موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

جواز الاعتماد على خبر العدل الواحد فيه ، فضلاً عن خبر الثقة غير العادل ، كما في موارد الترافع ، وفي الاخبار عن مثل الارتداد يستكشف منه أنّ الشارع لم يعتبر خبر العدل الواحد فيه ظهوراً ، فيلزم تقييد المفهوم الدال على حجّية خبر العادل على الاطلاق بما إذا كان متعدداً ، كما ذكره الشيخ قدس‌سره.

فتحصّل : أنّ عدم صحّة الاعتماد على خبر الفاسق الموثوق به في مورد الآية ـ وهو الاخبار عن الارتداد ـ إنّما هو لدليل دلّ على اعتبار البيّنة الشرعية في مثله ، فيستكشف منه أنّ الشارع لم يعتبره ظهوراً ، فليس فيه خروج عن المنطوق ، بل مطابق للمنطوق ، وكذا عدم صحّة الاعتماد في المورد على خبر العدل الواحد إنّما هو لما دلّ على اعتبار البيّنة الشرعية ، فيكون تقييداً للمفهوم بالدليل الخارج لا رفع اليد عن المفهوم ، فلا يكون هناك خروج المورد عن المنطوق ولا عن المفهوم.

ثمّ إنّه قد استشكل على حجّية خبر الواحد باشكالين لا اختصاص لهما بالاستدلال بآية النبأ ، بل يجريان على تقدير الاستدلال بغيرها أيضاً من الأدلة التي اقيمت على حجّية خبر الواحد ، ونذكرهما هنا استغناءً عن ذكرهما عند التعرض لباقي الأدلة :

الاشكال الأوّل : أنّه لو كان خبر الواحد حجّة لزم منه عدم حجّيته ، إذ من جملة الخبر نقل السيّد المرتضى قدس‌سره الاجماع على عدم حجّية الخبر (١) ، ويكون حجّة على الفرض ولزم من حجّيته عدم حجّية الخبر. وهذا الاشكال مردود بوجوه :

الأوّل : أنّ خبر السيّد حدسي ، وقد تقدّم في بحث الاجماع المنقول أنّه لا

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ ، ٣ : ٣٠٩

٢٠١

ملازمة بين حجّية الخبر الحسّي والخبر الحدسي (١).

الثاني : أنّ نقله معارض بنقل الشيخ قدس‌سره الاجماع على حجّية الخبر (٢) ، فيسقطان ، لأنّ أدلة الحجّية غير شاملة للمتعارضين ، لعدم إمكان التعبد بالمتناقضين.

الثالث : أنّه يستحيل شمول أدلة الحجّية لخبر السيّد قدس‌سره إذ يلزم من وجوده عدمه ، لأنّه لو كان خبر السيّد حجّة لزم منه عدم حجّية كل خبر غير علمي ، وبما أنّ خبر السيّد قدس‌سره بنفسه غير علمي ، لزم كونه غير حجّة ، فيلزم من حجّية خبر السيّد عدم حجّيته ، وما لزم من وجوده عدمه محال ، بداهة استحالة اجتماع النقيضين.

الرابع : أنّه مع الاغماض عن جميع ما تقدّم ، دليل الحجّية غير شامل لخبر السيّد قدس‌سره قطعاً ، لدوران الأمر بين دخوله في أدلة الحجّية وخروج ما عداه ، وبين العكس ، والثاني هو المتعيّن ، لأنّ الأوّل يستلزم أبشع أنواع تخصيص الأكثر المستهجن ، وهو التخصيص إلى الواحد ، ومن الواضح أنّه لا يحتمل أن يكون المراد من مفهوم آية النبأ وآية السؤال وآية النفر وغيرها من أدلة حجّية الخبر خصوص خبر السيّد قدس‌سره كيف وهو مستلزم لبشاعة اخرى غير تخصيص الأكثر المستهجن ، وهي بيان أحد النقيضين بذكر النقيض الآخر ، أي بيان عدم حجّية الخبر بعنوان حجّية الخبر ، وفيه من القبح ما لا يخفى.

ودعوى أنّ الأمر دائر بين شمول أدلة الحجّية لخبر السيّد قدس‌سره والأخبار المتحققة قبله ، وبين شمولها لجميع الأخبار ما عدا خبر السيّد قدس‌سره باعتبار أنّ أدلة الحجّية تشمل خبر السيّد قدس‌سره من حين تحققه ،

__________________

(١) تقدّم في ص ١٥٦ و ١٥٧

(٢) عدّة الاصول ١ : ٣٣٧

٢٠٢

وشمولها له من ذلك الحين إنّما يمنع من شمولها للأخبار المتحققة بعده لا الأخبار المتحققة قبله ، فانّها كانت مشمولة لأدلة الحجّية في زمان لم يتحقق خبر السيّد قدس‌سره فيه ، فهو غير مانع عن شمولها لها ، فلا يلزم من دخول خبر السيّد قدس‌سره في أدلة الحجّية تخصيص الأكثر المستهجن.

مدفوعة أوّلاً : بأنّ المحكي بخبر السيّد قدس‌سره عدم حجّية طبيعي خبر الواحد في الشريعة المقدّسة ، لا خصوص الأخبار المتأخرة ، فنفس خبر السيّد قدس‌سره وإن كان متأخراً عن الأخبار المتحققة قبله ، إلاّأنّ الذي يخبر به السيّد قدس‌سره هو عدم حجّية الخبر في الشريعة مطلقاً ، لا خصوص الأخبار المتأخرة ، فلو كان خبر السيّد قدس‌سره مشمولاً لأدلة الحجّية لزم منه عدم حجّية غيره من الأخبار مطلقاً ، متقدمة كانت أو متأخرة ، وهذا هو التخصيص المستهجن. ولا يحتمل أن يكون مفاد خبر السيّد قدس‌سره عدم حجيّة الخبر من حين صدوره لا الأخبار الصادرة قبله ، وإلاّ كان نسخاً ، فلا يكون حجّة بلا خلاف وإشكال ، إذ من المعلوم عدم ثبوت النسخ بخبر الواحد.

وثانياً : بأ نّا نقطع بعدم الفرق بين الأخبار المتقدمة والمتأخرة ، وأنّ ملاك الحجّية في الأخبار المتقدمة على خبر السيّد قدس‌سره بعينه موجود في الأخبار المتأخرة عنه ، فالتفصيل بين الأخبار المتقدمة والمتأخرة فاسد قطعاً ، فإذن يدور الأمر بين أن يكون خبر السيّد قدس‌سره مشمولاً لأدلة الحجّية دون غيره ، وأن يكون غيره حجّة دونه ، ولا خفاء في أنّ الأوّل من التخصيص المستهجن ، فتعيّن الثاني.

ثمّ إنّه قد استشكل بعض الأعاظم (١) على شمول أدلة الحجّية لخبر السيّد

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ١١٨

٢٠٣

(قدس‌سره) بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ الموضوع في أدلة الحجّية هو الخبر الذي شكّ في كونه مطابقاً للواقع أو غير مطابق له ، إذ لا معنى لحجّية الخبر مع العلم بكونه مطابقاً للواقع أو مع العلم بكونه غير مطابق له ، وعليه فكل خبر كان مفاده حجّية الخبر كخبر الشيخ قدس‌سره أو عدم حجّية الخبر كخبر السيّد قدس‌سره لا يكون مشمولاً لأدلة الحجّية ، إذ لازم كونه مشمولاً لها أن يكون مشكوك المطابقة للواقع ، وحيث إنّ مفاده نفس حجّية الخبر أو عدم حجّيته ، لزم فرض الشك في الحجّية في رتبة سابقة على شمول أدلة الحجّية ، ومن الواضح أنّ الشك في شيء في رتبة متأخرة عن ذلك الشيء ، ولذا نقول إنّ الحكم الظاهري متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين ، إذ الموضوع للحكم الظاهري هو الشك في الحكم الواقعي ، فالحكم الظاهري متأخر عن الشك في الحكم الواقعي تأخر الحكم عن موضوعه ، والشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي تأخر العارض عن معروضه ، إذ لو لم يكن في الواقع شيء لم يمكن الشك في تعيينه ، فيلزم تأخر الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي بمرتبتين.

وكذا في المقام كان الشك في الحجّية متأخراً عن الحجية تأخر العارض عن المعروض ، وحيث إنّ الشك في الحجّية سابق رتبةً على شمول أدلة الحجّية ، لما تقدّم من أنّ الموضوع في أدلة الحجّية هو الخبر المشكوك في كونه مطابقاً للواقع ، فيلزم أن تكون الحجّية في رتبة سابقة على شمول أدلة الحجّية ، والمفروض أنّ الحجّية مستفادة منها ، فيلزم كون الحجّية متقدمة ومتأخرة ، وهو محال.

وبعبارة اخرى : شمول إطلاق أدلة الحجّية لاخبار السيّد قدس‌سره بعدم حجّية الخبر أو لاخبار الشيخ قدس‌سره بحجّيته يستلزم شمول الاطلاق لمرتبة الشك في مضمون نفسها ، إذ التعبد بالحجّية لاخبار الشيخ بها أو بعدم

٢٠٤

الحجّية لاخبار السيّد به إنّما هو في ظرف الشك في الحجّية الذي هو عين الشك في مضمون أدلة الحجّية ، ومن المعلوم استحالة شمول إطلاق دليلٍ لمرتبة الشك في مضمون نفس هذا الدليل. وإن شئت قلت : إنّه يلزم التعبّد بالحجّية مع التحفّظ بالشك فيها أو يلزم التعبد بشمول إطلاق أدلة الحجّية مع التحفظ بالشك في مضمونها ، وهو واضح البطلان. هذا ملخّص ما ذكره من الاشكال الأوّل بتوضيح منّا.

وفيه أوّلاً : النقض بما إذا أخبر كاذب بعدم حرمة الكذب في الشريعة ، فإنّه لا إشكال في شمول أدلة حرمة الكذب لهذا الخبر ، مع أنّ المحذور المذكور ـ على تقدير تماميته ـ يجري فيه أيضاً ، فيقال إنّ شمول إطلاق أدلة حرمة الكذب لهذا الخبر الذي مفاده عدم حرمة الكذب في الشريعة متوقف على كون الخبر المذكور كاذباً في رتبة سابقة على أدلة حرمة الكذب ، وكذبه عبارة عن حرمة الكذب في الشريعة ، إذ مفاده عدم حرمة الكذب ، والمفروض أنّ حرمة الكذب مستفادة من نفس هذه الأدلة.

وثانياً : الحل بأنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود وإلغائها ، لا الأخذ بجميع القيود ، فانّ مفاد إطلاق قولنا : الخمر حرام ، أنّ الخمر بلا لحاظ كونه أحمر أو أسود وغيرهما من الخصوصيات حرام ، لا أنّ الخمر بقيد كونه أحمر وبقيد كونه أسود حرام ، وهكذا بالنسبة إلى سائر ما يتصور له من الخصوصيات ، فلا يلزم في شمول إطلاق أدلة الحجّية لخبر السيّد قدس‌سره أو لخبر الشيخ قدس‌سره لحاظ ما فيهما من الخصوصية ، كي يلزم المحذور المذكور ، فلا مانع من شمولها لهما من هذه الجهة.

الوجه الثاني من الاشكال : أنّ المقام من صغريات دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، إذ على تقدير شمول أدلة الحجّية لما سوى خبر السيّد قدس‌سره من الأخبار يكون خبر السيّد خارجاً موضوعاً ، لأنّا نقطع حينئذ

٢٠٥

بعدم مطابقة خبر السيّد قدس‌سره للواقع ، باعتبار أنّ شمولها لغير خبر السيّد قدس‌سره من الأخبار ملازم لعدم كون خبر السيّد قدس‌سره مطابقاً للواقع ، فيكون خارجاً عن أدلة الحجّية من باب التخصص ، لما ذكرناه من أنّ الموضوع في أدلة الحجّية هو الخبر المشكوك مطابقته للواقع. وهذا بخلاف شمول إطلاق أدلة الحجّية لخبر السيّد قدس‌سره فانّه لا يوجب القطع بعدم مطابقة غيره من الأخبار للواقع ، إذ ليس مفادها حجّية الخبر كي يلزم من شمول أدلة الحجّية لخبر السيّد قدس‌سره القطع بعدم مطابقتها للواقع ، بل مفادها امور مختلفة من وجوب شيء وحرمة شيء آخر ، وجزئية شيء للصلاة مثلاً وشرطية شيء آخر لها. وهكذا ، ولا ريب في وجود الشك في هذه الامور ولو مع القطع بحجّية خبر السيّد قدس‌سره ، فخروجها عن أدلة الحجّية يكون من باب التخصيص لا محالة ، وإذا دار الأمر بين التخصيص والتخصص تعيّن الالتزام بالثاني.

وهذا الوجه أيضاً غير تام ، لأنّ تقديم التخصص على التخصيص ـ عند دوران الأمر بينهما ـ إنّما هو في خصوص باب المعارضة بين الدليلين ، سواء كان التنافي بين مدلوليهما بالذات ، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على عدم وجوبه ، أو بالعرض كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة والآخر على وجوب صلاة الظهر ، فإنّه وإن لم يكن بينهما تناف بالذات ، لامكان وجوب صلاة الجمعة والظهر معاً ، إلاّ أنّا نعلم إجمالاً من الخارج بعدم وجوب صلاتين ، فلأجل هذا العلم الاجمالي يحصل التنافي والتكاذب بينهما بالعرض.

وبالجملة : إذا وقع التعارض بين دليلين أو أصلين ، وكان الأخذ بأحدهما موجباً لخروج الآخر عن دليل الحجّية من باب التخصص ، والأخذ بالآخر مستلزماً لخروج الأوّل عنه بالتخصيص ، كان المتعيّن هو الأخذ بالأوّل ، والالتزام

٢٠٦

بالتخصص ، عملاً بأصالة العموم أو الاطلاق ، كما في التعارض بين الأصل السببي والأصل المسببي ، فانّ جريان الأصل السببي يرفع الشك عن المسبب فيكون خارجاً عن أدلة الاصول من باب التخصص ، بخلاف جريان الأصل المسببي فانّه لايرفع الشك عن السبب ، فيكون مورده خارجاً عن أدلة الاصول من باب التخصيص لا محالة ، فإذا شككنا في طهارة الثوب المتنجس المغسول بماء مستصحب الطهارة ، كان جريان استصحاب الطهارة في الماء موجباً لرفع الشك عن نجاسة الثوب بالتعبد الشرعي ، فيخرج عن أدلة الاستصحاب كقوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشك» (١) من باب التخصص ، بخلاف جريان استصحاب النجاسة في الثوب ، فانّه لا يرفع الشك عن طهارة الماء ، فيكون خروجه عن أدلة الاستصحاب من باب التخصيص. وكذا الحال في سائر موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصص عند تعارض الأدلة الاجتهادية أو الاصول العملية.

وهذا بخلاف المقام ، فانّه لا تنافي بين خبر السيّد قدس‌سره وغيره من الأخبار بما لهما من المدلول ، لا بالذات كما هو ظاهر ، لعدم التنافي بين عدم حجّية غير خبر السيّد من الأخبار وبين وجوب شيء وحرمة شيء آخر وغيرهما ممّا هو مفاد الأخبار ، ولا بالعرض لعدم علم إجمالي لنا بعدم مطابقة أحدهما للواقع ، إذ يمكن أن لا تكون الاخبار حجّة ومع ذلك كان مفادها من الوجوب والحرمة وغيرهما ثابتاً في الشريعة المقدّسة ، فلا تنافي بين خبر السيّد قدس‌سره وغيره من الأخبار من حيث المدلول ، لا بالذات ولا بالعرض ، إنّما التنافي بينهما من حيث شمول دليل الحجّية لهما ، لأنّ مفاد خبر السيّد عدم حجّية غيره من الأخبار ، فلا يمكن الالتزام بحجّيته وحجّية غيره ، وفي مثله لا

__________________

(١) الوسائل ١ : ٢٤٥ / أبواب نواقض الوضوء ب ١ ح ١

٢٠٧

وجه لتقديم التخصص على التخصيص ، بل المتعيّن هو العكس ، والوجه في ذلك أنّ مرجع تقديم التخصص على التخصيص إلى التمسك بأصالة العموم أو الاطلاق ، كما مرّت الاشارة إليه. وفي المقام لا يمكن التمسك بأصالة العموم ، لأنّ خبر السيّد الدال على عدم حجّية الاخبار يكون قرينةً عرفية على التخصيص.

وبعبارة اخرى : كان خبر السيّد شارحاً للمراد من العموم ، فيكون حاكماً على أصالة العموم أو الاطلاق حكومة القرينة على ذيها ، فلا يبقى شك في التخصيص كي يتمسك بأصالة الاطلاق. ونظير المقام ما إذا وردت رواية دالّة على وجوب شيء مثلاً ، ووردت رواية اخرى دالة على عدم حجّية الرواية الاولى ، فانّه لا ينبغي الاشكال في الأخذ بالرواية الثانية الدالة على عدم حجّية الرواية الاولى ، وإن لزم منه التخصيص في أدلة حجّية الخبر ، ولا يؤخذ بالرواية الاولى وإن كان الالتزام بدخولها تحت أدلة الحجّية يوجب القطع بعدم مطابقة الرواية الثانية للواقع ، فتخرج عن أدلة الحجّية بالتخصص ، وذلك لأنّ الرواية الثانية الدالة على عدم حجّية الرواية الاولى شارحة لأدلة الحجّية ، وقرينة عرفية على المراد منها ، فهي حاكمة على أصالة العموم أو الاطلاق في أدلة الحجّية.

والمقام من هذا القبيل بعينه فلاحظ وتأمل.

الاشكال الثاني على حجّية خبر الواحد الذي لا اختصاص له بالاستدلال بآية النبأ ، بل يجري على الاستدلال بجميع الأدلة التي اقيمت على حجّية الخبر : هو ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) وهو مختص بالأخبار الحاكية لقول الإمام عليه‌السلام بالواسطة ، ويقرّر بوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ فعلية كل حكم متوقفة على فعلية موضوعه ، فلا بدّ من إحراز الموضوع ليحرز فعلية الحكم ، وفي المقام الخبر المحرز لنا بالوجدان هو

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٧٠ ـ ١٧٢

٢٠٨

خبر الكليني قدس‌سره أو الشيخ قدس‌سره أو غيرهما ممّن هو في آخر سلسلة الرواة فيحكم بحجّيته بمقتضى أدلة حجّية الخبر. وأمّا خبر من يروي عنه الكليني قدس‌سره وخبر من تقدّمه من الرواة إلى أن ينتهي إلى المعصوم عليه‌السلام ، فهو غير محرز لنا بالوجدان بل يحرز بالحكم بحجّية خبر الكليني قدس‌سره فهو متأخر عن الحكم بالحجّية ، فكيف يحكم عليه بهذا الحكم ، فانّه من تأخر الموضوع عن حكمه. وبعبارة اخرى : إنّ موضوع كل حكم متقدم عليه رتبة ، لاستحالة فعلية الحكم بلا فعلية موضوعه فيستحيل أن يكون حكم موجباً لاحراز موضوعه ، فإذا فرض أنّ حكماً أوجب إحراز موضوع امتنع ثبوت ذلك الحكم له ، ففي المقام يحرز خبر من تقدّم على الكليني قدس‌سره بحجّية خبر الكليني ، فيمتنع أن يحكم عليه بالحجّية ، وإلاّ لزم تأخر الموضوع عن الحكم.

ويمكن الجواب عن هذا الاشكال أوّلاً : بالنقض بالاقرار بالاقرار ، فانّه يحكم بنفوذ إقراره الفعلي بمقتضى قاعدة الاقرار ، ويثبت به إقراره الأوّل ثمّ يحكم بمقتضاه ، وبالبيّنة على البيّنة ، فانّه يحكم بحجّيتها بمقتضى أدلة حجّية البيّنة ، وبها تثبت البيّنة المشهود بها ثمّ يحكم بحجّيتها.

وثانياً : بالحل ، وهو أنّه ليس هنا حكم شخصي لموضوعات متعددة كان إحراز بعضها مستنداً إلى ثبوت ذلك الحكم لبعض آخر منها حتّى يتوجه الاشكال المذكور ، فانّ حجّية الخبر مجعولة بنحو القضيّة الحقيقية ، كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية ، وهي منحلة إلى أحكام متعددة حسب تعدد الموضوع ، على ما هو الشأن في القضايا الحقيقية ، فلا محذور في أن يكون ثبوت الحجّية لخبر الكليني قدس‌سره موجباً لاحراز خبر من يروي عنه الكليني قدس‌سره فيترتب عليه فرد آخر من الحجّية ، لا عين الحجّية الثابتة لخبر

٢٠٩

الكليني قدس‌سره التي بها احرز هذا الخبر ، وهكذا الحال بالنسبة إلى آخر سلسلة الرواة ، وكذا الحال في الاقرار بالاقرار والبيّنة على البيّنة ، ولا حاجة إلى الاعادة.

الوجه الثاني : أنّ التعبد بحجّية الخبر يتوقف على أن يكون المخبر به بنفسه حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي مع قطع النظر عن الحجّية ، ليصحّ التعبد بها بلحاظه ، فانّ التعبد بحجّية الخبر ـ فيما لم يكن المخبر به حكماً شرعياً ولا ذا أثر شرعي ـ لغو محض ، وعليه فدليل الحجّية لا يشمل مثل إخبار الشيخ عن خبر المفيد ، لأنّ المخبر به وهو خبر المفيد ليس حكماً شرعياً ولا ذا أثر شرعي ، مع قطع النظر عن دليل الحجّية ، وهذا الاشكال جارٍ في إخبار جميع سلسلة الرواة إلاّ الأخير الذي ينقل عن المعصوم عليه‌السلام ، فانّ المخبر به في خبره هو قول المعصوم عليه‌السلام فلا محالة يكون حكماً شرعياً من وجوب أو حرمة أو غيرهما ، كما هو ظاهر.

وهذا الاشكال ساقط من أساسه على المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو الكاشفية والطريقية بتتميم الكشف ، بمعنى أنّ الشارع يعتبر الكاشف الناقص كاشفاً تامّاً ، والأمارة غير العلمية علماً ، إذ عليه يكون التعبد ناظراً إلى نفس الطريقية والكاشفية ، بلا حاجة إلى كون المؤدى حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي.

نعم ، لو قلنا بأنّ المجعول في باب الطرق هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، يتوجّه الاشكال بأنّ التنزيل المذكور متوقف على أن يكون المؤدى حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي ، وإلاّ فلا معنى لتنزيله منزلة الواقع. وسيجيء الجواب عن الاشكال على هذا المسلك قريباً.

وأمّا على المسلك المختار من أنّ المجعول هو الطريقية والكاشفية ، فلا حاجة

٢١٠

إلى اعتبار كون المؤدى حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي ، إذ التعبد ناظر إلى نفس الطريقية والكاشفية لا إلى المؤدى ، غاية الأمر أنّه يلزم أن لا يكون التعبد المذكور لغواً كي يستحيل صدوره من الحكيم. والتعبد بحجّية اخبار الوسائط لا يكون لغواً ، لوقوع الجميع في سلسلة إثبات قول المعصوم عليه‌السلام وهذا المقدار كافٍ في صحّة التعبد بحجّية اخبار الوسائط ، فلا ملزم لاعتبار كون المخبر به في كل خبر حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي. وأمّا على المسلك المعروف من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هو تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فيمكن الجواب عن الاشكال المذكور بوجوه :

الأوّل : أنّ القضية طبيعية قد حكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر ، وليس المراد هو الطبيعي المعقولي بمعنى الطبيعة بشرط لا ، كقولنا الانسان نوع حتّى لا يسري الحكم من الطبيعة إلى الأفراد ، بل المراد هو الطبيعي الاصولي بمعنى الطبيعة بشرط الوجود السعي ، فيسري الحكم إلى الأفراد ، فلا مانع من شمول دليل الحجّية لخبر الشيخ عن المفيد قدس‌سره ، مع كون الأثر الشرعي للمخبر به وهو خبر المفيد هو نفس الحجّية ووجوب التصديق ، وهكذا إلى آخر الوسائط.

الثاني : دعوى القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر ، أي وجوب التصديق بعد تحققه بهذا الخطاب ، وإن لم يشمله لفظاً لأجل المحذور المذكور.

الثالث : عدم القول بالفصل بين هذا الأثر وسائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق بنفس الحكم في الآية الشريفة ، وإن شئت فعبّر بعدم القول بالفصل في الحجيّة بين الخبر بلا واسطة والخبر مع الواسطة.

٢١١

الرابع : ـ وهو أحسن الوجوه ـ أنّه لم يدل دليل من آية أو رواية على لزوم كون مؤدى الأمارة حكماً شرعياً أو ذا أثر شرعي ، وإنّما نعتبر ذلك من جهة حكم العقل بأنّ التعبد بأمر لا يكون له أثر شرعي لغو لا يصدر من الحكيم ، ويكفي في دفع محذور اللّغوية وقوع الخبر في سلسلة إثبات الحكم الشرعي الصادر من الإمام عليه‌السلام. وبعبارة اخرى : يكفي في حجّية اخبار الرواة ترتب الأثر الشرعي على مجموعها من حيث المجموع ، ولا ملزم لاعتبار ترتب أثر شرعي على كل خبر مع قطع النظر عن خبر آخر ، ولا خفاء في ترتب الأثر على اخبار مجموع الرواة الواقعة في سلسلة نقل قول المعصوم عليه‌السلام (١).

نعم ، لو كان في جملة الرواة الواقعة في سلسلة نقل قوم المعصوم فاسق غير موثوق به أو رجل مجهول الحال ، لا يشمل دليل الحجّية لاخبار بقية الرواة الواقعة في تلك السلسلة ولو كانوا عدولاً أو ثقات ، لعدم ترتب أثر شرعي على المجموع من حيث المجموع أيضاً ، إذ خبر الفاسق خارج عن أدلة الحجّية موضوعاً ، وبخروجه ينقطع اتصال الاخبار إلى المعصوم عليه‌السلام فلا يقع الباقي من الرواة في سلسلة إثبات قول المعصوم عليه‌السلام فلا يكون مشمولاً لأدلة الحجّية ، لعدم ترتب أثر شرعي عليه ، فيكون التعبد بحجّيته لغواً.

ومن الآيات التي استدلّ بها على حجّية خبر الواحد آية النفر ، وهي قوله

__________________

(١) نعم ، هو أحسن الوجوه والمتعيّن في المقام ، إذ الوجوه السابقة راجعة إلى التقرير الأوّل من الاشكال وهو الذي يرجع إليه ما ذكره سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) على مختاره من أنّ المجعول في باب الأمارات هو الكاشفية والطريقية بتتميم الكشف ، بلا فرق بين القول بأنّ المجعول هو الكاشفية والطريقية ، والقول بأ نّه تنزيل المؤدى منزلة الواقع فتأمّل

٢١٢

تعالى : «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (١).

والاستدلال بهذه الآية الشريفة يتوقف على إثبات امور :

أحدها : أن يكون المراد إنذار كل واحد من النافرين بعضاً من قومهم ، لا إنذار مجموع النافرين مجموع القوم ، ليقال إنّ إخبار المجموع وإنذارهم يفيد العلم بالواقع ، فيخرج عن محل الكلام في بحث حجّية الخبر ، وهذا الأمر ثابت ، لأنّ تقابل الجمع بالجمع ظاهر في التوزيع ، كما في قوله تعالى : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» (٢) فانّ المراد منه أن يغسل كل واحد وجهه ويده ، لا أن يغسل المجموع وجه المجموع ، كما أنّ طبع الحال وواقع القضيّة أيضاً هو ذلك ، لأنّ الطائفة النافرة للتفقه في الدين إذا رجعوا إلى أوطانهم لا يجتمعون بحسب العادة في محل واحد ليرشدوا القوم مجتمعاً ، بل يذهب كل واحد منهم إلى ما يخصه من المحل ويرشد من حوله من القوم.

ثانيها : أن يكون المراد من الحذر هو التحفظ والتجنب العملي لا مجرد الخوف النفساني ، وهذا الأمر أيضاً ثابت ، لأنّ ظاهر الحذر هو أخذ المأمن من المهلكة والعقوبة وهو العمل ، لا مجرد الخوف النفساني.

ثالثها : أن يكون الحذر والتجنب العملي واجباً عند إنذار المنذر ، وهذا الأمر أيضاً ثابت ، لأنّ كلمة «لعل» ظاهرة في كون ما بعدها غاية لما قبلها ، كما يظهر من مراجعة موارد استعمالها ، سواء كان استعمالها في مقام الاخبار عن الامور الخارجية ، كقولك : اشتريت داراً لعلي أسكنها ، أو في مقام بيان الأحكام المولوية ، وعلى الثاني فإن كان ما بعدها أمراً غير قابل للتكليف كما إذا قيل :

__________________

(١) التوبة ٩ : ١٢٢

(٢) المائدة ٥ : ٦

٢١٣

تب إلى الله تعالى لعلّه يغفر لك ، فيستفاد منها حسن تلك الغاية وكونها أمراً مرغوباً فيه ، وإن لم يصح تعلّق التكليف به ، لعدم كونه فعلاً للعبد كي يصح البعث نحوه ، وإن كان أمراً قابلاً للتكليف كما إذا قيل : بلِّغ الأحكام إلى العبيد لعلّهم يعملون بها ، دلّ الكلام على كونه محكوماً بحكم ما قبلها من الوجوب أو الاستحباب ، ضرورة أنّ الغاية الموجبة لايجاب أمر آخر تكون واجبة بنفسها بطريق أولى ، وكذا الحال في الغاية الموجبة لاستحباب أمر آخر ، وحيث إنّ الحذر جعل في الآية الشريفة غاية للانذار الواجب فيستفاد منها كونه واجباً لا محالة.

وبعد تمامية هذه الامور الثلاثة ، يظهر أنّ الآية المباركة تدل على وجوب التحذر العملي عند الانذار ، وهذا هو معنى حجّية الخبر.

والانصاف أنّ دلالة هذه الآية على حجّية الخبر أظهر وأتم من دلالة آية النبأ عليها ، ومع ذلك قد اورد على الاستدلال بها بوجوه :

الأوّل : أنّ الآية واردة لبيان وجوب التفقه والانذار ، لا لبيان وجوب الحذر ، وإنّما ذكر الحذر باعتبار كونه فائدة من فوائد التفقه والانذار فلا إطلاق لها بالنسبة إلى وجوب الحذر ، والقدر المتيقن منه ما إذا حصل العلم بمطابقة قول المنذر للواقع.

وفيه أوّلاً : أنّ الأصل في كل كلام أن يكون في مقام البيان ، لاستقرار بناء العقلاء على ذلك ما لم تظهر قرينة على خلافه.

وثانياً : أنّ ظاهر الآية المباركة كونها واردة لبيان وظيفة جميع المسلمين المكلفين ، وأ نّه يجب على طائفة منهم التفقه والانذار ، وعلى غيرهم الحذر والقبول ، فكما أنّ إطلاقها يقتضي وجوب الانذار ولو مع عدم حصول العلم للمنذر ـ بالفتح ـ بمطابقة كلام المنذر ـ بالكسر ـ للواقع ، كذلك يقتضي وجوب الحذر

٢١٤

أيضاً في هذا الفرض.

وثالثاً : أنّ ظاهر الآية ترتب وجوب الحذر على الانذار ، وتخصيص وجوب الحذر بما إذا حصل العلم بالواقع موجب لالغاء عنوان الانذار ، إذ العمل حينئذ إنّما هو بالعلم من دون دخل للانذار فيه ، غاية الأمر كون الانذار من جملة المقدمات التكوينية لحصول العلم لا موضوعاً لوجوب الحذر ، فاعتبار حصول العلم في وجوب الحذر يوجب إلغاء عنوان الانذار لا تقييده بصورة حصول العلم ، مع أنّ ظاهر الآية كون وجوب الحذر مترتباً على الانذار ترتب الحكم على موضوعه.

ورابعاً : أنّه على تقدير تسليم أنّ اعتبار العلم في وجوب الحذر يوجب التقييد لا إلغاء عنوان الانذار ، لا يمكن الالتزام بهذا التقييد ، فانّه تقييد بفرد نادر وهو مستهجن.

الايراد الثاني : أنّ الانذار بمعنى التخويف من العقاب إنّما هو وظيفة الواعظ والمفتي ، أمّا الواعظ فينذر الناس ـ كما هو شأنه ـ بالامور المسلّمة ، فيخوّف الناس من ترك الصلاة مثلاً بما ورد فيه من العقاب ، أو من شرب الخمر كذلك ، ولا إشكال في وجوب الحذر عند إنذاره ، لكون الحكم معلوماً ومسلّماً. وأمّا المفتي فيفتي لمقلّديه بما استنبطه من الواجب والحرام ، وافتاؤه بها إنذار بالدلالة الالتزامية ، وتخويف من العقاب على الترك أو الفعل ، ولا شبهة في وجوب الحذر على مقلّديه ، لكون فتواه حجّة عليهم ، بخلاف نقل الرواية فانّه لا إنذار فيه ، إذ ربّما ينقل الراوي مجرد الألفاظ ولا يفهم المعنى لينذر به ، ولذا ورد عنهم عليهم‌السلام ربّ حامل فقه غير فقيه أو إلى من هو أفقه منه (١).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٨٩ / أبواب صفات القاضي ب ٨ ح ٤٣ و ٤٤

٢١٥

وفيه : أنّ الراوي أيضاً قد ينذر بنقله ، كما إذا نقل رواية دالة على وجوب شيء أو على حرمة شيء ، فانّ نقل هذه الرواية إنذار ضمني بالعقاب على الترك أو الفعل ، كما في إفتاء المفتي بوجوب شيء أو حرمة شيء ، فيجب الحذر عند نقل هذه الرواية بمقتضى الآية الشريفة ، وتثبت حجّية غيره من الأخبار التي لا إنذار فيها لكون الراوي عامياً ، أو كان مفاد الرواية حكماً غير إلزامي بعدم القول بالفصل. هذا على تقدير كون الآية نازلة في مقام التشريع وجعل الحجّية للخبر ، وأمّا بناءً على كونها كاشفة عن حجّية الخبر السابقة على نزول الآية وأ نّها سيقت على نحو تكون حجّية الخبر مفروغاً عنها قبل نزولها كما هو الظاهر ، فلانحتاج إلى التسمك بعدم القول بالفصل ، إذ الآية الشريفة ـ على هذا التقدير ـ كاشفة عن حجّية الخبر على الاطلاق ، وأنّ وجوب الحذر عند الانذار إنّما هو من باب تطبيق الكبرى الكلّية على بعض المصاديق.

الايراد الثالث : أنّ ظاهر الآية الشريفة كون وجوب الحذر مترتباً على الانذار بما تفقّه ، لا على مطلق الانذار ، فيختص بما إذا احرز كون الانذار بما تفقّه ، أي احرز كون الخبر مطابقاً للواقع. والفرق بين هذا الايراد والايراد الأوّل ظاهر ، فانّ الايراد الأوّل راجع إلى عدم صحّة التمسك باطلاق وجوب الحذر ، لعدم كونه وارداً في مقام البيان ، لأنّ الآية وردت لبيان وجوب التفقه والانذار لا لبيان وجوب الحذر ، فلم تتم مقدّمات الحكمة ، بخلاف هذا الايراد فانّه راجع إلى منع الاطلاق رأساً ، باعتبار أنّ وجوب الحذر مقيّد بما إذا كان الانذار بما تفقّه في الدين.

وفيه : أنّ الاخبار بوجوب شيء أو بحرمة شيء لا ينفك عن الانذار بما تفقّه ، إذ الاخبار بالوجوب إنذار بالعقاب على الترك بالدلالة الالتزامية ، وكذا

٢١٦

الاخبار بالحرمة إنذار بالعقاب على الفعل ، كما أنّ الانذار بالعقاب على الترك إخبار بالوجوب ، والانذار بالعقاب على الفعل إخبار بالحرمة بالدلالة الالتزامية ، وأمّا كون المخبر به مطابقاً للواقع أو غير مطابق له ، فهو خارج عن مدلول الخبر ، لما ذكرناه في مقام الفرق بين الخبر والانشاء من أنّ مدلول الخبر هو الحكاية عن ثبوت شيء أو نفيه ، وأمّا كون المحكي عنه مطابقاً للواقع أو غير مطابق له ، فهو خارج عن مدلول الخبر (١). وبالجملة : الاخبار عن الوجوب والحرمة إنذار بما تفقّه في الدين دائماً ، وإن كان المخبر به غير مطابق للواقع.

الايراد الرابع : أنّ المأخوذ في الآية عنوان التفقّه ، فيكون الحذر واجباً عند إنذار الفقيه بما هو فقيه ، فلا يشمل إنذار الراوي بما هو راو ، فيكون مفاد الآية حجّية فتوى الفقيه للعامي لا حجّية الخبر. ولايمكن التمسك بعدم القول بالفصل في المقام ، لعدم ارتباط أحد الأمرين بالآخر. وإن شئت قلت : إنّ القول بالفصل بين حجّية فتوى الفقيه وحجّية الخبر موجود ، فلايدل الدليل على حجّية فتوى الفقيه على حجّية الخبر بضميمة عدم القول بالفصل بينهما.

وفيه : أنّ التفقه في زمن المعصومين عليهم‌السلام لم يكن بهذه الصعوبة الموجودة في زماننا ، فانّها حصلت من كثرة الروايات ، وتعارضها في العبادات وقلّتها في المعاملات ، فالسلف من الرواة كان يصدق عليهم الفقيه بمجرّد سماع الحديث وحفظه ، لكونهم من أهل اللسان ، فكانوا يعرفون معاني كلامهم عليهم‌السلام ، فكانوا فقهاء كما ورد عنهم عليهم‌السلام : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا» (٢) ، فكانوا فقهاء فيما ينقلونه عن الأئمة عليهم‌السلام ، وإذا ثبتت حجّية خبر الراوي الفقيه بمقتضى الآية ، ثبتت حجّية خبر الراوي غير الفقيه بعدم القول بالفصل.

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٩٤ ـ ٩٧

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٧ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢٧

٢١٧

ومن الآيات التي استدلّ بها على حجّية الخبر آية الكتمان ، وهي قوله تعالى : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ» (١) بدعوى الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب العمل ، وإلاّ لزم كون تحريم الكتمان لغواً ، ولذا حكموا بحجّية إخبار المرأة عن كونها حاملاً ، تمسكاً بقوله تعالى : «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ» (٢).

وفيه : أنّه لا ملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول تعبداً في المقام ، إذ الموضوع لحرمة الكتمان عام استغراقي ، بمعنى حرمة الكتمان على كل أحد ، فيحتمل أن يكون الوجه فيها أنّ إخبار الجميع ممّا يوجب العلم كما في الخبر المتواتر ، ولا يقاس المقام بحرمة الكتمان على النساء ، لأنّ طريق إحراز ما في الأرحام منحصر في إخبارهن ، وإخبار المرأة ممّا لايفيد العلم غالباً ، فلو لم يكن إخبارها حجّة تعبداً ، وقيدت بالعلم كان تحريم الكتمان عليها لغواً ، فصحّ دعوى الملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول هناك. بخلاف المقام ، فانّ حرمة الكتمان فيه إنّما هو على علماء اليهود الذين أخفوا على الناس ما كان ظاهراً في التوراة من علامات نبوّة نبيّنا وصفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله بحيث لولا كتمانهم لظهر الحق لعامّة الناس ، فالغرض من تحريم الكتمان إنّما هو ظهور الحق وحصول القطع للناس ، لا قبول الخبر تعبداً. والذي يشهد بما ذكرناه ـ من أنّ المراد حرمة كتمان ما هو ظاهر في نفسه لولا الكتمان ـ قوله تعالى في ذيل الآية : «مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ» أي أظهرناه لهم. فتحصّل : أنّه لا ملازمة بين حرمة الكتمان ووجوب القبول في المقام.

__________________

(١) البقرة ٢ : ١٥٩

(٢) البقرة ٢ : ٢٢٨

٢١٨

إن قلت : مقتضى إطلاق الآية حرمة الكتمان ولو مع علم المخبر بأنّ إخباره لا يفيد العلم للسامع ، ولا ينضم إليه إخبار غيره لكتمانه ، وحرمة الكتمان في هذا الفرض تدل على وجوب القبول ، وإلاّ لزم كونها لغواً كما في حرمة الكتمان على النساء.

قلت : ظهور الحق للناس وحصول العلم لهم إنّما هو حكمة لحرمة الكتمان ، والحكمة الداعية إلى التكليف لا يلزم أن تكون ساريةً في جميع الموارد ، ألا ترى أنّه يجب على الشاهد أن يشهد عند الحاكم إذا دعي لذلك بمقتضى قوله تعالى :

«وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» (١) ولو مع العلم بعدم انضمام الشاهد الثاني إليه ، مع أنّ الحكمة في وجوب الشهادة ـ وهي حفظ حقوق الناس ـ غير متحققة في هذا الفرض ، وكذا الحال في وجوب العدّة على المطلّقة وعلى المتوفّى عنها زوجها وإن كانت عقيماً ، مع أنّ الحكمة وهي التحفظ على النسب غير موجودة في مفروض المثال.

ويدل على ما ذكرناه ـ من أنّ الغرض من حرمة الكتمان في مقام ظهور الحق وحصول العلم به لعامّة الناس لا وجوب القبول تعبداً ـ أنّ مورد الآية هو نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الظاهر عدم حجّية خبر الواحد في اصول الدين.

ومن جملة الآيات : آية الذكر ، وهي قوله تعالى : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ» (٢) وتقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة هو تقريب الاستدلال بالآية السابقة ، من أنّ وجوب السؤال يدل على وجوب القبول بالملازمة ، وإلاّ لزم كون وجوب السؤال لغواً.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٢٨٢

(٢) النحل ١٦ : ٤٣ و ٤٤

٢١٩

ويظهر الجواب عن الاستدلال بهذه الآية ممّا ذكرناه في الجواب عن الاستدلال بالآية السابقة ، فانّ تعليق وجوب السؤال على عدم العلم ظاهر في أنّ الغرض منه حصول العلم لا التعبد بالجواب. هذا مضافاً إلى أنّ مورد هذه الآية أيضاً هي النبوّة ، والمأمورون بالسؤال هم عوام اليهود ، وخبر الواحد لا يكون حجّة في اصول الدين كما تقدّم. ولا ينافي ذلك ما في الأخبار من أنّ المراد بأهل الذكر هم الأئمة عليهم‌السلام (١) لأنّ أهل الذكر عنوان عام يشمل الجميع ، ويختلف باختلاف الموارد ، ففي مقام إثبات النبوّة الخاصّة بما وصف الله نبيّه في الكتب السماوية ، يكون المراد من أهل الذكر علماء اليهود والنصارى ولا يصح أن يراد في هذا المقام الأئمة عليهم‌السلام لأنّ الإمامة فرع النبوّة ، فكيف يمكن إثبات النبوّة بالسؤال عن الإمام الذي تثبت إمامته بنص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نعم بعد إثبات النبوّة والإمامة يكون الأئمة عليهم‌السلام أهل الذكر فلا بدّ من السؤال منهم فيما يتعلق بالأحكام الشرعية ، كما أنّ أهل الذكر في زمان الغيبة هم الرواة بالنسبة إلى الفقهاء ، والفقهاء بالنسبة إلى العوام ، والمعنى واحد في الجميع إنّما الاختلاف في المصاديق بحسب الموارد.

ومن جملة الآيات : آية الاذن ، وهي قوله تعالى : «وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ» (٢). وتقريب الاستدلال بها أنّ الله (سبحانه وتعالى) مدح نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بتصديقه للمؤمنين ، ولو لم يكن تصديقهم أمراً حسناً لما مدحه به.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين تصديق المخبر والعمل باخباره وترتيب الأثر

__________________

(١) راجع الوسائل ٢٧ : ٦٣ / أبواب صفات القاضي ب ٧ ح ٣ و ٤ وغيرهما

(٢) التوبة ٩ : ٦١

٢٢٠