موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

حجّية الخبر فراجع (١). هذا كلّه من حيث السند.

وأمّا من حيث الدلالة فالمعروف بينهم عدم انجبار ضعف الدلالة بعمل المشهور ، مع عدم ظهور الخبر في نفسه ، وعدم وهن الدلالة باعراض المشهور مع ظهوره في نفسه.

وهذا الذي ذكروه متين جدّاً. أمّا عدم الانجبار بعمل المشهور فلاختصاص دليل الحجّية بالظهور ، فلو لم يكن اللفظ بنفسه ظاهراً في معنى ولكن المشهور حملوه عليه لا يكون حملهم موجباً لانعقاد الظهور في اللفظ ، فلا يشمله دليل حجّية الظواهر. وأمّا عدم الانكسار فلعدم اختصاص دليل حجّية الظواهر بما إذا لم يكن الظن بخلافها ، أو بما إذا لم يحملها المشهور على خلافها ، فلو كان اللفظ بنفسه ظاهراً في معنى ، وحمله المشهور على خلافه لم يكن ذلك مانعاً عن انعقاد الظهور ، فلا يسقط عن الحجّية ، فما ذكروه في الدلالة من أنّ عمل المشهور لا يوجب الانجبار ولا إعراضهم يوجب الانكسار متين. فياليتهم عطفوا السند على الدلالة وقالوا فيه بما قالوا فيها من عدم الانجبار والانكسار.

نعم ، هنا شيء وهو أنّه إذا حمل جماعة من العلماء اللفظ على معنىً لم يكن ظاهراً فيه في نظرنا مع كونهم من أهل اللسان العربي ومن أهل العرف ، يستكشف بذلك أنّ اللفظ ظاهر في هذا المعنى الذي حملوه عليه ، إذ المراد من الظهور هو الذي يفهمه أهل العرف من اللفظ ، والمفروض أنّهم فهموا ذلك المعنى وهم من أهل اللسان. ولكن يختص ذلك بما إذا احرز أنّ حملهم اللفظ على هذا المعنى إنّما هو من جهة حاق اللفظ ، وأمّا إذا احتمل أنّ حملهم مبني على قرائن خارجية مستكشفة باجتهاداتهم فلا يكون حجّةً لعدم الظهور العرفي

__________________

(١) ص ٢٣٦

٢٨١

حينئذ. واجتهادهم في ذلك ليس حجّةً لنا. وكذا الحال في طرف الإعراض ، فإن كان اللفظ ظاهراً في معنىً في نظرنا ، وحملها جماعة من العلماء على خلافه ، واحرز أنّ حملهم مستند إلى حاق اللفظ لا إلى ظنونهم واجتهاداتهم ، يستكشف بذلك أنّ اللفظ ليس ظاهراً في المعنى الذي فهمناه ، بل هو خلاف الظاهر ، فانّ خلاف الظاهر هو ما يفهم العرف خلافه من اللفظ.

أمّا الجهة الثالثة : وهي ترجيح أحد الدليلين المتعارضين على الآخر بالظن غير المعتبر ، فقد التزم به شيخنا الأنصاري قدس‌سره واستدلّ له بوجهين مذكورين في الرسائل (١).

ولكن الصحيح عدم صحّة الترجيح بالظن ، لأنّ أخبار الترجيح كلّها ضعيفة سنداً أو دلالةً ، إلاّرواية الراوندي (٢) الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب أوّلاً ، وبمخالفة العامّة ثانياً فلا وجه للتعدي إلى الترجيح بالعدالة والوثاقة وغيرهما ممّا هو مذكور في الأخبار العلاجية ، فضلاً عن التعدي إلى الترجيح بمطلق الظن. وكذا الحال في أخبار التخيير ، فانّها أيضاً غير تامّة ، فلا وجه للالتزام بالتخيير بين الخبرين المتعارضين ، كما لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر بالظن ، بل يسقط كلاهما عن الحجّية ، لعدم إمكان شمول دليل الحجّية للمتعارضين ، لعدم معقولية التعبّد بالمتناقضين أو بالمتضادين ، ولا لأحدهما لبطلان الترجيح بلا مرجّح ، فلا بدّ من رفع اليد عن كليهما والرجوع إلى عام أو مطلق فوقهما ، ومع عدمهما كان المرجع هو الاصول العملية. وقد تعرّضنا لتفصيل ذلك كلّه في بحث التعادل والترجيح من كتابنا هذا (٣).

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٤٣ ، ٢ : ٨١٤

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩

(٣) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٤١٧

٢٨٢

مباحث الشك

الاصول العملية

أصالة البراءة

٢٨٣
٢٨٤

الأُصول العملية

الاصول العملية هي المرجع عند الشك. وقبل الشروع في المقصود لا بدّ لنا من بيان امور :

الأمر الأوّل : قد ذكرنا في أوّل بحث الألفاظ (١) أنّ المسألة الاصولية هي ما يمكن أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلّي الفرعي ، بحيث تكون نسبتها إلى الاستنباط نسبة الجزء الأخير من العلّة التامّة إلى المعلول ، وذكرنا أيضاً (٢) أنّ المسائل الاصولية تنقسم إلى أقسام :

القسم الأوّل : ما يوصلنا إلى الحكم الشرعي بالقطع الوجداني ، كالبحث عن الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، والبحث عن الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه ، والبحث عن إمكان اجتماع الوجوب والحرمة وعدمه ، بمعنى أنّ وجود أحدهما هل يستلزم عدم الآخر أم لا ، فانّ هذه المباحث ـ على تقدير تمامية الملازمة ـ توجب القطع بالحكم الشرعي بعد انضمام الصغرى إليها ،

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤ ـ ١٣

(٢) المصدر السابق ص ١ ـ ٤

٢٨٥

وتسمّى بالبحث عن المداليل تارةً وعن الاستلزامات العقلية اخرى ، وهذه المسائل وإن ذكرها الاصوليون في مباحث الألفاظ ، إلاّ أنّها ليست منها ، إذ البحث فيها إنّما هو عن لوازم نفس الأحكام بما هي لا بما هي مدلولة للأدلة اللفظية ، فلا ربط لها بمباحث الألفاظ.

القسم الثاني : ما يوصلنا إلى الحكم الشرعي بالتعبد ، وهذا على نوعين :

النوع الأوّل : ما يكون البحث فيه صغروياً ، كمباحث الألفاظ ، فانّ البحث فيها إنّما هو عن الصغرى ونفس الظهور ، كالبحث عن أنّ الأمر ظاهر في الوجوب أم لا؟ والنهي ظاهر في الحرمة أم لا؟ وكذا سائر مباحث الألفاظ ، فانّها بحث عن الظهور. وأمّا الكبرى وهي حجّية الظواهر فمسلّمة عند العقلاء والعلماء بلا خلاف فيها. ولايبحث عنها في علم الاصول ، وإن توهم اختصاصها بمن قصد إفهامه وتقدّم دفعه في محلّه (١).

النوع الثاني : ما يكون البحث فيه كبروياً ، أي يكون البحث فيه عن حجّية شيء لاثبات الأحكام الشرعية ، كالبحث عن حجّية الخبر ، والبحث عن حجّية الاجماع المنقول ، والبحث عن حجّية الشهرة. ومنه البحث عن حجّية الظن الانسدادي على الكشف. وهذا النوع هو القسم الثالث من المسائل الاصولية ، كما أنّ مباحث الألفاظ هي القسم الثاني منها.

القسم الرابع : ما لا يوصلنا إلى الحكم الواقعي بالقطع الوجداني ولا بالتعبد الشرعي ، بل يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لبيان الأحكام الظاهرية في فرض الشك في الحكم الواقعي وتسمّى هذه القواعد بالاصول العملية الشرعية ، ويعّبر عن الدليل الدال على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهتي ، كما يعبّر عن الدليل

__________________

(١) راجع ص ١٣٧ ـ ١٤٢

٢٨٦

الدال على الحكم الواقعي بالدليل الاجتهادي.

ووجه المناسبة في هذا التعبير والاصطلاح : ما ذكروه في تعريف الفقه والاجتهاد ، فانّهم عرّفوا الفقه بأ نّه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية. ومرادهم من الأحكام هو الأعم من الأحكام الظاهرية والواقعية ، بقرينة ذكر لفظ العلم ، ضرورة أنّ الأحكام الواقعية لا طريق إلى العلم بها غالباً ، فناسب أن يسمّى الدليل الدال على الحكم الظاهري بالدليل الفقاهتي ، لكونه مثبتاً للحكم المذكور في تعريف الفقه. وعرّفوا الاجتهاد بأ نّه استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي ، ومن الواضح أنّ المراد بالحكم هو خصوص الواقعي بقرينة أخذ الظن في التعريف ، فانّه هو الذي قد يحصل الظن به للمجتهد. وأمّا الحكم الظاهري فيعلمه المجتهد لا محالة ، فناسب أن يسمّى الدليل الدال على الحكم الواقعي بالدليل الاجتهادي ، لكونه دليلاً على الحكم المذكور في تعريف الاجتهاد.

ولا يخفى أنّ تسمية الحكم المجعول في ظرف الشك في الحكم الواقعي بالحكم الظاهري إنّما هو لتميّزه عن الحكم الواقعي المجعول للشيء بعنوانه الأوّلي لا بعنوان أنّه مشكوك فيه ، وإلاّ فالحكم الظاهري أيضاً حكم واقعي مجعول للشيء بعنوان أنّه مشكوك فيه.

القسم الخامس : ما يبحث فيه عن القواعد المتكفلة لتعيين الوظيفة الفعلية عقلاً عند العجز عن جميع ما تقدّم ، فانّ المكلف إذا لم يصل إلى الحكم الواقعي بالقطع الوجداني ولا بالتعبد الشرعي ، وعجز أيضاً عن معرفة الحكم الظاهري ، تعيّن عليه الرجوع إلى ما يستقل به العقل من البراءة أو الاحتياط أو التخيير على اختلاف الموارد. وتسمّى هذه القواعد بالاصول العملية العقلية.

هذه هي مسائل علم الاصول على نحو الاجمال. وقد فرغنا عن البحث في

٢٨٧

ثلاثة أقسام منها ، ويقع الكلام فعلاً في القسم الرابع والخامس منها ، وحيث إنّ الاصوليين أدرجوا الخامس في الرابع وتعرّضوا للبحث عنهما في عرض واحد ، فنحن نتبعهم في ذلك مراعاةً للاختصار.

الأمر الثاني : أنّ الاصول العملية التي هي المرجع عند الشك منحصرة في أربعة : وهي البراءة والاحتياط ـ وقد يسمّى بأصالة الاشتغال أو قاعدة الاشتغال ـ والاستصحاب والتخيير. وهذا الحصر استقرائي بلحاظ نفس الاصول وعقلي بلحاظ الموارد.

أمّا الأوّل : فلأ نّه يمكن بحسب التصور أن يجعل أصل آخر غير الاصول الأربعة في بعض صور الشك ، كما إذا قال المولى : إذا شككت بين الوجوب والاباحة فابن على الاستحباب. أو إذا دار الأمر بين الحرمة والاباحة فابن على الكراهة مثلاً ، إلاّأنّ الاستقراء أثبت انحصار الاصول في الأربعة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الشك إمّا أن تعلم له حالة سابقة وقد اعتبرها الشارع أو لا ، بأن لا تعلم له حالة سابقة أو علمت ولم يعتبرها الشارع ، كما إذا كان الشك في بقاء شي ناشئاً من الشك في المقتضي ، على القول بالتفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع في جريان الاستصحاب ، وكذا على غيره من التفصيلات المذكورة في بحث الاستصحاب. والأوّل ـ أي الشك الذي علمت له حالة سابقة واعتبرها الشارع ـ مجرىً للاستصحاب ، سواء كان الشك في التكليف أو في المكلف به ، وأمكن الاحتياط أم لم يمكن. والثاني ـ أي الشك الذي لم يعتبر الشارع حالته السابقة ، سواء كانت له حالة سابقة معلومة ولم يعتبرها الشارع أو لم تكن ـ فإن كان الشك في أصل التكليف كان مجرى للبراءة ، وإن كان الشك في المكلف به مع العلم بأصل التكليف ، فإن أمكن الاحتياط فهو مجرى لقاعدة الاشتغال ، كما في موارد دوران الأمر بين القصر والتمام ، وإن لم يمكن

٢٨٨

الاحتياط كما في دوران الأمر بين المحذورين ، فهو مورد لقاعدة التخيير ، هذا كلّه في الحكم التكليفي. وكذا الحال عند الشك في الحكم الوضعي ، فيجري فيه جميع ما ذكرناه في الحكم التكليفي بناءً على كون الحكم الوضعي أيضاً مجعولاً مستقلاً كما هو الصحيح ـ على ما سنتكلّم فيه في بحث الاستصحاب (١) إن شاء الله تعالى ـ وإن كان بعض أقسامه منتزعاً من التكليف كالشرطية والجزئية للمأمور به.

وبالجملة : لا فرق بين الحكم التكليفي والوضعي من حيث تقسيم الشك فيه إلى الأقسام الأربعة ، وجريان الأصل العملي فيه.

ثمّ إنّ عدم ذكر أصالة الطهارة عند الشك في النجاسة في علم الاصول إنّما هو لعدم وقوع الخلاف فيها فانّها من الاصول الثابتة بلا خلاف فيها ، ولذا لم يتعرّضوا للبحث عنها في علم الاصول ، لا لكونها خارجة من علم الاصول وداخلة في علم الفقه على ما توهّم.

وخلاصة القول : أنّ أصالة الطهارة عند الشك في النجاسة بمنزلة أصالة الحل عند الشك في الحرمة ، فكما أنّ البحث عن الثانية داخل في علم الاصول باعتبار ترتب تعيين الوظيفة الفعلية عليه ، كذلك البحث عن الاولى أيضاً داخل في علم الاصول لعين الملاك المذكور ، غاية الأمر أنّ مفاد أصالة الحل هو الحكم التكليفي ، ومفاد أصالة الطهارة هو الحكم الوضعي ، ومجرّد ذلك لايوجب الفرق بينهما من حيث كون البحث عن إحداهما داخلاً وعن الاخرى خارجاً عنه.

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الوجه لعدم التعرّض

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٩٢ وما بعدها

٢٨٩

لأصالة الطهارة في علم الاصول عدم اطرادها في جميع أبواب الفقه ، واختصاصها بباب الطهارة (١) فغير تام ، لأنّ الميزان في كون المسألة اصولية هو أن تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي ، ولا يعتبر جريانها في جميع أبواب الفقه ، وإلاّ لخرجت جملة من المباحث الاصولية عن علم الاصول ، لعدم اطرادها في جميع أبواب الفقه ، كالبحث عن دلالة النهي عن العبادة على الفساد فانّه غير جارٍ في غير العبادات من سائر أبواب الفقه.

وقد يتخيّل : أنّ الوجه في عدم ذكر أصالة الطهارة في علم الاصول أنّ الطهارة والنجاسة من الامور الواقعية ، فدائماً يكون الشك فيهما من الشبهة المصداقية ، إذ بعد كونهما من الامور الواقعية لا من الأحكام الشرعية كان الشك فيهما شكاً في الانطباق ، فتكون الشبهة مصداقية. ومن الواضح أنّ البحث عن الشبهات الموضوعية لا يكون من المسائل الاصولية ، لأنّ المسألة الاصولية ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الكلّي كما تقدّم مراراً.

وفيه : أنّه إن اريد من كونهما من الامور الواقعية أنّهما ناشئان من المصلحة والمفسدة الواقعيتين ، وليستا من الأحكام الجزافية المجعولة بلا لحاظ مصلحةأو مفسدة ، فالشك في نجاسة شيء وطهارته يرجع إلى الشك في المنشأ الذي هو من الامور الواقعية ، فهذا وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه لا يوجب كون الشك فيهما من الشبهة المصداقية ، وإلاّ لزم كون الشك في جميع الأحكام الشرعية من الشبهة المصداقية ، لأنّ جميع الأحكام ناشئ من المصالح والمفاسد النفس الأمرية الموجودة في متعلقاتها على ما هو المشهور أو في نفسها ، والشك فيها يستلزم الشك في منشئها ، فيلزم كون الشبهة مصداقية عند الشك في جميع الأحكام الشرعية ، وهذا ممّا نقطع بفساده بالضرورة.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٣٧

٢٩٠

وإن اريد أنّهما ليستا من الأحكام بل من قبيل الخواص والآثار ، كخواص الأدوية التي لا يعرفها إلاّالأطباء ، فالطهارة والنجاسة أيضاً من هذا القبيل ، ولا يعرفهما إلاّالشارع العالم بجميع الأشياء وخواصّها.

ففيه أوّلاً : أنّه خلاف ظواهر الأدلة ، فانّ الظاهر منها أنّهما حكمان مجعولان كسائر الأحكام الوضعية والتكليفية ، وأنّ الشارع قد حكم بهما بما أنّه شارع لا أنّه أخبر بهما بما أنّه من أهل الخبرة وأ نّه العارف بخواصّ الأشياء ، ولعل هذا واضح.

وثانياً : أنّه لو سلّمنا كونهما من قبيل الخواص والآثار وقد أخبر بهما الشارع ، لا نسلّم كون الشك فيهما من الشبهة المصداقية ، لأنّ الميزان في كون الشبهة مصداقية أن يكون المرجع فيها هو العرف لا الشارع ، كما أنّ الأمر في الشبهة الحكمية بعكس ذلك ، إذ المرجع الوحيد في الشبهة الحكمية هو الشارع ولا إشكال في أنّ المرجع عند الشك في نجاسة شيء وطهارته ـ كالعصير العنبي بعد الغليان ، وكعرق الجنب من الحرام ، وعرق الإبل الجلاّل ونحوها ـ هو الشارع ليس إلاّ ، فكونهما من قبيل الخواص والآثار لا يجعل الشك فيهما من الشبهة المصداقية بعد الاعتراف بأنّ بيانهما من وظائف الشارع ولا يعلمهما إلاّ هو.

فتحصّل : أنّ البحث عن أصالة الطهارة من المسائل الاصولية ، والوجه في عدم التعرّض له في علم الاصول هو ما ذكرناه من كونها من الامور المسلّمة التي لا نزاع فيها ولا خلاف.

الأمر الثالث : أنّ شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) جعل الشك في التكليف

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٥٦ و ٣٥٧

٢٩١

الذي هو مجرى للبراءة على أقسام ثمانية ، باعتبار أنّ الشبهة تارةً تكون وجوبية ، واخرى تحريمية. وعلى كلا التقديرين إمّا أن يكون منشأ الشك فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصّين أو الامور الخارجية كما في الشبهات الموضوعية.

وتعرّض للبحث عن كل قسم مستقلاً.

والوجه في هذا التقسيم والبحث عن كل قسم مستقلاً أمران :

الأوّل : اختصاص بعض أدلة البراءة بالشبهة التحريمية ، كقوله عليه‌السلام : «كل شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» (١).

الثاني : أنّ النزاع المعروف بين الاصوليين والأخباريين أيضاً مختص بها ، وأمّا الشبهة الوجوبية فوافق الأخباريون الاصوليين في الرجوع إلى البراءة إلاّ المحدِّث الاسترابادي (٢).

ولا يخفى أنّ الأقسام غير منحصرة في ثمانية ، إذ من الشك في التكليف الذي هو مورد للبراءة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة والاباحة ، وعليه كانت الأقسام اثني عشر لا ثمانية.

وجعل صاحب الكفاية قدس‌سره (٣) البحث عاماً لمطلق الشك في التكليف الجامع بين جميع الأقسام المذكورة ، إلاّفرض تعارض النصّين فأخرجه من هذا البحث ، بدعوى أنّه ليس مورداً للبراءة ، لأنّ المتعيّن فيه الرجوع إلى المرجّحات ، ومع فقدها يتخيّر. فالبحث عنه راجع إلى التعادل والترجيح لا إلى البراءة ، لأنّ أصالة البراءة تكون مرجعاً عند عدم الدليل ، ومع وجود

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٧٣ / أبواب صفات القاضي ب ١٢ ح ٦٧ (في الطبعة القديمة ح ٦٠)

(٢) الفوائد المدنية : ١٣٨

(٣) كفاية الاصول : ٣٣٨

٢٩٢

الدليل تعييناً ـ كما إذا كان أحد النصّين راجحاً على الآخر ـ أو تخييراً ـ كما إذا لم يكن لأحدهما ترجيح على الآخر ـ لا تصل النوبة إلى البراءة.

أقول : أمّا ما صنعه الشيخ قدس‌سره من التقسيم والتعرّض للبحث عن كل قسم مستقلاً ففيه : أنّ ملاك جريان البراءة في جميع الأقسام واحد ، وهو عدم وصول التكليف إلى المكلف. وعمدة أدلة القول بالبراءة أيضاً شاملة لجميع الأقسام. وهذا هو الوجه لذكر الشبهة الموضوعية الوجوبية والتحريمية في المقام ، فانّ البحث عنها ليس من مسائل علم الاصول ، بل من مسائل الفقه كما هو ظاهر ، فذكرها في المقام إنّما هو لعموم الأدلة لها. واختصاص بعض الأدلة بالشبهة التحريمية لا يوجب تكثير الأقسام وإفرادها بالبحث مع كون الملاك في الجميع واحداً ، وشمول عمدة الأدلة أيضاً للجميع. فالصحيح ما صنعه صاحب الكفاية قدس‌سره من تعميم البحث لمطلق الشك في التكليف الجامع لجميع الأقسام.

ولكن يرد عليه أيضاً : أنّ إخراج تعارض النصّين على إطلاقه من بحث البراءة ممّا لا وجه له ، لما سنذكره إن شاء الله تعالى في مبحث التعادل والترجيح (١) من أنّ مقتضى القاعدة في التعارض هو التساقط والرجوع إلى عام فوقهما ، ومع عدمه يرجع إلى الأصل العملي ، ولا ينحصر التعارض بخصوص الخبرين ، بل يمكن وقوعه بين ظاهري الكتاب ، ويرجع فيه بعد التساقط إلى الأصل العملي بلا كلام وإشكال ، بل وكذا الحال إن وقع التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه ، وكان العموم في كل منهما ناشئاً من الاطلاق ، فيسقط كلا الاطلاقين لعدم جريان مقدّمات الحكمة ، ويرجع إلى الأصل العملي ، بل وكذا الحال لو

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٤٤٠ ، ٤٩٩

٢٩٣

كان التعارض بين الخبرين بالتباين أو بالعموم من وجه ، مع كون العموم في كل منهما بالوضع مع عدم رجحان أحدهما على الآخر بموافقة الكتاب ولا بمخالفة العامّة ، فانّ الخبرين يسقطان عن الحجّية ويرجع إلى الأصل العملي ، لما سنذكره في بحث التعادل والترجيح (١) من عدم تمامية أدلة التخيير ، ولا أدلة الترجيح بغير موافقة الكتاب ومخالفة العامّة من المرجحات التي ذكروها في المقام ، فانّ أدلة التخيير وأدلة الترجيح بتلك المرجحات غير تامّة من حيث السند أو من حيث الدلالة أو من الجهتين.

نعم ، إذا وقع التعارض بين الخبرين بالتباين أو بالعموم من وجه ، مع كون العموم فيهما بالوضع وكان أحدهما موافقاً لظاهر الكتاب أو مخالفاً للعامّة تعيّن الأخذ به بمقتضى رواية الراوندي (٢) الدالة على كون موافقة الكتاب ومخالفة العامّة من المرجّحات في الخبرين المتعارضين ، فلا يمكن الرجوع إلى الأصل العملي. وعليه فالمناسب بل المتعيّن إدخال تعارض الدليلين بجميع صوره في بحث البراءة ، إلاّصورة واحدة وهي ما إذا كان التعارض بين الخبرين بالتباين أو بالعموم من وجه مع كون العموم فيهما بالوضع ، وكان أحدهما راجحاً على الآخر بموافقة الكتاب أو بمخالفة العامّة.

الأمر الرابع : أنّ النزاع المعروف بين الاصوليين والأخباريين في مسألة البراءة إنّما هو في الصغرى وفي تمامية البيان من قبل المولى وعدمه. وأمّا الكبرى ـ وهي عدم كون العبد مستحقاً للعقاب على مخالفة التكليف مع عدم وصوله إلى المكلف ـ فهي مسلّمة عند الجميع ، ولم يقع فيه نزاع بين الاصوليين والأخباريين ، كيف وإنّ العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل من أوضح

__________________

(١) المصدر السابق ص ٤٩٣ ـ ٤٩٥ ، ٥٠٨

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٨ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٩

٢٩٤

مصاديق الظلم ، وقد دلّت الآيات والروايات على أنّ الله (سبحانه وتعالى) لا يعاقب إلاّبعد البيان «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ» (١) بل له الحجّة البالغة (٢).

وبالجملة : عدم استحقاق العقاب في فرض عدم البيان ممّا لم ينكره ولن ينكره عاقل ، إنّما الخلاف بين الاصوليين والأخباريين في الصغرى ، حيث ذهب أصحابنا الأخباريون إلى تمامية البيان ، وقيام الحجّة على التكاليف الواقعية لوجهين : الأوّل : العلم الاجمالي بثبوت التكاليف وهو يقتضي الاحتياط.

الثاني : الأخبار الكثيرة الدالة على التوقف عند الشبهة ، وعلى الاحتياط في المشتبهات ، وعليه فالذي يناسب بحث البراءة هو البحث عن الصغرى والتعرّض لهذين الوجهين ، وإثبات أنّ العلم الاجمالي بثبوت التكاليف قد انحلّ بما عثرنا عليه من الأحكام التي دلّت عليها الأخبار ، على ما أشرنا إليه غير مرّة (٣) ، وإثبات أنّ أخبار التوقف والاحتياط ظاهرة ـ بنفسها أو بضميمة الروايات الدالة على جواز الاقتحام في الشبهات ـ في الارشاد إلى حكم العقل بوجوب تحصيل الأمن من العقاب ، فتكون ناظرةً إلى الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي. وسنتكلّم في كلا الوجهين عند التعرّض لاستدلال الأخباريين والجواب عنه (٤).

وأمّا البحث عن الكبرى والاستدلال عليها بالآيات والروايات وبحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فلا ملزم له ، لما ذكرناه من أنّها مسلّمة عند

__________________

(١) النساء ٤ : ١٦٥

(٢) كما هو مفاد قوله تعالى : «قُلْ فِلِلَّهِ الْحُجَّةُ ا لْبَالِغَةُ ...» الأنعام ٦ : ١٤٩

(٣) راجع ص ٢٧١ ـ ٢٧٢

(٤) في ص ٣٤٥ ـ ٣٥٥

٢٩٥

الأخباريين والاصوليين ، ولم يقع فيها خلاف ليحتاج إلى الاثبات والاستدلال ، إلاّ أنّا نتعرّض للبحث عن الكبرى والاستدلال عليها بالآيات والروايات وحكم العقل ، تبعاً لشيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) وحرصاً على ما فيه من الفائدة ، والتعرّض لفقه الأحاديث الشريفة.

إذا عرفت هذه الامور فاعلم أنّه قد استدلّ على البراءة مع الشك في التكليف بامور :

منها : قوله تعالى : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» (٢) وتقريب الاستدلال به : أنّ بعث الرسول كناية عن بيان الأحكام للأنام وإتمام الحجّة عليهم ، كما هو ظاهر بحسب الارتكاز والفهم العرفي ، فتدلّ الآية الشريفة على نفي العقاب بمخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف.

واورد على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بوجهين :

الأوّل : أنّ المراد من الآية هو الاخبار عن عدم وقوع العذاب على الامم السابقة إلاّبعد البيان ، بقرينة التعبير بلفظ الماضي في قوله تعالى : «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ» فيكون المراد هو الاخبار عن عدم وقوع العذاب الدنيوي فيما مضى من الامم السابقة إلاّبعد البيان ، فلا دلالة لها على نفي العذاب الاخروي عند عدم تمامية البيان.

الثاني : أنّ المنفي في الآية فعلية العقاب لا استحقاقه ، ونفي الفعلية لا يدل على نفي الاستحقاق ، مع أنّ محل الكلام بيننا وبين الأخباريين هو الثاني.

أمّا الايراد الأوّل فيدفعه أوّلاً : أنّ نفي العذاب الدنيوي عند عدم تمامية

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٥٧

(٢) الإسراء ١٧ : ١٥

٢٩٦

البيان يدل بالأولوية القطعية على نفي العذاب الاخروي ، إذ العذاب الدنيوي أهون من العذاب الاخروي ، لكونه منقطعاً غير دائم.

وثانياً : أنّ جملة ما كان أو ما كنّا وأمثالهما من هذه المادة مستعملة في أنّ الفعل غير لائق به تعالى ، ولا يناسبه صدوره منه (جلّ شأنه) ويظهر ذلك من استقراء موارد استعمالها ، كقوله تعالى : «وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ» (١). وقوله تعالى : «ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ» (٢) وقوله تعالى : «وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (٣) وقوله تعالى : «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» (٤) إلى غير ذلك. فجملة الفعل الماضي من هذه المادة منسلخة عن الزمان في هذه الموارد ، فيكون المراد أنّ التعذيب قبل البيان لايليق به تعالى ولا يناسب حكمته وعدله ، فلا يبقى فرق حينئذ بين العذاب الدنيوي والاخروي. وبهذا ظهر الجواب عن :

الايراد الثاني أيضاً ، لأنّ عدم لياقة التعذيب قبل البيان يدل على عدم كون العبد مستحقاً للعذاب ، إذ مع فرض استحقاق العبد لا وجه لعدم كونه لائقاً به تعالى ، بل عدم لياقته به تعالى إنّما هو لعدم استحقاق العبد له ، فالمدلول المطابقي للآية الشريفة وإن كان نفي فعلية العذاب إلاّ أنّها تدل على نفي الاستحقاق بالالتزام على ما ذكرناه.

وأمّا ما أجاب به شيخنا الأنصاري قدس‌سره عن الايراد الثاني من أنّ الخصم يسلّم الملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق ، فنفي الفعلية المستفادة

__________________

(١) التوبة ٩ : ١١٥

(٢) آل عمران ٣ : ١٧٩

(٣) الأنفال ٨ : ٣٣

(٤) الكهف ١٨ : ٥١

٢٩٧

من الآية كافٍ في إلزامه (١) ، فيرد عليه الوجهان المذكوران في الكفاية : من أنّ الاستدلال يكون حينئذ جدلياً لا يمكن أن يستند إليه الاصولي المنكر للملازمة المذكورة ، وأنّ اعتراف الخصم بالملازمة المذكورة بعيد جداً ، بل غير واقع ، إذ ربّما تنتفي فعلية العذاب في مورد العصيان اليقيني للعفو أو التوبة أو الشفاعة ، مع ثبوت الاستحقاق فيه بلا كلام وإشكال ، فكيف يظن الاعتراف بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق من الأخباريين (٢).

ومنها : حديث الرفع المروي في خصال الصدوق قدس‌سره بسند صحيح عن حريز عن أبي عبدالله عليه‌السلام : «قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رفع عن امّتي تسعة : الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه والحسد والطيرة والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة» (٣).

وتقريب الاستدلال به : أنّ الالزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة ممّا لايعلم فهو مرفوع بمقتضى الحديث الشريف ، والمراد من الرفع هو الرفع في مرحلة الظاهر لا الرفع في الواقع ليستلزم التصويب ، وذلك للقرينة الداخلية والخارجية.

أمّا القرينة الداخلية التي قد يعبّر عنها بمناسبة الحكم والموضوع فهي أنّ نفس التعبير بما لا يعلم يدل على أنّ في الواقع شيئاً لا نعلمه ، إذ الشك في شيء والجهل به فرع وجوده ، ولو كان المرفوع وجوده الواقعي بمجرد الجهل به لكان

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٥٩

(٢) كفاية الاصول : ٣٣٩

(٣) الخصال : ٤١٧ / باب التسعة ح ٩ ، الوسائل ١٥ : ٣٦٩ / أبواب جهاد النفس ب ٥٦ ح ١

٢٩٨

الجهل به مساوقاً للعلم بعدمه كما هو ظاهر.

وأمّا القرينة الخارجية فهي الآيات والروايات الكثيرة الدالة على اشتراك الأحكام الواقعية بين العالم والجاهل. وإن شئت فعبّر عن القرينة الخارجية بقاعدة الاشتراك ، فانّها من ضروريات المذهب.

وأيضاً لا إشكال في حسن الاحتياط ، ولو كان المراد من الرفع هو الرفع الواقعي لم يبق مورد للاحتياط كما هو ظاهر ، فيكون المراد من الحديث أنّ الالزام المحتمل من الوجوب أو الحرمة مرفوع ظاهراً ولو كان ثابتاً في الواقع ، فانّ الحكم الشرعي ـ واقعياً كان أو ظاهرياً ـ أمر وضعه ورفعه بيد الشارع.

ولا تنافي بين الترخيص الظاهري والالزام الواقعي ، على ما تقدّم بيانه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي (١). ولعل هذا هو مراد صاحب الكفاية قدس‌سره من قوله : فالالزام المجهول ممّا لا يعلمون فهو مرفوع فعلاً وإن كان ثابتاً واقعاً (٢) ، فالمقصود من الفعلية في كلامه هو حال الشك لا الفعلية الاصطلاحية في مقابل الانشائية ، لأنّ فعلية الحكم بهذا المعنى تابعة لفعلية موضوعه ، فمع تحقق الموضوع لا يعقل رفع الحكم في مقام الفعلية مع بقائه في مقام الجعل والانشاء.

وبما ذكرناه ـ من أنّ الحكم الواقعي بنفسه قابل للرفع في مرحلة الظاهر ـ يظهر ما في كلام الشيخ قدس‌سره من أنّ رفع الحكم المشكوك إنّما هو بعدم إيجاب الاحتياط ، فالمرفوع هو وجوب الاحتياط (٣) ، لأنّ ذلك خلاف ظاهر

__________________

(١) في ص ١٢٥ ـ ١٢٧

(٢) كفاية الاصول : ٣٣٩

(٣) فرائد الاصول ١ : ٣٦٤

٢٩٩

الحديث ، فانّ ظاهره أنّ المرفوع هو نفس ما لا يعلم وهو الحكم الواقعي لا وجوب الاحتياط ، وبعد كون الحكم بنفسه قابلاً للرفع في مرحلة الظاهر على ما تقدّم لا وجه لارتكاب خلاف الظاهر ، وحمل الحديث على رفع إيجاب الاحتياط. نعم ، عدم وجوب الاحتياط من لوازم رفع الحكم الواقعي في مرحلة الظاهر ، لأنّ الأحكام كما أنّها متضادة في الواقع كذلك متضادة في مقام الظاهر ، فكما أنّ عدم الالزام في الواقع يستلزم الترخيص بالمعنى الأعم ، كذلك رفع الالزام في الظاهر يستلزم الترخيص ظاهراً. ولا يعقل وجوب الاحتياط بعد فرض الترخيص ، فيكون المرفوع هو نفس الحكم الواقعي ظاهراً ، ومن لوازم رفعه عدم وجوب الاحتياط ، لعدم إمكان الجمع بين الترخيص الظاهري ووجوب الاحتياط ، لتضاد الأحكام ولو في مرحلة الظاهر ، فالمرفوع هو نفس الحكم الواقعي لا وجوب الاحتياط. نعم ، إذا شكّ في وجوب الاحتياط في مورد ولم يقم دليل على وجوبه ولا على عدم وجوبه ، كان وجوب الاحتياط حينئذ مشمولاً لحديث الرفع ، ولكنّه خارج عن محل الكلام ، وليس كلام الشيخ ناظراً إليه.

ثمّ إنّ الاستدلال بهذا الحديث الشريف على المقام إنّما يتم على تقدير أن يكون المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» خصوص الحكم أو ما يعمه ، فانّ الموصول على كل من التقديرين يشمل الشبهة الحكمية والموضوعية. أمّا على التقدير الثاني فواضح ، إذ المراد من الموصول حينئذ أعم من الحكم المجهول والموضوع المجهول. وأمّا على التقدير الأوّل ، فلأنّ مفاد الحديث حينئذ أنّ الحكم المجهول مرفوع ، وإطلاقه يشمل ما لو كان منشأ الجهل بالحكم عدم وصوله إلى المكلف كما في الشبهات الحكمية ، أو الامور الخارجية كما في

٣٠٠