موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

عنه تعالى من مساقط الهلكة والفساد. وهذا هو الوجه في إرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الإمام عليه‌السلام وهذه القاعدة تقتضي ـ عند اتفاق الامّة على خلاف الواقع في حكم من الأحكام ـ أن يلقي الإمام المنصوب من قبل الله تعالى الخلاف بينهم ، فمن عدم الخلاف يستكشف موافقتهم لرأي الإمام عليه‌السلام.

وفيه أوّلاً : عدم تمامية القاعدة في نفسها ، إذ لا يجب اللطف عليه تعالى بحيث يكون تركه قبيحاً يستحيل صدوره منه سبحانه ، بل كل ما يصدر منه تعالى مجرد فضل ورحمة على عباده.

وثانياً : أنّ قاعدة اللطف على تقدير تسليمها لا تقتضي إلاّتبليغ الأحكام على النحو المتعارف ، وقد بلّغها وبيّنها الأئمة عليهم‌السلام للرواة المعاصرين لهم ، فلو لم تصل إلى الطبقة اللاحقة لمانع من قبل المكلفين أنفسهم ليس على الإمام عليه‌السلام إيصالها إليهم بطريق غير عادي ، إذ قاعدة اللطف لاتقتضي ذلك ، وإلاّ كان قول فقيه واحد كاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام ، إذا فرض انحصار العالم به في زمان. وهذا واضح الفساد.

وثالثاً : أنّه إن كان المراد إلقاء الخلاف وبيان الواقع من الإمام عليه‌السلام مع إظهار أنّه الإمام ، بأن يعرّفهم بإمامته ، فهو مقطوع العدم. وإن كان المراد هو إلقاء الخلاف مع إخفاء كونه إماماً فلا فائدة فيه ، إذ لا يترتب الأثر المطلوب من اللطف وهو الارشاد ، على خلاف شخص مجهول كما هو ظاهر.

الوجه الثاني : أنّ اتفاق جميع الفقهاء يستلزم القطع بقول الإمام عليه‌السلام عادةً ، إذ من قول فقيه واحد يحصل الظن ولو بأدنى مراتبه بالواقع ، ومن فتوى الفقيه الثاني يتقوى ذلك الظن ويتأكد ، ومن فتوى الفقيه الثالث يحصل الاطمئنان ، ويضعف احتمال مخالفة الواقع ، وهكذا إلى أن يحصل القطع بالواقع ،

١٦١

كما هو الحال في الخبر المتواتر ، فانّه يحصل الظن باخبار شخص واحد ، ويتقوى ذلك الظن باخبار شخص ثانٍ وثالث وهكذا إلى أن يحصل القطع بالمخبر به.

وفيه : أنّ ذلك مسلّم في الاخبار عن الحس كما في الخبر المتواتر ، لأنّ احتمال مخالفة الواقع في الخبر الحسّي إنّما ينشأ من احتمال الخطأ في الحس أو احتمال تعمد الكذب ، وكلا الاحتمالين يضعف بكثرة المخبرين إلى أن يحصل القطع بالمخبر به وينعدم الاحتمالان. وهذا بخلاف الاخبار الحدسي المبني على البرهان كما في المقام ، فانّ نسبة الخطأ إلى الجميع كنسبته إلى الواحد ، إذ احتمال كون البرهان غير مطابق للواقع لا يفرق فيه بين أن يكون الاستناد إليه من شخص واحد أو أكثر ، ألا ترى أنّ اتفاق الفلاسفة على أمر برهاني كامتناع إعادة المعدوم مثلاً لا يوجب القطع به. نعم ، لو تمّ ما نسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «لا تجتمع امّتي على الخطأ» (١) وقلنا بأنّ المراد من الامّة هو خصوص الإمامية ، ثبتت الملازمة بين إجماع علماء الإمامية وقول المعصوم عليه‌السلام ، ولكنّه غير تام سنداً ودلالة. أمّا من حيث السند فلكونه من المراسيل الضعاف ، وأمّا من حيث الدلالة فلعدم اختصاص الامّة بالإمامية كما هو ظاهر في نفسه ، ويظهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ستفترق امّتي على ثلاث وسبعين فرقة» (٢).

وقد يقال بالملازمة العادية بين الاجماع وقول المعصوم عليه‌السلام بدعوى أنّ العادة تحكم بأنّ اتفاق المرؤوسين على أمر لا ينفك عن رأي الرئيس ، فانّ اتفاق جميع الوزراء وجميع أركان الحكومة على أمر لا ينفك عن موافقة رأي السلطان بحكم العادة.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٢٥ / كتاب العلم ب ٢٩ ح ٣ وفيه : لا تجتمع امّتي على ضلالة

(٢) بحار الأنوار ٢٨ : ٤ / كتاب الفتن والمحن ب ١ ح ٣ وغيره

١٦٢

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتم فيما إذا كان المرؤوسون ملازمين لحضور رئيسهم كما في المثال ، وأنى ذلك في زمان الغيبة. نعم ، الملازمة الاتفاقية ـ بمعنى كون الاتفاق كاشفاً عن قول الإمام عليه‌السلام أحياناً من باب الاتفاق ـ ممّا لا سبيل إلى إنكارها ، إلاّ أنّه لا يثبت بها حجّية الاجماع بنحو الاطلاق ، فانّ استكشاف قول الإمام عليه‌السلام من الاتفاق يختلف باختلاف الأشخاص والأنظار ، فربّ فقيه لا يرى الملازمة أصلاً ، وفقيه آخر لا يرى استكشاف رأي المعصوم إلاّمن اتفاق علماء جميع الأعصار ، وفقيه ثالث يحصل له اليقين من اتفاق الفقهاء في عصر واحد ، أو من اتفاق جملة منهم. وقد شاهدنا بعض الأعاظم أنّه كان يدعي القطع بالحكم من اتفاق ثلاثة نفر من العلماء ، وهم الشيخ الأنصاري والسيّد الشيرازي الكبير والمرحوم الميرزا محمّد تقي الشيرازي (قدّس الله أسرارهم) ، لاعتقاده بشدّة ورعهم ودقّة نظرهم.

وقد يقال في وجه حجّية الاجماع إنّه كاشف عن وجود دليل معتبر ، بحيث لو وصل إلينا لكان معتبراً عندنا أيضاً.

وفيه : أنّ الاجماع وإن كان كاشفاً عن وجود أصل الدليل كشفاً قطعياً ، إذ الافتاء بغير الدليل غير محتمل في حقّهم فانّه من الافتاء بغير العلم المحرّم ، وعدالتهم مانعة عنه ، إلاّ أنّه لا يستكشف منه اعتبار الدليل عندنا ، إذ من المحتمل أن يكون اعتمادهم على قاعدة أو أصل لا نرى تمامية القاعدة المذكورة أو الأصل المذكور ، أو عدم انطباقهما على الحكم المجمع عليه ، كما تقدّم في الاجماع المدعى في كلام السيّد المرتضى قدس‌سره (١).

فتحصّل ممّا ذكرناه في المقام : أنّه لا مستند لحجّية الاجماع أصلاً ، وأنّ الاجماع

__________________

(١) تقدّم في ص ١٥٨

١٦٣

لايكون حجّة ، إلاّأنّ مخالفة الاجماع المحقق من أكابر الأصحاب وأعاظم الفقهاء ممّا لا نجترئ عليه ، فلا مناص في موارد تحقق الاجماع من الالتزام بالاحتياط اللازم ، كما التزمنا به في بحث الفقه.

المبحث الرابع

في حجّية الشهرة

اعلم أنّ الشهرة على أقسام ثلاثة :

القسم الأوّل : الشهرة في الرواية بمعنى كثرة نقلها ، ويقابلها الشذوذ والندرة ، بمعنى قلّة الناقل لها. وهذه الشهرة من المرجحات عند تعارض الخبرين على المسلك المشهور ، استناداً إلى ما في مرفوعة زرارة من قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» (١) وما في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه‌السلام : «خذ بالمجمع عليه بين أصحابك» (٢) باعتبار أنّ المراد منه المشهور لا الاجماع الاصطلاحي ، بقرينة المقابلة في قوله عليه‌السلام : «واترك الشاذ النادر».

ولكن التحقيق عدم كونها من المرجحات ، إذ المراد بالمجمع عليه في المقبولة هو الخبر الذي اجمع على صدوره من المعصوم ، فيكون المراد منه الخبر المعلوم صدوره ، لقوله عليه‌السلام : «فانّ المجمع عليه لاريب فيه» وقوله عليه‌السلام بعد ذلك : «الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتبع ، وأمر بيّن غيه فيجتنب ، وأمر

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ح ٢٢٩ ، المستدرك ١٧ : ٣٠٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٢

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١

١٦٤

مشكل يردّ حكمه إلى الله» فانّ الإمام عليه‌السلام طبّق الأمر البيّن رشده على الخبر المجمع عليه ، وحينئذ يكون الخبر المعارض له ساقطاً عن الحجّية في نفسه ، لما دلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب والسنّة (١) ، والمراد بالسنّة كل خبر مقطوع الصدور لا خصوص النبوي كما هو ظاهر. ولا ينافي ما ذكرناه فرض الراوي الشهرة في كلتا الروايتين بعد أمر الإمام عليه‌السلام بالأخذ بالمجمع عليه ، وذلك لأنّ القطع بصدور أحدهما لا يستلزم القطع بعدم صدور الآخر ، بل يمكن أن يكون كلاهما صادراً من المعصوم عليه‌السلام ، ويكون أحدهما صادراً لبيان الحكم الواقعي ، والآخر للتقيّة.

وظهر بما ذكرناه عدم صحّة الاستدلال بالمرفوعة أيضاً ، إذ المراد بقوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» هو الشهرة بالمعنى اللغوي ، أي الظاهر الواضح (٢) ، كما يقال شهر سيفه وسيف شاهر ، فيكون المراد به الخبر الواضح صدوره ، بأن كان مقطوع الصدور أو المطمأن بصدوره ، ويكون حينئذ الخبر المعارض له ساقطاً عن الحجّية في نفسه لما تقدّم.

هذا مضافاً إلى عدم تمامية كل من المرفوعة والمقبولة من حيث السند.

أمّا المرفوعة فلكونها من المراسيل التي لا يصحّ الاعتماد عليها ، فانّها مرويّة في كتاب عوالي اللآلي (٣) لابن أبي جمهور الاحسائي عن العلاّمة مرفوعة إلى زرارة. مضافاً إلى أنّها لم توجد في كتب العلاّمة قدس‌سره ولم يثبت توثيق راويها ، بل طعن فيه وفي كتابه من ليس دأبه الخدشة في سند الرواية ، كالمحدِّث

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٧ وغيره

(٢) المنجد : ٤٠٦ / مادّة شهر

(٣) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ / ح ٢٢٩

١٦٥

البحراني في الحدائق (١).

ودعوى انجبارها بعمل المشهور ممنوعة صغرىً وكبرى. أمّا من حيث الصغرى فلأ نّه لم يثبت استناد المشهور إليها ، بل لم نجد عاملاً بما في ذيلها من الأمر بالاحتياط. وأمّا من حيث الكبرى فلما ذكرناه في محلّه من عدم كون عمل المشهور جابراً لضعف السند. وسنتعرض له في بحث حجّية الخبر (٢) إن شاء الله تعالى.

وأمّا المقبولة فلعدم ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة ، ولم يذكر له توثيق في كتب الرجال. نعم ، وردت رواية في باب الوقت تدل على توثيق الإمام عليه‌السلام له ونعم التوثيق ، فانّ توثيق الإمام إمام التوثيقات ، وهي ما نقله في الوسائل عن الكافي عن علي بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة ، قال قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : «إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت ، فقال عليه‌السلام : إذن لا يكذب علينا» (٣). إلاّأنّ هذه الرواية بنفسها ضعيفة من حيث السند ، فلا يمكن إثبات وثاقة عمر بن حنظلة بها.

فتحصّل ممّا ذكرناه : عدم كون هذه الشهرة من المرجحات عند تعارض الخبرين.

القسم الثاني : هي الشهرة العملية ، بمعنى استناد الشهرة إلى خبر في مقام الافتاء ، وبهذه الشهرة ينجبر ضعف سند الرواية عند المشهور ، وفي قبالها

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٩٩

(٢) في ص ٢٣٥

(٣) الوسائل ٢٧ : ٨٥ / أبواب صفات القاضي ب ٨ ح ٣٠

١٦٦

إعراض المشهور الموجب لوهن الرواية ، وإن كانت صحيحة أو موثقة من حيث السند على المشهور أيضاً.

هذا ، ولكن التحقيق عدم كون عمل المشهور جابراً على تقدير كون الخبر ضعيف السند في نفسه ، ولا إعراضهم موهناً على تقدير كون الخبر صحيحاً أو موثقاً في نفسه ، بل الميزان في حجّية الخبر تمامية سنده في نفسه ، وسنتعرّض لذلك في بحث حجّية الخبر قريباً (١) إن شاء الله تعالى.

القسم الثالث : هي الشهرة [الفتوائية] بمعنى اشتهار الفتوى بحكم من الأحكام من دون أن يعلم مستند الفتوى ، وهذه الشهرة هي محل الكلام فعلاً من حيث الحجّية وعدمها ، وقد استدلّ على حجّيتها بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة (٢) تدلاّن على حجّيتها ، بتقريب أنّ المراد من المجمع عليه في المقبولة ليس هو الاجماع المصطلح ، بل المراد منه المشهور بقرينة المقابلة في قوله عليه‌السلام : «واترك الشاذ النادر» وإطلاقه يشمل الشهرة الفتوائية أيضاً. وكذا قوله عليه‌السلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك» في المرفوعة ، فانّ الموصول من المبهمات ومعرّفه الصلة ، وإطلاقها يشمل الشهرة الفتوائية أيضاً.

وفيه أوّلاً : ما تقدّم (٣) من عدم تمامية المقبولة والمرفوعة من حيث السند فلا يصحّ الاستدلال بهما.

وثانياً : ما تقدّم أيضاً من أنّ المراد بالمجمع عليه هو الخبر المقطوع صدوره ،

__________________

(١) في ص ٢٣٥ ـ ٢٣٧

(٢) تقدّم ذكر المصدر في ص ١٦٤

(٣) تقدّم هذا الجواب وما بعده في القسم الأوّل من الشهرة

١٦٧

لأنّ الإمام عليه‌السلام قد أدخله في أمر بيّن رشده. وكذا المراد بالمشهور في المرفوعة هو المشهور اللّغوي ، أي الظاهر الواضح ، فالمراد بهما هو الأخذ بالمقطوع ، فلا ربط لهما بالشهرة الفتوائية.

وثالثاً : أنّه مع الغض عمّا تقدّم لا إطلاق لهما ليشمل الشهرة الفتوائية ، لأنّ المراد من الموصول هو خصوص الخبر المشهور ، بقرينة أنّ السؤال إنّما هو عن الخبرين المتعارضين ، ولا مانع من أن يكون معرّف الموصول ومبيّن المراد منه غير صلته ، والسؤال عن الخبرين قرينة على أنّ المراد منه خصوص الخبر المشهور لا مطلق المشهور ، كما يظهر بالتأمل في نظائره من الأمثلة. فإذا قيل أيّ المسجدين تحب؟ فقال في الجواب : ما كان الاجتماع فيه أكثر ، كان ظاهراً في خصوص المسجد الذي كان الاجتماع فيه أكثر ، لا مطلق المكان الذي كان الاجتماع فيه أكثر. وكذا لو قيل أيّ الرمانتين تريد؟ فقال في الجواب : ما كان أكبر ، كان ظاهراً في أنّ المراد هو الأكبر من الرمانتين لا مطلق الأكبر ، وهذا ظاهر ، فحينئذ لا إطلاق للصلة ليشمل مطلق المشهور.

الوجه الثاني : أنّ الظن الحاصل من الشهرة أقوى من الظن الحاصل من خبر الواحد ، فالذي يدل على حجّية الخبر يدل على حجّية الشهرة بالأولوية.

وفيه : أنّ هذا الوجه مبني على أن يكون ملاك حجّية الخبر إفادته الظن ، وعليه لزم الالتزام بحجّية كل ظن مساوٍ للظن الحاصل من الخبر أو أقوى منه ، سواء حصل من الشهرة أو من فتوى جماعة من الفقهاء ، أو من فتوى فقيه واحد ، أو غير ذلك ، فاللازم ذكر هذا الدليل في جملة أدلّة حجّية الظن المطلق لا أدلة الشهرة. ولكن المبنى المذكور غير تام ، إذ يحتمل أن يكون ملاك حجّية الخبر كونه غالب المطابقة للواقع ، باعتبار كونه إخباراً عن حس ، واحتمال الخطأ في الحس بعيد جداً ، بخلاف الاخبار عن حدس كما في الفتوى ، فان

١٦٨

احتمال الخطأ في الحدس غير بعيد ، ويحتمل أيضاً دخل خصوصية اخرى في ملاك حجّية الخبر. ومجرد احتمال ذلك كافٍ في منع الأولوية المذكورة ، لأنّ الحكم بالأولوية يحتاج إلى القطع بالملاك وكل ما له دخل فيه.

الوجه الثالث : عموم التعليل الوارد في ذيل آية النبأ ، وهو قوله تعالى : «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ـ أي بسفاهة ـ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (١) إذ التعليل قد يكون مخصصاً للحكم المعلل به كما في قولنا : لا تأكل الرمان لأنّه حامض ، وقد يكون معمماً له كما في قولنا : لا تشرب الخمر لأنّه مسكر ، فانّه يحكم بحرمة كل مسكر ولو لم يكن خمراً. ومفاد التعليل في الآية الشريفة إنّما هو وجوب التبين في كل ما كان العمل به سفاهة ، وحيث إنّ العمل بالشهرة لا يكون سفاهة ، فلا يجب فيها التبين بمقتضى عموم التعليل.

وفيه : منع الصغرى والكبرى. أمّا الصغرى : فلأنّ المراد من الجهالة في الآية الشريفة إمّا السفاهة بمعنى العمل بشيء بلا لحاظ مصلحة وحكمة فيه ، قبالاً للعمل العقلائي الناشئ من ملاحظة المصلحة ، وإمّا الجهل قبالاً للعلم ، ولفظ الجهالة قد استعمل في كل من المعنيين. فإن كان المراد منها السفاهة كان العمل بالشهرة من السفاهة ، إذ العمل بما لا يؤمن معه من الضرر المحتمل ـ أي العقاب ـ يكون سفاهةً بحكم العقل ، فانّ العقل يحكم بتحصيل المؤمّن من العقاب ، والعمل بالشهرة بلا دليل على حجّيتها لا يكون مؤمّناً ، فيكون سفاهة وغير عقلائي ، وإن كان المراد منها الجهل بمعنى عدم العلم ، فالأمر أوضح ، إذ الشهرة لا تفيد العلم فيكون العمل بها جهالة لا محالة.

وأمّا منع الكبرى : فلأنّ التعليل وإن كان يقتضي التعميم ، إلاّ أنّه لا يقتضي

__________________

(١) الحجرات ٤٩ : ٦

١٦٩

نفي الحكم عن غير مورده ممّا لا توجد فيه العلّة ، إذ لا مفهوم له ، لأنّه فرع انحصار العلّة ، وهو لا يستفاد من التعليل ولا ربط له بعموم التعليل ، فانّ التعدي إلى غير الخمر من المسكرات ، والحكم بحرمتها لعموم التعليل لا يوجب الحكم بحلية كل ما ليس بمسكر ، بل قد يكون الشيء حراماً مع عدم كونه مسكراً كما إذا كان نجساً أو كان مال الغير مثلاً ، فالحكم بوجوب التبين في كل ما كان العمل به سفاهة لعموم التعليل لا يدل على عدم وجوب التبين في كل ما ليس العمل به سفاهة ، بل يمكن أن يكون التبين فيه واجباً مع عدم كون العمل به سفاهة.

فتحصّل : أنّ الشهرة الفتوائية ممّا لم يقم دليل على حجّيتها.

المبحث الخامس

في حجّية خبر الواحد

وليعلم أنّ هذا البحث من أهمّ المسائل الاصولية ، إذ العلم الضروري بالأحكام الشرعية غير حاصل ، إلاّفي الأحكام الكلّية الاجمالية ، كوجوب الصلاة والصوم وأمثالهما ، والعلم غير الضروري بالأحكام ـ كالعلم الحاصل من الخبر المقطوع صدوره للتواتر أو للقرينة القطعية ـ قليل جداً ، فغالب الأحكام وأجزاء العبادات وشرائطها إنّما يثبت بأخبار الآحاد ، فالبحث عن حجّيتها من أهمّ المسائل الاصولية ، وباثباتها ينفتح باب العلمي في الأحكام الشرعية ، وينسد باب الانسداد ، وبعدمها ينسد باب العلمي وينفتح باب الانسداد. وبعد وضوح أنّ هذا البحث من أهمّ المسائل الاصولية ، فالاشكال في كونه منها ـ نظراً إلى كون موضوع علم الاصول هي الأدلة الأربعة ـ في

١٧٠

الحقيقة إشكال على حصر موضوع علم الاصول فيها ، فلا بدّ من الالتزام بأنّ موضوع علم الاصول أمر جامع لجميع موضوعات مسائله ، لا خصوص الأدلة الأربعة ، لأنّه لم يدل عليه دليل من آية ولا رواية.

هذا بناءً على الالتزام بلزوم الموضوع لكل علم ، وإلاّ كما هو الصحيح فلا موضوع لعلم الاصول أصلاً ، وعلمية العلم لا تتوقف على وجود الموضوع على ما تقدّم الكلام فيه في أوائل بحث الألفاظ (١).

ثمّ إنّ شيخنا الأنصاري (قدس‌سره) حيث اختار أنّ الموضوع لعلم الاصول هي الأدلة الأربعة ، تصدّى لدفع الاشكال المذكور (٢) وملخص ما أفاده بتوضيح منّا : أنّ العمل بالأخبار يتوقف على امور ثلاثة : حجّية الظهور ، وأصل الصدور ، وجهة الصدور بمعنى كون الكلام صادراً لبيان المراد الجدي لابداع آخر كالتقيّة والامتحان والاستهزاء ونحوها. أمّا حجّية الظواهر فقد تقدّم الكلام فيها. وأمّا جهة الصدور فقد تحققت سيرة العقلاء على حمل الكلام الصادر من كل متكلم على أنّه صادر لبيان المراد الواقعي ، لا لداعٍ آخر كالتقية والسخرية ونحوهما. وأمّا أصل الصدور فالمتكفل لبيانه هذا المبحث ، فيبحث فيه عن أنّ صدور السنّة ـ وهي قول المعصوم عليه‌السلام أو فعله أو تقريره ـ يثبت بخبر الواحد أم لا ، فيكون البحث بحثاً عن أحوال السنّة ، ويندرج في المسائل الاصولية.

وفيه : أنّه إن كان المراد هو الثبوت الواقعي الخارجي فهو بديهي الفساد ولا يبحث عنه في هذه المسألة ، فإنّ الخبر حاكٍ عن السنّة ، ولا يعقل أن يكون

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ١٣ وما بعدها

(٢) فرائد الاصول ١ : ١٥٦

١٧١

الحاكي عن شيء من علل تحققه خارجاً ، ولا يكون هذا مراد الشيخ قدس‌سره قطعاً ، وإن كان المراد هو الثبوت الواقعي الذهني بمعنى حصول العلم بها ، فهو أيضاً معلوم الانتفاء ، إذ خبر الواحد لا يفيد العلم ، ولا يكون هذا أيضاً مراد الشيخ قدس‌سره ، وإن كان المراد هو الثبوت التعبدي بمعنى تنزيل الخبر الحاكي للسنة منزلتها في وجوب العمل بها ، فالبحث عنه بحث عن عوارض الخبر لا السنّة ، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ بعض مشايخنا المحققين قدس‌سرهم وجّه كلام كلام الشيخ قدس‌سره بما حاصله : أنّ كل تنزيل يستدعي اموراً ثلاثة : المنزّل ، والمنزّل عليه ، ووجه التنزيل. والمنزّل في المقام هو الخبر ، والمنزّل عليه هي السنّة ، ووجه التنزيل وجوب العمل به ، فكما يمكن أن يجعل هذا البحث من عوارض الخبر ، بأن يقال يبحث في هذا المبحث عن كون الخبر منزّلاً منزلة السنّة أم لا ، كذلك يمكن أن يجعل من عوارض السنّة ، بأن يقال يبحث عن كون السنّة منزّلاً عليها الخبر وعدمه (١).

وفيه أوّلاً : ما تقدّم في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري من أنّه لا تنزيل في باب الحجج ، إنّما المجعول هو الطريقية بتتميم الكشف (٢) ، وليس ذلك إلاّمن عوارض الخبر.

وثانياً : أنّه على تقدير تسليم التنزيل المذكور كان متعلق غرض الاصولي ـ وهو التمسك بالخبر في مقام استنباط الحكم الشرعي ـ هي الجهة الاولى ، وهي البحث عن كون الخبر منزّلاً منزلة السنّة أم لا ، لا الجهة الثانية ، إذ لا يترتب عليها غرض الاصولي.

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٢٠٠

(٢) تقدّم في ص ١٢٠ ـ ١٢١

١٧٢

فالتحقيق في الجواب عن هذا الاشكال هو ما أشرنا إليه من أنّه لا ملزم لحصر موضوع علم الاصول في الأدلة الأربعة ، وأنّ الموضوع ـ على القول بلزومه في كل علم ـ هو الكلّي المنطبق على موضوعات المسائل ، وأمّا على القول بعدم لزومه كما هو الصحيح فالاشكال مندفع من أصله.

إذا عرفت ذلك فنقول : وقع الخلاف بين الأعلام في حجّية خبر الواحد ، فذهب جماعة من قدماء الأصحاب إلى عدم حجّيته ، بل ألحقه بعضهم بالقياس في أنّ عدم حجّيته من ضروري المذهب ، وذهب المشهور إلى كونه حجّة.

واستدلّ المنكرون بوجوه :

الوجه الأوّل : دعوى الاجماع على عدم حجّية الخبر.

وفيه أوّلاً : عدم حجّية الاجماع المنقول في نفسه.

وثانياً : أنّ الاجماع المنقول من أفراد خبر الواحد ، بل من أخس أفراده باعتبار كونه إخباراً حدسياً عن قول المعصوم عليه‌السلام ، بخلاف خبر الواحد المصطلح ، فانّه إخبار حسّي ، فمن عدم حجّية الخبر يثبت عدم حجّية الاجماع المنقول بالأولوية ، فكيف يمكن نفي حجّية خبر الواحد بالاجماع المنقول.

وثالثاً : أنّ دعوى الاجماع على عدم حجّية الخبر مع ذهاب المشهور من القدماء والمتأخرين إلى حجّيته معلومة الكذب. ولعلّ المراد من خبر الواحد في كلام من يدّعي الاجماع على عدم حجّيته هو الخبر الضعيف غير الموثق.

وذكر المحقق النائيني قدس‌سره (١) أنّ في خبر الواحد اصطلاحين : أحدهما : ما يقابل الخبر المتواتر والمحفوف بالقرينة القطعية. ثانيهما : الخبر الضعيف في مقابل الموثق ، وبهذا يجمع بين القولين باعتبار أنّ مراد المنكر لحجّية خبر الواحد هو

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ١٨٠

١٧٣

الخبر الضعيف ، ومراد القائل بالحجّية هو الخبر الصحيح والموثق. ويشهد بذلك أنّ الشيخ الطوسي قدس‌سره ـ مع كونه من القائلين بحجّية خبر الواحد ـ ذكر في مسألة تعارض الخبرين ، وترجيح أحدهما على الآخر : أنّ الخبر المرجوح لا يعمل به ، لأنّه خبر الواحد (١) فجرى في هذا التعليل على الاصطلاح الثاني في خبر الواحد ، وعليه فيكون خبر الواحد الموثوق به كما هو محل الكلام حجّة إجماعاً.

الوجه الثاني : الروايات الناهية عن العمل بالخبر المخالف للكتاب والسنّة ، والخبر الذي لا يكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذه الروايات كثيرة متواترة إجمالاً ، ووجه دلالتها أيضاً واضح ، إذ من المعلوم أنّ أغلب الروايات التي بأيدينا ليس عليها شاهد من كتاب الله ، ولا من السنّة القطعية ، وإلاّ لما احتجنا إلى التمسك بالخبر.

والجواب : أنّ الروايات الواردة في الباب طائفتان :

الطائفة الاولى : هي الأخبار (٢) الدالة على أنّ الخبر المخالف للكتاب باطل أو زخرف أو اضربوه على الجدار أو لم نقله ، إلى غير ذلك من التعبيرات الدالة على عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب والسنّة القطعية ، والمراد من المخالفة في هذه الأخبار هي المخالفة بنحو لا يكون بين الخبر والكتاب جمع عرفي كما إذا كان الخبر مخالفاً للكتاب بنحو التباين أو العموم من وجه ، وهذا النحو من الخبر ـ أي المخالف للكتاب أو السنّة القطعية بنحو التباين أو العموم من وجه ـ خارج عن محل الكلام ، لأنّه غير حجّة بلا إشكال ولا خلاف ، وأمّا الأخبار

__________________

(١) ذكر ذلك في موارد منها ما في الاستبصار ١ : ٣٦ ذيل الحديث ٩٦

(٢) الوسائل ٢٧ : ١١٠ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٢ و ١٤ و ١٥ و ٤٨ ولم نعثر على خبر «إضربوه على الجدار» في مظانه

١٧٤

المخالفة للكتاب والسنّة بنحو التخصيص أو التقييد فليست مشمولة لهذه الطائفة ، للعلم بصدور المخصص لعمومات الكتاب والمقيد لاطلاقاته عنهم عليهم‌السلام كثيراً ، إذ لم يذكر في الكتاب إلاّأساس الأحكام بنحو الاجمال ، كقوله تعالى : «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» (١) وأمّا تفصيل الأحكام وبيان موضوعاتها فهو مذكور في الأخبار المروية عنهم عليهم‌السلام.

وإن شئت قلت : ليس المراد من المخالفة في هذه الطائفة هي المخالفة بالتخصيص والتقييد ، وإلاّ لزم تخصيصها بموارد العلم بتخصيص الكتاب فيها ، مع أنّها آبية عن التخصيص ، وكيف يمكن الالتزام بالتخصيص في مثل قوله عليه‌السلام : «ما خالف قول ربّنا لم نقله» (٢). وبالجملة الخبر المخصص لعموم الكتاب أو المقيّد لاطلاقه لا يعدّ مخالفاً له في نظر العرف ، فالمراد من المخالفة في هذه الطائفة هي المخالفة بنحو التباين أو العموم من وجه.

ودعوى أنّ هذه الأهمّية والتأكيد في هذه الأخبار لا تناسب أن يكون المراد من المخالفة هي المخالفة بنحو التباين والعموم من وجه ، لأنّ الوضّاعين لم يضعوا ما ينافي الكتاب بالتباين أو العموم من وجه ، لعلمهم بأنّ ذلك لا يقبل منهم غير مسموعة إذ الوضّاعون ما كانوا ينقلون عن الأئمة عليهم‌السلام حتّى لا يقبل منهم الخبر المخالف للكتاب بالتباين والعموم من وجه ، بل كانوا يدسّون تلك المجعولات في كتب الثقات من أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، كما روي عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنّه لعن المغيرة ، لأنّه دسّ في كتب أصحاب أبيه عليهما‌السلام أحاديث كثيرة (٣).

__________________

(١) البقرة ٢ : ٤٣

(٢) تقدّم استخراجه في الصفحة السابقة

(٣) بحار الأنوار ٢ : ٢٤٩ / كتاب العلم ب ٢٩ ح ٦٢

١٧٥

فتحصّل : أنّ هذه الطائفة من الأخبار لا دخل لها بمحل الكلام.

الطائفة الثانية : هي الأخبار الدالة على المنع عن العمل بالخبر الذي لايكون عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وهذه الطائفة وإن كانت وافية الدلالة على المدعى ، إلاّ أنّه لا يمكن الأخذ بظاهرها ، للعلم بصدور الأخبار التي لا شاهد لها من الكتاب والسنّة ، بل هي مخصصة لعموماتهما ومقيّدة لاطلاقاتهما على ما تقدّمت الاشارة إليه ، فلا بدّ من حمل هذه الطائفة على صورة التعارض ، كما هو صريح بعضها ، ولذا ذكرنا في بحث التعادل والترجيح أنّ موافقة عمومات الكتاب أو إطلاقاته من المرجّحات في باب التعارض (٢) ، أو على الأخبار المنسوبة إليهم عليهم‌السلام في اصول الدين وما يتعلق بالتكوينيات ممّا لا يوافق مذهب الإمامية. وقد روي هذا النوع من الأخبار عنهم عليهم‌السلام كثيراً ، بحيث إنّ الكتب المعتمدة المعتبرة عندنا ـ كالكتب الأربعة ونظائرها ـ مع كونها مهذّبة من هذا النوع من الأخبار قد يوجد فيها منه قليلاً ، ومن هذا القليل ما في الكافي الدال على أنّه لو علم الناس كيفية خلقهم لما لام أحد أحداً (٣) فانّ هذه الرواية صريحة في مذهب الجبر ومخالفة لنص القرآن ، لأنّ الله تعالى يلوم عباده بارتكاب القبائح والمعاصي.

هذا ، مضافاً إلى أنّ هذه الطائفة معارضة بما دلّ على حجّية خبر الثقة ، والنسبة بينهما هي العموم المطلق (٤) لأنّ مفاد هذه الطائفة عدم حجيّة الخبر

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٠ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١١ وغيره

(٢) راجع الجزء الثالث من هذا الكتاب ص ٤٩٧

(٣) الكافي ٢ : ٤٤ / باب آخر من درجات الإيمان ح ١ (باختلاف يسير)

(٤) بل العموم من وجه ، لافتراق الأوّل عن الثاني في الخبر الذي لا شاهد عليه من الكتاب أو السنّة ، ولم يكن مخبره ثقة. وافتراق الثاني عن الأوّل في الخبر الذي يكون مخبره ثقة وعليه شاهد من الكتاب أو السنّة ، واجتماعهما في الخبر الذي لا شاهد له من الكتاب أو السنّة ، ومخبره ثقة. فانّ مقتضى دليل حجّية خبر الثقة هو حجّيته ، ومقتضى هذه الطائفة عدمها ، فيقع التعارض بينها لا محالة ، والمتعيّن تخصيص الأوّل بالثاني والحكم بحجّية خبر الثقة الذي ليس له شاهد من الكتاب أو السنّة دون العكس. وعليه لا يبقى شيء تحت الثاني ، أو يكون الباقي قليلاً جدّاً

١٧٦

الذي لا شاهد له من الكتاب والسنّة ، سواء كان المخبر به ثقة أو غير ثقة ، ودليل حجّية خبر الثقة أخص منها. فيقيد به إطلاقاتها ، وتكون النتيجة بعد الجمع عدم حجّية الأخبار التي لا شاهد لها من الكتاب والسنّة إلاّخبر الثقة.

الوجه الثالث : الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، كقوله تعالى : «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» (١) وقوله تعالى : «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (٢).

وفيه أوّلاً : أنّ مفاد الآيات الشريفة إرشاد إلى حكم العقل بوجوب تحصيل العلم بالمؤمّن من العقاب وعدم جواز الاكتفاء بالظن به ، بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل إن كان اخروياً ، فلا دلالة لها على عدم حجّية الخبر أصلاً.

وثانياً : أنّه على تقدير تسليم أنّ مفادها الحكم المولوي ، وهو حرمة العمل بالظن ، كانت أدلة حجّية الخبر حاكمة على تلك الآيات ، فان مفادها جعل الخبر طريقاً بتتميم الكشف ، فيكون خبر الثقة علماً بالتعبد الشرعي ، ويكون خارجاً عن الآيات الناهية عن العمل بغير العلم موضوعاً.

هذا بناءً على أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات هي الطريقية كما هو

__________________

(١) الإسراء ١٧ : ٣٦

(٢) يونس ١٠ : ٣٦

١٧٧

الصحيح ، وقد تقدّم الكلام فيه في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري (١). وأمّا بناءً على أنّ المجعول هو الحكم الظاهري مطابقاً لمؤدى الأمارة ، وأنّ الشارع لم يعتبر الأمارة علماً ، فتكون أدلة حجّية خبر الثقة مخصصة للآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، فانّ النسبة بينها وبين الآيات هي العموم المطلق ، إذ مفاد الآيات عدم حجّية غير العلم من خبر الثقة وغيره في اصول الدين وفروعه ، فتكون أدلة حجّية خبر الثقة أخص منها ، وبالجملة أدلة حجّية خبر الثقة متقدمة على الآيات الشريفة إمّا بالحكومة أو بالتخصيص.

واستدلّ القائلون بحجّية الخبر أيضاً بامور :

الأوّل : آية النبأ وهي قوله تعالى : «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (٢) وتقريب الاستدلال بها من وجوه :

الوجه الأوّل : الاستدلال بمفهوم الوصف باعتبار أنّه تعالى أوجب التبين عن خبر الفاسق ، ومن الواضح أنّ التبين ليس واجباً نفسياً ، بل هو شرط لجواز العمل به ، إذ التبين عنه بلا تعلّقه بعمل من الأعمال ليس بواجب يقيناً ، بل لعلّه حرام ، فانّ التفحص عن كونه صادقاً أو كاذباً يكون من باب التفحص عن عيوب الناس ، ويدل على كون الوجوب شرطياً ـ مع وضوحه في نفسه ـ التعليل المذكور في ذيل الآية الشريفة ، وهو قوله تعالى : «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» فيكون مفاد الآية الشريفة أنّ العمل بخبر الفاسق يعتبر فيه التبين عنه ، فيجب التبين عنه في مقام العمل به ، ويكون المفهوم بمقتضى التعليق على

__________________

(١) في ص ١٢٠

(٢) الحجرات ٤٩ : ٦

١٧٨

الوصف : أنّ العمل بخبر غير الفاسق لا يعتبر فيه التبين عنه ، فلا يجب التبين عن خبر غير الفاسق في مقام العمل به ، وهذا هو المقصود.

وهذا الاستدلال غير تام ، لأنّ الوصف وإن كان يدل على المفهوم ، إلاّأنّ مفهوم الوصف هو أنّ الحكم ليس ثابتاً للطبيعة أينما سرت ، وإلاّ لكان ذكر الوصف لغواً. وأمّا كون الحكم منحصراً في محل الوصف بحيث ينتفي بانتفائه ، فهو خارج عن مفهوم الوصف ويحتاج إلى إثبات كون الوصف علّةً منحصرة ، ولا يستفاد ذلك من نفس الوصف ، فانّ تعليق الحكم على الوصف ـ لو سلّم كونه مشعراً بالعلّية ـ لا يستفاد منه العلّة المنحصرة يقيناً ، فإذا قال المولى أكرم الرجل العالم كان مفهوم الوصف أنّ وجوب الاكرام لم يتعلق بطبيعة الرجل ، وإلاّ كان ذكر العالم لغواً. وأمّا انحصار وجوب الاكرام في العالم بحيث ينتفي بانتفائه فلا يستفاد منه ، إذ الوصف وإن كان مشعراً بالعلّية ، وأنّ العلم علّة لوجوب الاكرام ، إلاّ أنّه لا يدل على انحصار العلّية فيه ، فيحتمل وجوب إكرام غير العالم أيضاً لعلّة اخرى ، ككونه هاشمياً مثلاً ، وعليه فيكون مفهوم الوصف في الآية الشريفة أنّ وجوب التبين ليس ثابتاً لطبيعة الخبر ، وإلاّ لكان ذكر الفاسق لغواً ، ولايلزم منه عدم وجوب التبين عن خبر غير الفاسق على الاطلاق ، إذ لا يستفاد منه كون الوصف علّةً منحصرة لوجوب التبين كي ينتفي بانتفائه ، بل يحتمل وجوب التبين عن خبر العادل أيضاً ، إذا كان واحداً ، ويكون الفرق بين العادل والفاسق أنّ خبر الفاسق يجب التبين عنه ولو مع التعدد ، بخلاف خبر العادل ، إذ مع التعدد يكون بيّنة شرعية لا يجب التبين عنها.

فتحصّل : أنّه لا يستفاد من مفهوم الوصف انتفاء وجوب التبين عند انتفاء وصف الفسق (١).

__________________

(١) محصّل ما أفاده سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه) هو أنّ تقييد الحكم بالوصف منطوقه ثبوت الحكم لمحل الوصف ، ومفهومه عدم ثبوته للطبيعة أينما سرت ، وإلاّ لزم كون ذكر الوصف لغواً. فحاصل المفهوم هو السكوت عن غير محلّ الوصف فلا يستفاد من المفهوم انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف. وهذا اعتراف منه (دام ظلّه) بعدم المفهوم للوصف بالمعنى المصطلح عليه ، فإنّ الكلام على تقدير دلالته على المفهوم يكون عندهم ذا دلالتين : إحداهما الدلالة على ثبوت الحكم في محل الوصف ، والاخرى الدلالة على نفيه عن غيره. فالقول بثبوت المفهوم للوصف وعدم استفادة انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ممّا لم نتحصّل معناه وهو خارج عن المصطلح. والتحقيق في الجواب عن الاستدلال بمفهوم الوصف هو أنّه لا مفهوم له ، لأنّ دلالة الوصف على المفهوم تحتاج إلى الدلالة على كونه علّة منحصرة وهي مفقودة كما ذكره سيّدنا الاستاذ (دام ظلّه العالي)

١٧٩

الوجه الثاني : ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره وملخّصه : أنّ لخبر الفاسق حيثيتين : إحداهما : ذاتية ، وهي كونه خبر الواحد. والاخرى : عرضية وهي كونه خبر الفاسق ، وقد علّق وجوب التبين على العنوان العرضي ، فيستفاد منه أنّه العلّة لوجوب التبين ، دون العنوان الذاتي ، وإلاّ لكان العدول عن الذاتي إلى العرضي قبيحاً وخارجاً عن طرق المحاورة ، فانّه نظير تعليل نجاسة الدم بملاقاته لمتنجس مثلاً ، وعليه فيستفاد انتفاء وجوب التبين عند انتفاء هذا العنوان العرضي ، وهو كونه خبر الفاسق (١).

وقد اورد على هذا الاستدلال بايرادات :

الايراد الأوّل : أنّ كون الخبر خبر واحد أيضاً من العناوين العرضية ، ككونه خبر فاسق ، فكل من العنوانين عرضي يحتمل دخل كليهما في الحكم ، وتخصيص أحدهما بالذكر لعلّه لنكتة كالاشارة إلى فسق الوليد مثلاً.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٦٤ و ١٦٥

١٨٠