موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

وفيه : أنّ المراد بخبر الواحد في المقام هو الذي لا يفيد القطع ويحتمل الصدق والكذب في قبال المتواتر والمحفوف بالقرينة القطعية ، وهذا هو المراد من النبأ في الآية الشريفة بقرينة وجوب التبين عنه ، إذ الخبر المعلوم صدقه متبيّن في نفسه ولا معنى لوجوب التبين عنه. وبقرينة التعليل ، وهو قوله تعالى : «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» وليس مراد الشيخ قدس‌سره من الذاتي في المقام هو الذاتي في باب الكلّيات أي الجنس والفصل ، بل مراده هو الذاتي في باب البرهان ، أي ما يكفي مجرد تصوّره في صحّة حمله عليه ، من دون احتياج إلى لحاظ أمر خارج كالامكان بالنسبة إلى الانسان مثلاً ، فانّه ليس جنساً ولا فصلاً له ليكون ذاتياً في باب الكلّيات ، بل ذاتي له في باب البرهان ، بمعنى أنّ تصور الانسان يكفي صحّة حمل الامكان عليه ، بلا حاجة إلى لحاظ أمر خارجي ، ومن الواضح أنّ الخبر في نفسه يحتمل الصدق والكذب ، ويصح حمل ذلك عليه ، بلا حاجة إلى ملاحظة أمر خارج عنه ، فكونه خبر واحد ذاتي له ، بخلاف كونه خبر فاسق ، إذ لا يكفي في حمله على الخبر نفس تصور الخبر ، بل يحتاج إلى ملاحظة أمر خارج عن الخبر ، وهو كون المخبر به ممّن يصدر عنه الفسق.

الايراد الثاني : أنّ الحكم على الطبيعة المهملة غير متصور ، إذ لا يعقل الاهمال في مقام الثبوت ، فلا محالة يكون الحكم بوجوب التبين عن الخبر إمّا مقيداً بكون المخبر به فاسقاً فيكون خبر العادل حجّة ، وإمّا مقيداً بالجامع بينه وبين العادل ، فلا يكون خبر العادل حجّة ، فالتقييد ضروري لا محالة إمّا بخصوص الفاسق أو بالأعم منه ومن العادل ، وحيث إنّ التقييد ضروري فالتقييد بالفاسق لا يشعر بالعلّية ليدل على المفهوم ، لاحتمال أن يكون الحكم مقيداً بالأعم منه ومن العادل وكان ذكر الفاسق لنكتة تقدّمت الاشارة إليه.

وفيه : أنّ الاهمال في مقام الثبوت وإن كان غير معقول إلاّ أنّه لا يلزم منه

١٨١

كون التقييد ضرورياً بل يدور الأمر بين التقييد والاطلاق ، وقد ذكرنا مراراً أنّ الاطلاق عبارة عن رفض القيود لا الأخذ بها (١) فالقول بحجّية خبر العادل وإن كان يستلزم تقييد الخبر بالفاسق إلاّأنّ القول بعدم حجّيته لا يستلزم التقييد بالأعم منه ومن العادل بل يكفي فيه الاطلاق بمعنى إلغاء الخصوصيات لا الأخذ بجميع الخصوصيات. فإذن لا يكون التقييد ضرورياً حتّى لا يكون مشعراً بالعلّية.

الايراد الثالث : أنّا نقطع من الخارج بعدم دخل الفسق في وجوب التبين ، وإلاّ لزم القول بحجّية خبر غير الفاسق ولو لم يكن عادلاً ، كمن لم يرتكب المعصية في أوّل بلوغه ، ولم تحصل له ملكة العدالة بعد. وكذا الحال في الصغير والمجنون ، فانّه لو قلنا بمفهوم الوصف في الآية الشريفة والتزمنا بحجّية خبر غير الفاسق لزم القول بحجّية خبر الصغير والمجنون أيضاً.

وفيه : مضافاً إلى أنّا لا نقول بالواسطة بين العادل والفاسق ـ على ما حقق في محلّه (٢) ، فلا يكون غير الفاسق إلاّالعادل ـ أنّ رفع اليد عن إطلاق المفهوم لأدلة خاصّة دلّت على اعتبار العدالة في حجّية الخبر لا يقدح في حجّية المفهوم وكم تقييد لاطلاقات المفهوم في أبواب الفقه لأدلة خاصّة ، فعدم حجّية خبر الواسطة بين العادل والفاسق على تقدير إمكانها إنّما هو لأدلة خارجية مقيّدة لاطلاق المفهوم ، وكذا خبر الصبي والمجنون خارج عن إطلاق المفهوم لأدلة خاصّة تدل على اعتبار الكبر والعقل ، هذا مضافاً إلى إمكان القول بأ نّه لا إطلاق للمفهوم بالنسبة إليهما ، باعتبار أنّ الآية الشريفة رادعة عن العمل بغير

__________________

(١) راجع محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٥١٢

(٢) راجع شرح العروة ١ : ٢١٣ ـ ٢١٤

١٨٢

التبين بما يعمل العقلاء به لولا الردع ، كخبر الفاسق. وأمّا خبر الصبي والمجنون فالعقلاء بأنفسهم لا يعملون به ، بلا حاجة إلى الردع ، فهو خارج عن الآية الشريفة تخصصاً ، بلا حاجة إلى دليل مقيّد لاطلاق المفهوم.

ولا يخفى أنّ هذا الايراد غير مختص بالاستدلال بمفهوم الوصف ، بل جار على الاستدلال بمفهوم الشرط أيضاً. والجواب الجواب.

فتحصّل : أنّ هذه الايرادات الثلاثة غير واردة على الشيخ قدس‌سره.

نعم ، يرد عليه أنّ هذا الوجه أيضاً يرجع إلى الاستدلال بمفهوم الوصف ، لا أنّه وجه مستقل في الاستدلال بالآية الشريفة في قبال الاستدلال بمفهوم الوصف ، بل هو توضيح وبيان لكيفية الاستدلال بمفهوم الوصف ، وحينئذ يرد عليه ما تقدّم في الوجه السابق من أنّ التقييد بالوصف وإن كان مشعراً بالعلّية ، إلاّأنّ ذلك لا يدل على الانتفاء عند الانتفاء ، فانّه متفرع على كون الوصف علّة منحصرة ، وهو لا يستفاد من مجرّد التعليق على الوصف على ما تقدّم بيانه ، ولا حاجة إلى الاعادة.

الوجه الثالث : الاستدلال بمفهوم الشرط ، بتقريب أنّ وجوب التبين عن الخبر قد علّق على مجيء الفاسق به ، فينتفي عند انتفائه ، فلا يجب التبين عن الخبر عند مجيء غير الفاسق به.

وقد اورد على هذا الوجه من الاستدلال بامور بعضها راجع إلى منع المقتضي للدلالة على المفهوم ، وبعضها راجع إلى دعوى وجود المانع عنها.

أمّا الايراد من ناحية المقتضي : فهو أنّ القضيّة الشرطية في الآية الشريفة إنّما سيقت لبيان الموضوع نظير قولك : إن رزقت ولداً فاختنه ، فلا مفهوم لها ، فانّ الختان عند انتفاء الولد منتف بانتفاء موضوعه ولا مفهوم له ، فكذا في

١٨٣

المقام انتفاء وجوب التبين عن الخبر عند انتفاء مجي الفاسق به إنّما هو لانتفاء موضوعه لا للمفهوم ، إذ مع عدم مجي الفاسق بالخبر لا خبر هناك ليجب التبين عنه أو لا يجب.

وفيه : أنّ الموضوع في القضيّة هو النبأ ، ومجيء الفاسق به شرط لوجوب التبين عنه ، فلا تكون القضيّة الشرطية مسوقةً لبيان تحقق الموضوع ، توضيح ذلك : أنّ الجزاء تارةً يكون في نفسه متوقفاً على الشرط عقلاً ، بلا دخل للتعبد المولوي ، كما في قولك : إن رزقت ولداً فاختنه وأمثاله. واخرى يكون متوقفاً عليه بالتعبد المولوي ، كما إذا قال المولى : إن جاءك زيد فأكرمه ، فانّ الاكرام غير متوقف على المجيء عقلاً ، نظير توقف الختان على وجود الولد ، فما كان التعليق فيه من قبيل الأوّل فهو إرشاد إلى حكم العقل ، ومسوق لبيان الموضوع فلا مفهوم له ، وما كان من قبيل الثاني فهو يفيد المفهوم ، وهذا هو الميزان في كون القضيّة الشرطية مسوقةً لبيان الموضوع وعدمه.

ثمّ إنّ الشرط قد يكون أمراً واحداً وقد يكون مركّباً من أمرين ، فإن كان أمراً واحداً فقد تقدّم أنّه إن كان الأمر المذكور ممّا يتوقف عليه الجزاء عقلاً فلا مفهوم للقضيّة ، وإلاّ فتدل على المفهوم. وأمّا إن كان مركّباً من أمرين ، فإن كان كلاهما ممّا يتوقف عليه الجزاء عقلاً ، فلا مفهوم للقضيّة الشرطية أصلاً ، كقولك : إن رزقك الله مولوداً وكان ذكراً فاختنه ، وإن كان كلاهما ممّا لا يتوقف عليه الجزاء عقلاً ، فالقضيّة تدل على المفهوم بالنسبة إلى كليهما ، بمعنى أنّها تدل على انتفاء الجزاء عند انتفاء كل واحد منهما ولو مع تحقق الآخر ، كقولك : إن جاءك زيد وكان معمماً فأكرمه ، فانّه يدل على انتفاء وجوب الاكرام عند انتفاء المجيء ولو كان معماً ، وعلى انتفاء وجوب الاكرام عند انتفاء كونه معمماً ولو مع تحقق المجيء. وإن كان أحدهما ممّا يتوقف عليه الجزاء عقلاً دون الآخر

١٨٤

كقولك : إن ركب الأمير وكان ركوبه يوم الجمعة فخذ ركابه ، فتدل القضيّة على المفهوم بالنسبة إلى الجزء الذي لا يتوقف عليه الجزاء عقلاً ، دون الجزء الآخر الذي يتوقف عليه الجزاء عقلاً. وقد ظهر وجه ذلك كلّه ممّا تقدّم.

وليعلم أنّ تميّز الجزء الذي اخذ موضوعاً للحكم في مقام الاثبات عن الجزء الذي علّق عليه الحكم إنّما هو بالاستظهار من سياق الكلام بحسب متفاهم العرف ، فانّ الظاهر من قولك : إن جاءك زيد فاكرمه ، أنّ الموضوع هو زيد ، ومجيئه ممّا علّق عليه وجوب إكرامه ، وينعكس الأمر فيما إذا قلت : إن كان الجائي زيداً فأكرمه ، فانّ الظاهر منه أنّ الجائي هو الموضوع وكونه زيداً شرط لوجوب إكرامه وهكذا في سائر الأمثلة.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ الشرط في الآية المباركة ـ بحسب التحليل ـ مركب من جزأين : النبأ ، وكون الآتي به فاسقاً ، ويكون أحدهما وهو النبأ موضوعاً للحكم المذكور في الجزاء ، لتوقفه عليه عقلاً ، فلا مفهوم للقضيّة بالنسبة إليه ، والجزء الآخر وهو كون الآتي به فاسقاً ممّا لا يتوقف عليه الجزاء عقلاً ، فتدل القضيّة على المفهوم بالنسبة إليه ، ومفاده عدم وجوب التبين عنه عند انتفاء كون الآتي به فاسقاً وهو المطلوب (١).

__________________

(١) ما ذكره (دام ظلّه) من التفصيل وإن كان متيناً جداً ، إلاّأنّ تطبيق تركب الشرط من جزأين على الآية الشريفة لا يخلو من تأمّل ، فانّ المراد هو التركيب المستفاد من ظاهر الجملة الشرطية كما مثّل له (دام ظلّه) لا بحسب التحليل ، لأنّ التحليل يمكن في كل شرط ، فالشرط في قول المولى : إن جاءك زيد فأكرمه ، أمر واحد وبحسب التحليل أمران : زيد ومجيؤه ، نظير النبأ ومجيء الفاسق به. والمتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ الآية الشريفة لا دلالة لها على المفهوم ، فانّ التبيّن عند عدم مجيء الفاسق بنبأ منتفٍ بانتفاء موضوعه كما اعترف به سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) فيما سيأتي من كلامه في الدورة السابقة. وعليه لا يبقى شيء تحت الثاني أو يكون الباقي قليلاً جدّاً

١٨٥

وتوهّم أنّه لا مناص من أن يكون الموضوع في الآية المباركة هو نبأ الفاسق لا طبيعي النبأ ، إذ لو كان الموضوع طبيعي النبأ وكان مجيء الفاسق به شرطاً لوجوب التبين ، لزم التبين عن كل نبأ حتّى نبأ العادل عند مجيء الفاسق بنبأ ، لأنّ المفروض وجوب التبين عن طبيعي النبأ على تقدير مجيء الفاسق بنبأ ، وهذا مقطوع البطلان ، فتعيّن أن يكون الموضوع نبأ الفاسق ، فتكون القضيّة الشرطية مسوقة لبيان الموضوع ولا تدل على المفهوم.

مدفوع بأنّ القيود وإن كانت تختلف بحسب مقام الاثبات من حيث الرجوع إلى الحكم تارةً وإلى الموضوع اخرى ، فانّ القيد قد يرجع ـ بحسب ظاهر القضيّة ومقام الاثبات ـ إلى الموضوع كالتوصيف وكذا الشرط فيما إذا كان توقف الجزاء عليه عقلاً ، وقد يرجع إلى الحكم كالشرط فيما إذا لم يتوقف الجزاء عليه عقلاً ، ولا يكون للقضيّة مفهوم إلاّفيما إذا كان القيد راجعاً إلى الحكم ليدل على انتفاء الحكم عند انتفائه باعتبار أنّ مفاد أداة الشرط تعليق جملة على جملة بحسب ظاهر الكلام كما صرّح به أهل العربية وعلماء الميزان ، إلاّ أنّه بحسب مقام الثبوت فالقيود بأجمعها ترجع إلى الموضوع ، لاستحالة ثبوت الحكم المقيد للموضوع المطلق. وعليه فالحكم بوجوب التبين عن النبأ معلّقاً على كون الجائي به فاسقاً لا يقتضي وجوب التبين عن كل نبأ حتّى نبأ العادل ، فانّ مجيء الفاسق بنبأ وإن كان قيداً للحكم إثباتاً ، وينشأ منه المفهوم ، إلاّ أنّه يرجع إلى الموضوع بحسب اللب ومقام الثبوت ، ولازمه وجوب التبين عن النبأ الذي جاء به الفاسق ، ونظير المقام قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر

١٨٦

كر لم ينجّسه شيء» (١) فانّ الموضوع بحسب ظاهر القضيّة وإن كان طبيعي الماء ، وبلوغه قدر الكر شرط لعدم الانفعال ، إلاّ أنّه لا يقتضي الحكم بعدم انفعال كل ماء بالملاقاة إذا اتّصف فرد منه بالكرية ، بل مقتضاه عدم انفعال خصوص الماء الذي بلغ قدر كر.

وبالجملة : مفاد الكلام بحسب الظهور العرفي عدم انفعال خصوص الماء البالغ قدر الكر ، لا عدم انفعال كل ماء حتّى القليل بمجرد اتصاف فرد منه بالكرية ، وكذا في المقام فانّ مفاد الكلام بحسب فهم العرف هو وجوب التبين عن الخبر الذي جاء به الفاسق لا وجوب التبين عن كل خبر حتّى خبر العادل بمجرد مجيء الفاسق بفرد منه. وكأنّ المتوهم خلط بين رجوع القيد إلى الموضوع في مقام الاثبات ورجوعه إليه في مقام الثبوت.

وظهر بما ذكرناه في المقام الاشكال على ما ذكره في الكفاية : من دلالة الآية على حجّية خبر العادل ولو كانت القضيّة مسوقة لبيان الموضوع ، بدعوى ظهورها في حصر وجوب التبين في خبر الفاسق فيستفاد عدم وجوبه عن غيره (٢) ، وذلك لما تقدّم من أنّ القضيّة الشرطية لو كانت مسوقة لبيان الموضوع لا تفيد إلاّكون الموضوع للحكم أمراً كذا ، ومن الواضح أنّ إثبات الحكم لموضوع لا يدل على انتفائه عن موضوع آخر. وبعبارة اخرى : استفادة الحصر من الآية المباركة تتوقف على دلالتها على المفهوم ، وبعد تسليم أنّها مسوقة لبيان الموضوع لا مفهوم لها فكيف تصح دعوى ظهورها في الحصر.

هذا وقد ذكرنا في الدورة السابقة أنّ دلالة القضيّة الشرطية على المفهوم

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١

(٢) كفاية الاصول : ٢٩٦

١٨٧

متوقفة على أن يكون الموضوع مفروض الوجود وكان له حالتان ، وقد علّق الحكم على إحدى حالتيه تعليقاً مولوياً ، بأن لا يكون متوقفاً عليها عقلاً ، وهذا هو الميزان الكلّي في دلالة القضيّة الشرطية على المفهوم ، ففي قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، كان الموضوع المفروض وجوده هو زيد ، وله حالتان المجيء وعدمه ، وعلّق وجوب الاكرام على مجيئه تعليقاً مولوياً ، إذ لا يكون الاكرام متوقفاً على المجيء عقلاً ، فتدل القضيّة على انتفاء وجوب الاكرام عند انتفاء المجيء ، بخلاف قولنا : إن ركب الأمير فخذ ركابه ، فانّ الموضوع فيه وهو الأمير وإن كان له حالتان الركوب وعدمه ، إلاّأنّ تعليق أخذ الركاب على ركوبه عقلي ، فتكون القضيّة مسوقةً لبيان الموضوع وإرشاداً إلى حكم العقل ، فلا مفهوم لها ، وعليه فإن كان الموضوع في الآية المباركة هو النبأ وله حالتان مجيء الفاسق به ومجيء غير الفاسق به ، إذ النبأ قد يجيء به غيره ، وقد علّق وجوب التبين عنه على مجيء الفاسق به مولوياً ، إذ لا يكون متوقفاً عليه عقلاً ، ويكون مفاد الكلام حينئذ : إنّ النبأ إن جاءكم به فاسق فتبيّنوا ، فلا محالة تدل القضيّة على المفهوم ، وانتفاء وجوب التبين عند انتفاء مجي الفاسق به ، وكذلك الحال إن كان الموضوع هو الجائي بالنبأ المستفاد من قوله تعالى : «أَنْ جاءَكُمْ» فانّ الجائي بالنبأ قد يكون فاسقاً وقد يكون غير فاسق ، وقد علّق وجوب التبين على كونه فاسقاً ، ولا يكون متوقفاً عليه عقلاً ، ويكون مفاد الكلام حينئذ : أنّ الجائي بالنبأ إن كان فاسقاً فتبينوا ، فتدل القضيّة على المفهوم وانتفاء وجوب التبين عند انتفاء كون الجائي بالنبأ فاسقاً.

وأمّا إن كان الموضوع هو الفاسق وله حالتان ، لأنّ الفاسق قد يجيء بالنبأ وقد لا يجيء به ، وعلّق وجوب التبين على مجيئه بالنبأ ، ويكون مفاد الكلام حينئذ : أنّ الفاسق إن جاءكم بنبأ فتبينوا ، فلا دلالة للقضيّة على المفهوم ، لأنّ

١٨٨

التبين متوقف على مجيئه بالنبأ عقلاً ، فتكون القضيّة مسوقةً لبيان الموضوع ، إذ مع عدم مجيئه بالنبأ كان التبين منتفياً بانتفاء موضوعه ، فلا مفهوم للقضيّة الشرطية في الآية المباركة. هذه هي محتملات الآية الشريفة بحسب التصور ومقام الثبوت.

والظاهر منها في مقام الاثبات بحسب الفهم العرفي هو المعنى الثالث ، فانّه لا فرق بين الآية الشريفة وبين قولنا : إن أعطاك زيد درهماً فتصدق به من حيث المفهوم. والظاهر من هذا الكلام ـ بحسب متفاهم العرف ـ وجوب التصدق بالدرهم على تقدير إعطاء زيد إيّاه. وامّا على تقدير عدم إعطاء زيد درهماً ، فالتصدق به منتف بانتفاء موضوعه ، وذلك لأنّ الموضوع بحسب فهم العرف هو زيد ، وله حالتان فانّه قد يعطي درهماً وقد لا يعطيه ، وقد علّق وجوب التصدق بالدرهم على إعطائه إيّاه ، وهو متوقف عليه عقلاً ، إذ على تقدير عدم إعطاء زيد درهماً يكون التصدق به منتفياً بانتفاء موضوعه ، فالقضيّة مسوقة لبيان الموضوع ، ولا دلالة لها على المفهوم وانتفاء وجوب التصدق بالدرهم عند إعطاء غير زيد إيّاه ، والآية الشريفة من هذا القبيل بعينه ، فلا دلالة لها على المفهوم ، ولا أقل من الشك في أنّ مفادها هو المعنى الأوّل أو الثاني أو الثالث ، فتكون مجملة غير قابلة للاستدلال بها على حجّية خبر العادل.

فتحصّل : أنّ دلالة الآية الشريفة على المفهوم غير تامّة من ناحية المقتضي مع قطع النظر عن وجود المانع من عموم التعليل أو غيره ، على ما سنتكلّم فيه قريباً إن شاء الله تعالى.

وأمّا الايراد من ناحية وجود المانع عن دلالة الآية الشريفة على المفهوم فمن وجوه :

الوجه الأوّل : أنّ في الآية قرينة تدل على أنّه لا مفهوم للقضيّة الشرطية ،

١٨٩

وهي عموم التعليل في قوله تعالى : «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» فانّ المراد منه أنّ العمل بخبر الفاسق معرض للوقوع في المفسدة ، والتعبير باصابة القوم إنّما هو لخصوصية مورد نزول الآية ، وإلاّ فالعمل بخبر الفاسق لا يستلزم إصابة القوم دائماً ، لأنّ الفاسق لا يخبر دائماً بما يرجع إلى القوم ، بل ربّما يخبر عن ملكية شيء أو زوجية شخص أو غيرهما ، فلا محالة يكون المراد من التعليل أنّ العمل بخبر الفاسق معرض للوقوع في المفسدة ومظنّة للندامة ، وهذه العلّة تقتضي التبين في خبر العادل أيضاً ، لأنّ عدم تعمده بالكذب لا يمنع عن احتمال غفلته وخطئه ، فيكون العمل بخبره أيضاً معرضاً للوقوع في المفسدة ، فيكون مفاد التعليل عدم جواز العمل بكل خبر لا يفيد العلم ، بلا فرق بين أن يكون الآتي به فاسقاً أو عادلاً ، فهذا العموم في التعليل قرينة على عدم المفهوم للقضيّة الشرطية في الآية ، ولا أقل من احتمال كونه قرينة عليه ، فيكون الكلام مقروناً بما يصلح للقرينية ، فيكون مجملاً غير ظاهر في المفهوم.

وفيه أوّلاً : أنّ الايراد المذكور مبني على أن يكون المراد من الجهالة في التعليل عدم العلم ، والظاهر أنّ المراد منه السفاهة والاتيان بما لا ينبغي صدوره من العاقل ، فانّ الجهالة كما تستعمل بمعنى عدم العلم كذلك تستعمل بمعنى السفاهة أيضاً ، وليس العمل بخبر العادل سفاهة ، كيف والعقلاء يعملون بخبر الثقة فضلاً عن خبر العادل. وأمّا الاشكال على ذلك بأنّ العمل بخبر الوليد لو كان سفاهة لما أقدم عليه الصحابة ، مع أنّهم أقدموا عليه ونزلت الآية ردعاً لهم ، فمندفع بأنّ الأصحاب لم يعلموا بفسق الوليد فأقدموا على ترتيب الأثر على خبره ، فأخبرهم الله سبحانه بلسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بفسقه ، وأنّ العمل بخبره بعد ثبوت فسقه سفاهة ، ولو فرض علمهم بفسقه كان إقدامهم على العمل بخبره لغفلتهم عن كونه سفاهة ، فانّه قد يتّفق صدور عمل من الانسان غفلة ،

١٩٠

ثمّ يلتفت إلى كونه ممّا لا ينبغي صدوره وأ نّه سفاهة.

وثانياً : أنّه على تقدير تسليم أنّ المراد من الجهالة عدم العلم لا السفاهة ، لايكون التعليل مانعاً عن المفهوم ، بل المفهوم ـ على تقدير دلالة القضيّة الشرطية عليه بنفسها ـ يكون حاكماً على عموم التعليل ، إذ خبر العادل حينئذ يكون علماً تعبدياً ، على ما ذكرناه مراراً من أنّ مفاد دليل حجّية الطرق والأمارات هو تتميم الكشف ، وجعل غير العلم علماً بالاعتبار (١) ، فيكون خبر العادل خارجاً عن عموم التعليل موضوعاً ، ويكون المفهوم حاكماً على عموم التعليل ، نظير حكومة الأمارات على الاصول العملية.

وبعبارة اخرى : الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام لا تتكفل لاثبات الموضوع ، فانّ مفادها ثبوت الحكم على الموضوع المقدّر وجوده. وأمّا كون الموضوع موجوداً أو غير موجود فهو خارج عن مفادها ، وعليه فمفاد التعليل عدم حجّية كل خبر غير علمي. وأمّا كون خبر فلان علمياً أو غير علمي فهو خارج عن مفاده ، فيكون المفهوم الدال على كون خبر العادل علماً بالتعبد حاكماً على عموم التعليل ، فلا تنافي بينه وبين المفهوم كي يكون عموم التعليل قرينةً على عدم المفهوم للقضيّة الشرطية ، نعم لو لم يكن المفهوم حاكماً على التعليل وقع التنافي بينهما ، فأمكن الالتزام بأنّ عموم التعليل مانع عن ظهور القضيّة الشرطية في المفهوم ، كما إذا قيل : إن كان هذا رماناً فلا تأكله لأنّه حامض ، فانّ مقتضى عموم التعليل المنع عن أكل كل حامض ، ومقتضى مفهوم القضيّة الشرطية جواز الأكل إن لم يكن رماناً ، فيقع التنافي بينهما في حامض غير الرمان ، فيكون عموم التعليل مانعاً عن ظهور القضيّة الشرطية في المفهوم ، وهذا بخلاف الآية الشريفة ، فانّ المفهوم فيها حاكم على عموم التعليل على ما

__________________

(١) تقدّم في ص ١٢٠

١٩١

عرفت ، فلا تنافي بينهما ليكون التعليل مانعاً عن ظهور الجملة الشرطية في المفهوم.

ثمّ إنّه ربّما يستشكل على كون المفهوم حاكماً على التعليل بأ نّه لو اقتصر في التعليل بقوله تعالى : «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» لأمكن الالتزام بكون المفهوم حاكماً على التعليل ، باعتبار أنّ خبر العادل قد اعتبر علماً بالتعبد ، فهو خارج عن الجهالة موضوعاً ببركة التعبد. ولكن التعليل في الآية المباركة مذيّل بما يكون معه مانعاً عن المفهوم ، وهو قوله تعالى : «فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» إذ الندم لا يكون إلاّلأجل الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع. وهذا التعليل مانع عن المفهوم ، لأنّ العمل بخبر العادل أيضاً لا يؤمن معه من الندم الناشئ من الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع.

وفيه : أنّ الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع تارةً يكون مع العمل بالوظيفة المقررة شرعاً. واخرى يكون مع عدم العمل بها ، والأوّل كما إذا عمل بالبيّنة الشرعية في مورد ثمّ انكشف خلافها ، والثاني كما إذا عمل بخلاف البيّنة فوقع في مفسدة مخالفة الواقع ، والندم في القسم الأوّل ممّا لا أثر له ، إذ المكلف فيه معذور في مخالفة الواقع ، ولا يكون مستحقاً للعقاب ، بخلاف الندم في القسم الثاني ، فانّ المكلف لايكون معذوراً في مخالفة الواقع ، ويكون مستحقاً للعقاب.

وليس المراد من الندم في الآية الشريفة هو القسم الأوّل قطعاً وإلاّ يسقط جميع الأمارات والطرق عن الحجّية في الشبهات الحكمية والموضوعية ، لأنّ احتمال الوقوع في مخالفة الواقع موجود في الجميع ، بل في القطع الوجداني أيضاً ، لاحتمال كونه جهلاً مركباً ، وإن لم يكن القاطع ملتفتاً حين قطعه إلى ذلك.

وبالجملة : مجرد الندم على الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع مع كون المكلف عاملاً بالوظيفة غير مستحق للعقاب لا يكون منشأ لأثر من الآثار ، ولا يصحّ

١٩٢

التعليل به ، فالمراد من الندم في الآية الشريفة هو القسم الثاني ـ أي الندامة على الوقوع في مفسدة مخالفة الواقع ، مع كونه غير معذور في ذلك مستحقاً للعقاب ـ وخبر العادل على تقدير حجّيته خارج عن هذا التعليل موضوعاً ، إذ المكلف العامل بالحجّة المعتبرة معذور في مخالفة الواقع غير مستحق للعقاب ، فصحّ ما ذكرناه من أنّ المفهوم على تقدير دلالة الجملة الشرطية عليه بنفسها حاكم على عموم التعليل ، لا أنّ التعليل مانع عن المفهوم.

وقد يستشكل أيضاً على كون المفهوم حاكماً على التعليل بأنّ معنى الحكومة أن يكون الدليل الحاكم ناظراً إلى المحكوم وشارحاً له بالتوسعة أو بالتضييق في الموضوع بلحاظ الأثر الثابت له في الدليل المحكوم ، فيكون الدليل الحاكم مثبتاً لذلك الأثر لغيره ، بلسان ثبوت الموضوع ، كما في قوله عليه‌السلام : «الفقّاع خمر استصغره الناس» (١) أو نافياً له عن بعض مصاديقه بلسان نفي الموضوع كقوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» (٢) فيكون الحاكم دائماً ناظراً إلى الأثر الثابت في الدليل المحكوم فيثبته بلسان ثبوت الموضوع أو ينفيه بلسان نفي الموضوع ، وهذا هو معنى الحكومة ، وهو لا ينطبق على المقام ، إذ المستفاد من المفهوم أوّلاً عدم وجوب التبين عن خبر العادل ، ويستكشف منه أنّ الشارع قد اعتبره علماً فلا معنى للحكومة بمعنى خروج خبر العادل عن التعليل موضوعاً بلحاظ عدم وجوب التبين عنه ، إذ المفروض أنّ عدم وجوب التبين عن خبر العادل هو المستفاد من المفهوم أوّلاً ثمّ يستكشف منه أنّ الشارع قد اعتبره علماً ، فكيف يمكن الالتزام بأ نّه خارج عن عموم التعليل

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٣٦٥ / أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٨ ح ١ (باختلاف يسير)

(٢) الوسائل ١٨ : ١٣٥ / أبواب الرِّبا ب ٧ ح ١ و ٣ وفيهما : «ليس بين الرجل وولده ربا»

١٩٣

موضوعاً فلا يجب التبين عنه.

وإن شئت قلت : إنّ الحكومة إنّما هي فيما إذا كان لسان الدليل الحاكم نفي الموضوع وكان الغرض منه نفي الحكم كما في قوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» وأمّا لو كان لسان الدليل نفي الحكم من أوّل الأمر فليس هناك حكومة بل تخصيص لا محالة كما لو كان لسان الدليل هكذا : لا يحرم الرِّبا بين الوالد والولد فانّه مخصص لأدلة حرمة الرِّبا لا أنّه حاكم عليها ، والمقام من هذا القبيل بعينه ، إذ المستفاد من المفهوم أوّلاً عدم وجوب التبين عن خبر العادل ويستكشف منه حجّيته وأ نّه اعتبر علماً فيكون المفهوم مخصصاً للتعليل الدال على وجوب التبين عن كل خبر غير علمي لا أنّه حاكم عليه ، والمفروض عدم إمكان الالتزام بالتخصيص لكون ظهور العام أقوى من ظهور القضيّة الشرطية في المفهوم ، بل التعليل بنفسه آبٍ عن التخصيص في نفسه ، وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله تعالى : «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» فيكون التعليل مانعاً عن انعقاد الظهور للقضيّة الشرطية في المفهوم.

هذا ملخّص الاشكال الذي ذكره بعض الأعاظم (١) بتوضيح منّا ، والانصاف أنّه كلام علمي دقيق وإن كان غير تام ، إذ يمكن الجواب عنه بأنّ الحكومة على قمسين :

القسم الأوّل : هو ما ذكر في الاشكال وهو أن يكون الحاكم ناظراً إلى المحكوم وشارحاً له بالتصرّف في الموضوع تضييقاً أو توسعة بلحاظ الأثر الثابت له في الدليل المحكوم وقد ذكر أمثلته ، وهذا النوع من الحكومة إنّما هو فيما إذا لم يكن الموضوع بنفسه قابلاً للتعبد كالخمر في قوله عليه‌السلام :

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ١١٥

١٩٤

«الفقّاع خمر استصغره الناس» (١) ، وكذا الرِّبا بين الوالد والولد ، فانّ الفقّاع ليس من أفراد الخمر بالوجدان فكيف يمكن التعبد بأ نّه خمر مع قطع النظر عن الأثر الشرعي ، وكذا الرِّبا بمعنى الزيادة موجود بين الوالد والولد بالوجدان ، فكيف يمكن التعبد بأ نّه لا ربا بينهما مع قطع النظر عن الأثر الشرعي ، فلا محالة يكون التعبد ناظراً إلى الأثر الشرعي الثابت للموضوع فيثبته لغيره كما في قوله عليه‌السلام : «الفقّاع خمر» أو ينفيه عن بعض مصاديقه كما في قوله عليه‌السلام : «لا رِبا بين الوالد والولد» (٢) غاية الأمر أنّ إثبات الأثر ونفيه إنّما هو بلسان نفي الموضوع وإثباته.

القسم الثاني من الحكومة : ما إذا كان الموضوع بنفسه قابلاً للتعبد بلا احتياج إلى لحاظ أثر شرعي فيتعبد بموضوع ولو لم يكن له أثر شرعي أصلاً كالعلم فانّه يصح أن يعتبر الشارع أمارةً غير علمية علماً وإن لم يكن للعلم أثر شرعي أصلاً ، فيترتب على الأمارة الآثار العقلية للعلم من التنجيز والتعذير ، والمقام من هذا القبيل فانّه بعد ما استفدنا من المفهوم عدم وجوب التبين عن خبر العادل يستكشف منه أنّ خبر العادل قد اعتبر علماً للملازمة بينهما ، فيكون خبر العادل خارجاً عن عموم التعليل موضوعاً بالتعبد ، وهو من الحكومة بهذا المعنى الثاني لا بمعنى أنّ خبر العادل قد اعتبر علماً بلحاظ أثره الشرعي وهو عدم وجوب التبين عنه فانّه ليس من آثار العلم بل لا معنى له ، إذ العلم هو نفس التبين فلا يعقل أن يكون عدم وجوب التبين من آثاره ، ومن هذا النوع من الحكومة حكومة الأمارات على الاصول العملية وحكومة قاعدة الفراغ والتجاوز على الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، فلا مانع من كون المفهوم حاكماً على عموم التعليل مع قطع النظر عن لحاظ ترتب الأثر

__________________

(١) ، (٢) تقدّم استخراجهما في ص ١٩٣

١٩٥

وهو عدم وجوب التبين فلاحظ وتأمّل.

وقد يستشكل أيضاً على كون المفهوم حاكماً على التعليل : بأنّ المفهوم متفرع على المنطوق ومترتب عليه ، لأنّ دلالة اللفظ على المعنى الالتزامي فرع دلالته على المعنى المطابقي كما هو ظاهر ، فالمفهوم متأخر رتبة عن المنطوق تأخر المعلول عن علّته ، وحيث إنّ المنطوق متأخر رتبة عن التعليل لكونه معلولاً له فلا يعقل أن يكون المفهوم حاكماً على التعليل ، إذ ما يكون متأخراً عن الشيء رتبة لا يمكن أن يكون حاكماً عليه.

وهذا الاشكال مردود بوجوه :

الأوّل : أنّ تأخر المفهوم عن المنطوق إنّما هو في مقام الكشف والدلالة ، بمعنى أنّ دلالة القضيّة على المفهوم متأخرة رتبة عن دلالتها على المنطوق ، وأمّا نفس المفهوم فليس متأخراً عن المنطوق. وبعبارة اخرى : عدم وجوب التبين عن خبر العادل ليس متأخراً عن وجوب التبين عن خبر الفاسق ، وبعبارة ثالثة واضحة : حجّية خبر العادل ليست متأخرة عن عدم حجّية خبر الفاسق بل المتأخر كشف القضية عن حجية خبر العادل عن كشفها عن عدم حجية خبر الفاسق ، والحاكم على التعليل إنّما هو نفس المفهوم لا كشفه ، فما هو متأخر رتبة عن المنطوق ليس حاكماً على التعليل وما هو حاكم عليه ليس متأخراً عن المنطوق.

الثاني : أنّه لو سلّم كون المفهوم بنفسه متأخراً عن المنطوق كان ذلك مانعاً عن الحكومة بالمعنى الأوّل ، وهي أن يكون الحاكم ناظراً إلى المحكوم وشارحاً له ، باعتبار أنّ ما يكون متأخراً عن الشيء رتبةً لا يعقل أن يكون شارحاً له.

وأمّا الحكومة بالمعنى الثاني ، وهي أن يكون مفاد الحاكم خارجاً موضوعاً عن مفاد المحكوم بالتعبد فلا مانع منها ، إذ كون المفهوم متأخراً عن المنطوق رتبة لا يمنع من خروج المفهوم عن عموم التعليل موضوعاً بالتعبد كما هو واضح.

١٩٦

الثالث : أنّه لو سلّم كون التأخر الرتبي مانعاً عن الحكومة بكلا معنييها فانّما هو فيما إذا كان التعليل مولوياً ، بأن يكون المراد منه حرمة إصابة القوم بجهالة. وأمّا إذا كان التعليل إرشاداً إلى ما يحكم به العقل من عدم جواز العمل بما لا يؤمن معه من العقاب المحتمل فلا مانع من كون المفهوم حاكماً عليه ، إذ بعد حجّية خبر العادل كان العمل به مأموناً من العقاب وكان خارجاً عن حكم العقل موضوعاً ، وقد ذكرنا سابقاً (١) أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ومنها التعليل في آية النبأ إرشاد إلى حكم العقل.

الوجه الثاني من الاشكال على الاستدلال بالآية الشريفة : أنّه إن اريد بالتبين المذكور في الآية خصوص العلم فيكون العمل به لا بخبر الفاسق ، إذ مع العلم الوجداني كان ضم خبر الفاسق إليه من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الانسان ، وحيث إنّ العمل بالعلم الوجداني واجب عقلاً كان الأمر به في الآية الشريفة إرشاداً إليه لا محالة ، ولا يستفاد المفهوم من الأمر الارشادي ، فلا مفهوم للآية الشريفة ، وإن اريد بالتبين مجرّد الوثوق يقع التنافي بين المفهوم والمنطوق بمعنى عدم إمكان العمل بهما معاً ، إذ مقتضى المنطوق حجّية خبر الفاسق الموثوق به ، بأن يكون متحرزاً عن الكذب وإن لم يكن عادلاً ، ومقتضى المفهوم حجّية خبر العادل وإن لم يحصل الوثوق به كما إذا كان معرضاً عنه عند الأصحاب ، والعلماء بين من اعتبر العدالة في حجّية الخبر ولم يكتف بمجرّد الوثوق ، وبين من اعتبر الوثوق ولم يعمل بخبر العادل الذي لا يوجب الوثوق كما إذا كان معرضاً عنه عند الأصحاب. فالجمع بين العمل بخبر الفاسق الموثوق به بمقتضى المنطوق والعمل بخبر العادل وإن لم يوجب الوثوق بمقتضى المفهوم إحداث لقول ثالث. وهذا هو المراد من عدم إمكان العمل بالمنطوق والمفهوم

__________________

(١) في ص ١٣٢ و ١٧٧

١٩٧

معاً ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن أحدهما ، ولا ينبغي الشك في أنّ المتعيّن هو رفع اليد عن المفهوم لأنّه مترتب على المنطوق ومتفرع عليه فلا يمكن الأخذ به مع رفع اليد عن المنطوق ، فتكون النتيجة أنّه لا مفهوم للآية المباركة على كلا التقديرين.

وهذا الاشكال غير وارد على الاستدلال بالآية ، سواء كان المراد من التبين هو خصوص العلم أو مجرد الوثوق ، وذلك لأنّه إن كان المراد منه خصوص العلم لايلزم منه انتفاء المفهوم ، إذ ليس في الآية أمر بالعمل بالعلم ليكون إرشاداً إلى حكم العقل ، بل أمر بتحصيل العلم عند إرادة العمل بخبر الفاسق ، ومفهومه عدم وجوب تحصيل العلم عند العمل بخبر العادل ، ولازمه حجّية خبر العادل وهو المطلوب.

وإن كان المراد مجرد الوثوق لا يلزم التنافي بين المنطوق والمفهوم أصلاً ، إذ مقتضى المنطوق حجّية خبر الفاسق الموثوق به كما ذكر ولا كلام فيه ، ومقتضى المفهوم حجّية خبر العادل وإن لم يوجب الوثوق كما إذا أعرض الأصحاب عنه.

فإن قلنا بأنّ إعراض المشهور لايوجب سقوط الخبر عن الحجّية ولا عملهم بخبر ضعيف يوجب الانجبار على ما اخترناه أخيراً (١) ، فلا محذور حينئذ ، إذ يؤخذ بالمفهوم على إطلاقه ، ويحكم بحجّية خبر العادل ولو مع إعراض المشهور عنه.

وإن قلنا بأنّ إعراض المشهور يوجب سقوط الخبر عن الحجّية ، واعتمادهم يوجب الانجبار كما هو المشهور ، فيرفع اليد عن إطلاق المفهوم ويقيّد بما إذا لم يكن معرضاً عنه عند الأصحاب ، وليس فيه تناف بين المنطوق والمفهوم ولا إحداث قول ثالث.

__________________

(١) يأتي الكلام فيه في ص ٢٣٥

١٩٨

هذا كلّه مضافاً إلى أنّه ليس المراد من التبين خصوص العلم ولا خصوص الوثوق ، بل المراد منه هو الجامع الأعم منهما ، على ما سيجيء تحقيقه قريباً (١) إن شاء الله تعالى.

الوجه الثالث من الاشكال : أنّ مورد الآية هو الاخبار بارتداد بني المصطلق ، ولا إشكال في عدم صحّة الاعتماد على خبر العدل الواحد في ارتداد شخص واحد فضلاً عن ارتداد جماعة ، فلو كان للآية الشريفة مفهوم لزم خروج المورد ، وهو أمر مستهجن لا يمكن الالتزام به ، فيستكشف من ذلك أنّه لا مفهوم لها.

وأجاب عنه شيخنا الأنصاري (٢) قدس‌سره بما حاصله : أنّ الموضوع لوجوب التبين عن النبأ هو طبيعي الفاسق ، فيشمل الواحد والاثنين والأكثر ، ما لم يصل إلى حدّ التواتر ، فيكون الموضوع في المفهوم أيضاً طبيعي العادل ، وإطلاقه وإن كان يشمل الواحد والأكثر ، إلاّ أنّه يرفع اليد عن الاطلاق في خصوص المورد ويقيد بالمتعدد ، وليس فيه خروج المورد عن المفهوم.

وأورد عليه بعض الأعاظم (٣) بأ نّه إن كان التبين بمعنى العلم ، كان العمل به واجباً عقلاً ، فيكون الأمر به إرشادياً لا مفهوم له على ما تقدّم (٤) ، وإن كان بمعنى الوثوق لزم خروج المورد من منطوق الآية ، ضرورة عدم جواز الاعتماد على خبر الفاسق الموثوق به في الارتداد ، وخروج المورد أمر مستهجن كما تقدّم.

وفيه أوّلاً : ما تقدّم من أنّه لو كان المراد من التبين هو العلم لا يلزم كون

__________________

(١) في آخر الصفحة

(٢) فرائد الاصول ١ : ١٧٢

(٣) لاحظ نهاية الأفكار ٣ : ١١٧

(٤) في الوجه الثاني من الإشكال

١٩٩

الأمر في الآية إرشادياً ، إذ الواجب عقلاً هو العمل بالعلم ، والمستفاد من الآية هو تحصيل العلم لا العمل به.

وثانياً : أنّ التبين المذكور في الآية ليس بمعنى العلم ليلزم كون الأمر إرشادياً ، ولا بمعنى الوثوق ليلزم خروج المورد عن المنطوق ، بل المراد منه المعنى اللغوي وهو الظهور ، كما يقال إنّ الشيء تبين إذا ظهر ، فالأمر بالتبين أمر بتحصيل الظهور وكشف الحقيقة في النبأ الذي جاء به الفاسق ، وهو كناية عن عدم حجّية خبر الفاسق في نفسه ، فيجب عند إرادة العمل بخبره تحصيل الظهور وكشف الواقع من الخارج. ومن الظاهر أنّ ظهور الشيء بطبعه إنّما هو بالعلم الوجداني ، وأمّا غيره فيحتاج إلى دليل يدل على تنزيله منزلة العلم ، ومفهوم الآية عدم وجوب التبين في خبر العادل ، فيدل بالملازمة العرفية على حجّيته ، فيكون ظاهراً بنفسه بلا احتياج إلى تحصيل الظهور من الخارج ، فلو كنّا نحن والآية الشريفة لم نعمل بخبر الفاسق في شيء من الموارد بمقتضى المنطوق ، وعملنا بخبر العادل في جميع الموارد بمقتضى المفهوم. إلاّ أنّه في كل مورد ثبتت حجّية خبر الثقة فيه كما في الأحكام الشرعية ، إذ قد ثبتت حجّيته فيها بالسيرة القطعية الممضاة عند الشارع ، على ما سيجيء الكلام فيها قريباً (١) إن شاء الله تعالى ، بل في الموضوعات أيضاً إلاّفيما اعتبرت فيه البيّنة الشرعية ، كما في موارد الترافع مثلاً.

فيستكشف من دليل حجّية خبر الثقة أنّ الشارع قد اعتبره ظهوراً ، فلا يلزم منه رفع اليد عن المنطوق ، لأنّ مفاد المنطوق تحصيل الظهور عند العمل بخبر الفاسق ، وبعد كون خبر الثقة حجّة في مورد بحكم الشارع يحصل الظهور به في ذلك المورد ، وفي كل مورد ثبت من الشرع اعتبار البيّنة الشرعية وعدم

__________________

(١) في ص ٢٢٩

٢٠٠