موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

ويطرح المظنونات بالظن الضعيف أيضاً كالمشكوكات ، وفي هاتين الصورتين يكون الامتثال شكّياً لطرح مشكوك التكليف على الفرض ، فيكون التنزّل من الضعيف إلى القوي ، وتكون دائرة العمل بالظن أوسع ، وعلى تقدير التعذر يتضيّق شيئاً فشيئاً.

الجهة الرابعة : في البحث عن تمامية المقدّمات وعدمها فنقول :

أمّا المقدّمة الاولى : فبديهية ، إذ العلم الاجمالي بوجود تكاليف فعلية لا بدّ من التعرّض لامتثالها حاصل لكل مكلّف مسلم ، فانّا لسنا كالبهائم نفعل ما نشاء ونترك ما نريد. وأطراف هذا العلم الاجمالي وإن كانت كثيرة بحيث لا يتمكن المكلف من الاحتياط وتحصيل الموافقة القطعية فيها ، ويضطر إلى ترك بعض الأطراف في الشبهة الوجوبية ، وإلى فعل بعض الأطراف في الشبهة التحريمية ، إلاّأنّ هذا الاضطرار لا يرفع تنجيز العلم الاجمالي في مثل المقام.

أمّا على مسلك شيخنا الأنصاري قدس‌سره من أنّ الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الاجمالي تركاً أو فعلاً لا يرفع تنجيز العلم الاجمالي بالنسبة إلى بقيّة الأطراف فيما إذا كان الاضطرار إلى غير معيّن (١) فالأمر واضح. وهذا المسلك هو الصحيح على ما سنذكره في مبحث الاشتغال (٢) إن شاء الله تعالى.

وأمّا على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره من عدم تنجيز العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى غير المعيّن من الأطراف ، بملاحظة أنّ التكليف بالنسبة إلى بعض الأطراف ساقط للاضطرار ، وبالنسبة إلى البقية مشكوك الحدوث ، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة فيها (٣) ، فلأنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان التكليف

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٢٥

(٢) في ص ٤٤٣ وما بعدها

(٣) كفاية الاصول : ٣٦٠

٢٦١

المعلوم بالاجمال واحداً أو اثنين ونحوهما ممّا لا يلزم من الرجوع إلى البراءة في غير المضطر إليه من الأطراف محذور.

وأمّا في مثل المقام ممّا كان الرجوع إلى البراءة مستلزماً للمخالفة في معظم الأحكام المعبّر عنها في كلام الشيخ قدس‌سره بالخروج من الدين (١) ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة يقيناً ، للقطع بأنّ الشارع لا يرضى بمخالفة معظم أحكامه. وهذا هو المراد من الخروج من الدين لا الكفر ، إذ مخالفة الفروع لا توجب الكفر.

وبالجملة : المقدّمة الاولى ممّا لا إشكال في تماميتها ، فانّ إهمال التكاليف المعلومة بالاجمال وعدم التعرّض

لامتثالها ممّا يقطع بعدم رضى الشارع به بالضرورة ، إلاّ أنّه قد ذكرنا عند التعرّض لذكر الأدلة العقلية على حجّية الخبر (٢) أنّ لنا علوماً إجمالية ثلاثة :

الأوّل : العلم الاجمالي بوجود تكاليف واقعية تحريمية ووجوبية.

الثاني : العلم الاجمالي بمطابقة جملة من الأمارات للواقع.

الثالث : العلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة.

والعلم الاجمالي الأوّل ينحل بالثاني ، والعلم الاجمالي الثاني ينحل بالثالث ، فيجب الاحتياط في موارد الأخبار المذكورة فقط ، ولا يكون الاحتياط المذكور موجباً لاختلال النظام ولا مستلزماً للعسر والحرج ، كيف وجماعة من أصحابنا الأخباريين قد عملوا بجميع الأخبار المذكورة ، بدعوى القطع بصدورها ، فلم يختل عليهم النظام ، ولم يرد عليهم العسر والحرج. وعليه فكانت المقدّمة الثالثة من مقدّمات الانسداد غير تامّة. ويأتي الكلام فيها مفصّلاً إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٣٠

(٢) في ص ٢٣٨ و ٢٣٩

٢٦٢

وأمّا المقدّمة الثانية : فهي بالنسبة إلى انسداد باب العلم تامّة ، بل ضرورية لكل من تعرّض للاستنباط ، فانّ الضروريات من الأحكام ـ بل القطعيات منها ولو لم تكن ضرورية ـ أحكام إجمالية ، كوجوب الصلوات الخمس ، ووجوب الصوم في شهر رمضان ونحوهما ، ولا علم لنا بتفاصيل تلك المجملات من حيث الأجزاء والشرائط والموانع. وأمّا بالنسبة إلى انسداد باب العلمي فصحّتها مبتنية على أحد أمرين على سبيل منع الخلو ، بمعنى أنّ أحدهما يكفي في إثبات انسداد باب العلمي.

أحدهما : عدم حجّية الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة ، إمّا من جهة عدم ثبوت وثاقة رواتها ، أو من جهة عدم حجّية خبر الثقة.

ثانيهما : عدم حجّية ظواهرها بالنسبة إلينا ، لاختصاص حجّية الظواهر بالمقصودين بالافهام ولسنا منهم ، فعلى كل من التقديرين ينسدّ علينا باب العلمي ، إذ على تقدير عدم ثبوت وثاقة الرواة ، أو عدم حجّية خبر الثقة تسقط الروايات عن الحجّية من حيث السند وإن قلنا بحجّية الظواهر بالنسبة إلى غير المقصودين بالافهام ، أو قلنا بأ نّا من المقصودين بالافهام ، وعلى تقدير عدم حجّية الظواهر بالنسبة إلينا تسقط الروايات عن الحجّية من حيث الدلالة ولو على تقدير اليقين بصدورها من المعصوم عليه‌السلام.

وبالجملة : يكفي القائل بالانسداد تمامية أحد هذين الأمرين ، والقائل بالانفتاح لابدّ له من دفع كلا الأمرين وإثبات حجّية الروايات من حيث السند والدلالة.

وحيث إنّا ذكرنا الأمرين في بحث حجّية الخبر (١) وبحث حجّية الظواهر (٢) ، وأثبتنا حجّية الخبر من الحيثيتين في ذينك البحثين ، فلا حاجة إلى الاعادة.

__________________

(١) في ص ١٧٠ وما بعدها

(٢) في ص ١٣٧ ـ ١٤٢

٢٦٣

وأمّا المقدّمة الثالثة : وهي بطلان الرجوع إلى الغير والعمل بالقرعة ونحوها ، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل في كل مورد ، وعدم وجوب الاحتياط التام ، فتفصيل الكلام فيها : أنّ التقليد والرجوع إلى الغير واضح البطلان ، لأنّ القائل بالانسداد يرى خطأ من يدّعي الانفتاح ، فيكون رجوعه إليه من رجوع العالم إلى الجاهل في نظره. وكذا العمل بالقرعة ونحوها ، فانّ أساس الأحكام الشرعية غير مبتنٍ على مثل القرعة بالضرورة. ولا دليل على حجّية القرعة إلاّ في موارد قليلة من الشبهات الموضوعية على ما ذكر في محلّه (١) ، فالرجوع إليها في الشبهات الحكمية فاسد بالضرورة.

وأمّا الرجوع إلى الاصول العملية في كل مورد ، فتحقيق الحال فيه يقتضي بسطاً في المقال ، فنقول : إنّ ما كان من الاصول مثبتاً للتكليف ، فإن كان من الاصول غير المحرزة كقاعدة الاشتغال ، فلا مانع من جريانها في مواردها ، وإن كان من الاصول المحرزة كالاستصحاب المثبت للتكليف ، فإن لم يعلم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد ، فلا مانع من جريانه أيضاً ، وإن علم بذلك ، فعلى القول بأنّ المانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة هو لزوم المخالفة العملية فقط ـ كما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢) وهو الصحيح ـ فلا مانع من جريانه في المقام ، إذ المفروض كونه مثبتاً للتكليف ، فلا تلزم من جريانه مخالفة عملية ، نظير ما إذا علم إجمالاً بطهارة الإناءين المسبوقين بالنجاسة فانّه لا يلزم من إجراء استصحاب النجاسة فيهما مخالفة عملية. وأمّا على القول بأنّ العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب ولو لم يلزم منه

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٤١٢ ـ ٤١٤

(٢) كفاية الاصول : ٤٣٢

٢٦٤

مخالفة عملية كما اختاره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) وتبعه المحقق النائيني قدس‌سره (٢) فلا يجري الاستصحاب في المقام ، للعلم بانتقاض الحالة السابقة في الجملة على الفرض.

ثمّ إنّه ذكر صاحب الكفاية (٣) قدس‌سره أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في المقام حتّى على مسلك الشيخ قدس‌سره لأنّ الاستنباط تدريجي ، والمجتهد لا يكون ملتفتاً إلى جميع الأطراف دفعةً ليحصل له شك فعلي بالنسبة إلى الجميع ، بل يجري الاستصحاب في كل مورد غافلاً عن مورد آخر ، فلا يكون جريان الاستصحاب في جميع الأطراف في عرض واحد ليحصل له علم إجمالي بأنّ هذا الاستصحاب أو ذاك مخالف للواقع.

وبالجملة : العلم الاجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد متوقف على الالتفات الفعلي إلى جميع الأطراف ، وهو منتف في المقام ، إذ المجتهد حين التفاته إلى حكم غافل عن حكم آخر ولا التفات له إليه ليحصل له العلم بأنّ الاستصحاب في أحدهما مخالف للواقع.

وفيه : أنّ الاستنباط وإن كان تدريجياً والمجتهد لا يكون ملتفتاً إلى جميع الشبهات التي هي مورد الاستصحاب دفعة كما ذكره ، إلاّ أنّه بعد الفراغ عن استنباط الجميع وجمعها في الرسالة مثلاً يعلم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعض الموارد التي أجرى فيها الاستصحاب ، فليس له الافتاء بها ، فجريان الأصل المحرز المثبت للتكليف في المقام مبني على مسلكه من أنّ العلم الاجمالي بنفسه غير مانع عن جريان الاستصحاب ما لم تلزم منه مخالفة عملية.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٤٤ و ٧٤٥

(٢) أجود التقريرات ٣ : ٨٩ ، فوائد الاصول ٣ : ٧٨

(٣) كفاية الاصول : ٣١٣ و ٣١٤

٢٦٥

ثمّ إنّ التكليف المعلوم بالتفصيل بضميمة موارد جريان الاصول المثبتة للتكليف إن كان بالمقدار المعلوم بالاجمال وانحلّ العلم الاجمالي ، فلا مانع من الرجوع إلى الاصول النافية للتكليف. وإن لم يكن كذلك بأن كان المعلوم بالاجمال أكثر من ذلك ، فعلى مسلك الشيخ قدس‌سره من تنجيز العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى المخالفة في بعض الأطراف لابعينه (١) ، لايجوز الرجوع إلى الاصول النافية. وعلى مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه موجب لسقوط العلم الاجمالي عن التنجيز (٢) فلا مانع من الرجوع إلى الاصول النافية إن كان التكليف المعلوم بالاجمال قليلاً ، وأمّا إن كان كثيراً بحيث لزم من الرجوع إلى الأصل النافي محذور الخروج عن الدين فلا يجوز الرجوع إلى الاصول النافية.

وأمّا الاحتياط التام في جميع الشبهات ، فإن كان غير ممكن ، فلا إشكال في عدم وجوبه ، لقبح التكليف بغير المقدور بضرورة العقل ، وإن كان مخلاً بالنظام فلا إشكال في قبحه عقلاً وعدم جوازه شرعاً ، إذ الشارع لا يرضى بهذا النحو من الاحتياط قطعاً ، بل قد ينتفي موضوعاً لأدائه إلى ترك جملة من الواجبات فلا يكون هناك احتياط. وأمّا إن كان موجباً للعسر والحرج ففي عدم وجوبه ـ لأدلّة نفي العسر والحرج ـ خلاف بين الأعلام ، فذهب شيخنا الأنصاري قدس‌سره (٣) إلى أنّ قاعدة نفي الحرج والضرر حاكمة على وجوب الاحتياط ، باعتبار أنّ مفاد الأدلة نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الحرج أو الضرر ، ووجوب الاحتياط ـ وهو الجمع بين المحتملات ـ وإن كان عقلياً إلاّ أنّه ناشئ

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٤٢٥

(٢) كفاية الاصول : ٣٦٠

(٣) فرائد الاصول ١ : ٢٤١

٢٦٦

من بقاء الحكم الشرعي الواقعي على حاله ، فهو المنشأ للحرج والضرر ، إذ الشيء يسند إلى أسبق العلل ، فيكون المرتفع بأدلة نفي الحرج والضرر هو الحكم الشرعي الواقعي ، فيرتفع وجوب الاحتياط بارتفاع موضوعه.

واختار صاحب الكفاية قدس‌سره عدم حكومة قاعدة نفي الحرج والضرر على قاعدة الاحتياط ، بدعوى أنّ ظاهر الأدلة إنّما هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، وأنّ النفي بحسب ظاهر الأدلة متوجّه إلى الفعل الحرجي أو الضرري ويكون المراد نفي الحكم عن الفعل الحرجي أو الضرري ، نظير قوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» (١) فانّه نفي للحكم بلسان نفي الموضوع. فإذن لاتكون قاعدة نفي الحرج والضرر حاكمة على قاعدة الاحتياط ، إذ الفعل الذي تعلّق به الحكم الشرعي واقعاً المردد بين أطراف الشبهة ليس حرجياً ولا ضررياً كي يرتفع حكمه بأدلة نفي الحرج والضرر ، بل الحرج إنّما ينشأ من الاحتياط والجمع بين المحتملات ، ووجوب الجمع بين المحتملات ليس حكماً شرعياً ليرتفع بأدلة نفي الحرج ، وإنّما هو بحكم العقل ، وعليه فلا بدّ من الاحتياط وإن كان مستلزماً للعسر والحرج (٢).

والصحيح ما ذكره الشيخ قدس‌سره من حكومة قاعدة نفي الحرج على قاعدة الاحتياط.

أمّا أوّلاً : فلأنّ ظاهر أدلة نفي الحرج أو الضرر ليس نفي الحكم بلسان نفي الموضوع على ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره لأنّ الفعل الضرري ليس مذكوراً في لسان الأدلة ، إنّما المذكور لفظ الضرر ، وليس لفظ الضرر عنواناً

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٣٥ / أبواب الرِّبا ب ٧ ح ١ و ٣ وفيهما : «ليس بين الرجل وولده رِبا»

(٢) كفاية الاصول : ٣١٣

٢٦٧

للفعل ليكون النفي راجعاً إلى الفعل الضرري ، فلو كان المراد نفي الحكم بلسان نفي الموضوع لكان المفاد نفي حرمة الضرر ، كما هو الحال في قوله عليه‌السلام : «لا ربا بين الوالد والولد» فانّ المراد نفي حرمة الرِّبا بينهما ، فلو كان المراد من قوله عليه‌السلام : «لا ضرر ...» إلخ (١) نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، لكان معناه نفي حرمة الاضرار بالغير ، وهذا ممّا لم يلتزم به أحد حتّى صاحب الكفاية نفسه قدس‌سره ، فانّ حرمة الاضرار بالغير ممّا لا كلام فيه ، بل ولا إشكال في حرمة الاضرار بالنفس في الجملة. فهذا المعنى ممّا لا يمكن الالتزام به في أدلة نفي الحرج والضرر ، فيدور الأمر بين أن يكون المراد من النفي هو النهي فيكون المراد النهي عن الاضرار بالغير كما هو الحال في قوله تعالى : «فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ» (٢) فانّ المراد نهي المحرم عن هذه الامور وحرمتها عليه ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا رهبانية في الاسلام» (٣) فانّ المراد منه النهي عن الرهبانية. والتزم بهذا المعنى شيخنا الشريعة في رسالته المعمولة في قاعدة لا ضرر (٤) ، وأصرّ عليه.

وأن يكون المراد هو النفي ، وحيث إنّ النفي التكويني للضرر والحرج غير معقول ، فيكون المراد منه النفي التشريعي ، بمعنى أنّه لا ضرر ولا حرج في الشريعة. وهذا المعنى راجع إلى ما ذكره الشيخ قدس‌سره من أنّ المراد نفي الحكم الضرري ونفي الحكم الحرجي في الشريعة ، وهذا المعنى هو الظاهر من

__________________

(١) ستُذكر مصادره عند البحث عن قاعدة لا ضرر فراجع ص ٦٠٠ و ٦٠١

(٢) البقرة ٢ : ١٩٧

(٣) المستدرك ١٤ : ١٥٥ / أبواب مقدّمات النكاح ب ٢ ح ٢

(٤) قاعدة لا ضرر : ٢٥

٢٦٨

أدلة نفي الحرج والضرر ، بقرينة ما في بعض الروايات (١) من أنّه لا ضرر في الاسلام أو في الدين ، فانّه ظاهر في نفي تشريع الحكم الضرري في دين الاسلام ، وكذا قوله تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (٢). فإذن تكون قاعدة نفي الحرج حاكمة على قاعدة الاحتياط على ما تقدّم تقريبه عند نقل كلام الشيخ قدس‌سره.

وأمّا ثانياً : فلأنّ قاعدة نفي الحرج والضرر حاكمة على قاعدة الاحتياط في مثل المقام ، ممّا كانت أطراف الشبهة من التدريجيات ، ولو على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره لأنّ الحرج في مثل ذلك يكون في الأفراد الأخيرة ويكون فعلها والاتيان بها حرجياً ، فيعلم بعدم ثبوت التكليف فيها ، لأنّ التكليف إن كان في الواقع متعلقاً بالأفراد المتقدمة ، فقد امتثله المكلف على الفرض ، وإن كان متعلقاً بالأفراد الأخيرة كان متعلقه حرجياً فيرتفع بقاعدة نفي الحرج ولو على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره. مثلاً لو فرض تعلّق النذر بصوم يوم معيّن وتردد بين يوم الخميس ويوم الجمعة مثلاً ، وفرض كون الصوم فيهما حرجياً على الناذر ، فإذا صام يوم الخميس يعلم بعدم وجوب الصوم عليه يوم الجمعة ، لأنّ التكليف من ناحية النذر إن كان متعلقاً بصوم يوم الخميس فقد امتثله على الفرض ، وإن كان متعلقاً بصوم يوم الجمعة فمتعلقه حرجي فعلاً ، فقد ارتفع بقاعدة نفي الحرج. والمقام من هذا القبيل بعينه ، لأنّ الشبهات التي يلزم الحرج أو الضرر من الاحتياط فيها طولية تدريجية لا عرضية ، فلا يكون الاحتياط فيها واجباً على المسلكين على ما عرفت ، فلا تظهر ثمرة بينهما في مثل المقام. نعم ، تظهر الثمرة بينهما فيما كانت الأطراف عرضية

__________________

(١) يأتي التعرّض لها في ص ٦٠٠ و ٦٠١

(٢) الحج ٢٢ : ٧٨

٢٦٩

كما إذا انحصر الماء في إناءين وعلم إجمالاً بنجاسة أحدهما ، وكان الاجتناب عنهما حرجاً على المكلف ، فيجب الاجتناب عنهما على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره دون مسلك الشيخ قدس‌سره على ما عرفت. وتظهر الثمرة بينهما أيضاً في ثبوت خيار الغبن بقاعدة نفي الضرر ، لأنّ الضرر المتوجه إلى المغبون ناشئ من حكم الشارع باللزوم ، فيرتفع بقاعدة نفي الضرر على مسلك الشيخ قدس‌سره دون مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره إذ متعلق اللزوم وهو العقد ليس ضررياً ، فلا يرتفع على هذا المسلك.

فتحصّل ممّا ذكرناه في المقام : أنّ الاحتياط التام في جميع الشبهات غير واجب إمّا لعدم إمكانه ، أو لاستلزامه اختلال النظام ، أو لكونه موجباً للعسر والحرج. وأمّا التبعيض في الاحتياط بما لا يلزم منه الاختلال ولا العسر فلا مناص من الالتزام بوجوبه على تقدير تمامية مقدّمات الانسداد ، إذ لم يدل دليل على عدم وجوبه أو عدم جوازه. ودعوى الاجماع على عدم رضى الشارع بالامتثال الاجمالي في معظم أحكامه غير مسموعة ، لأنّ المسألة مستحدثة ، فدعوى اتفاق الفقهاء من المتأخرين والمتقدمين ممنوعة جداً. وعلى فرض تسليم الاتفاق لا يكون كاشفاً عن رأي المعصوم ، لاحتمال أن يكون مدرك المجمعين هو اعتبار قصد الوجه أو التمييز في العبادات ، فلا ينفع لمن يرى عدم اعتبارهما كما هو الصحيح على ما ذكرناه في محلّه (١).

وأمّا ما ذكره في هامش الرسائل (٢) من أنّ الاجماع وإن لم يكن مقطوعاً به إلاّ أنّه مظنون ، والظن به يستلزم الظن بأنّ الشارع جعل حجّة حال الانسداد وقد فرضنا أنّها الظن دون غيره ، فيحصل لنا الظن بحجّية الظن. ولا فرق في

__________________

(١) ذكره في ص ٨٧ و ٨٨

(٢) فرائد الاصول ١ : ٢٤٨

٢٧٠

اعتبار الظن على الانسداد بين الظن بالواقع والظن بالطريق.

ففيه أوّلاً : أنّ دعوى الظن بالاجماع كدعوى القطع به ممنوعة ، إذ لا نظن بتحقق الاجماع التعبدي الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام على بطلان العمل بالاحتياط كي يكون الظن به مستلزماً للظن بجعل الظن حجّة.

وثانياً : أنّ الظن بالاجماع ـ على تقدير تحقّقه ـ وإن استلزم الظن بحجّية الظن شرعاً ، إلاّأنّ الكلام في حجّية هذا الظن ، ولم تثبت بعد. وما ذكره من عدم الفرق بين الظن بالواقع والظن بالطريق وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ بعد الفراغ عن حجّية الظن بدليل قطعي ، ولا يمكن إثبات حجّية الظن بالظن فانّه من قبيل إثبات حجّية الشيء بنفسه ، وهو دور واضح (١).

فتحصّل : أنّه لا دليل على بطلان التبعيض في الاحتياط ، وعليه فلو تمّت المقدّمات كانت النتيجة التبعيض في الاحتياط لا حجّية الظن شرعاً.

وملخص ما ذكرناه في هذا البحث : أنّ انسداد باب العلم والعلمي موقوف على عدم حجّية الأخبار سنداً أو دلالة ، وقد أثبتنا حجّيتها سنداً ودلالة ، وباثبات حجّيتها ينفتح باب العلمي وينحل العلم الاجمالي ، فلا مانع من الرجوع إلى الاصول العملية في غير موارد قيام الأخبار ، ومع الغض عن ذلك وتسليم عدم حجّية الأخبار كان مقتضى العلم الاجمالي هو الاحتياط والأخذ بجميع الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة الدالة على التكليف ، لأنّ العلم الاجمالي

__________________

(١) نقل سيّدنا الاستاذ العلاّمة (دام ظلّه) عن استاذه المحقق النائيني قدس‌سره أنّ هذا الكلام المذكور في هامش الرسائل ليس من قلم الشيخ قدس‌سره فانّ الكلام المذكور مبني على الكشف ، والشيخ قائل بالحكومة ، بل هو للسيّد الميرزا الشيرازي الكبير قدس‌سره فانّه كان مائلاً إلى الكشف ، وكيف كان فجوابه ما ذكر

٢٧١

الأوّل قد انحلّ بالعلم الثاني ، والثاني بالثالث على ما تقدّم بيانه (١). وهذا الاحتياط لايوجب اختلال النظام ولا العسر والحرج ، فانّ جماعةً من أصحابنا الأخباريين قد عملوا بجميع هذه الأخبار ، ولم يرد عليهم الحرج ولا اختلّ عليهم النظام.

وعلى تقدير تسليم عدم انحلال العلم الاجمالي الأوّل بدعوى العلم بأنّ التكليف أزيد من موارد الأخبار ، لا بدّ من التبعيض في الاحتياط على نحو لا يكون مخلاً بالنظام ولا موجباً للعسر والحرج ، فلو فرض ارتفاع المحذور بالغاء الموهومات ، وجب الاحتياط في المشكوكات والمظنونات ، وإذا لم يرتفع المحذور بذلك يرفع اليد عن الاحتياط في جملة من المشكوكات ، ويحتاط في الباقي منها وفي المظنونات ، وهكذا إلى حد يرتفع محذور الاختلال والحرج.

ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمان والحالات الطارئة على المكلف والموارد ، ففي الموارد المهمّة التي علم اهتمام الشارع بها ـ كالدماء والأعراض والأموال الخطيرة ـ لا بدّ من الاحتياط حتّى في الموهومات منها ، وترك الاحتياط في غيرها بما يرفع معه محذور الاختلال والحرج على ما تقدّم بيانه (٢).

فتحصّل : أنّ مقدّمات الانسداد على تقدير تماميتها عقيمة عن إثبات حجّية الظن ، لا بنحو الحكومة لما عرفت من عدم معقولية حجّية الظن بحكم العقل (٣) ، ولا بنحو الكشف لتوقفه على قيام دليل على بطلان التبعيض في الاحتياط ولم يقم ، فتكون النتيجة التبعيض في الاحتياط لا حجّية الظن ، وعليه فيسقط كثير من المباحث التي تعرّضوا لها في المقام :

__________________

(١) في ص ٢٦٢

(٢) في الجهة الثالثة فراجع ص ٢٥٨ ـ ٢٦٠

(٣) راجع ص ٢٥٦

٢٧٢

منها : البحث عن أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي حجّية الظن بالواقع أو الظن بالطريق أو الأعم منهما ، فانّ هذا البحث متفرع على ثبوت حجّية الظن بمقدّمات الانسداد ، ومع عدم ثبوتها فلا مجال له ، بل نقول لا حجّية للظن بالواقع ولا للظن بالطريق.

ومنها : البحث عن تقدّم الظن المانع أو الممنوع ، وأ نّه إذا قام ظن على حكم من الأحكام وقام ظن آخر على عدم حجّيته ، فهل يقدّم الأوّل أو الثاني ، فانّ هذا البحث أيضاً ساقط ، فإنّا نقول إنّ كليهما ليس بحجّة لا المانع ولا الممنوع.

ومنها : البحث عن كيفية خروج الظن القياسي على الحكومة ، مع أنّ الحكم العقلي غير قابل للتخصيص.

ومنها : ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ نتيجة مقدّمات الانسداد هل هي حجّية الطريق الواصل بنفسه أو الطريق الواصل بطريقه ، أو الطريق ولو لم يصل أصلاً (١). إلى غير ذلك من الأبحاث المتفرعة على استنتاج حجّية الظن من مقدّمات الانسداد ، فان تلك المباحث كلّها ساقطة ملغاة بعد ما ذكرناه من أنّ مقدّمات الانسداد عقيمة عن إثبات حجّية الظن.

خاتمة :

يذكر فيها أمران تبعاً لصاحب الكفاية وشيخنا الأنصاري قدس‌سرهما (٢).

الأمر الأوّل : أنّ الظن الخاص الثابتة حجّيته بالأدلة الخاصّة ، والظن المطلق الثابتة حجّيته بدليل الانسداد ـ على تقدير تمامية المقدّمات ـ هل تختص حجّيتهما

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٢٢ و ٣٢٣

(٢) كفاية الاصول : ٣٢٩ ، فرائد الاصول ١ : ٣١٣ و ٣٣٢

٢٧٣

بالفروع أو تعمّ الاصول الاعتقادية أيضاً؟ وتفصيل الكلام في المقام أنّ الظن إمّا أن يتعلّق بالأحكام الفرعية ، وإمّا أن يتعلق بالاصول الاعتقادية ، وإمّا أن يتعلق بغيرهما كالامور التكوينية والتاريخية.

أمّا الظن المتعلق بالأحكام الفرعية ، فهو حجّة سواء كان من الظن الخاص أو من الظن المطلق. أمّا الظن الخاص فواضح. وأمّا الظن المطلق فلأنّ المفروض تمامية مقدّمات الانسداد.

وأمّا الظن المتعلق بالاصول الاعتقادية ، فلا ينبغي الشك في عدم جواز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلاً ، كمعرفة البارئ (جلّ شأنه) ، أو شرعاً كمعرفة المعاد الجسماني ، إذ لا يصدق عليه المعرفة ، ولا يكون تحصيله خروجاً من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، وقد ذكرنا في بحث القطع أنّ الأمارات لا تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع على نحو الصفتية (١) ، فلا بدّ من تحصيل العلم والمعرفة مع الامكان ، ومع العجز عنه لا إشكال في أنّه غير مكلّف بتحصيله ، إذ العقل مستقل بقبح التكليف بغير المقدور. كما أنّه لا إشكال في كونه غير معذور ومستحقاً للعقاب فيما إذا كان عجزه عن تقصير منه المعبّر عنه بالجاهل المقصّر ، فانّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بالنسبة إلى استحقاق العقاب وإن كان ينافيه بالنسبة إلى التكليف على ما قرّر في محلّه (٢). وهذا كلّه واضح ، إنّما الكلام فيما إذا كان عجزه عن تحصيل العلم والمعرفة عن قصور للغفلة أو لغموض المطلب مع عدم الاستعداد ، كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال ، ويعبّر عن هذا بالجاهل القاصر ، والكلام فيه يقع في مقامات ثلاثة :

__________________

(١) راجع ص ٣٦

(٢) محاضرات في اصول الفقه ٢ : ١٨٥ ـ ١٨٦

٢٧٤

المقام الأوّل : في وجود الجاهل القاصر وعدمه.

المقام الثاني : في ترتب أحكام الكفر عليه ، كالنجاسة والمنع من الارث والتناكح وغير ذلك من الأحكام الفرعية المترتبة على الكفر.

المقام الثالث : في استحقاقه العقاب وعدمه.

أمّا المقام الأوّل : فحقّ القول فيه أنّه لا يوجد الجاهل القاصر بالنسبة إلى وجود الصانع إلاّنادراً ، إذ كل إنسان ذي شعور وعقل ـ ولو كان في غاية قلّة الاستعداد ما لم يكن ملحقاً بالصبيان والمجانين ـ يدرك وجوده ونفسه ، وهو أوّل مدرك له ، ويدرك أنّه حادث مسبوق بالعدم ، وأ نّه ليس خالقاً لنفسه بل له خالق غيره ، وهذا المعنى هو الذي ذكره سبحانه وتعالى بقوله : «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» (١) ثمّ ينتقل إلى وجود غيره ، وهو مدرك ثانٍ له ، وينتقل منه أيضاً إلى وجود الصانع ، كما قال عزّ من قائل : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ» (٢) أي أنّهم يعترفون بالخالق (جلّ ذكره) بمجرد الالتفات إلى وجود السماوات والأرض. وكذا الحال بالنسبة إلى التوحيد ، فانّ كل إنسان ذي شعور وعقل كما يدرك أنّ له صانعاً يدرك بحسب ارتكازه الفطري أنّ الخالق (جلّ ذكره) واحد لا شريك له.

وبالجملة : الجاهل القاصر بالنسبة إلى وجود الصانع وتوحيده (جلّ ذكره) نادر أو غير موجود. نعم ، الجاهل القاصر بالنسبة إلى النبوّة الخاصّة والإمامة والمعاد الجسماني في غاية الكثرة ، فانّ كثيراً من نسوان اليهود والنصارى قاصرات

__________________

(١) الطور ٥٢ : ٣٥

(٢) الزُّمر ٣٩ : ٣٨

٢٧٥

عن تحصيل مقدّمات التصديق والجزم بالنبوّة الخاصّة ، وكذا نسوان المخالفين بالنسبة إلى الإمامة ، وكذا بعض من الرجال بالنسبة إلى المعاد الجسماني.

وأمّا المقام الثاني : فالصحيح فيه جريان أحكام الكفر على الجاهل بالاصول الاعتقادية ولو كان جهله عن قصور ، لاطلاقات الأدلة الدالة على ترتب تلك الأحكام ، فإن قلنا بنجاسة أهل الكتاب مثلاً لا فرق بين أن يكون جهلهم عن تقصير أو قصور.

وأمّا المقام الثالث : فالمعروف بينهم أنّ الجاهل القاصر غير مستحق للعقاب وهو الصحيح ، إذ العقل مستقل بقبح العقاب على أمر غير مقدور ، وأ نّه من أوضح مصاديق الظلم ، فالجاهل القاصر معذور غير معاقب على عدم معرفة الحق بحكم العقل إذا لم يكن يعانده ، بل كان منقاداً له على إجماله. ولعل هذا ظاهر ، ولكن مع ذلك التزم صاحب الكفاية قدس‌سره في هامش الكفاية بأ نّه مستحق للعقاب (١) ، وهو مبني على ما ذكره في بحث الطلب والارادة تارةً وفي بحث القطع اخرى من أنّ العقاب إنّما هو من تبعات البُعد عن المولى الناشئ من الخباثة الذاتية ، فينتهي الأمر بالأخرة إلى أمر ذاتي ، والذاتي لايعلّل (٢). وهذا الكلام وإن صدر من هذا العالم العيلم ، إلاّ أنّه خلاف الصواب وقد ذكرنا ما فيه في بحث الطلب والارادة (٣) ولا نعيد. هذا كلّه فيما إذا كان الظن متعلقاً بما تجب معرفته عقلاً أو شرعاً.

وأمّا إن كان الظن متعلقاً بما يجب التباني وعقد القلب عليه والتسليم والانقياد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٣١

(٢) كفاية الاصول : ٦٨ و ٢٦١

(٣) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٥٦

٢٧٦

له ، كتفاصيل البرزخ وتفاصيل المعاد ووقائع يوم القيامة وتفاصيل الصراط والميزان ونحو ذلك ممّا لا تجب معرفته ، وإنّما الواجب عقد القلب عليه والانقياد له على تقدير إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله به ، فإن كان الظن المتعلق بهذه الامور من الظنون الخاصّة الثابتة حجّيتها بغير دليل الانسداد فهو حجّة ، بمعنى أنّه لا مانع من الالتزام بمتعلقه وعقد القلب عليه ، لأنّه ثابت بالتعبد الشرعي ، بلا فرق بين أن تكون الحجّية بمعنى جعل الطريقية كما اخترناه (١) ، أو بمعنى جعل المنجزية والمعذرية كما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره (٢).

وإن كان الظن من الظنون المطلقة الثابتة حجّيتها بدليل الانسداد فلا يكون حجّة ، بمعنى عدم جواز الالتزام وعقد القلب بمتعلقه لعدم تمامية مقدّمات الانسداد في المقام ، إذ منها عدم جواز الاحتياط لاستلزامه اختلال النظام ، أو عدم وجوبه لكونه حرجاً على المكلف ، والاحتياط في هذا النوع من الامور الاعتقادية بمكان من الامكان ، بلا استلزام للاختلال والحرج ، إذ الالتزام بما هو الواقع وعقد القلب عليه على إجماله لا يستلزم الاختلال ولا يكون حرجاً على المكلف.

وأمّا الظن المتعلق بالامور التكوينية أو التاريخية ، كالظن بأنّ تحت الأرض كذا أو فوق السماء كذا ، والظن بأحوال أهل القرون الماضية وكيفية حياتهم ونحو ذلك ، فإن كان الظن ممّا لم يقم على اعتباره دليل خاص ـ وهو الذي نعبّر عنه بالظن المطلق ـ فلا حجّية له في المقام ، والوجه فيه ظاهر. وأمّا إن كان من الظنون الخاصّة فلا بدّ من التفصيل بين مسلكنا ومسلك صاحب الكفاية (قدس‌سره)

__________________

(١) راجع ص ٣٩ وكذا ص ١٢٠ ـ ١٢٢

(٢) كفاية الاصول : ٢٧٧

٢٧٧

فإنّه على مسلكنا من أنّ معنى الحجّية جعل غير العلم علماً بالتعبد ، يكون الظن المذكور حجّة باعتبار أثر واحد وهو جواز الاخبار بمتعلقه ، فإذا قام ظن خاص على قضيّة تاريخية أو تكوينية جاز لنا الاخبار بتلك القضيّة بمقتضى حجّية الظن المذكور ، لأنّ جواز الاخبار عن الشيء منوط بالعلم به ، وقد علمنا به بالتعبد الشرعي.

وهذا بخلاف مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره فإن جعل الحجّية لشيء بمعنى كونه منجّزاً ومعذّراً لا يعقل إلاّفيما إذا كان لمؤداه أثر شرعي وهو منتفٍ في المقام ، إذ لا يكون أثر شرعي للموجودات الخارجية ولا للقضايا التاريخية ليكون الظن منجّزاً ومعذّراً بالنسبة إليه. وأمّا جواز الاخبار عن شيء فهو من آثار العلم به لا من آثار المعلوم بوجوده الواقعي ، ولذا لا يجوز الاخبار عن شيء مع عدم العلم به ولو كان ثابتاً في الواقع ، كما أنّ الأمر في القضاء كذلك ، فانّ الناجي من القضاة هو الذي يحكم بالحق ويعلم أنّه الحق ، وأمّا الذي يحكم بالحق وهو لا يعلم أنّه الحق فهو من الهالكين ، كالذي يحكم بغير الحق سواء علم بأ نّه غير الحق أو لم يعلم على ما في الرواية (١).

وظهر بما ذكرناه أنّه ـ على مسلك صاحب الكفاية قدس‌سره ـ لا يجوز الاخبار البتي بما في الروايات من الثواب على المستحبات أو الواجبات ، بأن نقول : من صام في رجب مثلاً كان له كذا ، بل لا بدّ من نصب قرينة دالة على أنّه مروي عنهم عليهم‌السلام بأن نقول مثلاً : روي أنّه من صام في رجب كان له كذا.

الأمر الثاني : أنّ الظن الذي لم يقم على حجّيته دليل هل يجبر به ضعف

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٢ / أبواب صفات القاضي ب ٤ ح ٦

٢٧٨

السند أو الدلالة بحيث لولاه لم يكن حجّة أم لا؟ وهل يوهن به السند أو الدلالة بحيث لو قام على خلافه يسقط عن الحجّية أم لا؟ وهل يرجّح به أحد المتعارضين على الآخر أم لا؟ فيقع الكلام في هذه الجهات الثلاث :

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فهو أنّ المعروف المشهور بينهم انجبار ضعف السند بعمل المشهور ، مع أنّ الشهرة في نفسها لا تكون حجّة. واختاره صاحب الكفاية قدس‌سره وذكر في وجهه أنّ الخبر الضعيف وإن لم يكن حجّةً في نفسه ، إلاّأنّ عمل المشهور به يوجب الوثوق بصدوره ويدخل بذلك في موضوع الحجّية (١).

أقول : إن كان مراده أنّ عمل المشهور يوجب الاطمئنان الشخصي بصدور الخبر ، فالكبرى وإن كانت صحيحةً إذ الاطمئنان الشخصي حجّة ببناء العقلاء ، فانّه علم عادي ، ولذا لا تشمله أدلة المنع عن العمل بالظن ، لكنّ الصغرى ممنوعة ، إذ ربّما لا يحصل الاطمئنان الشخصي من عمل المشهور. وإن كان مراده أنّ عمل المشهور يوجب الاطمئنان النوعي ، فما ذكره غير تام صغرىً وكبرى. أمّا الصغرى : فلأ نّه لا يحصل الاطمئنان بصدور الخبر الضعيف لنوع الناس من عمل المشهور. وأمّا الكبرى : فلأ نّه على تقدير حصول الاطمئنان النوعي لا دليل على حجّيته مع فرض عدم حصول الاطمئنان الشخصي ، ولم يثبت ذلك بدليل ، إنّما الثابت ـ بسيرة العقلاء وبعض الآيات الشريفة والروايات التي تقدّم ذكرها ـ حجّية خبر الثقة الذي يحصل الوثوق النوعي بوثاقة الراوي ، بمعنى كونه محترزاً عن الكذب ، لا حجّية خبر الضعيف الذي يحصل الوثوق النوعي بصدقه ومطابقته للواقع من عمل المشهور ، بل لا دليل على حجّية خبر الضعيف الذي يحصل منه اليقين النوعي بصدقه في فرض عدم

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٣٢

٢٧٩

حصول اليقين الشخصي ولا الاطمئنان الشخصي.

وبالجملة : لا بدّ في حجّية الخبر إمّا من الوثوق النوعي بوثاقة الراوي أو الوثوق الشخصي بصدق الخبر ومطابقته للواقع ولو من جهة عمل المشهور ، لا من جهة وثاقة الراوي ، وأمّا مع انتفاء كلا الأمرين فلم يدل دليل على حجّيته ولو مع حصول الوثوق النوعي ، بل اليقين النوعي بصدقه. هذا كلّه مع ما تقدّم في أواخر بحث حجّية الخبر من منع الصغرى ، وأ نّه لم يعلم استناد المشهور إلى الخبر الضعيف ، ومجرد الموافقة من دون الاستناد لا يوجب الانجبار عند القائل به (١).

وأمّا الجهة الثانية : فالمعروف بينهم فيها أنّ الخبر الصحيح يوهن باعراض المشهور عنه ، بل صرّحوا بأ نّه كلّما ازداد الخبر صحّةً ازداد وهناً باعراض المشهور عنه. وليعلم أنّ محل الكلام هو الخبر الذي كان بمرأىً من المشهور ومسمع ولم يعملوا به ، وأمّا الخبر الذي احتمل عدم اطّلاعهم عليه فهو خارج عن محل الكلام ، ولا إشكال في جواز العمل به مع كونه صحيحاً في نفسه ، إذ لا يصدق عليه أنّه معرض عنه عند المشهور ، لأنّ الاعراض فرع الاطلاع ، فمع عدم الاطلاع لا يصح إسناد الاعراض إليهم.

وبالجملة : محل الكلام الخبر الذي احرز إعراض المشهور عنه ، فالمشهور أنّه يوهن به ويسقط عن الحجّية. وذكر صاحب الكفاية قدس‌سره أنّه لا يسقط بذلك عن الحجّية ، لعدم اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره الحاصل من إعراض المشهور أو غيره من أسباب الظن غير المعتبر (٢) وهذا هو الصحيح ، وقد تقدّم بعض الكلام في ذلك أواخر بحث

__________________

(١) تقدّم في ص ٢٣٦

(٢) كفاية الاصول : ٣٣٢ و ٣٣٣

٢٨٠