حاجة إلى جعل التنجيز.

وإن لم يتصرّف الشارع في موضوع حكم العقل ولم يعتبر الأمارة بياناً ، بل جعل الأمارة منجّزة للتكليف ، بأن يكون المجعول كون المكلف مستحقاً للعقاب على مخالفة التكليف ، لزم التخصيص في حكم العقل ، بأن يقال : العقاب بلا بيان قبيح إلاّمع قيام الأمارة على التكليف فانّ العقاب بلا بيان في هذا المورد ليس بقبيح ، وقد ذكرنا أنّ حكم العقل غير قابل للتخصيص. هذا والتفصيل موكول إلى محلّه (١).

وأمّا قيام الاصول المحرزة مقام القطع ، وهي الاصول التي تكون ناظرة إلى الواقع ، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز ـ بناءً على عدم كونها من الأمارات ـ وقاعدة عدم اعتبار الشك من الإمام والمأموم مع حفظ الآخر ، وقاعدة عدم اعتبار الشك ممّن كثر شكّه وتجاوز عن المتعارف ، وغيرها من القواعد الناظرة إلى الواقع في ظرف الشك ـ فالظاهر أنّها تقوم مقام القطع الطريقي والقطع المأخوذ في الموضوع بنحو الطريقية ، إذ الشارع اعتبر موارد جريانها علماً ، فتترتب عليها آثاره العقلية والشرعية من المنجزية والمعذرية ، والحكم المأخوذ في موضوعه القطع.

وتوهم أنّه قد اخذ في موضوع الاصول الشك ، فكيف يمكن اعتبارها علماً ،

__________________

(١) يأتي وجه تقديم الأمارات على الاصول العقلية وأ نّه من باب الورود في أواخر بحث الاستصحاب ، راجع الجزء الثالث ص ٢٩٧

٤٠