موسوعة الإمام الخوئي

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي

موسوعة الإمام الخوئي

المؤلف:

السيّد محمّد سرور الواعظ الحسيني البهسودي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
ISBN: 964-7339-16-0
الصفحات: ٦٨١

لا يحتمل صدوره عن الغفلة ، وتجتمعان في كلام صادر من أهل العرف في محاوراتهم.

والمتحصّل ممّا ذكرناه : أنّ أصالة الظهور بنفسها من الاصول العقلائية ولا اختصاص لها بمن قصد إفهامه ، لأنّ العقلاء يأخذون بالظواهر في باب الأقارير والوصايا ولو كان السامع غير مقصود بالافهام.

وأمّا ما ذكره من جريان ديدن الأئمة عليهم‌السلام على الاتكال على القرائن المنفصلة ، فهو وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه لا يقتضي اختصاص حجّية الظهور بمن قصد إفهامه ، بل مقتضاه الفحص عن القرائن ، ومع عدم الظفر بها يؤخذ بالظهور.

وأمّا ما ذكره في منع الصغرى ، من أنّ التقطيع مانع عن انعقاد الظهور ، ففيه : أنّ ذلك يتم فيما إذا كان المقطع غير عارف باسلوب الكلام العربي ، أو غير ورع في الدين ، إذ يحتمل حينئذ كون التقطيع موجباً لانفصال القرينة عن ذيها لعدم معرفة المقطع أو لتسامحه في التقطيع ، وكلا هذين الأمرين منتفيان في حقّ الكليني قدس‌سره وأمثاله من أصحاب الجوامع ، فإذا نقلوا روايةً بلا قرينة نطمئن بعدمها ، بل لا يبعد دعوى القطع به ، إذ التقطيع إنّما هو لارجاع المسائل إلى أبوابها المناسبة لها ، مع عدم الارتباط بينها ، لأنّ الرواة عند تشرّفهم بحضرة الإمام عليه‌السلام كانوا يسألون عن عدّة مسائل لا ربط لإحداها بالاخرى ، كما هو المتعارف في زماننا هذا في الاستفتاءات ، فأتعب علماؤنا الأعلام أنفسهم في تبويب المسائل وإرجاع كل مسألةٍ إلى بابها المناسب لها مع الجهد والدقّة ، تسهيلاً للأمر على المراجعين ، ولولا ذلك لزم الفحص من أوّل كتاب الكافي مثلاً إلى آخره لاستنباط مسألة واحدة. وهذا النحو من التقطيع غير قادح في انعقاد الظهور ، كما لعلّه ظاهر.

١٤١

ثمّ إنّه لو أغمضنا عن جميع ذلك وسلّمنا اختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه ، لا ينتج ذلك انسداد باب العلمي ، إذ لا نسلّم كوننا غير مقصودين بالافهام من الروايات الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام ، وذلك لأنّ الراوي الذي سمع الكلام من الإمام عليه‌السلام مقصود بالافهام قطعاً ، واحتمال غفلته يدفع بالأصل ، واحتمال غفلة المتكلم منفي بالقطع ، فيحكم بأنّ الظاهر هو مراد الإمام عليه‌السلام وينقل هذا الراوي ما سمعه من الإمام عليه‌السلام لفظاً أو معنىً للراوي اللاحق ، وهو مقصود بالافهام من الكلام الصادر من الراوي السابق ، وهكذا الحال بالنسبة إلى جميع سلسلة الرواة إلى أن ينتهي الأمر إلى أصحاب الجوامع كالكليني قدس‌سره ومن الواضح أنّ المقصود بالافهام من الكتب كالكافي هو كل من نظر فيها ، فيكون ظاهرها حجّة له.

وعليه فلا يترتب على القول باختصاص حجّية الظواهر بمن قصد إفهامه انسداد باب العلمي ، كما توهمه صاحب القوانين قدس‌سره.

وأمّا الأمر الثالث : أعني حجّية ظواهر الكتاب ، فمنعها الأخباريون ، وما ذكروه في وجه المنع يرجع تارةً إلى منع الصغرى ، أي انعقاد الظهور ، واخرى إلى منع الكبرى ، أي حجّية الظهور.

أمّا منع الصغرى فقد استدلّ له بوجوه :

الأوّل : أنّ ألفاظ القرآن من قبيل الرموز ، كفواتح السور التي هي كنايات عن أشياء لا يعرفها إلاّالنبي وأوصياؤه المعصومون عليهم‌السلام.

وفيه : أنّ كونه من قبيل الرموز منافٍ لكونه معجزة ترشد الخلق إلى الحق ، فلو لم يكن له ظهور يعرفه أهل اللسان لاختلّ كونه إعجازاً. ومن المعلوم أنّ العرب كانوا يفهمون ظواهره ، ويعترفون بالعجز عن الاتيان بمثله ، فمنهم من آمن واعترف بكونه معجزاً ، ومنهم من قال بأ نّه سحر. مضافاً إلى أنّه ورد

١٤٢

الأمر من الأئمة عليهم‌السلام بالرجوع إلى الكتاب عند تعارض الخبرين ، بل مطلقاً (١). ولو كان القرآن من قبيل الرموز لم يكن معنىً للارجاع إليه ، فدعوى كون القرآن من قبيل الرموز التي لا يفهم منها شيء في غاية السقوط.

الثاني : أنّ القرآن مشتمل على معانٍ غامضة ومضامين شامخة ، فانّه مع صغر حجمه مشتمل على علم ما كان وما يكون ، على نحو لا يصل إليه فكر البشر إلاّالراسخون في العلم ، وهم الأئمة المعصومون عليهم‌السلام ، ولذا ورد في بعض الروايات أنّه «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» (٢).

وفيه : أنّ كلامنا في ظواهره التي يعرفها أهل اللسان لا في بواطنه التي لا يعرفها إلاّمن خوطب به ، واشتماله على مضامين عالية لا ينافي ظهوره ، فانّه مع اشتماله على معانٍ غامضة عالية يعرف ظواهره أهل اللسان على ما عرفت.

الثالث : أنّ القرآن وإن كان له ظهور في حد ذاته ، ولكن العلم الاجمالي بوجود القرائن المنفصلة الدالة على خلاف الظاهر من مخصصات ومقيدات وقرائن على المجاز يمنع عن العمل بظواهره ، فهي مجملات حكماً وإن كانت ظواهر حقيقة.

وفيه : أنّ العلم الاجمالي المذكور يوجب الفحص عن المخصص والمقيد والقرينة على المجاز ، لا سقوط الظواهر عن الحجية رأساً ، وإلاّ لم يجز العمل بالروايات أيضاً ، لوجود العلم الاجمالي فيها أيضاً ، كما في القرآن.

الرابع : أنّه دلّت عدّة من الروايات على وقوع التحريف في القرآن فيحتمل وجود القرينة على إرادة خلاف الظاهر فيما سقط منه بالتحريف ، وهذا الاحتمال

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١ و ١٠ وغيرهما

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٨٥ / أبواب صفات القاضي ب ١٣ ح ٢٥

١٤٣

مانع عن انعقاد الظهور ، لكونه من باب احتمال قرينية الموجود ، لا من باب احتمال وجود القرينة ليدفع بأصالة عدم القرينة.

وفيه أوّلاً : أنّ التحريف بمعنى السقط أمر موهوم لا حقيقة له ، إذ القرآن قد بلغ من الأهمّية عند المسلمين في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرتبة حفظته الصدور زائداً على الكتابة ، فكيف يمكن تحريفه حتّى عن الصدور الحافظة له.

والروايات الدالة على التحريف ، إمّا ضعاف لا يعتمد عليها ، وإمّا لا دلالة لها على التحريف بمعنى النقيصة ، بل المراد منها التقديم والتأخير أو التأويل أو غير ذلك ممّا ذكرناه في كتابنا البيان فراجع (١).

وثانياً : أنّ التحريف ـ على تقدير تسليم وقوعه ـ لا يقدح في الظهور للروايات الدالة على وجوب عرض الأخبار المتعارضة ، بل مطلق الأخبار على كتاب الله (٢) ، وعلى ردّ الشروط المخالفة للكتاب والسنّة (٣) ، فانّ هذه الروايات قد صدرت عن الصادقين عليهما‌السلام بعد التحريف على تقدير تسليم وقوعه ، فيعلم من هذه الروايات أنّ التحريف على تقدير وقوعه غير قادح في الظهور.

وأمّا منع الكبرى ، ودعوى عدم حجّية ظواهر الكتاب على فرض تسليم الظهور ، فقد استدلّ له بوجهين :

الأوّل : أنّ الله سبحانه منع من اتباع المتشابه بقوله تعالى : «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ» (٤) والمتشابه ما كان ذا احتمالين قبالاً

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن : ٢٢٥ وما بعدها

(٢) تقدّم استخراجها في الصفحة السابقة

(٣) الوسائل ١٨ : ١٦ / أبواب الخيار ب ٦ ح ١ وغيره

(٤) آل عمران ٣ : ٧

١٤٤

للمحكم وهو النص الذي لا يحتمل الخلاف ، فيشمل الظواهر ، ولا أقل من احتمال شمول المتشابه للظواهر باعتبار أنّ المتشابه غير ظاهر المراد ، ومجرد احتمال شموله لها يكفي في الحكم بعدم حجيتها ، لأنّ الحجية تحتاج إلى الامضاء ومع احتمال المنع لا يثبت الامضاء.

وفيه : أنّ المتشابه هو التفاعل من الشبه ، فيكون المراد منه كون الكلام ذا احتمالين متساويين ، بحيث كان كل منهما شبيهاً بالآخر ، فيكون المراد منه المجمل ولا يشمل الظواهر يقيناً. ومع الغض عن ذلك والالتزام باحتمال الشمول نقول : إنّ مجرد الاحتمال غير قادح في حجيتها ، فانّها ثابتة ببناء العقلاء ما لم يثبت الردع عنها ، ومجرد احتمال الردع لا يكفي في رفع اليد عنها. مضافاً إلى أنّ الروايات الدالة على عرض الأخبار على الكتاب وطرح الخبر المخالف له تدل على أنّ المتشابه غير شامل للظواهر ، لأنّ الخبر المخالف للكتاب الذي أمر بطرحه هو الذي يخالف ظاهر الكتاب ، لا نص الكتاب ، إذ الخبر المخالف لنص الكتاب لم يوجد ليكون مورداً للطرح ، فيستكشف من ذلك أنّ المتشابه ما ليس له ظهور ، فلا يشمل ما له ظهور (١).

الثاني : الروايات الكثيرة الناهية عن تفسير القرآن بالرأي (٢).

وفيه : أنّ الأخذ بظاهر الكلام لا يكون من التفسير ، إذ التفسير عبارة عن كشف القناع على ما قالوا (٣) ، والكلام الظاهر في معنى ليس له قناع ليكشف ، وعلى تقدير التنزل وتسليم كونه من التفسير ليس هو تفسيراً بالرأي ، بل تفسير بحسب المحاورات العرفية ، إذ المراد بالتفسير بالرأي هو حمل الكلام على

__________________

(١) ويرد عليهم أيضاً : أنّ هذا تمسّك بظاهر الكتاب على عدم حجّيته وهم لا يرونه

(٢) منها ما في الوسائل ٢٧ : ١٨٥ / أبواب صفات القاضي ب ١٣ ح ٢٥ و ٢٨ وغيرهما

(٣) القاموس المحيط ٢ : ١٥٦ وفيه : كشف المغطّى

١٤٥

خلاف ظاهره ، أو على أحد محتملاته مع كونه مجملاً غير ظاهر في شيء منها بالاستحسانات ، فالمراد بالتفسير بالرأي المنهي عنه في الأخبار هو حمل الآيات على خلاف ظواهرها ، أو على أحد محتملاتها مع عدم كونها ظاهرةً في شيء منها ، على ما وقع من أكثر المفسرين من العامّة.

ويحتمل أن يكون المراد بالأخبار الناهية عن التفسير بالرأي هو الاستقلال بالعمل بالكتاب ، بلا مراجعة الأئمة عليهم‌السلام ، كما هو ظاهر بعض الأخبار.

وأمّا العمل بظواهر الكتاب ـ بضميمة مراجعة الروايات لاحتمال التخصيص والتقييد وغيرهما من القرائن على المراد ـ فلم يدل على المنع عنه دليل.

فتحصّل : أنّ الصحيح جواز العمل بظواهر الكتاب بعد الفحص عن الأخبار ، كما هو الحال في العمل بظواهر الأخبار ، إذ العمل بها أيضاً يحتاج إلى الفحص عن المخصص والمقيد ، والقرينة على إرادة خلاف الظاهر. هذا تمام الكلام في البحث عن حجية الظواهر.

تذييل :

إعلم أنّ لكل لفظ دلالات ثلاثاً :

الدلالة الاولى : كون اللفظ موجباً لانتقال المعنى إلى ذهن السامع مع علمه بالوضع. وهذه الدلالة لا تتوقف على إرادة اللاّفظ ، بل اللفظ بنفسه يوجب انتقال المعنى إلى الذهن ولو مع العلم بعدم إرادة المتكلم ، كما إذا كان نائماً أو سكراناً ، أو نصب قرينةً على إرادة غير هذا المعنى ، كما في قولنا : رأيت أسداً يرمي ، فانّ ذهن المخاطب ينتقل إلى الحيوان المفترس بمجرد سماع كلمة الأسد ، وإن كان يعلم أنّ مراد المتكلم هو الرجل الشجاع ، بل هذه الدلالة لا تحتاج إلى متكلم ذي إدراك وشعور ، فانّ اللفظ الصادر من لافظ غير شاعر بل من غير

١٤٦

لافظ يوجب انتقال المعنى إلى ذهن السامع. وبالجملة : هذه الدلالة بعد العلم بالوضع غير منفكة عن اللفظ أبداً ، ولا تحتاج إلى شيء من الأشياء.

وهذه الدلالة هي التي تسمّى عند القوم بالدلالة التصورية مرّةً باعتبار أنّ اللفظ بوجب تصور المعنى في الذهن ، وبالدلالة الوضعية اخرى باعتبار أنّ منشأها الوضع ، وهو عبارة عن جعل العلقة بين اللفظ والمعنى بحيث ينتقل المعنى إلى الذهن عند سماع اللفظ.

والمختار عندنا كون الدلالة الوضعية غيرها ، لأنّ هذه الدلالة لا تكون غرضاً من الوضع لتكون وضعية ، والأنسب تسميتها بالدلالة الانسية ، إذ منشؤها انس الذهن بالمعنى ، لكثرة استعمال اللفظ فيه لا الوضع ، لما ذكرناه في بحث الوضع من أنّ الوضع عبارة عن تعهد الواضع والتزامه بأ نّه متى أراد تفهيم معنى فلان فهو يتكلم باللفظ الفلان (١). وعليه فلا يكون مجرد خطور المعنى في الذهن عند سماع اللفظ مستنداً إلى تعهده ، بل إلى انس الذهن به الحاصل من كثرة الاستعمال. وهذه الدلالة ممّا لا يرتبط بمحل كلامنا فعلاً ، ولا تترتب ثمرة على البحث عن أنّها هي الدلالة الوضعية أو غيرها.

الدلالة الثانية : دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالارادة الاستعمالية ، أي دلالة اللفظ على أنّ المتكلم أراد تفهيم هذا المعنى واستعمله فيه ، وهذه الدلالة تسمّى عند القوم بالدلالة التصديقية ، وعندنا بالدلالة الوضعية ، كما عرفت. وكيف كان ، فهذه الدلالة تحتاج إلى إحراز كون المتكلم بصدد التفهيم ومريداً له ، فمع الشك فيه ليست للفظ هذه الدلالة ، فضلاً عمّا إذا علم عدم إرادته له ، كما إذا علم كونه نائماً مثلاً ، بل هذه الدلالة متوقفة على عدم نصب

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ١ : ٤٨

١٤٧

قرينة على الخلاف متصلة بالكلام ، إذ مع ذكر كلمة «يرمي» في قولنا : رأيت أسداً يرمي مثلاً ، لا تكون كلمة أسد دالةً على أنّ المتكلم أراد تفهيم الحيوان المفترس كما هو ظاهر.

الدلالة الثالثة : دلالة اللفظ على كون المعنى مراداً للمتكلم بالارادة الجدية ، وهي التي تسمى عندنا بالدلالة التصديقية في قبال الدلالة الوضعية ، وعند القوم بالقسم الثاني من الدلالة التصديقية ، وهي متوقفة على عدم نصب قرينة منفصلة على الخلاف أيضاً ، مضافاً إلى عدم نصب قرينة متصلة ، فانّ القرينة المنفصلة وإن لم تكن مانعةً عن تعلّق الارادة الاستعمالية كالقرينة المتصلة ، ولذا ذكرنا في مبحث العام والخاص أنّ المخصص المنفصل لا يكون كاشفاً عن عدم استعمال العام في العموم ، ليكون مجازاً (١) ، إلاّ أنّها ـ أي القرينة المنفصلة ـ كاشفة عن عدم تعلق الارادة الجدية بالمعنى المستعمل فيه. وبعبارة اخرى : القرينة المنفصلة لا تكون مانعةً عن انعقاد الظهور للكلام ، بل مانعة عن حجّية الظهور ، بخلاف القرينة المتصلة ، فانّها مانعة عن انعقاد الظهور من أوّل الأمر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه إذا احرز مراد المتكلم ، بأن علم عدم نصب القرينة المنفصلة ، فيؤخذ به بلا إشكال. وأمّا إذا شكّ في مراده ، فمرجع الشك إلى أحد أمرين :

الأوّل : عدم انعقاد الظهور للكلام.

الثاني : احتمال عدم كون الظاهر مراداً جدياً له.

أمّا إذا كان الشك في المراد لعدم انعقاد الظهور للكلام أصلاً ، فسبب الشك فيه أحد امور :

__________________

(١) محاضرات في اصول الفقه ٤ : ٣١٨ ـ ٣٢٢

١٤٨

إمّا عدم العلم بالموضوع له فلم يحرز المقتضي للظهور.

وإمّا احتمال قرينية الموجود ، أو احتمال وجود القرينة ، والجامع بينهما هو احتمال المانع عن الظهور بعد وجود المقتضي له ، سواء كان لاحتمال مانعية الموجود أو احتمال وجود المانع.

فإن كان الشك في المراد ناشئاً من عدم العلم بالموضوع له وبما يفهم من اللفظ عرفاً ، فلا إشكال في كون اللفظ مجملاً غير ظاهر في شيء ، والمرجع في مثله هو الأصل العملي ، وكذا الحال فيما إذا كان الشك ناشئاً من احتمال قرينية الموجود ، بأن يكون الكلام محتفاً بما يصلح للقرينية ، كما في الأمر الواقع في مقام توهم الحظر ، والضمير الراجع إلى بعض أفراد العام ، فلا ينعقد للكلام ظهور حتّى يؤخذ به ، نعم ، في خصوص ما إذا كان الكلام محتفاً بما يصلح للقرينية على المجاز بأن يكون الأمر دائراً بين المعنى الحقيقي والمجازي إن قلنا بأنّ أصالة الحقيقة بنفسها حجّة بلا حاجة إلى انقعاد الظهور ـ كما نسب إلى السيّد المرتضى قدس‌سره (١) ـ فيؤخذ بها ، وإن لم نقل بذلك كما هو الصحيح ، إذ الثابت ببناء العقلاء هو الأخذ بالظاهر لا العمل بأصالة الحقيقة مع عدم انعقاد الظهور للكلام ، فيكون الكلام أيضاً مجملاً لا ظهور له ليؤخذ به.

ولايخفى أنّه لو قلنا بمقالة السيّد قدس‌سره لا يمكن الأخذ بأصالة الحقيقة فيما إذا احتف العام بما يصلح للقرينيّة على التخصيص ، لما ذكرناه في بحث العام والخاص : من أنّ التخصيص لا يوجب المجازية في لفظ العام (٢) ، فليس احتمال التخصيص احتمالاً للتجوز ، ليدفع بأصالة الحقيقة.

__________________

(١) لاحظ الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٠ ـ ١١ و ٣٧٦ ـ ٣٧٧

(٢) تقدّم استخراجه في ص ١٤٨

١٤٩

وأمّا إن كان الشك ناشئاً من احتمال وجود القرينة فهو على قسمين : لأنّ منشأ الاحتمال تارةً يكون أمراً داخلياً ، كما إذا احتمل غفلة المتكلم عن نصب القرينة أو غفلة السامع عن سماعها ، بلا فرق بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد.

واخرى يكون أمراً خارجياً ، كما إذا وقع التقطيع واحتمل سقوط القرينة معه ، ويلحق بهذا الباب ما لو عرض على السامع نوم أو سنة أثناء تكلم المتكلم ، فاحتمل ذكر القرينة في هذا الحال.

أمّا القسم الأوّل : فلا ريب في تحقق بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال لكن لا ابتداءً كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) بل بعد إجراء أصالة عدم القرينة كما ذكره الشيخ قدس‌سره (٢) لأنّ مورد بناء العقلاء هو الأخذ بالظاهر ، فلا بدّ من إثباته أوّلاً باجراء أصالة عدم القرينة ، ثمّ الحكم بحجيته.

وأمّا القسم الثاني : فالمشهور فيه أيضاً عدم الاعتناء بالاحتمال ، إلاّأنّ المحقق القمي (٣) قدس‌سره منع فيه من الأخذ بما يكون اللفظ ظاهراً فيه على تقدير عدم وجود القرينة واقعاً ، وبنى عليه انسداد باب العلمي في الأحكام ، لوقوع التقطيع في الأخبار.

وما ذكره هو الصحيح من حيث الكبرى الكلّية ، إذ لم يثبت بناء من العقلاء على الأخذ بالظاهر التقديري ، أي المعلّق على عدم وجود القرينة واقعاً ، فلو وصل إليهم كتاب مزّق بعضه لا يعملون بظاهر الباقي ، مع احتمال وجود قرينة

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٨٦

(٢) فرائد الاصول ١ : ١٠١

(٣) قوانين الاصول ١ : ٤٥١ و ٤٥٢

١٥٠

صارفة عن الظاهر في المقطوع. وكذا الحال فيما إذا عرض على العبد نوم أو سنة حين تكلم المولى ، فليس له العمل بظاهر ما سمعه من الكلام مع احتمال فوات قرينة صارفة حين عروض النوم أو السنة له.

إلاّأنّ تطبيقها على المقام غير صحيح ، ولا تنتج انسداد باب العلمي في الأحكام ، لما ذكرناه سابقاً (١) من أنّ المقطّعين للأخبار كانوا عارفين بأسلوب الكلام فلا تخفى عليهم القرائن الدالة على المراد بحسب المحاورات العرفية ، وكانوا في أعلى مراتب الورع والتقى ، فعدالتهم أو وثاقتهم مانعة عن إخفاء القرينة عمداً ، ومعرفتهم باسلوب الكلام والمحاورات العرفية مانعة عن إخفائها جهلاً ، فإذا نقلوا الأخبار بلا قرينة يؤخذ بظواهرها ولا ينسدّ باب العلمي بالأحكام. هذا كلّه فيما إذا كان الشك في المراد لعدم انعقاد الظهور للكلام.

وأمّا إن كان الشك في المراد لاحتمال عدم كون الظاهر مراداً جدياً للمتكلم ، مع انعقاد الظهور لكلامه ، فيكون سبب الشك فيه أيضاً أحد امور ثلاثة :

إمّا احتمال غفلة المتكلم عن بيان القرينة. وهذا الاحتمال منفي بالنسبة إلى الأئمة عليهم‌السلام.

وإمّا احتمال تعمده في عدم ذكر القرينة لمصلحة فيه أو لمفسدة في الذكر.

وإمّا احتمال اتكاله على قرينة حالية أو مقالية متقدمة أو متأخرة لم نظفر عليها بعد الفحص. وعلى جميع هذه التقادير الثلاثة كان المرجع أصالة الظهور الثابتة حجيتها ببناء العقلاء ، فانّهم يأخذون بظواهر الكلام ولا يعتنون بالاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، فأصالة الظهور بنفسها حجّة ببناء العقلاء وعدم ردع الشارع عنه لا لأصالة عدم القرينة ـ كما يستفاد من كلام شيخنا

__________________

(١) في ص ١٤١

١٥١

الأنصاري قدس‌سره (١) ـ لأنّ وجود القرينة المتصلة المانعة عن انعقاد الظهور مقطوع العدم على الفرض ، ووجود القرينة المنفصلة وإن كان محتملاً ، إلاّ أنّه لا يمنع عن انعقاد الظهور ، وإنّما يمنع عن حجّية الظهور على فرض الوصول ، ومع عدم الوصول كما هو المفروض قد ثبت البناء من العقلاء على الأخذ بالظاهر ، فلا حاجة إلى التمسك بأصالة عدم القرينة.

وبعبارة اخرى : الشك في وجود القرينة المنفصلة كافٍ في حجّية الظواهر ، بلا حاجة إلى إحراز عدم القرينة بالأصل ، إذ البناء من العقلاء قد تحقق على الأخذ بالظواهر ما لم تحرز القرينة على الخلاف. هذا تمام الكلام في بحث الظواهر.

المبحث الثاني في حجّية قول اللغوي

قد ذكرنا أنّه إذا علم ظاهر الكلام يؤخذ به لبناء العقلاء على الأخذ به (٢) وأمّا إذا لم يعلم ذلك ، فهل يصح الرجوع إلى اللغوي في تعيين الظاهر بلا اعتبار ما يعتبر في الشهادة من التعدد والعدالة أم لا؟ فيه خلاف بينهم ، واستدلّ القائل بحجّية قول اللغوي بوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ اللغوي من أهل الخبرة في تعيين الأوضاع وظواهر الألفاظ ، وقد تحقق البناء من العقلاء على الرجوع إلى أهل الخبرة في كل فن ، بلا اعتبار التعدد والعدالة ، كالرجوع إلى المهندس في تقويم الدار مثلاً ، وإلى الطبيب في

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٠١

(٢) تقدّم في الصفحة السابقة

١٥٢

تشخيص المرض وعلاجه ، ولم يثبت ردع شرعي عن ذلك. وأمّا اعتبار العدالة في الفقيه فانّما هو لدليل خاص.

وفيه أوّلاً : أنّ الرجوع إلى أهل الخبرة إنّما هو في الامور الحدسية التي تحتاج إلى إعمال النظر والرأي ، لا في الامور الحسّية التي لا دخل للنظر والرأي فيها. وتعيين معاني الألفاظ من قبيل الامور الحسّية ، لأنّ اللغوي ينقلها على ما وجده في الاستعمالات والمحاورات ، وليس له إعمال النظر والرأي فيها ، فيكون إخبار اللغوي عن معاني الألفاظ داخلاً في الشهادة المعتبرة فيها العدالة بل التعدد في مورد القضاء. وأمّا في غيره ففي اعتباره خلاف مذكور في محلّه (١).

وإن شئت قلت : ليس اللغوي من أهل الخبرة بالنسبة إلى تعيين ظواهر الألفاظ بالوضع أو بالقرينة العامّة ، بل هو من أهل الخبرة بالنسبة إلى موارد الاستعمال فقط.

وثانياً : أنّه على تقدير تسليم كون اللغوي من أهل الخبرة ، لا يصح الرجوع إلى كتب اللغة ، لأنّها لم توضع لبيان الموضوع له ، بل لبيان ما يستعمل فيه اللفظ حقيقة كان أو مجازاً ، وإلاّ لزم كون جميع الألفاظ المستعملة في اللغة العربية إلاّالنادر مشتركاً لفظياً ، لأنّ اللغويين يذكرون للفظ واحد معاني كثيرة ، وهو مقطوع البطلان ، وذكر معنىً من المعاني أوّلاً لا يدل على كونه هو المعنى الحقيقي ، وإلاّ كان عليه ذكر القرينة في الألفاظ المشتركة ، لتدل على أنّ المعنى الثاني أيضاً معنىً حقيقي لا مجازي.

الوجه الثاني : دعوى الاجماع على العمل بقول اللغوي ، فانّ العلماء في جميع الأعصار يراجعون كتب اللغة ، ويعملون بها في تعيين معاني الألفاظ.

__________________

(١) شرح العروة ٣ : ١٥٥

١٥٣

وفيه أوّلاً : أنّ الاجماع القولي غير متحقق ، فانّ كثيراً من العلماء لم يتعرّضوا لهذا البحث أصلاً ، وكذا الاجماع العملي ، لأنّ عملهم بقول اللغويين لعلّه لحصول الاطمئنان لهم من اتفاقهم على معنى من المعاني.

وثانياً : أنّه على تقدير تسليم الاتفاق ليس هنا إجماع تعبدي كاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام لاحتمال أن يكون مستند المجمعين هو الوجه الأوّل أو الوجه الثالث الذي تعرفه وما فيه الآن إن شاء الله تعالى.

الوجه الثالث : أنّ جريان انسداد صغير في خصوص اللغات يستلزم حجّية قول اللغوي ، فانّ معاني الألفاظ مجهولة غالباً ، إمّا أصلاً وإمّا سعة وضيقاً ، ولذا ذكر شيخنا الأنصاري قدس‌سره في الطهارة أنّ مفهوم الماء ـ مع كونه من أوضح المفاهيم العرفية ، ويعرفه كل عارف باللغة العربية حتّى الصبيان ـ نشك فيه من حيث السعة والضيق كثيراً (١).

وفيه : أنّ انسداد باب العلم في اللغة ممّا لا يترتب عليه أثر ، إذ مع انفتاح باب العلم في الأحكام لا وجه للرجوع إلى قول اللغوي ، انسدّ باب العلم في اللغة أو انفتح ، ومع انسداد باب العلم في الأحكام وتمامية سائر المقدمات كان الظن بالحكم الشرعي حجّة ، سواء حصل من قول اللغوي أو من غيره ، وسواء كان باب العلم باللغة منفتحاً أو منسداً.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم التزم بحجّية قول اللغوي ، وذكر جريان الانسداد في اللغة بتقريب آخر ، وهو أنّ عدم جواز الرجوع إلى البراءة عند انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام إنّما هو لأمرين :

أحدهما : لزوم الخروج من الدين ، فانّا إذا اقتصرنا على القدر المتيقن وجوبه

__________________

(١) كتاب الطهارة ١ : ٦٧

١٥٤

من أجزاءه الصلاة وشرائطها ، ورجعنا في غيره إلى البراءة ، خرجت الصلاة عن حقيقتها ، وكذا الحال في غيرها من العبادات والمعاملات.

ثانيهما : لزوم المخالفة القطعية للعلم الاجمالي بتكاليف إلزامية وجوبية وتحريمية في موارد الجهل بالأحكام. والأمر الأوّل وإن كان منتفياً في الرجوع إلى البراءة عند انسداد باب العلم باللغة ، إلاّ أنّه يلزم الأمر الثاني ، وهو المخالفة القطعية ، لأنّ غالب الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة مجهولة المعاني ، مع العلم الاجمالي بتكاليف إلزامية في موارد الجهل بها ، فلا بدّ فيها من العمل بالظن الحاصل من قول اللغوي.

وفيه أوّلاً : أنّه لا نسلّم لزوم المخالفة القطعية من الرجوع إلى البراءة في موارد الجهل باللغات ، إذ ليس في ألفاظ الكتاب والسنّة المتعلقة بالأحكام الالزامية ما هو مجهول المعنى إلاّالقليل ، كلفظ الصعيد والغناء ونحوهما ، وليس لنا علم إجمالي بتكاليف إلزامية في هذه الموارد ، سوى ما نعلمه تفصيلاً ، فلا محذور في الرجوع إلى البراءة فيها.

وثانياً : أنّ مقدّمات الانسداد غير منحصرة في عدم جواز الرجوع إلى البراءة ، بل من جملتها عدم إمكان الاحتياط ، لعدم قدرة المكلف عليه ، أو لعدم وفاء الوقت به ، أو عدم وجوب الاحتياط لاستلزامه العسر والحرج ، أو عدم جواز الاحتياط لكونه موجباً لاختلال النظام.

وهذه المقدمة غير تامة في المقام ، إذ لايلزم من الرجوع إلى الاحتياط في موارد الجهل باللغة شيء من الامور المذكورة ، فعلى تقدير تسليم العلم الاجمالي بتكاليف إلزامية في موارد الجهل باللغة لا بدّ من الاحتياط ، لا العمل بقول اللغوي.

فتحصّل ممّا ذكرناه : أنّه لا دليل على حجّية قول اللغوي بلا اعتبار العدالة والتعدد.

١٥٥

المبحث الثالث

في حجّية الاجماع المنقول بخبر الواحد

وكان الأنسب تأخير هذا البحث عن بحث حجّية خبر الواحد ، لترتبه على القول بحجية الخبر ، إذ لو قلنا بعدم حجّية الخبر لا تصل النوبة إلى البحث عن حجّية الاجماع المنقول. نعم ، بعد ثبوت حجّية الخبر يقع الكلام في شمول أدلّتها للاجماع المنقول وعدمه ، إلاّ أنّا تعرّضنا له هنا تبعاً للأصحاب ، والأمر فيه سهل.

ولا يخفى أنّ الإخبار عن الموضوعات الخارجية إذا كان في مقام الترافع فلا إشكال في اعتبار التعدد والعدالة في حجّيته ، وأمّا في غير مورد الترافع فيعتبر فيه العدالة ، وكذلك التعدد على المشهور ، وهو أي الإخبار عن الموضوعات خارج عن محل كلامنا فعلاً ، فانّ الكلام في حجّية الأخبار المتعلقة بالأحكام الشرعية من حيث شمول دليل حجّيتها للاجماع المنقول بخبر الواحد وعدمه.

وأحسن ما قيل في المقام ما ذكره شيخنا الأنصاري قدس‌سره (١) وحاصل ما أفاده ـ بزيادة منّا ـ أنّ الإخبار عن الشيء تارةً : يكون إخباراً عن حس ومشاهدة ، ولا إشكال في حجّية هذا القسم من الإخبار ببناء العقلاء ، فانّ احتمال تعمد المخبر بالكذب مدفوع بعدالته أو وثاقته ، واحتمال غفلته مدفوع بأصالة عدم الغفلة التي استقرّ عليها بناء العقلاء.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ١٣٥

١٥٦

واخرى : يكون إخباراً عن أمر محسوس مع احتمال أن يكون إخباره مستنداً إلى الحدس لا إلى الحس ، كما إذا أخبر عن المطر مثلاً ، مع احتمال أنّه لم يره ، بل أخبر به استناداً إلى المقدمات المستلزم للمطر بحسب حدسه ، كالرعد والبرق مثلاً. وهذا القسم أيضاً ملحق بالقسم الأوّل ، إذ مع كون المخبر به من الامور المحسوسة فظاهر الحال يدل على كون الاخبار إخباراً عن الحس ، فيكون حجّة لعين ما ذكر في القسم الأوّل.

وثالثة : يكون إخباراً عن حدس قريب من الحس ، بحيث لا يكون له مقدّمات بعيدة ، كالاخبار بأنّ حاصل ضرب عشرة في خمسة يصير خمسين مثلاً ، وهذا القسم من الاخبار أيضاً ملحق بالقسم الأوّل في الحجّية ، لأنّ احتمال الخطأ في هذه الامور القريبة من الحس بعيد جداً ومدفوع بالأصل العقلائي ، واحتمال تعمد الكذب مدفوع بالعدالة أو الوثاقة ، كما تقدّم في القسم الأوّل.

ورابعة : يكون إخباراً عن حدس مع كون حدسه ناشئاً من سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به تامّة عند المنقول إليه أيضاً ، بحيث لو فرض اطّلاعه على ذلك السبب لقطع بالمخبر به ، وهذا القسم من الإخبار أيضاً حجّة ، فانّه إخبار عن الأمر الحسّي ، وهو السبب ، والمفروض ثبوت الملازمة بينه وبين المخبر به في نظر المنقول إليه أيضاً.

وخامسة : يكون إخباراً عن حدس مع كون حدسه ناشئاً من سبب كانت الملازمة بينه وبين المخبر به غير تامّة عند المنقول إليه ، وهذا القسم من الإخبار لم يدل دليل على حجّيته ، فانّ احتمال تعمد الكذب وإن كان مدفوعاً بالعدالة أو الوثاقة ، إلاّأنّ احتمال الخطأ في الحدس ممّا لا دافع له ، إذ لم يثبت بناء من العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال الخطأ في الامور الحدسية.

١٥٧

والاجماع المنقول من القسم الخامس ، لأنّ الناقل للاجماع لا يخبر برأي المعصوم عليه‌السلام عن الحس ، أو ما يكون قريباً منه ، ولا عن حدس ناش عن سبب كان ملازماً لقول المعصوم عليه‌السلام عندنا ، فإنّ الإجماع المدّعى في كلام الشيخ الطوسي قدس‌سره مبني على كشف رأي المعصوم عليه‌السلام من اتفاق علماء عصر واحد بقاعدة اللطف ، وهي غير تامّة عندنا على ما ستعرفه قريباً (١) إن شاء الله تعالى.

وأوهن منه الاجماع المدعى في كلام السيّد المرتضى قدس‌سره فانّه كثيراً ما ينقل الاجماع على حكم يراه مورد قاعدة اجمع عليها ، أو مورد أصل كذلك مع أنّه ليس من موارد تلك القاعدة أو الأصل حقيقةً ، كدعواه الاجماع على جواز الوضوء بالمائع المضاف استناداً إلى أنّ أصالة البراءة ممّا اتّفق عليه العلماء (٢) ، مع أنّه لا قائل به فيما نعلم من فقهاء الإمامية ، وليس الشك في جواز الوضوء بالمائع المضاف من موارد أصالة البراءة. وكذا الحال في الاجماع المدعى في كلمات جماعة من المتأخرين المبني على الحدس برأي المعصوم من اتفاق جماعة من الفقهاء ، إذ لا ملازمة بين هذا الاتفاق ورأي المعصوم بوجه.

نعم ، لو علم استناد ناقل الاجماع إلى الحس ، كما إذا كان معاصراً للإمام عليه‌السلام ، وسمع منه الحكم فنقله بلفظ الاجماع ، فلا مجال للتوقف في الأخذ به وكان مشمولاً لأدلة حجّية الخبر بلا إشكال ، إلاّأنّ الصغرى لهذه الكبرى غير متحققة ، بل نقطع بعدمها ، فانّا نقطع بأنّ الاجماعات المنقولة في كلمات الأصحاب غير مستندة إلى الحس ، ونرى أنّ ناقلي الاجماع ممّن لم يدرك زمان

__________________

(١) في ص ١٦٠

(٢) [لاحظ المسائل الناصرية / المسألة الرابعة ، فأ نّه يظهر منها خلاف ما هو مذكور هنا]

١٥٨

الحضور. وأمّا زمان الغيبة فادّعاء الرؤية فيه غير مسموع مع أنّهم أيضاً لم يدّعوها.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم (١) التزم بحجّية الاجماع المنقول في كلمات القدماء ، بدعوى أنّه يحتمل أن يكون مستندهم هو السماع من المعصوم عليه‌السلام ، ولو بالواسطة ، لقرب عصرهم بزمان الحضور ، فضمّوا إلى قول المعصوم أقوال العلماء ، ونقلوه بلفظ الاجماع ، فيكون نقل الاجماع من المتقدمين من القسم الثاني من الاخبار ، وهو ما كان الاخبار عن أمر حسّي ، مع احتمال أن يكون الاخبار به مستنداً إلى الحدس ، وأن يكون مستنداً إلى الحس ، وقد تقدّم (٢) أنّ هذا القسم من الاخبار حجّة بسيرة العقلاء ، باعتبار أنّ ظاهر الاخبار عن أمر حسّي يدل على كونه مستنداً إلى الحس ، فيكون حجّة. وبالجملة احتمال كون الاخبار مستنداً إلى الحس كافٍ في الحجّية ببناء العقلاء ، هذا ملخص كلامه بتوضيح منّا.

وفيه أوّلاً : أنّ هذا الاحتمال ـ أي استناد القدماء في نقل الاجماع إلى الحس ـ احتمال موهوم جداً ، بحيث يكاد يلحق بالتخيل فلا مجال للاعتناء به ، وما ذكرناه ـ من أنّ احتمال كون الاخبار مستنداً إلى الحس كافٍ في حجّيته ـ إنّما هو فيما إذا كان الاحتمال عقلائياً ، لا الاحتمال البعيد غاية البعد الملحق بأمر خيالي.

وما يظهر به بعد هذا الاحتمال وكونه موهوماً أمران :

أحدهما : تتبع اجماعات القدماء كالشيخ الطوسي قدس‌سره والسيّد المرتضى

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٩٧

(٢) في ص ١٥٧

١٥٩

(قدس‌سره) ، إذ قد عرفت استناد الأوّل في دعوى الاجماع إلى قاعدة اللطف لا إلى الحس من المعصوم عليه‌السلام ولو بالواسطة ، واستناد الثاني إلى أصل أو قاعدة كان تطبيقهما بنظره ، فلو لم ندّع القطع بعدم استنادهما إلى الحس من المعصوم عليه‌السلام ولو بالواسطة ، لا أقل من عدم الاعتناء باحتمال الاستناد إلى الحس.

ثانيهما : أنّه لو كان الأمر كذلك كان المتعين هو النقل عن المعصوم عليه‌السلام كبقيّة الروايات ، لا نقل الاجماع ، فانّ نقل الاجماع ـ باعتبار كونه كاشفاً عن قول المعصوم عليه‌السلام مع كون نفس قول المعصوم محسوساً له ولو بالواسطة ـ يكون شبيهاً بالأكل من القفاء.

وثانياً : أنّه على تقدير تسليم ذلك وأنّ إجماع القدماء مستند إلى الحس بالواسطة ، فيكون الاجماع المنقول منهم بمنزلة رواية مرسلة ولا يصح الاعتماد عليه ، لعدم المعرفة بالواسطة بينهم وبين المعصوم عليه‌السلام ، وعدم ثبوت وثاقتها. فتحصّل ممّا ذكرناه في المقام أنّه لا ملازمة بين حجّية خبر الواحد وحجّية الاجماع المنقول بوجه.

بقي الكلام في مدرك حجّية الاجماع المحصّل الذي هو أحد الأدلة الأربعة ، فقد يقال : إنّ مدرك حجّية الاجماع هو الملازمة العقلية بين الاجماع وقول المعصوم عليه‌السلام ، وتقريبها بوجهين :

الوجه الأوّل : ما استند إليه الشيخ الطوسي (١) قدس‌سره من قاعدة اللطف ، وهي أنّه يجب على المولى (سبحانه وتعالى) اللطف بعباده بارشادهم إلى ما يقرّبهم إليه تعالى من مناهج السعادة والصلاح ، وتحذيرهم عمّا يبعّدهم

__________________

(١) عدّة الاصول ٢ : ٧٧ ، ٨٢

١٦٠