موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

الشبهات الموضوعية ، وأمّا لو كان المراد من الموصول خصوص الفعل الصادر من المكلف في الخارج ، بمعنى كون الفعل غير معلوم العنوان للمكلف ، بأن لا يعلم أنّ شرب هذا المائع مثلاً شرب خمر أو شرب ماء ، فلا يتم الاستدلال به للمقام ، لاختصاص الحديث حينئذ بالشبهة الموضوعية ، لأنّ ظاهر الوصف المأخوذ في الموضوع كونه من قبيل الوصف بحال نفس الموصوف لا بحال متعلقه ، فلو كان الموصول عبارة عن الفعل الخارجي كان الحديث مختصاً بما إذا كان الفعل بنفسه مجهولاً لا بحكمه ، فلا يشمل الشبهات الحكمية التي لا يكون عنوان الفعل فيها مجهولاً.

وربّما يقال بأنّ المراد من الموصول هو الفعل الخارجي ويستشهد له بامور :

الأوّل : وحدة السياق ، لأنّ المراد بالموصول في بقية الفقرات هو الفعل الذي لا يطيقون ، والفعل الذي يكرهون عليه ، والفعل الذي يضطرون إليه ، إذ لا معنى لتعلّق الاكراه والاضطرار بالحكم ، فيكون المراد من الموصول في «ما لايعلمون» أيضاً هو الفعل بشهادة السياق.

وفيه : أنّ الموصول في جميع الفقرات مستعمل في معنى واحد ، وهو معناه الحقيقي المبهم المرادف للشيء ، ولذا يقال إنّ الموصول من المبهمات ، وتعريفه إنّما هو بالصلة ، فكأ نّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : رفع الشيء الذي لا يعلم ، والشيء الذي لا يطيقون ، والشيء المضطر إليه ، وهكذا ، فلم يستعمل الموصول في جميع الفقرات إلاّفي معنىً واحد ، غاية الأمر أنّ الشيء المضطر إليه لا ينطبق خارجاً إلاّ على الأفعال الخارجية ، وكذا الشيء المكره عليه ، بخلاف الشيء المجهول فانّه ينطبق على الحكم أيضاً. والاختلاف في الانطباق من باب الاتفاق من جهة اختلاف الصلة لا يوجب اختلاف المعنى الذي استعمل فيه الموصول كي يضر بوحدة السياق ، فانّ المستعمل فيه في قولنا ما ترك زيد فهو لوارثه ، وما ترك عمرو فهو لوارثه ، وما ترك خالد فهو لوارثه ، شيء واحد فوحدة السياق

٣٠١

محفوظة. ولو كان هذا المفهوم منطبقاً على الدار في الجملة الاولى ، وعلى العقار في الثانية ، وعلى الأشجار في الثالثة ، فلا شهادة لوحدة السياق على أنّ متروكات الجميع منطبقة على جنس واحد. والمقام من هذا القبيل بعينه.

الثاني : أنّ إسناد الرفع إلى الحكم حقيقي ، وإلى الفعل مجازي ، إذ لا يعقل تعلّق الرفع بالفعل الخارجي ، لعدم كون رفعه ووضعه بيد الشارع ، فلو اريد بالموصول في جميع الفقرات الفعل ، كان الاسناد في الجميع مجازياً. وأمّا إذا اريد به الحكم في خصوص ما لا يعلمون ، كان الاسناد بالاضافة إليه حقيقياً. وهذا المقدار وإن لم يكن فيه محذور ، إذ لا مانع من الجمع بين إسنادات متعددة في كلام واحد مختلفة من حيث الحقيقة والمجاز بأن يكون بعضها حقيقياً وبعضها مجازياً ، إلاّأنّ الرفع في الحديث قد اسند باسناد واحد إلى عنوان جامع بين جميع الامور المذكورة فيه ، وهو عنوان التسعة ، والامور المذكورة بعده معرّف له وتفصيل لاجماله ، فلزم أن يكون إسناد واحد حقيقياً ومجازياً بحسب اختلاف مصاديق المسند إليه ، وهو غير جائز.

وفيه أوّلاً : أنّه يتمّ لو اريد بالرفع الرفع التكويني ، لأنّ إسناد الرفع حينئذ إلى الفعل الخارجي يكون مجازياً لا محالة ، إذ الفعل متحقق خارجاً ، ولا يكون منتفياً حقيقةً ليكون إسناد الرفع إليه حقيقياً. وأمّا إن اريد به الرفع التشريعي ، بمعنى عدم كون الفعل مورداً للاعتبار الشرعي. وبعبارة اخرى : الرفع التشريعي عبارة عن عدم اعتبار الشارع شيئاً من مصاديق ما هو من مصاديقه تكويناً ، كما في جملة من موارد الحكومة ، كقوله عليه‌السلام : لا رِبا بين الوالد والولد (١) فكان إسناد الرفع إلى الفعل الخارجي أيضاً حقيقياً ، فيكون إسناد الرفع إلى التسعة حقيقياً ، بلا فرق بين أن يراد من الموصول في «ما لا يعلمون» الحكم أو

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٣٥ / أبواب الرِّبا ب ٧ ح ١ و ٣ وفيهما : «ليس بين الرجل وولده رِبا»

٣٠٢

الفعل الخارجي.

وثانياً : أنّه لو سلّمنا كون المراد من الرفع هو الرفع التكويني كان إسناده إلى التسعة حينئذ مجازياً لا حقيقياً ومجازياً ، وذلك لأنّ إسناد الرفع إلى بعض المذكورات في الحديث وإن كان حقيقياً وإلى بعض آخر مجازياً ، إلاّأنّ ذلك بحسب اللب والتحليل ، والميزان في كون الاسناد حقيقياً أو مجازياً إنّما هو الاسناد الكلامي لا الاسناد التحليلي ، وليس في الحديث إلاّإسناد واحد بحسب وحدة الجملة وهو إسناد الرفع إلى عنوان جامع بين جميع المذكورات ، وهو عنوان التسعة ، وحيث إنّ المفروض كون الاسناد إلى بعضه وهو الفعل مجازياً ، فلا محالة كان الاسناد إلى مجموع التسعة مجازياً ، إذ الاسناد الواحد إلى المجموع المركب ـ ممّا هو له ومن غير ما هو له ـ إسناد إلى غير ما هو له ، كما في قولنا : الماء والميزاب جاريان ، وعليه فاسناد الرفع إلى التسعة مجازي ولو على تقدير أن يكون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» هو الحكم أو الأعم منه ، فلا يلزم أن يكون إسناد واحد حقيقياً ومجازياً.

الثالث : أنّ مفهوم الرفع يقتضي أن يكون متعلقه أمراً ثقيلاً ولا سيّما أنّ الحديث الشريف قد ورد في مقام الامتنان ، فلا بدّ من أن يكون المرفوع شيئاً ثقيلاً ليصح تعلّق الرفع به ، ويكون رفعه امتناناً على الامّة. ومن الظاهر أنّ الثقيل هو الفعل لا الحكم ، إذ الحكم فعل صادر من المولى فلا يعقل كونه ثقيلاً على المكلف ، وإنّما سمّي بالتكليف باعتبار جعل المكلف في كلفة الفعل أو الترك.

وبالجملة : الثقيل على المكلف هو فعل الواجب أو ترك الحرام ، لا مجرّد إنشاء الوجوب والحرمة الصادر من المولى ، وعليه فلا بدّ من أن يراد من الموصول في جميع الفقرات هو الفعل لا الحكم.

وفيه : أنّ الثقل وإن كان في متعلق التكليف لا في نفسه ، إلاّ أنّه صحّ إسناد

٣٠٣

الرفع إلى السبب بلا عناية ، وصحّ أيضاً إسناده إلى الأثر المترتب عليه ، فصحّ أن يقال : رفع الالزام أو رفع المؤاخذة ، فلا مانع من إسناد الرفع إلى الحكم ، باعتبار كونه سبباً لوقوع المكلف في كلفة وثقل.

الرابع : أنّ الرفع والوضع متقابلان ويتواردان على مورد واحد ، ومن الظاهر أنّ متعلّق الوضع هو الفعل ، باعتبار أنّ التكليف عبارة عن وضع الفعل أو الترك على ذمّة المكلف في عالم الاعتبار والتشريع ، وعليه فيكون متعلق الرفع أيضاً هو الفعل لا الحكم.

وفيه : أنّه إنّما يتم فيما إذا كان ظرف الرفع أو الوضع ذمّة المكلف. وأمّا إذا كان ظرفهما الشرع كان متعلقهما هو الحكم ، وظاهر الحديث الشريف أنّ ظرف الرفع هو الاسلام بقرينة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «رفع عن امّتي» فانّه قرينة على أنّه رفع التسعة في الشريعة الاسلامية (١).

الخامس : أنّه لا إشكال في شمول الحديث للشبهات الموضوعية ، فاريد بالموصول فيما لا يعلمون الفعل يقيناً ، ولو اريد به الحكم أيضاً لزم استعماله في معنيين وهو غير جائز ، ولا أقل من كونه خلاف الظاهر.

وفيه أوّلاً : ما عرفت (٢) من أنّ الموصول لم يستعمل في الفعل ولا في الحكم ، بل استعمل في معناه المبهم المرادف لمفهوم الشيء ، غاية الأمر أنّه ينطبق على الفعل مرّةً وعلى الحكم اخرى ، واختلاف المصاديق لا يوجب تعدّد المعنى

__________________

(١) هكذا ذكر سيّدنا الاستاذ العلاّمة (دام ظلّه) وفي ذهني القاصر أنّه يمكن أن يدعى أنّ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «عن امّتي» قرينة على أنّ ظرف الرفع ذمّة الامّة قبالاً للُامم السابقة ، لا الدين الاسلامي في مقابل الأديان السابقة فلاحظ

(٢) في الجواب عن الأمر الأوّل في ص ٣٠١

٣٠٤

المستعمل فيه.

وثانياً : أنّ شمول الحديث للشبهات الموضوعية لا يقتضي إرادة الفعل من الموصول ، بل يكفي فيه إرادة الحكم منه ، باعتبار أنّ مفاده حينئذ أنّ الحكم المجهول مرفوع ، سواء كان سبب الجهل به عدم تمامية الحجّة عليه من قبل المولى ـ كما في الشبهات الحكمية ـ أو الامور الخارجية ـ كما في الشبهات الموضوعية ـ.

فتحصّل ممّا ذكرناه في المقام : تمامية الاستدلال بالحديث الشريف على البراءة. وأمّا البحث عن معارضته بأخبار الاحتياط فسيأتي التعرّض له عند ذكر أدلة الاخباريين (١) إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه ينبغي التنبيه على امور كلّها راجعة إلى البحث عن فقه الحديث الشريف :

الأمر الأوّل : أنّه ربّما يستشكل في الحديث بأنّ الرفع ظاهر في إزالة الشيء الثابت قبالاً للدفع الذي هو عبارة عن منع المقتضي عن التأثير في وجود المقتضى. وبعبارة اخرى : الرفع عبارة عن إعدام الشيء الموجود ، والدفع عبارة عن المنع عن الايجاد ، وعليه فكيف صحّ استعمال الرفع في المقام ، مع عدم ثبوت تلك الأحكام في زمان.

وأجاب عنه المحقق النائيني (٢) قدس‌سره بأ نّه لا فرق بين الرفع والدفع على ما هو التحقيق من أنّ الممكن كما يحتاج إلى المؤثر في حدوثه كذلك يحتاج إليه في بقائه ، وأنّ علّة الحدوث لا تكفي في البقاء بحيث يكون البقاء غنياً عن

__________________

(١) في ص ٣٤٩ و ٣٥٠

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٢٩٧ ، فوائد الاصول ٣ : ٣٣٦

٣٠٥

المؤثر ، إذ الممكن لاينقلب إلى الواجب بعد حدوثه ، بل باقٍ على إمكانه ، والممكن محتاج إلى المؤثر دائماً ، وعليه فالرفع أيضاً يزاحم المقتضي في تأثيره في الأكون المتجددة ، وهذا هو الدفع. نعم ، على القول بكفاية علّة الحدوث في البقاء ، وأنّ المعلول في بقائه مستغن عن المؤثر ، كان الرفع مغايراً للدفع ، لكنّه باطل على ما ذكر في محلّه. هذا ملخص كلامه قدس‌سره.

وهو وإن كان صحيحاً في نفسه ، فانّ الممكن يحتاج إلى المؤثر حدوثاً وبقاءً على ما تقدّم تحقيقه في بحث الضد (١) ، إلاّ أنّه بحث فلسفي لا ربط له بالمقام ، ولا يفيد في دفع الاشكال ، لأنّ احتياج الممكن إلى المؤثر حدوثاً وبقاءً ، وكون إعدام الشيء الموجود أيضاً منعاً عن تأثير المقتضي ، لا يستلزم اتحاد مفهوم الرفع والدفع لغة ، لامكان أن يكون الرفع موضوعاً لخصوص المنع عن تأثير المقتضي بقاءً ، بعد فرض وجود المقتضى وحدوثه ، والدفع موضوعاً للمنع عن التأثير حدوثاً. وبالجملة : ما ذكره بحث فلسفي لا ربط له بالبحث اللغوي ومفهوم اللفظ.

والتحقيق أن يجاب عن هذا الاشكال بأحد وجهين :

أحدهما : أن يقال : إنّ إطلاق الرفع في الحديث الشريف إنّما هو باعتبار ثبوت تلك الأحكام في الشرائع السابقة ولو بنحو الموجبة الجزئية ، ويستظهر ذلك من اختصاص الرفع في الحديث بالامّة.

ثانيهما : أن يكون إطلاق الرفع في الحديث بنحو من العناية ، باعتبار أنّه وإن وضع لازالة الشيء الموجود ، إلاّ أنّه صحّ استعماله فيما إذا تحقق المقتضي مع مقدّمات قريبة لوجود الشيء فزاحمه مانع عن التأثير ، مثلاً إذا تحقق المقتضي

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ٣١٣

٣٠٦

لقتل شخص ووقع تحت السيف ، فعفي عنه أو حدث مانع آخر عن قتله ، صحّ أن يقال عرفاً : ارتفع عنه القتل ، فيمكن أن يكون استعمال الرفع في الحديث الشريف من هذا القبيل.

الأمر الثاني : أنّ الرفع في الحديث قد تعلّق بامور تسعة ، ونسبة الرفع إلى هذه الامور وإن كانت واحدة بحسب الاسناد الكلامي ، إلاّ أنّها متعددة بحسب اللب والتحليل وتختلف باختلاف هذه الامور التسعة ، لأنّ الرفع بالنسبة إلى ما لايعلمون ظاهري لا واقعي ، وذلك لقرينة داخلية وقرينة خارجية تقدّم بيانهما (١) عند ذكر تقريب الاستدلال بالحديث الشريف ، فلا نعيد.

هذا كلّه في الشبهات الحكمية ، وكذا الحال في الشبهات الموضوعية ، فانّ جعل الحكم لموضوع مع اعتبار العلم به بحيث كان الحكم منتفياً واقعاً مع الجهل بالموضوع ، وإن كان بمكان من الامكان ، ولا يلزم منه محذور التصويب كما لزم في الشبهة الحكمية ، إلاّأنّ مقتضى إطلاقات الأدلة ثبوت الحكم مع العلم بالموضوع والجهل به. وعليه فكان رفع الحكم مع الجهل بالموضوع بمقتضى الحديث الشريف أيضاً رفعاً ظاهرياً ، كما في الشبهة الحكمية. وأمّا الرفع في بقيّة الفقرات فهو واقعي.

ويترتّب على هذا الفرق ثمرة مهمّة ، وهي أنّه إذا عثرنا على الدليل المثبت للتكليف بعد العمل بحديث الرفع ، يستكشف به ثبوت الحكم الواقعي من أوّل الأمر. مثلاً إذا شككنا في جزئية شيء أو شرطيته للصلاة ، وبنينا على عدمها لحديث الرفع ، ثمّ بان لنا الخلاف ودلّ دليل على الجزئية أو الشرطية ، لا يجوز الاكتفاء بالفاقد من ناحية حديث الرفع ، بل لا بدّ من التماس دليل آخر كحديث

__________________

(١) في ص ٢٩٨

٣٠٧

لا تعاد (١) في خصوص الصلاة ، أو ثبوت الإجزاء في الأمر الظاهري ، وهذا بخلاف باقي الفقرات فانّ الرفع فيها واقعي ، فلو ارتفع الاضطرار أو الاكراه مثلاً تبدل الحكم من حين الارتفاع ، ويجزي المأتي به حال الاضطرار أو الاكراه.

الأمر الثالث : أنّه لا اختصاص لحديث الرفع بالأحكام التكليفية بل يعمّ الأحكام الوضعية ، كما لا اختصاص له بمتعلقات الأحكام ، بل يشمل الموضوعات أيضاً ، فانّ فعل المكلف كما يقع متعلقاً للتكليف قد يقع موضوعاً له كالافطار في نهار شهر رمضان ، فانّه متعلق للحرمة وموضوع لوجوب الكفارة أيضاً ، فإذا اضطرّ المكلف إليه أو اكره عليه ، لايترتّب عليه وجوب الكفّارة كما لاتتعلّق به الحرمة ، لكونه مرفوعاً في عالم التشريع.

نعم ، في طروء الاضطرار أو غيره من العناوين المذكورة في الحديث على متعلق التكليف تفصيل لا بدّ من التعرّض له ، وهو أنّ متعلق التكليف إن كان هو الكلّي الساري كما في المحرّمات المنحلة إلى أحكام عديدة بتعدد الأفراد ، فطروء أحد هذه العناوين على فرد من الطبيعة لا يوجب إلاّسقوط التكليف المتعلق بهذا الفرد ، فانّ الاضطرار إلى أكل حرام معيّن لا يوجب رفع الحرمة عن أكل غيره ، وكذا الاكراه على ارتكاب فرد من الحرام لا يوجب إلاّرفع الحرمة عنه دون غيره من أفراد الحرام ، وهذا ظاهر.

وأمّا إن كان متعلق التكليف هو الكلّي على نحو صرف الوجود كما في التكاليف الايجابية فطروء أحد هذه العناوين على فرد من ذلك الكلّي لا أثر له في ارتفاع الحكم أصلاً ، إذ ما طرأ عليه العنوان وهو الفرد لا حكم له على الفرض ، وما هو متعلق التكليف وهو الطبيعي لم يطرأ عليه العنوان ، فإذا اضطرّ

__________________

(١) الوسائل ٧ : ٢٣٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ١ ح ٤

٣٠٨

المكلف إلى ترك الصلاة في جزء من الوقت ، لايسقط عنه وجوب طبيعي الصلاة المأمور بها في مجموع الوقت. نعم ، لو اضطرّ إلى ترك الصلاة في تمام الوقت أو في خصوص آخره فيما إذا لم يأت بها قبل ذلك ، كان التكليف ساقطاً لا محالة.

هذا كلّه في التكاليف الاستقلالية ، وكذا الحال في التكاليف الضمنية ، فلو اضطرّ المكلّف إلى ترك جزء أو شرط في فرد مع تمكنه منه في فرد آخر لا يرتفع به التكليف الضمني المتعلق بهذا الجزء أو الشرط ، لما تقدّم من أنّ متعلق التكليف ـ وهو الكلّي ـ لم يتعلق به الاضطرار ، فالاتيان بالناقص ـ مع التمكن من الاتيان بفردٍ تام من حيث الأجزاء والشرائط ـ لا يكون مجزئاً. نعم ، لو كان الاضطرار إلى ترك الجزء أو الشرط مستوعباً لتمام الوقت ، سقط التكليف المتعلق بالمركب المشتمل على المضطر إلى تركه لا محالة.

وهل يجب الاتيان بغير ما اضطرّ إلى تركه من الأجزاء والشرائط أم لا؟ ربّما يقال بالوجوب ، نظراً إلى أنّ المرفوع بحديث الرفع إنّما هو خصوص الأمر الضمني المتعلق بالمضطر إليه فيبقى الأمر المتعلق بغيره على حاله. وبعبارة اخرى : المرفوع إنّما هو خصوص جزئية المضطر إليه أو شرطيته وأمّا غيره فباقٍ بجزئيته أو شرطيته ، فلا موجب لرفع اليد عن وجوبه.

ولكن التحقيق عدم الوجوب إلاّبدليل من الخارج ، لأنّ الأمر الضمني تابع حدوثاً وبقاءً لأصل التكليف المتعلق بالمجموع ، كما أنّ الحكم الوضعي المنتزع من الحكم التكليفي كالجزئية والشرطية تابع لمنشأ الانتزاع ، وهو أصل التكليف المتعلق بالمجموع والمقيّد ، فإذا ارتفع التكليف بالمجموع للاضطرار كان التكليف ببقية الأجزاء والشرائط محتاجاً إلى دليل آخر. فإذا اضطرّ المكلف إلى ترك القراءة مثلاً في تمام الوقت ، كان التكليف بالصلاة مع القراءة ساقطاً لحديث الرفع ، ووجوب الصلاة بغير القراءة يحتاج إلى دليل آخر. ولا يكفيه حديث

٣٠٩

الرفع ، إذ مفاده رفع التكليف المتعلق بالمجموع. وأمّا ثبوت التكليف لغيره الفاقد للقراءة ، فحديث الرفع أجنبي عنه ، فلا بدّ من التماس دليل آخر. نعم ، يمكن دعوى وجود الدليل في خصوص باب الصلاة من جهة أنّ الصلاة لا تسقط بحال على ما هو مستفاد من الروايات (١) ، دون غيرها من العبادات.

إن قلت : إنّ من آثار الاخلال ببعض ما اعتبر في الواجب جزءاً أو شرطاً وجوب قضائه بعد الوقت ، فإذا تحقق الاخلال اضطراراً كان وجوب القضاء مرفوعاً بحديث الرفع لا محالة ، فيكون العمل معه صحيحاً ، إذ لا نعني بالصحّة إلاّ إسقاط القضاء ، فثبت كون العمل الفاقد للجزء أو الشرط اضطراراً صحيحاً وهو المدعى.

قلت : وجوب القضاء إنّما هو من آثار الفوت ، ولا يرتفع بالاضطرار أو الاكراه في الوقت على ما سيجيء الكلام فيه قريباً (٢) إن شاء الله تعالى ، ومن هنا لم يشك أحد في وجوب القضاء فيما إذا اضطرّ إلى ترك الواجب في الوقت رأساً أو اكره عليه ، فمع الاخلال بالجزء أو الشرط للاضطرار أو الاكراه لايكون القضاء ساقطاً ليستكشف بسقوطه صحّة الفاقد.

إن قلت : إنّ ما ذكر من البيان جارٍ بالنسبة إلى ما لا يعلمون أيضاً ، فإذا لم يعلم المكلف بجزئية شيء أو شرطيته للصلاة مثلاً ارتفع التكليف المتعلق بالمجموع بحديث الرفع ، والتكليف المتعلق بالفاقد يحتاج إلى دليل.

__________________

(١) [استدلّ قدس‌سره في الفقه على هذه القاعدة بما ورد في حقّ المستحاضة من أنّها لا تدع الصلاة على حال. راجع الوسائل ٢ : ٣٧٣ / أبواب الاستحاضة ب ١ ح ٥ ولمزيد الاطّلاع راجع شرح العروة ١٠ : ١٠٠ و ١٠٦ و ١٦١]

(٢) في الأمر الخامس ص ٣١٢

٣١٠

قلت : كلاّ ، لأنّ المكلف يعلم إجمالاً بثبوت التكليف مردداً بين أن يكون متعلقاً بخصوص المتيقن من الأجزاء والشرائط ، وأن يكون متعلقاً بالزائد عليه ، فإذا ارتفع تعلّقه بالزائد تعبداً لحديث الرفع ، بقي عليه امتثال التكليف بالمتيقن ، ولا وجه لرفع اليد عن التكليف بالمعلوم برفع التكليف عن المشكوك فيه. وهذا بخلاف صورة الاضطرار إلى ترك الجزء أو الشرط أو الاكراه عليه ، إذ يحتمل فيها عدم التكليف رأساً ، وليس التكليف بالفاقد إلاّمجرد احتمال.

ثمّ إنّه لا يترتب على شمول حديث الرفع لمورد إلاّرفع التكليف أو الوضع الثابت في هذا المورد في نفسه ، فالاكراه على فعل محرّم في نفسه يرفع حرمته والاكراه على معاملة يرفع نفوذها وتأثيرها ، فلو فرض أنّ المكره عليه ممّا لا أثر له في نفسه ، فلا يشمله حديث الرفع ولا يترتب على شموله أثر ، فإذا اكره أحد على ترك بيع داره مثلاً ، لا يمكن الحكم بحصول النقل والانتقال ، إذ مفاد الحديث رفع الحكم التكليفي أو الوضعي عن المكره عليه ، لا إثبات حكم له.

وكذا الحال لو اكره على إيقاع معاملة فاسدة في نفسها ، فانّه لا يمكن الحكم بترتب الأثر على هذه المعاملة الفاسدة لحديث الرفع ، فانّه أيضاً يرجع إلى الاكراه على ترك المعاملة الصحيحة ، ولا أثر لترك المعاملة الصحيحة ليرفع بحديث الرفع.

وبعبارة اخرى واضحة : كل ما كان صحيحاً ونافذاً في نفسه من المعاملات يرتفع عنه حكمه وأثره إذا وقع مكرهاً عليه. وأمّا ما كان فاسداً في نفسه ، فلا يترتب عليه الحكم بالصحّة إذا وقع عن إكراه.

الأمر الرابع : أنّه لا يرفع بحديث الرفع الحكم الثابت للشيء بالعناوين المذكورة في نفس الحديث ، كوجوب سجدتي السهو المترتب على نسيان السجدة في الصلاة ، وكوجوب الدية المترتب على قتل الخطأ ، والسر في ذلك : أنّ مفاد

٣١١

الحديث كون طروء هذه العناوين موجباً لارتفاع الحكم الثابت للشيء في نفسه ، فلا يشمل الحكم الثابت لنفس هذه العناوين ، إذ ما يكون موجباً لثبوت حكم لا يعقل أن يكون موجباً لارتفاعه. ولعل هذا واضح.

الأمر الخامس : أنّه يعتبر في شمول حديث الرفع أمران :

الأوّل : أن يكون الحكم مترتباً على فعل المكلف بما هو فعل المكلف ، فلا يرفع به مثل النجاسة المترتبة على عنوان الملاقاة ، فإذا لاقى جسم طاهر بدن الانسان المتنجس اضطراراً أو إكراهاً ، لايمكن الحكم بارتفاع تنجس هذا الجسم الملاقي لحديث الرفع ، لأنّ تنجس الملاقي لم يترتب على الملاقاة بما هو فعل المكلف ، بل هو مترتب على نفس الملاقاة وإن فرض تحققها بلا استناد إلى المكلف. فلا وجه لما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من أنّ ذلك خارج عن حديث الرفع بالاجماع (١). وكذا لا يرفع بحديث الرفع وجوب قضاء الفائت من المكلف اضطراراً أو إكراهاً ، لأنّ وجوب القضاء مترتب على عنوان الفوت بما هو فوت ، لا بما هو فعل للمكلف ، ولذا يجب القضاء فيما إذا لم يكن الفوت مستنداً إلى المكلف أصلاً.

الثاني : أن يكون في رفعه منّة على الامّة ، فلا يرتفع به ضمان الاتلاف المتحقق بالاضطرار أو الاكراه ، لأنّ رفعه خلاف الامتنان بالنسبة إلى المالك وإن كان فيه منّة على المتلف ، وكذا لا يرفع به صحّة بيع المضطر ، فانّ رفعها خلاف الامتنان.

الأمر السادس : لا خفاء في أنّ البراءة العقلية تختص بموارد الشك في التكاليف الالزامية ، ولا تجري في موارد الشك في التكاليف غير الالزامية ، لأنّ

__________________

(١) [لم نعثر عليه في مظانه]

٣١٢

ملاكها قبح العقاب بلا بيان ، والتكليف غير الالزامي ممّا لا عقاب في مخالفة مقطوعه ، فكيف بمشكوكه.

وأمّا البراءة الشرعية ففي اختصاصها بموارد الشك في التكاليف الالزامية خلاف بينهم. والتحقيق أن يفصّل بين موارد الشك في التكاليف الاستقلالية ، وموارد الشك في التكاليف الضمنية ، ويلتزم بجريانها في الثانية دون الاولى ، والوجه في ذلك : أنّ المراد من الرفع في الحديث الشريف هو الرفع في مرحلة الظاهر عند الجهل بالواقع ، ومن لوازم رفع الحكم في مرحلة الظاهر عدم وجوب الاحتياط ، لتضاد الأحكام ولو في مرحلة الظاهر على ما تقدّم بيانه (١). وهذا المعنى غير متحقق في موارد الشك في التكاليف الاستقلالية ، إذ لو شككنا في استحباب شيء لا إشكال في استحباب الاحتياط ، فانكشف أنّ التكليف المحتمل غير مرفوع في مرحلة الظاهر ، فلا يكون مشمولاً لحديث الرفع. وأمّا التكاليف الضمنية فالأمر بالاحتياط عند الشك فيها وإن كان ثابتاً ، فيستحب الاحتياط باتيان ما يحتمل كونه جزءاً لمستحب ، إلاّأنّ اشتراط هذا المستحب به مجهول ، فلا مانع من الرجوع إلى حديث الرفع ، والحكم بعدم الاشتراط في مقام الظاهر.

وبعبارة اخرى : الوجوب التكليفي وإن لم يكن محتملاً في المقام ، إلاّأنّ الوجوب الشرطي ـ المترتب عليه عدم جواز الاتيان بالفاقد للشرط بداعي الأمر ـ مشكوك فيه ، فصحّ رفعه ظاهراً بحديث الرفع.

وممّا استدلّ به على البراءة قوله عليه‌السلام : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (٢).

__________________

(١) في ص ٣٠٠

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٣٣ (في الطبعة القديمة ح ٢٨)

٣١٣

وتوهم اختصاصه بالشبهة الموضوعية ـ بقرينة السياق على ما تقدّم بيانه (١) عند الاستدلال بحديث الرفع ـ غير جارٍ هنا ، إذ لم يذكر فيه إلاّموصول واحد كما ترى.

وتوهم أنّ شموله للشبهة الحكمية والموضوعية مستلزم لاستعمال لفظ الموصول في معنيين ، مندفع بما تقدّم في الاستدلال بحديث الرفع (٢) ولا حاجة إلى الاعادة.

وقد يستشكل هنا : بأنّ ظاهر إسناد الحجب إلى الله (سبحانه وتعالى) هي الأحكام التي لم يبيّنها الله تعالى لأجل التسهيل والتوسعة على الامّة ، أو لأجل مانع من البيان مع وجود المقتضي لها ، فيكون مفاد هذا الحديث هو مفاد قوله عليه‌السلام : «اسكتوا عمّا سكت الله عنه» (٣). وبالجملة : ظاهر هذا النوع من الأخبار أنّ المصلحة الإلهية قد اقتضت إخفاء عدّة من الأحكام إلى زمان ظهور المهدي (عجّل الله فرجه) ولعل هذا المعنى هو المراد ممّا ورد في بعض الروايات من أنّه عليه‌السلام يأتي بدين جديد (٤). وعليه فلا يرتبط هذا الحديث بالمقام من الأحكام التي لم يحجب الله تعالى علمه عن العباد ، بل بيّنها بلسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخفاها الظالمون.

وهذا الاشكال أيضاً مدفوع بأنّ الموجب لخفاء الأحكام التي بيّنها الله تعالى بلسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم‌السلام وإن كان هو الظالمين ، إلاّ أنّه تعالى قادر على بيانها بأن يأمر المهدي عليه‌السلام

__________________

(١) في ص ٣٠١

(٢) في ص ٣٠٤

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٢٦٠ / كتاب العلم ب ٣١ ح ١٤ (باختلاف يسير)

(٤) بحار الأنوار ٥٢ : ٣٣٨ و ٣٥٤ / تاريخ الإمام الثاني عشر ب ٢٧ ح ٨٢ و ١١٤ وفيه : أنّه عليه‌السلام يقوم بأمر جديد وكتاب جديد وقضاء جديد ...

٣١٤

بالظهور وبيان تلك الأحكام ، فحيث لم يأمره بالبيان لحكمة لا يعلمها إلاّهو ، صحّ إسناد الحجب إليه تعالى. هذا في الشبهات الحكمية. وكذا الحال في الشبهات الموضوعية ، فانّ الله تعالى قادر على إعطاء مقدّمات العلم الوجداني لعباده ، فمع عدم الاعطاء صحّ إسناد الحجب إليه تعالى ، فصحّ الاستدلال بهذا الحديث على البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية كحديث الرفع.

وممّا استدلّ به على البراءة روايات الحل ، وهي أربع على ما تفحّصناه عاجلاً :

الاولى : موثقة مسعدة بن صدقة عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : «سمعته يقول : كل شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ، قد اشتريته ولعلّه سرقة ، أو المملوك يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع قهراً ، أو امرأة تحتك ولعلّها اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى تستبين أو تقوم به البيّنة» (١).

الثانية : رواية عبدالله بن سليمان ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ـ إلى أن قال ـ سأخبرك عن الجبن وغيره ، كلّ ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه من قبل نفسك» (٢).

الثالثة : رواية معاوية بن عمار (٣) ، وهي متحدة مع الرواية الثانية من حيث المضمون ، بل من حيث الألفاظ إلاّاليسير ، فراجع الجوامع. ويحتمل أن تكونا رواية واحدة ، فانّ عبدالله بن سليمان رواها عن أبي جعفر عليه‌السلام ومعاوية

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٩ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ٤ (باختلاف يسير)

(٢) الوسائل ٢٥ : ١١٧ / أبواب الأطعمة المباحة ب ٦١ ح ١ (باختلاف يسير)

(٣) المصدر السابق ح ٧

٣١٥

بن عمار رواها عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر عليه‌السلام ، فيحتمل أن يكون المراد من بعض أصحابنا في كلام معاوية بن عمار هو عبدالله بن سليمان ، فتكونان رواية واحدة.

الرابعة : رواية عبدالله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ، حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١).

هذه هي الروايات الواردة في الباب ، وقد استدلّ شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره على البراءة في الشبهة الحكمية برواية عبدالله بن سليمان ورواية عبدالله بن سنان ولم يستدل عليها بموثقة مسعدة بن صدقة ، ولعل الوجه في عدم استدلاله بها اشتمالها على جملة من أمثلة الشبهة المصداقية فرأى اختصاصها بها ولم يستدل بها على البراءة في الشبهة الحكمية. وعكس الأمر صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) فتمسّك للبراءة في الشبهة الحكمية بموثقة مسعدة بن صدقة ، ولم يستدل بالروايتين. ولعل الوجه في عدم استدلاله بهما ظهور قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» فيهما في فعلية الانقسام إلى القسمين المختصّة بالشبهات الموضوعية ، إذ لا معنى لانقسام الشيء المجهول حرمته وحلّيته إلى القسمين كما هو واضح.

هذا ، والتحقيق عدم صحّة الاستدلال بشيء من هذه الروايات على البراءة في الشبهات الحكمية التي هي محل الكلام ، إذ فيها قرائن تقتضي اختصاصها بالشبهات الموضوعية ، وهذه القرائن بعضها مشترك بين موثقة مسعدة بن صدقة وغيرها ، وبعضها مختص بالموثقة ، وبعضها مختص بغيرها.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٨٧ / أبواب ما يكتسب به ب ٤ ح ١ (باختلاف يسير)

(٢) لاحظ فرائد الاصول ١ : ٣٧٠

(٣) كفاية الاصول : ٣٤١

٣١٦

أمّا القرينة المشتركة : فهي قوله عليه‌السلام : «بعينه» فانّه ظاهر في الاختصاص بالشبهة الموضوعية ، وذلك لأنّ حمل هذه الكلمة على التأكيد ـ بأن يكون المراد منها تأكيد النسبة والاهتمام بالعلم بالحرمة ـ خلاف الظاهر ، إذ الظاهر أن يكون احترازاً عن العلم بالحرام لا بعينه ، ولا ينطبق ذلك إلاّعلى الشبهة الموضوعية ، إذ لا يتصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية ، فانّه مع الشك في حرمة شيء وحلّيته لا علم لنا بالحرام لا بعينه.

وبعبارة اخرى : العناوين الكلّية إمّا أن تكون معلومة الحرمة أو لا تكون كذلك. فعلى الأوّل تكون معلومة الحرمة بعينها ، وعلى الثاني لا علم بالحرمة أصلاً. نعم ، يتصور العلم بالحرام لا بعينه في الشبهة الحكمية مع العلم الاجمالي بالحرمة ، ومن الظاهر أنّ هذه الأحاديث لاتشمل أطراف العلم الاجمالي بالحرمة ، إذ جعل الترخيص في الطرفين مع العلم بحرمة أحدهما إجمالاً ممّا لا يمكن الجمع بينهما ثبوتاً ويتناقضان ، على ما سنتكلّم فيه في مبحث الاشتغال (١) إن شاء الله تعالى.

وأمّا الشبهة الموضوعية : فلا ينفك الشك فيها عن العلم بالحرام لا بعينه ، فانّا إذا شككنا في كون مائع موجود في الخارج خمراً ، كان الحرام معلوماً لا بعينه ، إذ نعلم إجمالاً بوجود الخمر في الخارج المحتمل انطباقه على هذا المائع فيكون الحرام معلوماً لا بعينه ، ولكن هذا العلم لا يوجب التنجيز لعدم حصر أطرافه ، وعدم كون جميعها في محل الابتلاء ، فما ابتلي به من أطرافه محكوم بالحلية ما لم يعلم أنّه حرام بعينه.

أمّا القرينة المختصّة بالموثقة فهي أمران : الأوّل : كون الأمثلة المذكورة فيها

__________________

(١) راجع ص ٤٠٤ ـ ٤٠٥

٣١٧

من قبيل الشبهة الموضوعية ، فهي قرينة على اختصاص الموثقة بالشبهة الموضوعية. ولا أقل من احتمال القرينية ، فلا ينعقد لها ظهور في الشمول للشبهات الحكمية. الثاني : قوله عليه‌السلام : «أو تقوم به البيّنة» ، بناءً على أنّ المراد منها هي البيّنة المصطلحة وهي إخبار العدلين ، فانّ اعتبار البيّنة المصطلحة إنّما هو في الموضوعات ، وأمّا الأحكام فيكفي فيها خبر الواحد ، فقوله عليه‌السلام : «أو تقوم به البيّنة» قرينة أو صالح للقرينية على إرادة خصوص الشبهة الموضوعية ، فيكون المراد أنّ الأشياء الخارجية كلّها على الاباحة حتّى تظهر حرمتها بالعلم الوجداني أو تقوم بها البيّنة. ولا بدّ حينئذ من الالتزام بتخصيص هذا العموم بعدّة امور قد ثبت من الخارج ارتفاع الحلية بها ، كالاقرار وحكم الحاكم والاستصحاب. وأمّا بناءً على أنّ المراد من البيّنة هو معناها اللغوي أي ما يتبين به الشيء ، فيكون المراد منها مطلق الدليل ، كما قوّيناه أخيراً. وهذا المعنى هو المراد في الآيات والروايات ، كقوله تعالى : «أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» (١) فلا قرينية لقوله عليه‌السلام : «أو تقوم به البيّنة» على إرادة خصوص الشبهات الموضوعية ، إذ المراد حينئذ أنّ الأشياء كلّها على الاباحة حتّى تستبين أي تتفحّص وتستكشف أنت حرمتها ، أو تظهر حرمتها بقيام دليل من الخارج بلا تفحص واستكشاف ، ولا يلزم تخصيص في الموثقة على هذا المعنى ، لأنّ البيّنة المصطلحة والاقرار وحكم الحاكم والاستصحاب وغيرها من الأدلة كلّها داخل في البيّنة بهذا المعنى.

هذا كلّه على تقدير تسليم دلالة الموثقة على أصالة الاباحة في مشكوك الحرمة ، ويمكن أن يقال : إنّها أجنبية عنها بالكلّية ، لأنّ الأمثلة المذكورة فيها كلّها من قبيل الشبهة الموضوعية ، وليست الحلية في شيء منها مستندة إلى

__________________

(١) هود ١١ : ٢٨

٣١٨

أصالة البراءة وأصالة الحل ، فانّها في الثوب والعبد مستندة إلى اليد ، وهي من الأمارات ، وفي المرأة مستندة إلى الاستصحاب ، أي أصالة عدم تحقق الرضاع بينهما ، فانّه أمر حادث مسبوق بالعدم. هذا عند احتمال كونها اختاً له من الرضاعة ، وكذا الحال عند احتمال كونها اختاً له من النسب ، فانّ مقتضى الأصل عدم كونها اختاً له بناءً على ما قوّيناه في محلّه (١) من جريان الأصل في الأعدام الأزلية ، وعليه فلا يخلو الأمر في قوله عليه‌السلام : «كل شيء حلال» من أوجه ثلاثة :

١ ـ أن يكون المراد منه هو خصوص الحلية المستندة إلى دليل غير أصالة الاباحة ، مثل اليد والاستصحاب ونحوهما كما تقدّم.

٢ ـ أن يكون المراد منه خصوص الحلية المجعولة للشاك المعبّر عنها بأصالة الاباحة.

٣ ـ أن يكون المراد منه معناها اللغوي ، وهو الارسال وعدم التقييد في مقابل المنع والحرمان ، وهو أعم من الحلية المستفادة من الدليل والحلية المستندة إلى أصالة الحل ، ودلالة الموثقة على أصالة الحل متوقفة على ظهورها في الاحتمال الثاني أو الثالث ، وهو غير ثابت ولا سيّما الاحتمال الثاني فانّه خلاف الظاهر ، إذ عليه يكون ذكر الأمثلة من باب التنظير ، وظاهر الكلام وسوق العبارة أنّ ذكر الأمثلة إنّما هو من باب انطباق الكبرى على الصغريات ، لا من باب التنظير.

وأمّا القرينة المختصّة بغير الموثقة : فهي قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» فانّه ظاهر في الانقسام الفعلي ، بمعنى أن يكون قسم منه حلالاً وقسم

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣٦٠

٣١٩

منه حراماً ، ولم يعلم أنّ المشكوك فيه من القسم الحلال أو من القسم الحرام ، كالمائع المشكوك في كونه خلاًّ أو خمراً ، وذلك لايتصوّر إلاّفي الشبهات الموضوعية كما مثّلنا ، إذ لا تكون القسمة الفعلية في الشبهات الحكمية ، وإنّما تكون القسمة فيها فرضية إمكانية ، بمعنى احتمال الحرمة والحلية ، فانّا إذا شككنا في حلية شرب التتن مثلاً ، كان هناك احتمال الحرمة والحلية ، وليس له قسمان يكون أحدهما حلالاً والآخر حراماً وقد شكّ في فرد أنّه من القسم الحلال أو من القسم الحرام.

ويؤكّد ما ذكرناه : ذكر الحرام معرفاً باللام في قوله عليه‌السلام : «حتّى تعرف الحرام منه بعينه» فانّه إشارة إلى الحرام المذكور قبل ذلك الذي قسم الشي إليه وإلى الحلال في قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام».

وقد يتوهّم : أنّ اشتمال هذه الروايات على التقسيم غير مانع عن شمولها للشبهات الحكمية ، إذ يمكن تصوّر الانقسام الفعلي فيها أيضاً ، كما إذا علمنا بحلية لحم نوع من الطير كالدراج مثلاً ، وعلمنا بحرمة لحم نوع آخر منه كالغراب مثلاً ، وشككنا في حلية لحم نوع ثالث من الطير ، فيحكم بحلية المشكوك فيه ما لم يعلم أنّه حرام بمقتضى هذه الروايات ، إذ يصدق عليه أنّ فيه حلالاً وحراماً.

وهذا التوهم فاسد ، لأنّ الظاهر من قوله عليه‌السلام : «فيه حلال وحرام» أنّ منشأ الشك في الحلية والحرمة هو نفس انقسام الشيء إلى الحلال والحرام ، وهذا لا ينطبق على الشبهة الحكمية ، فانّ الشك في حلية بعض أنواع الطير ـ في مفروض المثال ـ ليس ناشئاً من انقسام الطير إلى الحلال والحرام ، بل هذا النوع مشكوك فيه من حيث الحلية والحرمة ، ولو على تقدير حرمة جميع بقية الأنواع أو حليتها. وهذا بخلاف الشبهة الموضوعية ، فانّ الشك في حلية مائع موجود في الخارج ناشئ من انقسام المائع إلى الحلال والحرام ، إذ لو كان المائع

٣٢٠