موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

عليه ، إذ قد يراد من تصديقه عدم المبادرة إلى تكذيبه ، وعدم نسبة الكذب إليه بالمواجهة ، وهذا أمر أخلاقي دلّ عليه بعض الروايات ، كقوله عليه‌السلام : «كذّب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولاً ، وقال لم أقله فصدّقه وكذّبهم» (١) ومن الظاهر أنّه ليس المراد من التصديق هو العمل بقوله وترتيب الأثر عليه ، وإلاّ لم يكن وجه لتقديم إخبار الواحد على إخبار الخمسين ، مع كونهم أيضاً من المؤمنين. بل المراد اظهار تصديقه وعدم تكذيبه.

وممّا يؤيّد ذلك : ما في تفسير علي بن إبراهيم القمي (٢) من أنّ الآية الشريفة نزلت في عبدالله بن نفيل ، فانّه كان يسمع كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وينقله إلى المنافقين حتّى أوقف الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذه النميمة ، فأحضره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسأله عنها ، فحلف أنّه لم يكن شيء ممّا ينم عليه ، فقبل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذ هذا الرجل يطعن عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : إنّه اذن يقبل كل ما يسمع ، أخبره الله أنِّي أنم عليه فقبل ، وأخبرته أنِّي لم أفعل فقبل ، فردّ عليه الله سبحانه بقوله : «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» الآية ، ومن المعلوم أنّ تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله للمنافق لم يكن إلاّ بمعنى عدم اظهار تكذيبه.

هذا واستشهد الشيخ قدس‌سره على ما ذكرناه باختلاف السياق ، وهو أنّ تعدية كلمة يؤمن بالباء في الجملة الاولى وباللام في الجملة الثانية تدل على اختلاف المراد من الإيمان في المقامين (٣).

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٢٩٥ / أبواب أحكام العشرة ب ١٥٧ ح ٤

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٠٠

(٣) فرائد الاصول ١ : ١٨٤

٢٢١

وفيه : أنّ الإيمان بمعنى التصديق القلبي ، فإن كان متعلقاً بوجود شيء تكون تعديته بالباء ، كما في قوله تعالى : «وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ» الآية (١) وإن كان متعلقاً بقول شخص كانت تعديته باللام كما في قوله سبحانه : «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» (٢) وحينئذ تدل التعدية باللام بالاضافة إلى المؤمنين على إرادة تصديق قولهم ، فلا شهادة للسياق على ما ذكر.

لا يقال : على هذا لا يناسب تعديته بالباء في الجملة الاولى ، لأنّ المصدّق به فيها إنّما هو قوله تعالى وإخباره عن نميمة عبدالله بن نفيل على ما تقدّم.

فانّه يقال : لما كانت لفظة «الله» علماً لذات الواجب المستجمع لجميع صفات الكمال ، فالتصديق بوجوده مستلزم للتصديق بقوله ، فجعل المصدّق به ذات الواجب إشارة إلى أنّ الإيمان بوجوده تعالى مستلزم للإيمان بقوله ، ولو كانت التعدية باللام كما في الجملة الثانية لم يستفد منها إلاّالتصديق بقوله فقط. وكيف كان فلا دلالة للآية على حجّية الخبر.

وممّا استدلّ به على حجّية الخبر : الروايات الكثيرة وقد رتّبها الشيخ قدس‌سره (٣) على طوائف أربع :

الطائفة الاولى : الأخبار العلاجية الدالة على أنّ حجّية الاخبار في نفسها كانت مفروغاً عنها عند الأئمة عليهم‌السلام وأصحابهم ، وإنّما توقفوا عن العمل من جهة المعارضة ، فسألوا عن حكمها ، ومن الواضح أنّه ليس مورد الأخبار العلاجية الخبرين المقطوع صدورهما ، لأنّ المرجحات المذكورة فيها

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٥

(٢) يوسف ١٢ : ١٧

(٣) فرائد الاصول ١ : ١٨٥ ـ ١٩٢

٢٢٢

لا تناسب العلم بصدورهما ، وأنّ الظاهر من مثل قوله : «يأتي عنكم خبران متعارضان» (١) كون السؤال عن مشكوكي الصدور. مضافاً إلى أنّ وقوع المعارضة بين مقطوعي الصدور بعيد في نفسه.

الطائفة الثانية : الأخبار الآمرة بالرجوع إلى أشخاص معينين من الرواة ، كقوله عليه‌السلام : «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» (٢) مشيراً إلى زرارة ، وقوله عليه‌السلام : «نعم ، بعد ما قال الراوي : أفيونس بن عبدالرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا عنه» (٣) وقوله عليه‌السلام : «عليك بالأسدي» (٤) يعني أبا بصير ، وقوله عليه‌السلام : «عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدُّنيا» (٥) إلى غير ذلك.

الطائفة الثالثة : الأخبار الآمرة بالرجوع إلى الثقات كقوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» (٦) وقد ادّعى المحقق النائيني قدس‌سره تواتر هذه الطائفة معنى (٧) ، وهو بعيد لكونها قليلة غير بالغة حدّ التواتر.

الطائفة الرابعة : الأخبار الآمرة بحفظ الروايات واستماعها وضبطها والاهتمام

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢ (باختلاف يسير)

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٤٣ / أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١٩

(٣) المصدر السابق ح ٣٣ (باختلاف يسير)

(٤) المصدر السابق ح ١٥

(٥) المصدر السابق ح ٢٧ (باختلاف يسير)

(٦) المصدر السابق ح ٤٠ (باختلاف يسير)

(٧) أجود التقريرات ٣ : ١٩٩

٢٢٣

بشأنها على ألسنة مختلفة ، وقد ذكرها صاحب الوسائل في الباب ٨ من أبواب كتاب القضاء فراجع (١).

ثمّ إنّ الاستدلال بهذه الأخبار متوقف على ثبوت تواترها لتكون مقطوعة الصدور ، وإلاّ فلا يصحّ الاستدلال بها كما هو ظاهر. ولا ينبغي الشك في أنّها متواترة اجمالاً ، بمعنى العلم بصدور بعضها عن المعصوم عليه‌السلام وتوضيح ذلك أنّ التواتر على أقسام ثلاثة :

الأوّل : التواتر اللفظي ، وهو اتفاق جماعة امتنع اتفاقهم على الكذب عادةً على نقل خبر بلفظه ، كتواتر ألفاظ الكتاب الصادرة عن لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثاني : التواتر المعنوي ، وهو اتفاقهم على نقل مضمون واحد مع الاختلاف في الألفاظ ، سواء كانت دلالة الألفاظ على المضمون بالمطابقة أو بالتضمن أو بالالتزام أو بالاختلاف ، كالأخبار الحاكية لحالات أمير المؤمنين عليه‌السلام في الحروب وقضاياه مع الأبطال ، فانّها متفقة الدلالة على شجاعته عليه‌السلام.

الثالث : التواتر الاجمالي ، وهو ورود عدّة من الروايات التي يعلم بصدور بعضها مع عدم اشتمالها على مضمون واحد.

__________________

(١) منها : ما عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطب الناس في مسجد الخيف فقال : «نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ، الحديث الوسائل ٢٧ : ٨٩ / أبواب صفات القاضي ب ٨ ح ٤٣

٢٢٤

وأنكر المحقق النائيني (١) قدس‌سره التواتر الاجمالي ، بدعوى أنّا لو وضعنا اليد على كل واحد من تلك الأخبار نراه محتملاً للصدق والكذب ، فلا يكون هناك خبر مقطوع الصدور.

وفيه : أنّ احتمال الكذب في كل خبر بخصوصه غير قادح في التواتر الاجمالي ، لأنّ احتمال الصدق والكذب في كل خبر بخصوصه لا ينافي العلم الاجمالي بصدور بعضها ، وإلاّ لكان مانعاً عن التواتر المعنوي واللفظي أيضاً ، إذ كل خبر في نفسه محتمل للصدق والكذب.

وبالجملة : التواتر الاجمالي ممّا لا مجال لانكاره ، فانّ كثرة الأخبار المختلفة ربّما تصل إلى حدّ يقطع بصدور بعضها وإن لم يتميز بعينه ، والوجدان أقوى شاهد وأوضح دليل عليه ، فإنّا نعلم علماً وجدانياً بصدور جملة من الأخبار الموجودة في كتاب الوسائل ولا نحتمل كذب الجميع. وأوضح منه أنّا نعلم بصدق بعض الأخبار المتحققة في هذه البلدة في يوم وليلة ، فضلاً عن الحكايات المسموعة في أيام وليال عديدة.

فتحصّل : أنّ التواتر الاجمالي في هذه الطوائف الأربع من الأخبار غير قابل للانكار ، ومقتضاه الالتزام بحجّية الأخص منها المشتمل على جميع الخصوصيات المذكورة في هذه الأخبار ، فيحكم بحجّية الخبر الواجد لجميع تلك الخصوصيات باعتبار كونه القدر المتيقن من هذه الأخبار الدالة على الحجّية.

وذكر المحقق النائيني (٢) قدس‌سره أنّ الأخص منها هو ما دلّ على حجّية خبر الثقة ، فبناءً على تحقق التواتر الاجمالي تثبت حجّية الخبر الموثوق به.

وفيه : أنّ ظاهر جملة منها اعتبار العدالة كقوله عليه‌السلام في الأخبار

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٩٧

(٢) أجود التقريرات ٣ : ١٩٩

٢٢٥

العلاجية : «خذ بقول أعدلهما» (١) وقوله عليه‌السلام : «عليك بزكريا بن آدم المأمون على الدين والدُّنيا» (٢) وبعضها ظاهر في اعتبار الوثاقة ، كقوله عليه‌السلام : «نعم ، بعد ما قال السائل أفيونس بن عبدالرحمان ثقة نأخذ معالم ديننا عنه» (٣) وبعضها ظاهر في اعتبار كونه إمامياً أيضاً ، كقوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» (٤) فانّ إضافة الثقات إلى ضمير المتكلم وإسنادها إليهم عليهم‌السلام ظاهرة في أنّ المراد منها كون الراوي من أهل الولاية لهم ، وحيث إنّ المراد من الثقة في الأخبار هو المعنى اللغوي لا ما هو المصطلح عليه عند المحدِّثين ، فانّهم يطلقون الثقة على الإمامي العادل ، ومنه إطلاقهم ثقة الاسلام على الكليني قدس‌سره فالنسبة بين العادل والموثوق به هي العموم من وجه ، إذ قد يكون الراوي عادلاً غير موثوق به لكثرة خطئه وسهوه ، وقد يكون موثقاً غير عادل بمعنى أنّه ضابط حافظ متحرز عن الكذب ، إلاّ أنّه فاسق من غير ناحية الكذب كما يوجد كثيراً ، وقد يكون عادلاً موثقاً.

وعليه فالقدر المتيقن منها هو الجامع للعدالة والوثاقة ، فبناءً على التواتر الاجمالي لا يستفاد منها إلاّحجّية الخبر الصحيح الأعلائي.

نعم ، ذكر صاحب الكفاية (٥) قدس‌سره أنّ المتيقن من هذه الأخبار وإن كان هو خصوص الخبر الصحيح ، إلاّ أنّه في جملتها خبر صحيح يدل على حجّية الخبر الموثق ، فتثبت به حجّية خبر الثقة وإن لم يكن عادلاً. وما ذكره متين ، ولعل مراده من الخبر الصحيح الدال على حجّية خبر الثقة قوله عليه‌السلام : «نعم ، بعد ما قال السائل أفيونس بن عبدالرحمان ثقة نأخذ معالم ديننا عنه» (٦) ،

__________________

(١) المستدرك ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢

(٢) ، (٣) ، (٤) ، (٦) تقدّمت في ص ٢٢٣

(٥) كفاية الاصول : ٣٠٢

٢٢٦

فانّ ظاهره كون حجّية خبر الثقة مفروغاً عنها بين الإمام عليه‌السلام والسائل ، وأنّ السؤال ناظر إلى الصغرى فقط.

وممّا استدلّ به على حجّية الخبر : الاجماع وتقريره من وجوه :

الوجه الأوّل : الاجماع المنقول من الشيخ الطوسي قدس‌سره على حجّية خبر الواحد (١).

الوجه الثاني : الاجماع القولي من جميع العلماء ـ عدا السيّد المرتضى وأتباعه (٢) ـ عليها ، وخلافهم غير قادح في حجّية الاجماع.

الوجه الثالث : الاجماع القولي من جميع العلماء حتّى السيّد وأتباعه ، بدعوى أنّهم اختاروا عدم الحجّية لاعتقادهم انفتاح باب العلم بالأحكام الشرعية ، ولو كانوا في زماننا المنسدّ فيه باب العلم لعملوا بخبر الواحد جزماً.

الوجه الرابع : الاجماع العملي من جميع العلماء على العمل بالأخبار التي بأيدينا ، ولم يخالف فيه أحد منهم.

الوجه الخامس : الاجماع العملي من جميع المتشرعة من زمن الصحابة إلى زماننا هذا على ذلك ، فيكون كاشفاً عن رضا المعصوم عليه‌السلام.

والانصاف أنّ شيئاً من هذه الوجوه لا ينهض دليلاً على حجّية الخبر.

أمّا الوجه الأوّل : فالأمر فيه واضح ، لأنّ حجّية الاجماع المنقول عند القائل بها إنّما هي لكونه من أفراد الخبر ، فكيف يصحّ الاستدلال به على حجّية الخبر.

مضافاً إلى ما تقدّم في بحث الاجماع المنقول (٣) من عدم الملازمة بين حجّية

__________________

(١) عدّة الاصول ١ : ٣٣٧

(٢) راجع الذريعة إلى اصول الشيعة ٢ : ٥٢٨ ، السرائر ١ : ٥١

(٣) في ص ١٥٦ ـ ١٥٨

٢٢٧

الخبر وحجّية الاجماع المنقول ، وإمكان التفكيك بينهما ، والأمر كذلك لاختصاص أدلة الحجّية بالخبر الحسّي على ما تقدّم بيانه.

وأمّا الوجه الثاني : ففيه أنّه ليس في المقام إجماع تعبدي ليكون كاشفاً عن رضا المعصوم عليه‌السلام للعلم بأنّ مستند المجمعين هو الآيات والروايات المتقدمة ولا أقل من احتمال ذلك.

وأمّا الوجه الثالث : فيرد عليه ـ مضافاً إلى ما ذكرناه في الوجه الثاني ـ أنّه إجماع تقديري لا نجزم به ، إذ من المحتمل أنّ السيّد وأتباعه ـ على تقدير الالتزام بالانسداد ـ لا يلتزمون بكون الخبر حجّة بالخصوص ، بل يرونه من أفراد الظن المطلق كالمحقق القمي (١) قدس‌سره.

وأمّا الوجه الرابع : ففيه أنّ عمل المجمعين ليس مستنداً إلى حجّية خبر الواحد ، لأنّ عمل جملة منهم وإن كان مبنياً عليها ، إلاّأنّ عمل جملة اخرى منهم مبني على كون ما بأيدينا من الأخبار مقطوع الصدور ، وعمل بعض آخر منهم مبني على كون ما في الكتب الأربعة مقطوع الصدور. وقد ادّعى بعضهم كون الأخبار الموجودة في الكافي مقطوعة الصدور ، فلا يكون هناك إجماع عملي على حجّية خبر الواحد ليكون كاشفاً عن رضا المعصوم عليه‌السلام.

وأمّا الوجه الخامس : ففيه أنّ عمل المتشرعة من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام والتابعين بخبر الثقة وإن كان غير قابل للانكار ، إذ من المقطوع به أنّ جميع المكلفين في عصر النبي والأئمة (عليه وعليهم‌السلام) لم يأخذوا الأحكام من نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام بلا واسطة شخص آخر ، ولا سيّما النساء ، بل لم يتمكنوا من ذلك في جميع أوقات الاحتياج ، ولا

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٤٠

٢٢٨

سيّما أهل البوادي والقرى والبلدان البعيدة ، فانّ كل واحد من المكلفين لايتمكن من الوصول إلى المعصوم عليه‌السلام في كل وقت من أوقات الحاجة إلى السؤال ، بل كانوا يرجعون إلى الثقات يأخذون الأحكام منهم ، وهذا كلّه ظاهر.

إلاّ أنّه لا يكشف عن كون الخبر حجّة تعبدية ، لأنّ عمل المتشرعة بخبر الثقة لم يكن بما هم متشرعة ، بل بما هم عقلاء ، فان سيرة العقلاء قد استقرّت على العمل بخبر الثقة في جميع امورهم ، ولم يردع عنها الشارع ، فانّه لو ردع عن العمل بخبر الثقة لوصل إلينا ، كما وصل منعه عن العمل بالقياس ، مع أنّ العامل بالقياس أقل من العامل بخبر الثقة بكثير ، وقد بلغت الروايات المانعة عن العمل بالقياس إلى خمسمائة رواية تقريباً (١) ، ولم تصل في المنع عن العمل بخبر الثقة رواية واحدة ، فيستكشف من ذلك كشفاً قطعياً أنّ الشارع قد أمضى سيرة العقلاء في العمل بخبر الثقة.

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ العمدة في دليل حجّية الخبر هي سيرة العقلاء الممضاة عند الشارع ، ولا يرد عليها شيء من الاشكال إلاّتوهم أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن هذه السيرة ، وقد أفاد في الكفاية (٢) متناً وهامشاً في دفع هذا التوهم وجوهاً :

الوجه الأوّل : ما ذكره في المتن ، وهو أن كون الآيات رادعة عن السيرة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها ، وإلاّ فلا تشملها ، وعدم كونها مخصصة لها متوقف على كونها رادعة عنها ، فكون الآيات رادعة عن السيرة مستلزم للدور. ثمّ أورد على نفسه بأنّ إثبات حجّية الخبر بالسيرة أيضاً دوري ،

__________________

(١) منها ما روي في الوسائل ٢٧ : ٣٥ / أبواب صفات القاضي ب ٦ والمستدرك ١٧ : ٢٥٢ / أبواب صفات القاضي ب ٦ وبحار الأنوار ٢ : ٢٨٣ / كتاب العلم ب ٣٤

(٢) كفاية الاصول : ٣٠٣ و ٣٠٤

٢٢٩

لأ نّه متوقف على عدم كون الآيات رادعة عنها ، وهو متوقف على كون السيرة مخصصة لها ، وهو متوقف على عدم كون الآيات رادعة عنها. وأجاب عنه : بأنّ كون السيرة مخصصة للآيات غير متوقف على عدم الردع واقعاً بل على عدم ثبوت الردع ، فلا دور في تخصيص الآيات بالسيرة ، بخلاف العكس فانّ كون الآيات رادعة متوقف على عدم كون السيرة مخصصة لها واقعاً.

الوجه الثاني : ما ذكره في الهامش ، وحاصله : أنّه على تقدير الالتزام بعدم صلاحية كل من الآيات والسيرة لرفع اليد به عن الآخر للزوم الدور ، تصل النوبة إلى الأصل العملي ، والمرجع هو استصحاب الحجّية الثابتة قبل نزول الآيات.

الوجه الثالث : ما ذكره في الهامش أيضاً ، وهو أنّ نسبة السيرة إلى الآيات هي نسبة الخاص المتقدم إلى العام المتأخر في أنّ الأمر دائر بين أن يكون الخاص مخصصاً للعام ، وأن يكون العام ناسخاً للخاص ، وقد ذكرنا في مبحث العموم والخصوص أنّ المتعين هو الأوّل ، لأنّ الخاص المتقدم قرينة على المراد من العام ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة بلا مصلحة ملزمة وإن كان قبيحاً ، إلاّ أنّ تقديمه على وقت الحاجة ممّا لا قبح فيه أصلاً. والمقام من صغريات هذه الكبرى ، فلا بدّ من الالتزام بكون السيرة مخصصة للعمومات. هذا ملخص ما ذكره متناً وهامشاً.

والتحقيق : عدم تمامية شيء من الوجوه الثلاثة :

أمّا الوجه الأوّل ففيه :

أوّلاً : أنّه لو كان عدم ثبوت الردع كافياً في صحّة تخصيص الآيات بالسيرة لكان عدم ثبوت التخصيص كافياً في الردع أيضاً ، ولا يظهر وجه لمنع التوقف في أحدهما دون الآخر.

٢٣٠

وثانياً : أنّ التحقيق عكس ما ذكره قدس‌سره لأنّ تخصيص العمومات بالسيرة متوقف على حجّيتها المتوقفة على الامضاء ، فلا يكفي في التخصيص عدم ثبوت الردع على ما أفاده قدس‌سره بل لا بدّ من ثبوت عدم الردع فيكون التخصيص دورياً ، بخلاف الردع ، فانّه غير متوقف على ثبوت عدم التخصيص ، بل يكفيه عدم ثبوت التخصيص ، إذ العمومات حجّة ببناء العقلاء ما لم يثبت خلافها ، وعليه فالمتعين هو الالتزام بكون الآيات رادعة عن السيرة ، لا أنّ السيرة مخصصة للآيات.

وأمّا الوجه الثاني : ففيه أوّلاً : عدم حجّية الاستصحاب في الأحكام الكلّية على ما ذكر في محلّه (١) وثانياً : أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم رادعة عن الاستصحاب أيضاً ، فكل ما يقال في السيرة مع الآيات يجري في الاستصحاب معها أيضاً ، فلا وجه للتمسك بالاستصحاب بعد الالتزام بعدم صحّة كون السيرة مخصصة للآيات. وثالثاً : أنّ الدليل على حجّية الاستصحاب هي أخبار الآحاد وعمدتها صحاح زرارة (٢) ، فكيف يمكن التمسك على حجّية الأخبار بالاستصحاب المتوقف عليها. ورابعاً : أنّ التمسك بالاستصحاب إنّما يصح مع الغض عمّا تقدّم فيما إذا تمكّن الشارع من الردع قبل نزول الآيات ولو بيوم واحد ، فانّه حينئذ يستكشف من عدم الردع إمضاؤه لها ، وتثبت حجّية السيرة قبل نزول الآيات ، فصحّ الرجوع إلى استصحاب الحجّية الثابتة قبل نزول الآيات بعد فرض تساقط كل من السيرة والعمومات. وأمّا إذا لم يتمكن من ذلك كما هو الصحيح ، فانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن متمكناً من الردع عن المحرّمات كشرب الخمر

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٤٢

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١ ، الوسائل ٣ : ٤٦٦ / أبواب النجاسات ب ٣٧ ح ١ ، الوسائل ٨ : ٢١٦ و ٢١٧ / أبواب الخلل ب ١٠ ح ٣

٢٣١

مثلاً ، ولا من الأمر بالواجبات كالصلاة والصوم في صدر الاسلام ، ولذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «قولوا لا إله إلاّالله تفلحوا» (١) فلا مجال للتمسك بالاستصحاب ، إذ لم تحرز حجّية السيرة قبل نزول الآيات كي يتمسك في بقائها بعد نزولها بالاستصحاب. وبهذا ظهر الاشكال في :

الوجه الثالث أيضاً ، فانّ كون المقام من صغريات دوران الأمر بين التخصيص والنسخ متوقف على إحراز كون السيرة حجّة قبل نزول الآيات لتكون قابلة لتخصيص الآيات ، فيدور الأمر بين النسخ والتخصيص ، وإحراز كون السيرة حجّة قبل نزول الآيات متوقف على إحراز كون الشارع متمكناً من الردع قبل نزول الآيات ، وأنّى لنا باثبات ذلك.

والصحيح في مقام الجواب ودفع توهّم كون الآيات رادعة عن السيرة أن يقال :

أوّلاً : أنّا نقطع بعدم الردع في الشريعة المقدّسة عن هذه السيرة ، لبقائها واستمرارها بين المتشرعة وأصحاب الأئمة عليهم‌السلام بعد نزول الآيات ، فانّ عمل الصحابة والتابعين بخبر الثقة غير قابل للانكار ، على ما تقدّم بيانه في تقريب الاستدلال بالسيرة (٢) ، ولو كانت الآيات رادعة عنها لانقطعت السيرة في زمان الأئمة عليهم‌السلام لا محالة.

وثانياً : مع الغض عن ذلك ، أنّ الظاهر من لسان الآيات كونها إرشاداً إلى ما يحكم به العقل من تحصيل المؤمّن من العقاب المحتمل ، والانتهاء إلى ما يعلم به الأمن ، ولذا لا تكون قابلة للتخصيص. وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في

__________________

(١) بحار الأنوار ١٨ : ٢٠٢

(٢) تقدّم في ص ٢٢٩

٢٣٢

مثل قوله تعالى : «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (١) بأن يقال إلاّالظن الفلاني فانّه يغني من الحق. وعليه فلا يكون مفادها حكماً مولوياً ليكون ردعاً عن السيرة.

وإن شئت قلت : إنّ مفاد الآيات هو الارشاد إلى حكم العقل بدفع الضرر المحتمل إن كان اخروياً ، ويكون الخبر بعد قيام السيرة على حجّيته خارجاً عن الآيات بالورود ، كسائر الأمارات المعتبرة ، لعدم احتمال العقاب مع العمل بما هو حجّة ، ولو على تقدير مخالفتها للواقع ، فحال الخبر بعد قيام السيرة على العمل به مع الآيات بعد كونها إرشاداً إلى حكم العقل حال الأمارات مع الاصول العملية العقلية ، فكما أنّها واردة عليها ، كذلك الخبر وارد على الآيات.

وثالثاً : أنّا لو أغمضنا عن ذلك ، وقلنا بأنّ مفاد الآيات حكم مولوي وهو حرمة العمل بغير العلم ، نقول : إنّ السيرة حاكمة على الآيات ، لأنّ العمل بالحجج العقلائية القائمة على العمل بها سيرة العقلاء لا يكون عملاً بغير العلم في نظر العرف والعقلاء ، ولذا لم يتوقف أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم في العمل بالظواهر ، مع أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم بمرأىً منهم ومسمع وهم من أهل اللسان ، وليس ذلك إلاّلأجل أنّهم لا يرون العمل بالظواهر عملاً بغير العلم بمقتضى قيام سيرة العقلاء على العمل بها ، وحال خبر الثقة هي حال الظواهر من حيث قيام السيرة على العمل به ، فكما أنّ السيرة حاكمة على الآيات بالنسبة إلى الظواهر ، كذلك حاكمة عليها بالنسبة إلى خبر الثقة.

فتحصّل ممّا ذكرناه في المقام : أنّ العمدة في حجّية الخبر هي السيرة ، ولا يرد على الاستدلال بها شيء من الاشكال.

__________________

(١) يونس ١٠ : ٣٦

٢٣٣

ولا يخفى أنّ مقتضى السيرة حجّية الصحيحة والحسنة والموثقة ، فانّها قائمة على العمل بهذه الأقسام الثلاثة ، فإذا بلغ أمر المولى إلى عبده بنقل عادل ، أو بنقل إمامي ممدوح لم يظهر فسقه ولا عدالته ، أو بنقل ثقة غير إمامي ، لا يكون العبد معذوراً في مخالفة أمر المولى في نظر العقلاء. نعم ، الخبر الضعيف خارج عن موضوع الحجّية ، لأنّ العقلاء لا يعملون به يقيناً ، مع أنّ الشك في قيام السيرة على العمل به كافٍ في الحكم بعدم حجّيته.

وأمّا توهّم أنّ إطلاق آية النفر يشمل الخبر الضعيف أيضاً ، حيث إنّ مفادها وجوب الحذر عند الانذار بلا تقييد بكون المنذر عادلاً أو ثقة ، فمدفوع بأنّ الآية الشريفة منزّلة على المتعارف بين العرف والعقلاء ، وهم لا يعملون بخبر الفاسق الكاذب. هذا على تقدير كون الآية واردة في مقام جعل حجّية الخبر.

وأمّا على تقدير كونها كاشفة عن حجّية الخبر قبل نزولها ، وأنّ تفريع وجوب الحذر عند الانذار إنّما هو من باب التطبيق كما تقدّمت الاشارة إليه حين الاستدلال بالآية (١) فالأمر واضح ، إذ ليس مفادها حينئذ جعل الحجّية ليتمسك باطلاقها ، بل مفادها كون حجّية الخبر مفروغاً عنها قبل نزول الآية بمقتضى السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع ، فالمتبع في توسعة موضوع الحجّية وضيقه هي السيرة ، وقد تقدّم أنّ السيرة لم تقم على العمل بخبر الضعيف.

نعم ، الخبر الموجب للوثوق والاطمئنان الشخصي يجب العمل به وإن كان ضعيفاً في نفسه ، وليس ذلك لأجل حجّية الخبر الضعيف ، بل لأنّ الاطمئنان المعبّر عنه بالعلم العادي حجّة وإن كان حاصلاً ممّا لا يكون حجّة في نفسه كخبر الفاسق أو خبر الصبي مثلاً.

__________________

(١) تقدّم في ص ٢١٦

٢٣٤

بقي في المقام أمران لا بدّ من التعرّض لهما :

الأمر الأوّل : أنّ الخبر إن كان ضعيفاً في نفسه هل ينجبر ضعفه بعمل المشهور أم لا؟ المشهور بين المتأخرين هو ذلك. وذكر المحقق النائيني قدس‌سره في وجه ذلك : أنّ الخبر الضعيف المنجبر بعمل المشهور حجّة بمقتضى منطوق آية النبأ ، إذ مفاده حجّية خبر الفاسق مع التبين ، وعمل المشهور من التبين (١). ووافقناه على ذلك في الدورة السابقة ، ولكن التحقيق عدم تمامية الوجه المذكور ، إذ التبين عبارة عن الاستيضاح واستكشاف صدق الخبر ، وهو تارةً يكون بالوجدان ، كما إذا عثرنا بعد الفحص والنظر على قرينة داخلية أو خارجية موجبة للعلم أو الاطمئنان بصدق الخبر ، وهذا ممّا لا كلام في حجّيته على ما تقدّمت الاشارة إليه. واخرى : يكون بالتعبد ، كما إذا دلّ دليل معتبر على صدقه فيؤخذ به أيضاً فانّه تبين تعبدي ، وحيث إنّ فتوى المشهور لا تكون حجّة على ما تقدّم الكلام فيها (٢) ، فليس هناك تبين وجداني ولا تبين تعبدي يوجب حجّية خبر الفاسق.

وإن شئت قلت : إنّ الخبر الضعيف لا يكون حجّة في نفسه على الفرض ، وكذلك فتوى المشهور غير حجّة على الفرض أيضاً ، وانضمام غير الحجّة إلى غير الحجّة لا يوجب الحجّية ، فانّ انضمام العدم إلى العدم لا ينتج إلاّالعدم.

ودعوى أنّ عمل المشهور بخبر ضعيف توثيق عملي للمخبر به فيثبت به كونه ثقة ، فيدخل في موضوع الحجّية ، مدفوعة بأنّ العمل مجمل لا يعلم وجهه ، فيحتمل أن يكون عملهم به لما ظهر لهم من صدق الخبر ومطابقته للواقع بحسب

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٩٠ و ١٩١

(٢) في ص ١٦٧ ـ ١٧٠

٢٣٥

نظرهم واجتهادهم ، لا لكون المخبر ثقة عندهم ، فالعمل بخبر ضعيف لا يدل على توثيق المخبر به ، ولا سيّما أنّهم لم يعملوا بخبر آخر لنفس هذا المخبر.

هذا كلّه من حيث الكبرى وأنّ عمل المشهور موجب لانجبار ضعف الخبر أم لا. وأمّا الصغرى وهي استناد المشهور إلى الخبر الضعيف في مقام العمل والفتوى ، فاثباتها أشكل من إثبات الكبرى ، لأنّ مراد القائلين بالانجبار هو الانجبار بعمل قدماء الأصحاب باعتبار قرب عهدهم بزمان المعصوم عليه‌السلام والقدماء لم يتعرّضوا للاستدلال في كتبهم ليعلم استنادهم إلى الخبر الضعيف ، وإنّما المذكور في كتبهم مجرد الفتوى ، والمتعرض للاستدلال إنّما هو الشيخ الطوسي قدس‌سره في المبسوط ، وتبعه من تأخر عنه في ذلك دون من تقدّمه من الأصحاب ، فمن أين يستكشف عمل قدماء الأصحاب بخبر ضعيف واستنادهم إليه ، غاية الأمر أنّا نجد فتوى منهم مطابقة لخبر ضعيف ، ومجرّد المطابقة لا يدل على أنّهم استندوا في هذه الفتوى إلى هذا الخبر ، إذ يحتمل كون الدليل عندهم غيره.

فتحصّل : أنّ القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور غير تام صغرىً وكبرى.

الأمر الثاني : أنّ الخبر إن كان صحيحاً أو موثقاً في نفسه هل يكون إعراض المشهور عنه موجباً لوهنه وسقوطه عن الحجّية أم لا؟ المشهور بينهم هو ذلك ، بل صرّحوا بأ نّه كلّما ازداد الخبر صحّة ازداد ضعفاً ووهناً باعراض المشهور عنه.

والتحقيق عدم تمامية ذلك أيضاً ، إذ بعد كون الخبر صحيحاً أو موثقاً مورداً لقيام السيرة ومشمولاً لاطلاق الأدلة اللفظية على ما تقدّم ذكرها ، لا وجه لرفع اليد عنه لاعراض المشهور عنه. نعم ، إذا تسالم جميع الفقهاء على حكم

٢٣٦

مخالف للخبر الصحيح أو الموثق في نفسه ، يحصل لنا العلم أو الاطمئنان بأنّ هذا الخبر لم يصدر من المعصوم عليه‌السلام أو صدر عن تقيّة فيسقط الخبر المذكور عن الحجّية لا محالة ، كما تقدّمت الاشارة إليه (١) ، ولكنّه خارج عن محل الكلام. وأمّا إذا اختلف العلماء على قولين وذهب المشهور منهم إلى ما يخالف الخبر الصحيح أو الموثق وأعرضوا عنه ، واختار غير المشهور منهم ما هو مطابق للخبر المذكور فلا دليل لرفع اليد عن الخبر الذي يكون حجّة في نفسه لمجرد إعراض المشهور عنه.

وممّا استدلّ به على حجّية الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المثبتة للتكليف حكم العقل وتقريبه بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّا نعلم إجمالاً بصدور جملة من تلك الأخبار عن المعصوم ، ولا نحتمل أن يكون جميعها مجعولاً ، ولا سيّما بعد ملاحظة جهد العلماء في تهذيبها وإسقاط الضعاف منها ، ولذا ادّعى صاحب الحدائق العلم بصدور جميع ما في الكتب الأربعة (٢). ومقتضى هذا العلم الاجمالي هو الاحتياط والأخذ بجميع هذه الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة بحكم العقل.

وأورد عليه الشيخ (٣) قدس‌سره بأنّ هذا العلم الاجمالي لو كان منجّزاً لزم العمل على طبق جميع الأمارات ، ولو كانت غير معتبرة كالشهرة الفتوائية والاجماعات المنقولة ، للعلم الاجمالي بمطابقة بعضها للواقع ، فلا يفترق الحال بين الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة والأخبار الموجودة في غيرها من الكتب ،

__________________

(١) [لعلّه قدس‌سره يشير إلى ما ذكره في ص ٢٣٤ من حجّية الاطمئنان فلاحظ]

(٢) الحدائق ١ : ١٤ / المقدّمة الثانية

(٣) فرائد الاصول ١ : ٢١٧ و ٢١٨

٢٣٧

ولا بين الأخبار وغيرها من الأمارات المعتبرة أو غير المعتبرة من حيث تنجيز العلم الاجمالي ، فيجب الأخذ بالجميع ، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به ، كما هو ظاهر.

وأجاب عنه صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ العلم الاجمالي بثبوت التكاليف في موارد قيام الأمارات قد انحلّ بالعلم الاجمالي بصدور جملة من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة عن المعصوم عليه‌السلام (١) وتوضيح ذلك : أنّ لنا ثلاثة علوم إجمالية :

الأوّل : العلم الاجمالي الكبير وأطرافه جميع الشبهات ، ومنشؤه هو العلم بالشرع الأقدس وتأسيس الشريعة المقدّسة ، إذ لا معنى للشرع الخالي عن التكليف رأساً.

الثاني : العلم الاجمالي المتوسط وأطرافه موارد قيام الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة ، ومنشؤه كثرة الأمارات بحيث لا نحتمل مخالفة جميعها للواقع بل نعلم إجمالاً بمطابقة بعضها له.

الثالث : العلم الاجمالي الصغير وأطرافه خصوص الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ، فانّا نعلم إجمالاً بصدور جملة من هذه الأخبار عن المعصوم عليه‌السلام.

وحيث إنّ العلم الاجمالي الأوّل ينحل بالعلم الاجمالي الثاني ، وينحل العلم الاجمالي الثاني بالعلم الاجمالي الثالث ، فلا يجب الاحتياط إلاّفي أطراف العلم الاجمالي الثالث ، ونتيجة ذلك هو وجوب العمل على طبق الأخبار المثبتة للتكليف الموجودة في الكتب المعتبرة ، لا الاحتياط في جميع الشبهات كما هو مقتضى العلم الاجمالي الأوّل لولا انحلاله ، ولا الاحتياط في جميع موارد

__________________

(١) كفاية الاصول : ٣٠٤ و ٣٠٥

٢٣٨

الأمارات المعتبرة وغير المعتبرة كما هو مقتضى العلم الاجمالي الثاني على تقدير عدم انحلاله. والميزان في الانحلال أن لايكون المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير أقل عدداً من المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير ، بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الاجمالي الصغير بالمقدار المتيقن لم يبق لنا علم إجمالي في بقية الأطراف ، ولو انضمّ إليها غيرها من أطراف العلم الاجمالي الكبير.

مثلاً إذا علمنا إجمالاً بوجود خمس شياه مغصوبة في قطيع من الغنم ، وعلمنا أيضاً بوجود خمس شياه مغصوبة في جملة البيض من هذا القطيع ، فلا محالة ينحل العلم الاجمالي الأوّل بالعلم الاجمالي الثاني ، فإنّا لو أفرزنا خمس شياه بيض لم يبق لنا علم إجمالي بمغصوبية البقية ، لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير على المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الصغير ، بخلاف ما لو علمنا إجمالاً بوجود ثلاث شياه محرّمة في جملة البيض من هذا القطيع ، فانّ العلم الاجمالي الأوّل لا ينحل بالعلم الاجمالي الثاني ، إذ لو أفرزنا ثلاث شياه بيض بقي علمنا الاجمالي بمغصوبية البعض الباقي بحاله ، لأنّ انطباق الخمس على الثلاث غير معقول ، وعليه فلاينبغي الشك في انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي المتوسط ، إذ المعلوم بالاجمال في الأوّل لا يزيد عدداً على المعلوم بالاجمال في الثاني ، لأنّ منشأ العلم الاجمالي الكبير هو العلم باستلزام الشرع لوجود أحكام وتكاليف ، ويكفيه المقدار المعلوم بالاجمال في موارد قيام الامارات.

وكذا العلم الاجمالي الثاني ينحل بالعلم الاجمالي الثالث ، لأنّا لو أفرزنا مقداراً من أطراف العلم الثالث ـ أي الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة ـ من كل باب من أبواب الفقه ، بحيث يكون المجموع بمقدار المعلوم بالاجمال في العلم الثالث ، لم يبق لنا علم إجمالي بوجود التكاليف في غيره ولو مع ضم سائر الأمارات ، بل وجود التكاليف في غيره مجرّد احتمال فيستكشف بذلك أنّ المعلوم

٢٣٩

بالاجمال في العلم الثاني لا يزيد عدداً على المعلوم بالاجمال في العلم الثالث ، فينحل العلم الثاني بالعلم الثالث لا محالة.

والمناقشة في الانحلال بأنّ لنا علماً إجمالياً بمطابقة بعض الأمارات غير المعتبرة للواقع أيضاً ، كالروايات الموجودة في كتب العامّة مثلاً ، فانّا لا نحتمل كذب جميعها وكيف ينحل هذا العلم الاجمالي بالعلم الاجمالي بصدور جملة من الروايات الموجودة في الكتب المعتبرة ، إذ المعلوم بالاجمال في العلم الأوّل غير محتمل الانطباق على المعلوم بالاجمال في الثاني واهية لأنّ جميع الأمارات غير المعتبرة لا يكون مخالفاً لما في الكتب المعتبرة من الروايات ، بل عدّة منها موافقة له ، فافراز مقدار من الأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة مستلزم لافراز ما يطابقه من الأمارات غير المعتبرة ، والعمل به يستلزم العمل به بل عينه ، وليس لنا علم إجمالي بمطابقة الأمارات غير المعتبرة للواقع فيما لم يكن مطابقاً للأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة.

فتحصّل ممّا ذكرناه في المقام : أنّ الصحيح ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره وأنّ مقتضى العلم الاجمالي وجوب الأخذ بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة المثبتة للتكليف.

بقي الكلام في أنّ وجوب العمل بالأخبار الموجودة في الكتب المعتبرة من جهة العلم الاجمالي بصدور بعضها هل يترتب عليه ما يترتب على حجّيتها من تقدّمها على الاصول العملية واللفظية أم لا؟ وتحقيق ذلك يقتضي التكلم في مقامين : المقام الأوّل : في تقدّمها على الاصول العملية. المقام الثاني : في تقدّمها على الاصول اللفظية كأصالة العموم والاطلاق.

أمّا المقام الأوّل : فتحقيق القول فيه أنّ الاصول قد تكون من الاصول المحرزة الناظرة إلى الواقع ، بمعنى أنّ المستفاد من أدلتها البناء العملي على أنّ

٢٤٠