موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

مفادها هو الواقع ، كالاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز ، بناءً على كونها من الاصول لا من الأمارات. وقد تكون من الاصول غير المحرزة ، بمعنى أنّ المستفاد من أدلتها أنّها وظائف عملية مجعولة في ظرف عدم الوصول إلى الواقع لا البناء على أنّ مفادها هو الواقع كالبراءة العقلية والشرعية. وعلى كل تقدير قد يكون الأصل نافياً للتكليف دائماً كالبراءة ، وقد يكون مثبتاً له كذلك كقاعدة الاشتغال.

وثالثةً يكون نافياً للتكليف مرّةً ومثبتاً له اخرى كالاستصحاب.

فإن كان الأصل نافياً للتكليف ودلّ الخبر على ثبوته لا مجال لجريان الأصل ، سواء كان محرزاً أو غير محرز ، بلا فرق بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي. أمّا على القول بحجّيته فواضح. وأمّا على القول بوجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي ، فلعدم جريان الأصل في أطراف العلم الاجمالي ، لأنّ جريانه في جميع الأطراف موجب للمخالفة القطعية العملية ، وفي بعضها ترجيح بلا مرجح ، فلا فرق بين القول بحجّية الخبر وبين القول بوجوب العمل به من باب الاحتياط للعلم الاجمالي ، من حيث عدم جريان الأصل في مورده ، إنّما الفرق بينهما من وجهين آخرين :

أحدهما : صحّة إسناد مؤدى الخبر إلى المولى على تقدير حجّيته ، وعدم صحّته على تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط ، لأنّ إسناد الحكم إلى المولى مع عدم قيام الحجّة عليه تشريع محرّم.

ثانيهما : وجوب الأخذ باللوازم على تقدير حجّيته ، وعدمه على تقدير عدمها ، على ما سيجيء التعرّض له مفصّلاً في بحث الاستصحاب (١) إن شاء الله تعالى.

وأمّا إن كان الأصل أيضاً مثبتاً للتكليف فلا مانع من جريانه على القول

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ١٨١ وما بعدها (الأصل المثبت)

٢٤١

بوجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط ، لأنّ المانع من جريان الأصل أحد أمرين كلاهما مفقود في المقام :

أحدهما : ارتفاع موضوع الأصل وهو الشك بالعلم الوجداني أو التعبدي ، كما إذا قامت الحجّة في مورده والمفروض انتفاء العلم الوجداني وعدم كون الخبر حجّة.

ثانيهما : لزوم المخالفة العملية القطعية ، والمفروض كون الأصل مثبتاً للتكليف كالخبر ، فلا يلزم من جريانه مخالفة عملية أصلاً فلا مانع من جريانه ، إلاّ أنّه لا ثمرة عملية بين الالتزام بجريانه والالتزام بعدم جريانه ، إذ المفروض كون الأصل مثبتاً للتكليف كالخبر.

نعم ، يظهر الفرق بينهما في صحّة إسناد الحكم إلى المولى على تقدير جريان الأصل فيما إذا كان من الاصول المحرزة ، فانّه صحّ إسناد الوجوب المستصحب إلى المولى ، بخلاف ما لو التزمنا بعدم جريان الأصل ، فانّه لا يصح إسناد الحكم إلى المولى حينئذ ، لأنّ المفروض عدم حجّية الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط ، فكان إسناد الحكم إلى المولى تشريعاً محرّماً كما تقدّم. هذا كلّه على تقدير وجوب العمل بالخبر من باب الاحتياط.

وأمّا على القول بكونه حجّة فلا مجال لجريان الأصل ، لارتفاع موضوعه ـ وهو الشك ـ بالتعبد الشرعي ، كما هو ظاهر.

وظهر بما ذكرناه أنّ الفرق بين حجّية الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط في هذا الفرض من وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّه على تقدير حجّيته لا يجري الأصل ، وعلى تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط لا مانع من جريانه ، وإن لم يفترق الحال في مقام العمل

٢٤٢

بين جريانه وعدمه على ما تقدّم.

الثاني : صحّة إسناد مؤداه إلى المولى على تقدير الحجّية ، وعدمه على تقدير وجوب العمل به من باب الاحتياط.

الثالث : لزوم الأخذ باللوازم على تقدير الحجّية ، وعدمه على عدمه. هذا كلّه على تقدير كون مفاد الخبر حكماً إلزامياً كالوجوب والحرمة. وأمّا إن كان مفاده حكماً ترخيصياً ، فإن كان مفاد الأصل أيضاً نفي التكليف كالبراءة أو استصحاب عدم الوجوب أو عدم الحرمة ، فلا تظهر ثمرة بين حجّية الخبر ووجوب العمل به من باب الاحتياط ، إلاّفي صحّة الاسناد والأخذ باللوازم على ما تقدّم. وأمّا إن كان الأصل مثبتاً للتكليف ، فإن كان الأصل من الاصول غير المحرزة كقاعدة الاشتغال ، فلا مانع من جريانها على القول بوجوب العمل بالخبر من جهة العلم الاجمالي ، إذ مع عدم قيام الحجّة على نفي التكليف كانت قاعدة الاشتغال محكّمة ، فانّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية بحكم العقل.

ومجرّد العلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار الترخيصية غير مانع من جريان قاعدة الاشتغال ، إذ العلم بالترخيص في بعض الأطراف حاصل في جميع موارد قاعدة الاشتغال ، ولكنّه لا يزاحم العلم الاجمالي بالتكليف في أحد الأطراف ، فإذا علمنا إجمالاً بوجوب إحدى الصلاتين القصر أو التمام ، ودلّ الخبر على عدم وجوب القصر مثلاً ، فعلى القول بعدم حجّية الخبر لا مانع من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال ، بخلاف القول بحجّيته ، فانّه عليه كان احتمال وجوب القصر منتفياً بالعلم التعبدي ، فينحل العلم الاجمالي ولا يبقى موضوع لقاعدة الاشتغال ، ففي هذا الفرض تظهر الثمرة العملية بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي ، وهي ثمرة مهمّة.

٢٤٣

وأمّا إن كان الأصل من الاصول المحرزة كاستصحاب الوجوب أو الحرمة في فرض قيام الخبر على نفي التكليف ، كما في وطء الحائض بعد انقطاع الدم قبل الاغتسال ، فانّ الخبر دلّ على الجواز مع غسل الموضع ومقتضى الاستصحاب هو الحرمة ، ففي مثل ذلك إن كانت موارد الاستصحاب المثبت للتكليف قليلة ، بحيث لم يحصل لنا علم إجمالي بصدور بعض الأخبار الترخيصية في تلك الموارد فلا مانع من جريان الأصل على القول بعدم حجّية الخبر ووجوب العمل به من جهة العلم الاجمالي ، بخلاف القول بحجّيته. فتظهر الثمرة بينهما في هذا الفرض كالصورة السابقة.

وأمّا إذا علم إجمالاً بمخالفة الاستصحاب للواقع في بعض الموارد ، كما إذا كانت موارد جريانه كثيرة وعلم إجمالاً بصدور بعض الأخبار الترخيصية في تلك الموارد ، فجريان الاستصحاب وعدمه مبني على الخلاف بين الأعلام في جريان الأصل المحرز المثبت للتكليف مع العلم الاجمالي بمخالفته للواقع في بعض الأطراف ، كما إذا علمنا بنجاسة إناءين ثمّ علمنا إجمالاً بطهارة أحدهما ، فاختار شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) وتبعه المحقق النائيني قدس‌سره (٢) عدم جريان استصحاب النجاسة فيهما. واختار صاحب الكفاية قدس‌سره جريانه (٣) ، وهو الصحيح على ما ذكرناه في محلّه (٤). والمقام من صغريات تلك المسألة ، فعلى القول بجريانه تظهر الثمرة في المقام بين حجّية الخبر ووجوب

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٤٤ و ٧٤٥

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٥٠ ـ ٥٢ ، وفوائد الاصول ٣ : ٧٨

(٣) كفاية الاصول : ٤٣٢

(٤) تقدّمت الاشارة إليه في ص ٨١ ويأتي في بحث الشك في المكلف به في ص ٤٠٣ وما بعدها ، كما يأتي مفصّلاً في الجزء الثالث ص ٣٠٥ ـ ٣٠٩

٢٤٤

العمل به من باب الاحتياط فانّه لا يجري الأصل على الأوّل ، ويجري على الثاني كما هو ظاهر. وعلى القول بعدم جريانه لا تظهر ثمرة بينهما إلاّفي صحّة الاسناد ووجوب الأخذ باللوازم على ما تقدّم.

أمّا المقام الثاني : فملخص الكلام فيه أنّه إذا ورد عام أو مطلق معلوم الصدور بالتواتر ، كعموم الكتاب والسنّة المتواترة ، أو بغيره كعموم الخبر المحفوف بالقرينة القطعية ، وكان في خبر الواحد خاص أو مقيد ، فعلى القول بحجّية الخبر يخصص العموم ويقيّد الاطلاق ، لأنّ الخبر حجّة على الفرض ، فيكون قرينة على المراد من العام أو المطلق ، ولذا ذكرنا في محلّه أنّ تخصيص الكتاب بخبر الواحد ممّا لا إشكال فيه (١). وأمّا على القول بوجوب العمل بالأخبار من باب الاحتياط للعلم الاجمالي بصدور بعضها ، فهل يتقدّم الخبر على العموم والاطلاق أيضاً لترتفع الثمرة بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من باب الاحتياط من هذه الجهة أم لا؟

ظاهر كلام صاحب الكفاية قدس‌سره وصريح بعض المحققين قدس‌سرهم هو الثاني (٢) بدعوى أنّ العام أو المطلق حجّة في مدلوله ، ولا يرفع اليد عنهما إلاّ بحجّة أقوى ، والمفروض أنّ كل واحد من الأخبار غير ثابت الحجّية ، ومجرّد العلم الاجمالي بصدور بعضها لا أثر له.

هذا ، والتحقيق في المقام هو التفصيل بأن يقال : إن كان مفاد العام أو المطلق حكماً الزامياً ، ومفاد الخبر حكماً غير الزامي ، كقوله تعالى : «وَحَرَّمَ الرِّبا» (٣)

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٤٦٩

(٢) كفاية الاصول : ٣٠٥ ، ونهاية الدراية ٣ : ٢٦٢

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٥

٢٤٥

وقوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» (١) تعيّن العمل بالعام ، ولا يجوز العمل بالخاص ، لأنّ العلم الاجمالي بورود التخصيص في بعض العمومات وإن أوجب سقوط أصالة العموم عن الحجّية ، إلاّأنّ العلم الاجمالي بارادة العموم في بعضها يقتضي الاحتياط ، ووجوب العمل بجميع العمومات المتضمنة للتكاليف الالزامية ، والمفروض أنّ الخاص لا يكون حجّة ليكون موجباً لانحلال العلم الاجمالي المذكور. نعم ، هناك علم إجمالي بصدور بعض المخصصات ، إلاّ أنّه لا أثر له ، إذ المفروض كون مفاد المخصص حكماً غير إلزامي ، وقد ذكر في محلّه أنّه لا أثر للعلم الاجمالي فيما إذا لم يكن متعلقاً بحكم الزامي (٢). وعليه فيجب الأخذ بالعمومات والاطلاقات من باب الاحتياط ، لا من جهة حجّية أصالة العموم أو الاطلاق على ما يظهر من صاحب الكفاية ، ويصرّح به بعض المحققين ، ففي هذا الفرض تظهر الثمرة بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من باب الاحتياط.

وإن كان مفاد العام أو المطلق حكماً ترخيصياً ، ومفاد الخاص حكماً إلزامياً كقوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (٣) وقوله عليه‌السلام : «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر» (٤) تعيّن العمل بالخاص ولو كان العمل به من باب الاحتياط ، إذ العلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات المشتملة على أحكام إلزامية أوجب سقوط الاصول اللفظية عن الحجّية ، كما هو الحال في الاصول العملية ، فانّ إجراءها في جميع الأطراف يستلزم المخالفة العملية القطعية ، وفي

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٣٥ / أبواب الرِّبا ب ٧ ح ١ و ٣ وفيهما : «ليس بين الرجل وولده رِبا»

(٢) راجع ص ٤١٦

(٣) البقرة ٢ : ٢٧٥

(٤) الوسائل ١٧ : ٤٤٨ / أبواب آداب التجارة ب ٤٠ ح ٣

٢٤٦

بعضها ترجيح بلا مرجّح ، فلا مجال للقول بأنّ العموم أو الاطلاق حجّة في مدلوله ، ولا يرفع اليد عنهما إلاّبحجّة أقوى ، والعلم الاجمالي بارادة العموم في بعض الموارد ممّا لا أثر له ، إذ المفروض كون مفاد العموم حكماً ترخيصياً ، وقد تقدّم أنّه لا أثر للعلم الاجمالي فيما إذا لم يكن متعلقاً بحكم إلزامي. وهذا هو الفارق بين هذه الصورة والصورة السابقة ، فتعيّن العمل بالمخصص في جميع الأطراف ، للعلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات ، والمفروض كونه متعلقاً بحكم إلزامي ، فيجب الأخذ بالمخصص من باب الاحتياط ، ففي هذا الفرض لا تظهر ثمرة بين القول بحجّية الخبر والقول بوجوب العمل به من باب الاحتياط.

وأمّا إن كان مفاد كل من العام والخاص حكماً إلزامياً ، بأن يكون مفاد أحدهما الوجوب ومفاد الآخر الحرمة ، كما إذا كان مفاد العام وجوب إكرام العلماء ، ومفاد الخاص حرمة إكرام العالم الفاسق ، أو كان مفاد العام حرمة إكرام الكفار ومفاد الخاص وجوب إكرام الضيف منهم مثلاً ، فعلى القول بحجّية الأخبار لا إشكال في تقدّمها على العمومات وتخصيصها بها ، كما مرّ مراراً.

وأمّا على القول بوجوب العمل بها من باب الاحتياط ، فهل يجب العمل بالعام أو بالخاص أو يتخيّر؟ المتعيّن هو الثالث ، لعدم إمكان الاحتياط وتحصيل الامتثال القطعي ، إذ مورد اجتماع العام والخاص طرف لعلمين إجماليين ، يقتضي أحدهما الفعل والآخر الترك ، فانّ العلم الاجمالي بارادة العموم من بعض العمومات يقتضي الاحتياط بالفعل ، والعلم الاجمالي بصدور جملة من المخصصات يقتضي الترك كما في المثال الأوّل ، وينعكس الأمر في عكس ذلك كما في المثال الثاني. وعلى التقديرين لا يمكن الاحتياط بلحاظ كلا العلمين ، فيكون مخيراً بين الفعل والترك ، نظير دوران الأمر بين المحذورين ، فانّ العقل مستقل فيه بالتخيير.

٢٤٧

والمقام وإن لم يكن من صغريات دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّ دوران الأمر بين المحذورين إنّما هو فيما إذا علم جنس الالزام وشكّ في أنّه الوجوب أو الحرمة ، والمقام ليس كذلك ، لاحتمال أن لا يكون مورد اجتماع العام والخاص واجباً ولا حراماً ، إذ نحتمل أن لا يكون العموم مراداً من هذا العام ، بأن يكون العام الذي نعلم إجمالاً بارادة العموم منه منطبقاً على غير هذا العام ، وكذا نحتمل أن لا يكون هذا الخاص صادراً ، بأن يكون الخاص الذي نعلم إجمالاً بصدوره غير هذا الخاص ، فنحتمل أن لايكون مورد الاجتماع حراماً ولا واجباً ، إلاّ أنّه ملحق بدوران الأمر بين المحذورين حكماً ، لما ذكرناه من كونه طرفاً لعلمين إجماليين يقتضي أحدهما الفعل والآخر الترك ، فلا يمكن الاحتياط وتحصيل الامتثال اليقيني ، فإذن لا مناص من الحكم بالتخيير.

الوجه الثاني من الوجوه العقلية التي استدلّ بها على حجّية الخبر : ما ذكره صاحب الوافية على ما حكي عنه مستدلاًّ على حجّية الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عند الشيعة ، كالكتب الأربعة مع عمل جمع بها من غير ردّ ظاهر ، وهو أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، ولا سيّما بالاصول الضرورية كالصوم والصلاة والحج والزكاة ، مع أنّ جل أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر غير القطعي ، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد (١) ، انتهى ملخّصاً.

وأورد عليه الشيخ قدس‌سره (٢) أوّلاً : بأنّ العلم الاجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار الواجدة لما ذكره

__________________

(١) الوافية : ١٥٩

(٢) فرائد الاصول ١ : ٢١٩

٢٤٨

من الشرائط ، فاللازم حينئذ إمّا الاحتياط والعمل بكل خبر دلّ على جزئية شيء أو شرطيته (١).

وهذا الايراد يندفع بأنّ العلم الاجمالي وإن كان حاصلاً بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ، إلاّأنّ العلم الاجمالي بوجود الأجزاء والشرائط بين الأخبار الواجدة للشرائط المذكورة يوجب انحلال العلم الأوّل ، فاللاّزم حينئذ هو الاحتياط والعمل بكل ما دلّ على الجزئية أو الشرطية من خصوص تلك الأخبار ، لا مطلق ما دلّ على الجزئية والشرطية من الأخبار.

نعم ، يرد عليه ما أورده الشيخ قدس‌سره ثانياً وحاصله : أنّ مقتضى هذا الوجه هو وجوب العمل بكل ما دلّ على الجزئية والشرطية من الأخبار المذكورة من باب الاحتياط للعلم الاجمالي ، لا حجّية الأخبار الواجدة للشرائط المذكورة ، بحيث تقدّم على الاصول اللفظية والعملية التي مفادها الالزام وثبوت التكليف كما هو المدّعى في المقام.

الوجه الثالث من الوجوه العقلية : ما حكي عن صاحب الحاشية (٢) قدس‌سره وملخصه : أنّا نعلم بلزوم الرجوع إلى السنّة لحديث الثقلين الثابت تواتره عند الفريقين ونحوه ممّا يدل على ذلك ، فيجب علينا العمل بها فيما إذا احرزت بالقطع ، ومع عدم التمكن من إحرازها بالقطع لا بدّ من التنزل إلى الظن والعمل بما يظن صدوره منهم عليهم‌السلام.

ويرد عليه : ما ذكره الشيخ قدس‌سره من رجوعه إمّا إلى الوجه الأوّل ،

__________________

(١) [العبارة ناقصة وتتمّتها كما في الفرائد هي : وإمّا العمل بكل خبر ظُنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئية أو الشرطية]

(٢) هداية المسترشدين : ٣٩٧

٢٤٩

وإمّا إلى دليل الانسداد ، إذ لو كان مراده من السنّة نفس قول المعصوم عليه‌السلام وفعله وتقريره ، فوجوب العمل بها وإن كان ضرورياً ، إلاّ أنّه لا ملازمة بينه وبين وجوب العمل بالأخبار الحاكية للسنّة المحتمل عدم مطابقتها للواقع كما هو ظاهر. وإن كان مراده من السنّة هي الروايات الحاكية لقول المعصوم أو فعله أو تقريره ، فلا دليل على وجوب العمل بها فانّه أوّل الكلام ومحل البحث فعلاً.

وحديث الثقلين ونحوه الدال على وجوب الرجوع إلى المعصوم عليه‌السلام والأخذ بقوله لايدل على وجوب الأخذ بالروايات الحاكية لقول المعصوم عليه‌السلام فانّ وجوب متابعة الإمام عليه‌السلام لا يدل على وجوب العمل بما يرويه محمّد بن مسلم مثلاً ، مع احتمال كونه غير مطابق للواقع وهو ظاهر ، وحينئذ إن قيل بوجوب العمل بالروايات بدعوى العلم الاجمالي بصدور جملة منها من المعصوم ، فهذا هو الوجه الأوّل ، وإن قيل بوجوب العمل بها بدعوى العلم الاجمالي بتكاليف واقعية وأنّ العقل يحكم بذلك بعد عدم إمكان الوصول إليها بالقطع ، فهذا يرجع إلى دليل الانسداد ولا يتم إلاّبتمامية سائر مقدّماته (١).

وأمّا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من عدم رجوع هذا الوجه إلى الوجه الأوّل ولا إلى دليل الانسداد وأ نّه دليل مستقل ، بدعوى أنّ ملاكه ليس هو العلم الاجمالي بتكاليف واقعية ليرجع إلى دليل الانسداد ، ولا العلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار عنهم عليهم‌السلام ليرجع إلى الوجه الأوّل ، بل ملاكه العلم بوجوب الرجوع إلى الروايات ، مع قطع النظر عن العلمين المذكورين (٢) ،

__________________

(١) فرائد الاصول ١. ٢١٩ و ٢٢٠

(٢) كفاى ه الاصول. ٣٠٧

٢٥٠

ففيه : أنّ العلم بوجوب الرجوع إلى الروايات لا بدّ من أن يكون ناشئاً من منشأ ، إذ العلم بوجوب العمل بما يحتمل مخالفته للواقع لا يحصل جزافاً. فإمّا أن يكون المنشأ هو الجعل الشرعي بأن يجعل الشارع الروايات حجّةً والمفروض عدم ثبوته ، أو يكون المنشأ هو العلم بصدور بعضها من المعصوم ، وهذا هو الوجه الأوّل ، أو يكون المنشأ هو حكم العقل بلزوم الامتثال الظنّي مع عدم إمكان الامتثال القطعي ، وهذا يرجع إلى دليل الانسداد.

الكلام في حجّية الظن المطلق

واستدلّ عليها بوجوه أربعة كلّها عقلية :

الوجه الأوّل : أنّ الظن بالتكليف مستلزم للظن بالضرر على المخالفة ، ودفع الضرر المظنون واجب بحكم العقل.

واجيب عنه بأجوبة بعضها راجع إلى منع الصغرى ، وبعضها راجع إلى منع الكبرى.

والصحيح في الجواب منع إحدى المقدّمتين على سبيل منع الخلو ، بأن يمنع الصغرى على تقديرٍ والكبرى على تقدير آخر ، وكلتاهما على تقدير ثالث ، بيان ذلك : أنّه إن كان مراد المستدل من الضرر هو الضرر الاخروي فالكبرى وإن كانت صحيحة تامّة ، إذ العقل مستقل بدفع الضرر المظنون ، بل بدفع الضرر المحتمل ، ولذا وجب الاحتياط في الشبهة البدوية قبل الفحص ، وفي أطراف العلم الاجمالي ، بل الضرر محتمل حتّى في موارد العلم التفصيلي بالتكليف ، فانّ استحقاق العقاب على المخالفة وإن كان مقطوعاً به فيها ، إلاّأنّ العقاب فيها أيضاً محتمل لا معلوم ، لاحتمال صدور العفو منه تعالى واحتمال الشفاعة.

٢٥١

وبالجملة : لا ينبغي الشك في الكبرى على هذا التقدير ، إلاّأنّ الصغرى ممنوعة ، إذ لا ملازمة بين التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة على المخالفة ليكون الظن بالتكليف مستلزماً للظن بالعقاب على المخالفة ، وإلاّ كان احتمال التكليف مستلزماً لاحتمال العقاب على المخالفة ولزم الاحتياط في الشبهات البدوية ولو بعد الفحص ، لأنّ دفع الضرر المحتمل أيضاً واجب عقلاً كالضرر المظنون ، مع كونه واضح البطلان لاستقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان.

وبعبارة اخرى : استحقاق العقاب من لوازم تنجّز التكليف لا من لوازم وجوده الواقعي ، فمع عدم تنجّزه بالعلم الوجداني ولا بالحجّة المعتبرة لا عقاب على مخالفته بقبح العقاب بلا بيان بحكم العقل.

وبما ذكرناه ظهر فساد ما ذكره صاحب الكفاية (١) قدس‌سره من أنّ العقل وإن لم يكن مستقلاً باستحقاق العقاب على المخالفة ، ولكنّه غير مستقل بعدمه أيضاً ، فالعقاب حينئذ محتمل والعقل حاكم بوجوب دفع الضرر المحتمل ، انتهى. إذ مع استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان على ما اعترف هو به في مبحث البراءة (٢) لا يبقى مجال للترديد في استحقاق العقوبة وعدمه ، فانّ موضوع حكم العقل وهو عدم البيان محقق ، إذ المفروض عدم كون الظن حجّة ، فالعقل مستقل بعدم استحقاق العقاب ، فلا يكون هناك احتمال للعقاب.

وإن كان مراده من الضرر هو الضرر الدنيوي ، فقد يمنع كلتا المقدّمتين وقد يمنع الكبرى فقط ، بيان ذلك : أنّ التكاليف الوجوبية ليس في مخالفتها إلاّتفويت المصلحة ، بناءً على ما هو المعروف بين العدلية من تبعية الأحكام للمصالح

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٠٩

(٢) كفاية الاصول : ٣٤٣

٢٥٢

والمفاسد في متعلقاتها ، فالظن بالوجوب لا يستلزم الظن بالضرر في المخالفة ، بل مستلزم للظن بفوات المصلحة ، ولا يصدق عليه الضرر فانّه عبارة عن النقص المالي أو البدني أو العقلي والروحي. وكذا الحال في التكاليف التحريمية الناشئة عن المفاسد النوعية الراجعة إلى اختلال النظام كحرمة قتل النفس وحرمة أكل مال الغير غصباً ، فانّه ليس في ارتكاب تلك المحرّمات ضرر دنيوي على الفاعل ، فالظن بمثل هذا النوع من الحرمة لا يستلزم الظن بالضرر. نعم ، يستلزم الظن بالمفسدة النوعية الراجعة إلى اختلال النظام ، ففي مورد الظن بالتكليف الوجوبي ومورد الظن بهذا النوع من التكليف التحريمي ، كانت الصغرى والكبرى كلتاهما ممنوعة. ودعوى لزوم جلب المصلحة المظنونة ولزوم دفع المفسدة النوعية المظنونة ساقطة لا شاهد عليها ، وإلاّ لزم الاحتياط في الشبهة الموضوعية ، مع احتمال الوجوب أو احتمال هذا النوع من الحرمة ، ولم يلتزم به أحد.

وأمّا التكاليف التحريمية الناشئة عن المفسدة الشخصية ، بمعنى كون الحرمة ناشئة عن الضرر المتوجه إلى شخص المرتكب ، كحرمة أكل السم وحرمة شرب الخمر ونحو ذلك ممّا يكون في ارتكابه ضرر على الفاعل ونقص في بدنه أو في ماله أو في عقله أو في عرضه ، فالظن بمثل هذا النوع من التحريم وإن كان يستلزم الظن بالضرر إلاّأنّ الكبرى ممنوعة ، إذ لم يدل دليل على وجوب دفع الضرر الدنيوي المظنون في هذه الموارد ممّا لم يكن التكليف فيه منجّزاً ، وإلاّ لزم الاحتياط في الشبهات الموضوعية أيضاً مع الظن بالضرر ، ولم يلتزم به أحد.

بل يمكن أن يقال : إنّه لا دليل على وجوب دفع الضرر الدنيوي المتيقن ، ولا سيّما إذا كان فيه غرض عقلائي ، فكيف بالضرر المظنون أو المحتمل. نعم ، قد دلّ الدليل على حرمة الاضرار بالنفس في موارد خاصّة ، كقتل الانسان نفسه أو قطع بعض أعضائه ، كما دلّ الدليل على حرمة ارتكاب ما يخاف ضرره في

٢٥٣

موارد خاصّة ، كالصوم والوضوء والغسل ، ولابدّ من الاقتصار في مورد النص (١) ، إذ لا يستفاد منه كبرى كلّية ، مع أنّ الاعتبار في تلك الموارد بخوف الضرر المنطبق على الاحتمال أيضاً لا خصوص الظن بالضرر.

الوجه الثاني : أنّ الأخذ بخلاف الظن ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلاً ، فتعيّن الأخذ بالظن.

وفيه : أنّ تمامية هذا الوجه متوقفة على أمرين : تنجز التكليف وعدم إمكان الاحتياط ، إذ على تقدير عدم كون التكليف ثابتاً ، لا مانع من الرجوع إلى البراءة ، وليس فيه ترجيح المرجوح على الراجح كما هو ظاهر. وكذا لو تنجّز التكليف وتمكن المكلف من الاحتياط فعليه العمل بالاحتياط لقاعدة الاشتغال ، وليس فيه أيضاً ترجيح المرجوح على الراجح. نعم ، فيما إذا تنجّز التكليف ولم يمكن الاحتياط كما إذا ترددت القبلة بين جهتين تظنّ القبلة في إحداهما المعيّنة ولم يمكن الاحتياط لضيق الوقت مثلاً ، تعيّن الأخذ بالظن لقبح ترجيح المرجوح على الراجح. وعليه فلا يكون هذا الوجه إلاّمقدّمة من مقدّمات دليل الانسداد ، فلا ينتج إلاّبانضمام الباقي منها إليه.

الوجه الثالث : أنّ العلم الاجمالي بثبوت تكاليف إلزامية وجوبية وتحريمية يقتضي وجوب الاحتياط في جميع الشبهات ، لكنّه موجب للعسر المنفي في الشريعة المقدّسة ، فلا بدّ من التبعيض في الاحتياط والأخذ بمظنونات التكليف ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وفيه : أنّ هذا الوجه أيضاً من مقدّمات دليل الانسداد ، ولا ينتج ما لم

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٤٢ و ٣٤٨ / أبواب التيمم ب ٢ ح ١ و ٢ وب ٥ ح ٧ و ٨ ، الوسائل ١٠ : ٢١٤ و ٢١٨ / أبواب من يصح منه الصوم ب ١٦ ح ١ وب ١٩ ح ١

٢٥٤

تنضم إليه البقية.

الوجه الرابع : هو الدليل المعروف بدليل الانسداد ، وتحقيق الكلام فيه يقتضي البحث في جهات أربع :

الجهة الاولى : في بيان أصل المقدّمات التي يتأ لّف منها هذا الدليل.

الجهة الثانية : في تعيين النتيجة المترتبة عليها على تقدير تماميتها من حيث إنّها الكشف أو الحكومة.

الجهة الثالثة : في أنّ نتيجة المقدّمات ـ على تقدير تماميتها ـ مطلقة أو مهملة.

الجهة الرابعة : في تمامية المقدّمات وعدمها.

أمّا الكلام في الجهة الاولى : فهو أنّه ذكر شيخنا الأعظم الأنصاري (١) قدس‌سره أنّ ما يتأ لّف منه دليل الانسداد امور أربعة :

الأوّل : العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية.

الثاني : انسداد باب العلم والعلمي في كثير من تلك التكاليف.

الثالث : عدم وجوب الاحتياط التام في جميع الشبهات ، إمّا لعدم إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج ، وعدم جواز الرجوع إلى الأصل الجاري في كل مسألة ولا إلى القرعة ونحوها ، ولا إلى فتوى من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي.

الرابع : استقلال العقل بقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

وذكر صاحب الكفاية (٢) قدس‌سره أنّها خمسة ، وزاد على الامور المذكورة

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٢٨

(٢) كفاية الاصول : ٣١١

٢٥٥

مقدّمة اخرى وجعلها الثالثة من المقدّمات ، والثالثة في كلام الشيخ قدس‌سره الرابعة وهي أنّه لا يجوز لنا إهمال التكاليف وعدم التعرض لامتثالها أصلاً.

والصحيح ما صنعه الشيخ قدس‌سره إذ لو كان مراد صاحب الكفاية قدس‌سره من المقدّمة الاولى هو العلم الاجمالي بثبوت تكاليف فعلية في حق كل مكلف ممّن يجري دليل الانسداد في حقّه كما هو ظاهر كلامه ، فهذه المقدمة هي بعينها المقدّمة الثالثة في كلامه ، إذ معنى العلم بالتكاليف الفعلية أنّه لا يجوز إهمالها وعدم التعرض لامتثالها. وإن كان مراده هو العلم بأصل الشريعة لا العلم بفعلية التكاليف في حقّنا ، فلا وجه لجعل ذلك من مقدّمات الانسداد ، وإن كان صحيحاً في نفسه لأنّ المقصود ذكر المقدّمات القريبة التي يتأ لّف منها دليل الانسداد لا المقدّمات البعيدة ، وإن كان دليل الانسداد متوقفاً عليها في نفس الأمر ، وإلاّ لزم أن يجعل من المقدّمات إثبات الصانع وإثبات النبوّة ، إلى غير ذلك من المقدّمات البعيدة التي هي مسلّمة في نفسها ومفروغ عنها.

أمّا الجهة الثانية : ففي تعيين النتيجة المترتبة على المقدّمات المذكورة على تقدير تماميتها ، من حيث إنّها الكشف أو الحكومة. وليعلم أوّلاً : أنّ المراد من الكشف أنّه يستكشف من المقدّمات المذكورة أنّ الشارع جعل الظن حجّة.

والمراد من الحكومة أنّ العقل الحاكم بالاستقلال في باب الاطاعة والامتثال يلزم المكلف بعد تمامية المقدّمات بالامتثال الظنّي وعدم التنزل إلى الامتثال الشكّي والوهمي ، بمعنى أنّ العقل يراه معذوراً غير مستحق للعقاب على مخالفة الواقع مع الأخذ بالظن ، ويراه مستحقاً للعقاب على مخالفة الواقع على تقدير عدم الأخذ بالظن والاقتصار بالامتثال الشكّي والوهمي ، فيحكم العقل بتبعيض الاحتياط في فرض عدم التمكن من الاحتياط التام ، وهذا هو معنى الحكومة ،

٢٥٦

لا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ العقل مستقل بحجّية الظن (١) فانّه غير معقول ، إذ العقل ليس بمشرع ليجعل الظن حجّة ، وإنّما شأنه الادراك ليس إلاّ ، فالجعل والتشريع من وظائف المولى ، والعقل يدرك ويرى المكلف معذوراً في مخالفة الواقع مع الاتيان بما يحصل معه الظن بالامتثال على تقدير تمامية المقدّمات ، ويراه غير معذور في مخالفة الواقع على تقدير ترك الامتثال الظنّي والاقتصار بالامتثال الشكّي أو الوهمي ، وهذا هو معنى الحكومة.

ثمّ إنّه لا بدّ من بيان منشأ الاختلاف في أنّ نتيجة المقدّمات هو الكشف أو الحكومة ، فانّ الاختلاف المذكور ليس جزافياً بدون منشأ ، فنقول : إنّ المنشأ لهذا الاختلاف هو الاختلاف في تقرير المقدّمة الثالثة ، فانّها قد تقرّر بأنّ الاحتياط التام غير واجب ، لعدم إمكانه أو لكونه مستلزماً لاختلال النظام أو العسر والحرج ، وعلى هذا التقرير تكون النتيجة هي الحكومة ، لأنّ عدم جواز الاحتياط التام لاستلزامه اختلال النظام أو عدم وجوبه للزوم العسر والحرج لا ينافي حكم العقل بلزوم الاحتياط في بعض الأطراف وتركه في البعض الآخر ممّا يرفع معه محذور الاختلال أو العسر والحرج ، فالعقل الحاكم بالاستقلال في باب الاطاعة والامتثال يلزم المكلف أوّلاً بتحصيل الامتثال العلمي تفصيلاً أو إجمالاً باتيان جميع المحتملات ، فان تعذّر ذلك حكم بالتبعيض في الاحتياط والاكتفاء بالامتثال الظنّي ، ومع تعذّره أيضاً يحكم بالامتثال الشكّي ، ومع تعذّره يحكم بالامتثال الوهمي ، ولا يراه معذوراً في مخالفة الواقع على تقدير التنزل إلى المرتبة السافلة مع التمكن من المرتبة العالية في جميع هذه المراتب.

وبالجملة : تكون النتيجة على هذا التقرير هو التبعيض في الاحتياط.

وقد تقرّر المقدّمة الثالثة : بأنّ الشارع لا يرضى بالاحتياط والامتثال

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨٠ ، ولاحظ ص ٣٢١

٢٥٧

الاجمالي ، بدعوى الاجماع على ذلك ، فانّ الاحتياط وإن كان حسناً في نفسه إلاّ أنّه ليس كذلك فيما إذا استلزم انحصار الامتثال في أكثر الأحكام على الامتثال الاجمالي المنافي لقصد الوجه والجزم ، وتكون النتيجة على هذا التقرير هو الكشف ، إذ بعد فرض فعلية التكاليف وانسداد باب العلم والعلمي وعدم رضى الشارع بالامتثال الاجمالي ، يستكشف أنّ الشارع جعل لنا حجّةً وطريقاً إلى أحكامه ، فلا بدّ من السبر والتقسيم في تعيين ذلك الطريق ، فهل هو فتوى الفقيه أو القرعة أو غير ذلك ، والمفروض عدم حجّية كل ذلك ، فيستكشف أنّ الظن هو الطريق المنصوب من قبل الشارع.

وتوهّم عدم لزوم جعل الحجّة على الشارع لاحتمال إيكاله المكلف إلى ما يحكم به العقل ، فلا يتم القول بالكشف ، مدفوع بما ذكرناه من أنّ العقل شأنه الادراك فقط ، وليس له جعل الحجّية لشيء ، فعلى تقدير عدم جعل الشارع الظن حجّةً يحكم العقل بالتبعيض في الاحتياط على ما تقدّم ، والمفروض قيام الاجماع على أنّ الشارع لا يرضى بهذا النحو من الاحتياط ، وهو الاحتياط في أكثر الأحكام المنافي للجزم وقصد الوجه ، فلا مناص من الالتزام بأنّ الشارع جعل الظن حجّةً على فرض تمامية المقدّمات بهذا التقرير.

إذا عرفت معنى الكشف والحكومة وعرفت منشأ الاختلاف فيهما ، ظهر لك أنّ الصحيح على تقدير تمامية المقدّمات هو الحكومة لا الكشف ، إذ الكشف متوقف على قيام الاجماع على أنّ الشارع لا يرضى بالاحتياط ، وأنّى لنا باثبات هذا الاجماع ، وأين هذا الاجماع. وعلى تقدير عدم ثبوت هذا الاجماع يحكم العقل بالتبعيض في الاحتياط على ما تقدّم بيانه ، وقد ذكرنا أنّ هذا هو معنى الحكومة.

الجهة الثالثة : في أنّ نتيجة المقدّمات على تقدير تماميتها مطلقة أو مهملة.

٢٥٨

ولايخفى أنّ الاطلاق والاهمال قد يلاحظان بالنسبة إلى الأسباب ، وقد يلاحظان بالنسبة إلى الموارد ، وقد يلاحظان بالنسبة إلى المراتب ، فنقول :

أمّا على تقرير الكشف : فتكون النتيجة مطلقة من حيث الأسباب إذ لا يكون هناك قدر متيقن ، فلا يرى العقل فرقاً بين الأسباب التي يحصل منها الظن ، فلا فرق بين الظن الحاصل من الاجماع المنقول والظن الحاصل من الشهرة والحاصل من فتوى الفقيه مثلاً ، بل العقل يرى بعد تمامية المقدّمات بهذا التقرير أنّ الشارع جعل الظن حجّة من أيّ سبب حصل ، إلاّالسبب الذي نهى الشارع عن العمل بالظن الحاصل منه ، كالظن الحاصل من القياس الثابت عدم جواز العمل به بالأخبار المتواترة.

وأمّا من حيث الموارد فتكون النتيجة مهملة ، إذ العلم بعدم رضى الشارع بالاحتياط الكلّي لاينافي وجوب الاحتياط في خصوص الموارد المهمّة ، كالدماء والأعراض بل الأموال الخطيرة ، فلا بدّ من الاقتصار على القدر المتيقن وهو الظن في غير هذه الموارد. وأمّا هذه الموارد التي علم اهتمام الشارع بها فلا بدّ من الاحتياط فيها ، وكذا الحال من حيث المراتب ، إذ العقل لا يدرك بعد العلم بعدم رضى الشارع بالاحتياط الكلّي أنّه جعل الظن حجّةً بتمام مراتبه ، بل يحتمل أنّه جعل خصوص الظن القوي حجّة. ومجرد احتمال عدم جعل الظن الضعيف حجّة كافٍ في الحكم بعدم الحجّية ، فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقن والعمل بالظن القوي ، وإن لم يكن وافياً بمعظم الفقه ـ بحيث يلزم من الرجوع إلى الاصول في غير موارد العلم وهذا النوع من الظن محذور المخالفة القطعية ـ يعمل بالظن الأضعف منه الأقوى من غيره ، وإن لم يكن هو أيضاً وافياً يتنزل إلى الأضعف منه ، وهكذا. هذا كلّه على الكشف.

وأمّا على الحكومة : فالأمر كذلك ، فتكون النتيجة مطلقة بالنسبة إلى

٢٥٩

الأسباب ، إذ بعد عدم وجوب الاحتياط الكلّي ، لعدم إمكانه أو لاستلزامه العسر والحرج وتنزّل العقل من الامتثال العلمي إلى الامتثال الظنّي ، لا يرى فرقاً بين أسباب الظن ، إذ لا يكون هناك قدر متيقن ، فلا فرق بين الظنون من حيث الأسباب.

وأمّا من حيث الموارد فتكون النتيجة مهملة ، إذ عدم وجوب الاحتياط الكلّي ـ لعدم إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج ـ لا يوجب رفع اليد عن الاحتياط في جميع الموارد ، بل لابدّ من العمل بالاحتياط في الموارد التي علم اهتمام الشارع بها ، والعمل بالظن في غيرها ، ولا يلزم من العمل بالاحتياط فيها محذور اختلال النظام أو العسر والحرج. وكذا الحال بالنسبة إلى المراتب ، فانّ النتيجة بالنسبة إليها أيضاً مهملة لعين ما تقدّم ، ولكنّ التبعيض في مراتب الظنون يكون بعكس الكشف ، إذ على الكشف كان المتعيّن الاقتصار على الظن القوي ، وعلى تقدير عدم الوفاء بمعظم الفقه على ما تقدّم بيانه يتنزل إلى الظن المتوسط ، وعلى تقدير عدم الوفاء أيضاً يتنزّل إلى الظن الضعيف ، فيكون التنزل من الظن العالي إلى السافل ، وتكون دائرة العمل بالظن أضيق. وعلى تقدير عدم الكفاية يتوسع شيئاً فشيئاً على ما تقدّم.

وهذا بخلاف الحكومة ، إذ بعد بطلان الاحتياط الكلّي ـ لعدم إمكانه أو لاستلزامه اختلال النظام أو العسر والحرج ، وتنزل العقل من الامتثال العلمي إلى الامتثال الظنّي ـ كان المتعيّن أوّلاً هو الاتيان بالمظنونات والمشكوكات والموهومات بالوهم القوي ، ويطرح الموهوم بالوهم الضعيف فقط ، وإن تعذر ذلك فيأتي بالمظنونات والمشكوكات ، ويطرح جميع الموهومات. وفي الصورتين يحصل الامتثال الظنّي. وإن تعذّر ذلك أيضاً فيأتي بجميع المظنونات ويطرح المشكوكات أيضاً ، وإن تعذّر ذلك أيضاً فيأتي بالمظنونات بالظن القوي فقط ،

٢٦٠